بغية المسترشدين
في
تلخيص فتاوى بعض الأئمة من
العلماء المتأخرين
مع ضم فوائد جمة من كتب شتى
للعلماء المجتهدين
جمع
السيد عبد الرحمن بن محمد بن
حسين بن عمر
المشهور با علوي مفتى الديار
الحضرمية رحمه الله
ونفع بعلومه
آمين
{من يرد الله به خيرا يفقهه في
الدين}
[حديث شريف]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، نحمده بجميع المحامد كلها عدّ الكلم، على جميع نعمه
كلها ما علم منها وما لم يعلم، ونشكره سبحانه وتعالى على أياديه وإحسانه ما خص
منهما وعم، والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد المخصوص بأكمل
الكمالات والشفاعة العظمى من الإله الأكرم، وعلى آله وأصحابه وحملة شريعته
وتابعيهم على المنهج الأقوم، عدد أنفاس وخطرات الموجودات ما جرى قلم.
أما بعد: فقد منَّ
الله وله الفضل دائماً على عبده الفقير "الشريف الحضرمي" باختصار فتاوى
سادتي العلماء الأجلاء الفحول، المعوّل على كلامهم والمرجوع لقولهم في المعقول
والمنقول، وهم: الإمام العلامة النحرير عديم المشاكل والنظير: عبد الله بن الحسين
بن عبد الله بافقيه، والسيد العلامة ذو اليقين والعزم وكثرة الاطلاع وجودة الفهم:
عبد الله بن عمر بن أبي بكر بن يحيى، والشريف العلامة ذو الفهم الثاقب والرأي
الصائب: علوي بن سقاف بن محمد الجعفري العلويون الحضرميون، والشيخ العلامة البحر
الخضمّ: محمد بن أبي بكر الأشخر اليمني، والشيخ العلامة المحقق: محمد بن سليمان
الكردي المدني.
فلخصت حاصل كل سؤال وجواب بأوجز عبارة، على حسب علمي وركة فهمي، مع حذف
التكرير، ورددت كل مسألة في غير محلها إلى مظنتها من تقديم أو تأخير، وأردت الآن
جمع الكل في هذا السفر، إغناء للطالب عن كثرة المراجعة والفكر، وجعلت لكل واحد من
الخمسة المذكورين علامة صدّرت بها السؤال، فخذها مرتبة كترتيبهم في المقال: فللأوّل
ب، والثاني ي، والثالث ج، والرابع ش، والخامس ك. وإذا اتفق في المسألة إثنان فأكثر
رمزت للكل، فإن زاد واحد أو خالف ذكرت ذلك فقلت: زاد فلان كذا، أو خالف كذلك، وحيث كان في المسألة قيد أو خلاف ونحوه ولم ينبه
عليه صاحب الفتاوى كتبت آخرها، اهـ، ثم ذكرت الزيادة المذكورة قائلاً في أوّلها:
قلت: ليعلم الأصل من المزيد. وزدت على هؤلاء الفتاويات فوائد معزوّة لقائليها
ملخصة عزيزة الوجود مهمة، استفدتها قبل من أفواه المشايخ وكتب الأئمة، وميزتها عن
تلك الفتاوى بتصديرها "بفائدة" وسنح في خاطري أيضاً أن ألخص بعض المسائل
التي سئلت عنها ولم تكن في تلك الفتاويات، وأضيفها إليها مهملة عن الرمز، ليعرف
الغثّ من السمين، ويردها إلى الصواب من رأى بها نقصاً من تحريف أو مين، وجعلت جميع
ذلك بعبارات قريبة ظاهرة خوف التطويل المملّ والتعقيد المخلّ، حسبما يلقيه العليم
الحكيم بجناني، ويجريه على لساني وبناني.
واعلم أني بعد أن منّ
الله تعالى عليّ بإكمال هذا المجموع وانتشاره في البلاد، حصلت لي سؤالات وفوائد
أخر علقتها في الهامش ثم خفت ضياعها، فعزمت مستعيناً بمولاي على أن أضعها في
مظانها خلال هذا التأليف فأثبتها كذلك، وتصرفت في بعض عبارات الأصل بزيادة وحذف
وتقديم وتأخير إتماماً للفائدة، فزاد بما ذكر نحو الربع فكان من حقه أن يسمى:
(تكملة بغية المسترشدين) ومن الله الكريم أسأل المعونة والتسديد، وصلاح النية والهداية لأرشد الطريق السديد.
ومن وقف عليه وتحقق
فيه زلة أو مخالفة لكلام من نقلت عنه أن يصلحه حالاً من غير توان، وله الأجر من
الكريم المنان. اللهم وفقنا لإصابة الصواب، وجنبنا الزيغ والارتياب، وانفعنا
والمسلمين بما حواه هذا الكتاب آمين.
مقدمة في فوائد تتعلق بخطب
الكتب، وفي فضيلة العلم،
وفي الاجتهاد والإفتاء والتقليد
[فائدة]: أتى لفظ الرب
لمعان نظمها بعضهم فقال:
قريب محيط مالك ومدبر ><
مرب كثير الخير والمول للنعم
وخالقنا المعبود جابر كسرنا
>< ومصلحنا والصاحب الثابت القدم
وجامعنا والسيد احفظ فهذه >< معان أتت للرب
فادع لمن نظم
اهـ من حاشية الشيخ إبراهيم الباجوري على
شرح ابن قاسم. فائدة]: قال سم: إذا صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه في آن
واحد لما خلق به سمي شكوراً وإن صرفها في أوقات مختلفة يسمى شاكراً. قال ع ش:
ويمكن صرفها في آن واحد بحمله جنازة متفكراً في مصنوعاته سبحانه وتعالى اهـ.
[فائدة]: قال بعضهم الفضائل سبع: الصدق، والحياء، والتواضع، والسخاء،
والوفاء، والعلم، وأداء الأمانة اهـ حاشية الشيخ سليمان الجمل على شرح المنهج.
واعلم أن لهم شريعة وهي: أن تعبده تعالى،
فعبادة الله تعالى شريعة عندهم؛ لأنها المقصودة منها، وإن كانت الشريعة عند
الفقهاء ما شرعه الله تعالى من الأحكام، وطريقة وهي: أن تقصدهم بالعلم والعمل،
وحقيقة وهي نتيجتهما، وهي أن تشهد بنور أودعه الله في سويداء القلب أي وسطه، أن كل
باطن له ظاهر وعكسه كخرق الخضر للسفينة، وإن كان منكراً ظاهراً فهو جائز في
الباطن؛ لأنه سبب لنجاة السفينة من الملك، والأولى أن تعرف الحقيقة بعلم بواطن
الأمور، كعلم الخضر بأن ما فعله مع موسى عليهما السلام من خرق السفينة وغيرها فيه
مصلحة، وإن كان ظاهره مفسدة في البعض، والشريعة ظاهر الحقيقة، والحقيقة باطنها،
وهما متلازمان معنىً كما سبق. ومثلت الثلاثة بالجوزة، فالشريعة كالقشر الظاهر،
والطريقة كاللب الخفي، والحقيقة كالدهن الذي في باطن اللب، ولا يتوصل إلى اللب إلا
بخرق القشر، ولا إلى الدهن إلا بدق اللب اهـ من حاشية البجيرمي على الإقناع.
[فائدة]: قال بعض الفضلاء: صلاة الآدميين عليه صلوات الله وسلامه عليه أفضل
من صلاة الملائكة، إذ طاعة البشر أفضل من طاعة الملائكة، لأن الله كلفهم مع وجود
صوارف، ومحل كراهة إفراد الصلاة عن السلام، وعكسه في غير ما ورد في الإفراد وفي
حقنا ولغير داخل الحجرة الشريفة، قال ابن حجر: ولفظاً لا خطاً فلا يكره الإفراد
فيه اهـ حاشية المدابغي. وقوله : "من صلّى عليّ في كتاب الخ" أي: كتب
الصلاة وإن لم يتلفظ بذلك، لأنه تسبب في صلاة كل من قرأ ذلك المكتوب، نعم التلفظ
بها أكمل، ولم يرسل إلى الجنّ غير نبينا عليه الصلاة والسلام، وأما سليمان عليه
السلام فكان حكماً فيهم اهـ تكملة فتح المعين للشيخ عبد الله باسودان.
[فائدة]: قال بعض الشيوخ: وقد منّ الله عليّ باستخراج عدد الأنبياء من اسم
محمد وهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً كعدة أصحابه الذين توفى عنهم، ولم يكن فيهم
أصم في حياة النبي كرامة له، وطريق الاستخراج أن تضرب عدد حروفه بالجمل الصغير،
وهو جعل جميع الحروف آحاداً فهي حينئذ
عشرون: الميمات بثمانية، والحاء كذلك، والدال بأربعة في مثلها تبلغ أربعمائة، ثم
تضربها في كل عقود الرسل وهي ثلاثمائة وعشرة وتحذف الآحاد تخرج مائة ألف وأربعة
وعشرون ألفاً، اهـ حاشية البجيرمي على الإقناع، ثم قال:
واعلم: أنه يجب
الإيمان بالأنبياء إجمالاً فيما لم يرد فيه التفصيل، وتفصيلاً فيما ورد فيه ذلك،
كالذين ورد ذكرهم في القرآن وهم خمسة وعشرون مجموعون في قول القائل:
ختم على كل ذي التكليف
معرفة >< بأنبياء على التفصيل قد
علموا
في تلك حجتنا منهم ثمانية
>< من بعد عشر ويبقى سبعة وهم
إدريس هود شعيب صالح وكذا
>< ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا
اهـ.
[فائدة]: هذه الأبيات
في نسب المصطفى عليه أكمل الصلاة والسلام، من حملها أو قالها أو كانت عنده أمن من
كل مكروه، وحفظ في نفسه وماله وأهله وذريته، كما قاله ابن الجوزي وهي:
محمد عبد الله شيبة هاشم
>< مناف قصيّ مع كلاب ومرة
وكعب لؤي غالب فهر مالك
>< ونضر كنانة وهو ابن خزيمة
ومدركة وإلياس مع مضر تلا
>< نزار معدّ ثم عدنان صحة اهـ.
[فائدة]: قال ابن حجر
في الإيعاب: وهو أي الصحابي على الأصح من اجتمع بالنبي مؤمناً ومات كذلك ولو لحظة،
فدخل الأعمى وغير المميز، ومن اجتمع به وآمن من الجنّ لأنه بعث إليهم، وخرج
الملائكة ومن رآه بعد موته أو قبل البعثة أو في السماء إلا عيسى عليه السلام اهـ.
فضيلة العلم تعلماً وتعليما
قال بعضهم: إذا جمع المتعلم العقل والأدب وحسن الفهم، والمعلم الصبر
والتواضع وحسن الخلق، فقد تمت النعم عليهما، وأنشد آخر فقال:
أخي لن تنال العلم إلا بستة >< سأنبيك
عن تفصيلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة >< وإرشاد
أستاذ وطول زمان. اهـ باجوري.
[فائدة]: قال الحسن البصري رحمه الله: صرير
قلم العالم تسبيح، وكتابه العلم، والنظر فيه عبادة، ومداده كدم الشهيد، وإذا قام
من قبره نظر إليه أهل الجمع، ويحشر مع الأنبياء، وقال عليه الصلاة والسلام:
"من اتكأ على يده عالم كتب الله له بكل خطوة عتق رقبة، ومن قبَّل رأس عالم
كتب الله له بكل شعرة حسنة"، وتدارس العلم ساعة من الليل أفضل من إحيائه
بغيره، ومدارسته أفضل من الذكر وقوله : " حتى الحيتان في الماء" إنما
خصها بالذكر لكونها لا لسان لها. اهـ بجيرمي. وقال أبو الليث: من جلس عند عالم ولم
يقدر على حفظ شيء من العلم نال سبع كرامات: فضل المتعلمين، وحبسه عن الذنوب، ونزول
الرحمة عليه حال خروجه من بيته، وإذا نزلت الرحمة على أهل الحلقة حصل له نصيبه، ويكتب
له طاعة ما دام مستمعاً، وإذا ضاق قلبه لعدم الفهم صار غمه وسيلة إلى حضرة الله
تعالى لقوله: "أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي" أي جابرهم وناصرهم،
ويروى: عز العالم وذل الفاسق، فيرد قلبه عن الفسق ويميل طبعه إلى العلم. وقال
أيضاً: من جلس مع ثمانية أصناف زاده الله ثمانية أشياء: من جلس مع الأغنياء زاده
الله حب الدنيا والرغبة فيها، ومن جلس مع الفقراء حصل له الشكر والرضا بقسمة الله تعالى، ومن جلس مع
السلطان زاده الله القسوة والكبر، ومن جلس مع النساء زاده الله الجهل والشهوة، ومن
جلس مع الصبيان ازداد من اللهو، ومن جلس مع الفساق ازداد من الجراءة على الذنوب
وتسويف التوبة أي تأخيرها، ومن جلس مع الصالحين ازداد رغبة في الطاعات، ومن جلس مع
العلماء ازداد من العلم والعمل، اهـ بجيرمي على الإقناع. وقال الإمام الشافعي رضي
الله عنه: من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن تعلم الفقه نبل قدره، ومن كتب الحديث
قويت حجته، ومن تعلم الحساب جزل رأيه، ومن تعلم العربية رق طبعه، ومن لم يصن نفسه
لم ينفعه علمه، اهـ من النجم الوهاج. قال الإمام الغزالي: أربع لا يعرف قدرها إلا
أربعة: لا يعرف قدر الحياة إلا الموتى، ولا قدر الصحة إلا أهل السقم، ولا قدر الشباب
إلا أهل الهرم، ولا قدر الغنى إلا أهل الفقر اهـ
[فائدة]: حقيقة الفقه ما وقع في القلب وظهر
على اللسان، فأفاد العلم وأورث الخشية، ولهذا قال النووي: إنما لم يظهر على
العلماء كرامات كالعباد مع أنهم أفضل منهم لما يدخل عليهم من الرياء.
(مسألة: ك): قال رجل لأبي هريرة رضي الله
عنه: إني أريد أن أتعلم العلم وأخاف أن أضيعه، فقال: كفى بتركك للعلم إضاعة. وقال
الإمام: من مكايد الشيطان ترك العمل خوفاً من أن يقول الناس إنه مراء، لأن تطهير
العمل من نزغات الشيطان بالكلية متعذر، فلو وقفنا العبادة على الكمال لتعذر
الاشتغال بشيء من العبادات، وذلك يوجب البطالة التي هي أقصى غرض الشيطان.
(مسألة: ش): من آداب حامل القرآن فضلاً عن
العالم أن يكون شريف النفس، مرتفعاً عن الجبابرة والجفاة من أبناء الدنيا، وقال
الفقيه الجرجاني:
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي
>< لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة
>< إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم >< ولو عظموه في
الصدور لعظما
ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا
>< محياه بالأطماع حتى تجهما
وفي البخاري: لا ينبغي
لأحد عنده شيء من العلم أن يضع نفسه. وورد: "من أكرم عالماً فقد أكرم الله
ورسوله". فخدمة أهل الفضل من أعظم القرب، ومن تعظيم شعائر الله تعالى وحرماته
إجماعاً.
(مسألة: ي): لا يحل لعالم أن يذكر مسألة لمن يعلم أنه يقع بمعرفتها في
تساهل في الدين ووقوع في مفسدة، إذ العلم إما نافع: كالواجبات العينية يجب ذكره
لكل أحد، أو ضار: كالحيل المسقطة للزكاة، وكل ما يوافق الهوى ويجلب حطام الدنيا، لا يجوز ذكره لمن يعلم أنه يعمل به، أو
يعلمه من يعمل به، أو فيه ضرر ونفع، فإن ترجحت منافعه ذكره وإلا فلا، ويجب على
العلماء والحكام تعليم الجهال ما لا بد منه مما يصح به الإسلام من العقائد، وتصح
به الصلاة والصوم من الأحكام الظاهرة، وكذا الزكاة والحج حيث وجب.
(مسألة: ب): الفرق بين الشك والوسوسة أن الشك هو التردد في الوقوع وعدمه،
وهو اعتقاد أن يتقاوم تساويهما، لا مزية لأحدهما على الآخر، فإن جح أحدهما لرجحان
المحكوم به على نقيضه فهو الظن وضده الوهم. أما الوسوسة فهي: حديث النفس والشيطان لا
تنبني على أصل، بخلاف الشك فينبني عليه، كأخبار من لا يقبل، وتأخير الصلاة تأخيراً
مفرطاً، وكثياب من عادته مباشرة النجاسة، وكالصلاة خلف من عادته التساهل،
فالاحتياط مطلوب، فإن لم يكن شيء من ذلك فهي الوسوسة التي هي من البدع كأن يتوهم
النجاسة، فالاحتياط حينئذ ترك الاحتياط.
[فائدة]: المشابهة: اتفاق الشيئين في الكيفية. المساواة: اتفاقهما كمية.
المشاكلة: اتفاقهما نوعية. المماثلة: اتفاقهما خاصية. الموازنة: اجتماع الأربعة.
الحفظ: حصول الصورة في العقل واستحكامها بحيث لو زالت لتمكنت القوة من استرجاعها.
التذكر: محاولة استرجاع تلك الصورة إذا زالت. الذكر: رجوعها بعد المحاولة.
المعرفة: إدراك الجزئيات كالعلم: إدراك الكليات. الفهم: تصوّر الشيء من لفظ
المخاطب. الإفهام: إيصال معنى اللفظ إلى فهم السامع. الفقه: العلم بغرض المخاطب في
خطابه. العقل: العلم بصفات الأشياء حسنها وقبيحها وكمالها ونقصانها. الدراية:
المعرفة الحاصلة بطرف من التخيل. الجهل: معرفة الأشياء لا بحقائقها. اليقين:
اعتقاد أن الأمر كذا وامتناع خلافه. الذهن: قوّة النفس عى اكتساب العلوم الغير الحاصلة.
الفكر: انتقال الروح من التصديقات الحاضرة إلى المحضرة. الحدس: وجدان شيء متوسط
بين طرفي المجهول لتصير النسبة بالمجهول معلومة. لذكاء: شدة هذا الحدس وكماله.
الخاطر: حركة النفس نحو تحصيل الدليل. الوهم: اعتقاد المرجوح. الظن: اعتقاد
الراجح. البديهة: المعرفة الحاصلة ابتداء في النفس بسبب الفكر، اهـ من خط الشيخ
محمد باسودان
[فائدة]: ذكر الإمام الشعراني في الطبقات عن أبي المواهب الشاذلي قال:
إثبات المسألة بدليلها تحقيق، وإثباتها بدليل آخر تدقيق، والتعبير عنها بفائق
العبارة ترقيق، ومراعاة علم المعاني والبيان في تركيبها تنميق، والسلامة من اعتراض
الشارع فيها توفيق، اللهم ارزقنا التوفيق،
اهـ من خط بعضهم.
الاجتهاد والإفتاء والتقليد
[فائدة]: قال الإمام الشعراني في زبد العلوم والميزان: وأما أصول الفقه
فترجع إلى مراتب الأوامر والنواهي التي جاءت في الكتاب والسنة، وإلى معرفة ما أجمع
عليه الأئمة، وما قاسوه، وما ولدوه بالاجتهاد من طريق الاستنباط، ويجمع كل من
الأوامر والنواهي مرتبتين تخفيفاً وتشديداً، فمن وجد في نفسه ضعفاً أخذ بالتخفيف،
أو قوة فبالأشد. وجميع أحاديث الشريعة وما بني عليها من أقوال المجتهدين إلى يوم
الدين لا يخرج عن هذا، فما ثم حكم يناقض حكماً أبداً ولا يصادمه، وهذا أطلعني الله
تعالى عليه، لم يظفر به أحد من المجتهدين، فمن تحقق به لم ير في الشريعة وفي أقوال
العلماء خلافاً قط، ومن تحقق بما تحقق به أهل الله تعالى من الكشف والتحقيق شهد
جميع ما ولده المجتهدون، مأخوذاً من شعاع الشريعة ولم يخطىء أحداً منهم اهـ.
[فائدة]: إذا أطلق الاجتهاد فالمراد به المطلق، وهو في الأصل بذل المجهود
في طلب المقصود، ويرادفه التحري والتوخي، ثم استعمل استنباط الأحكام من الكتاب
والسنة، وقد انقطع من نحو الثلاثمائة، وادّعى السيوطي بقاءه إلى آخر الزمان
مستدلاً بحديث: "يبعث الله على رأس كل مائة من يجدد" الخ، وردّ بأن
المراد بمن يجدد أمر الدين: من يقرر الشرائع والأحكام لا المجتهد المطلق، وخرج به
مجتهد المذهب وهو: من يستنبط الأحكام من قواعد إمامه كالمزني، ومجتهد الفتوى وهو:
من يقدر على الترجيح في الأقوال كالشيخين لا كابن حجر و (م ر)، فلم يبلغا رتبة
الترجيح بل مقلدان فقط، وقال بعضهم: بل لهما الترجيح في بعض المسائل، بل
وللشبراملسي أيضاً، اهـ باجوري.
[فائدة]: قال في فتاوى ابن حجر: ليس لمن قرأ كتاباً أو كتباً ولم يتأهل
للافتاء أن يفتي إلا فيما علم من مذهبه علماً جازماً، كوجوب النية في الوضوء ونقضه
بمس الذكر، نعم إن نقل له الحكم عن مفت أخر أو عن كتاب موثوق به جاز، وهو ناقل لا
مفت، وليس له الإفتاء فيما لم يجده مسطوراً، وإن وجد له نظيراً، وحينئذ المتبحر في
الفقه هو من أحاط بأصول إمامه في كل باب، وهي مرتبة أصحاب الوجوه، وقد انقطعت من
نحو أربعمائة سنة اهـ.
(مسألة: ك): شخص طلب العلم، وأكثر من مطالعة الكتب المؤلفة من التفسير
والحديث والفقه، وكان ذا فهم وذكاء، فتحكم في رأيه أن جملة هذه الأمة ضلوا وأضلوا
عن أصل الدين وطريق سيد المرسلين ، فرفض جميع مؤلفات أهل العلم، ولم يلتزم مذهباً،
بل عدل إلى الاجتهاد، وادّعى الاستنباط من الكتاب والسنة بزعمه، وليس فيه شروط
الاجتهاد المعتبرة عند أهل العلم، ومع ذلك يلزم الأمة الأخذ بقوله ويوجب متابعته،
فهذا الشخص المذكور المدَّعي الاجتهاد يجب عليه الرجوع إلى الحق ورفض الدعاوى
الباطلة، وإذ طرح مؤلفات أهل الشرع فليت شعري بماذا يتمسك؟ فإنه لم يدرك النبي
عليه الصلاة والسلام، ولا أحداً من أصحابه رضوان الله عليهم، فإن كان عنده شيء من
العلم فهو من مؤلفات أهل الشرع، وحيث كانت على ضلالة فمن أين وقع على الهدى؟ فليبينه
لنا فإن كتب الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم ومقلديهم جلّ مأخذها من الكتاب
والسنة، وكيف أخذ هو ما يخالفها؟ ودعواه الاجتهاد اليوم في غاية البعد كيف؟ وقد
قال الشيخان وسبقهما الفخر الرازي: الناس اليوم كالمجمعين على أنه لا مجتهد، ونقل
ابن حجر عن بعض الأصوليين: أنه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهد أي: مستقل، وهذا
الإمام السيوطي مع سعة اطلاعه وباعه في العلوم وتفننه بما لم يسبق إليه ادعى
الاجتهاد النسبي لا الاستقلالي، فلم يسلم له وقد نافت مؤلفاته على الخمسمائة، وأما
حمل الناس على مذهبه فغير جائز، وإن فرض أنه مجتهد مستقل ككل مجتهد.
(مسألة: ي ش): يحرم على المفتي التساهل في الفتيا وسؤال من عرف بذلك، إما
لعدم التثبت والمسارعة في الجواب، أو لغرض فاسد كتتبع الحيل ولو مكروهة، والتمسك
بالشبه للترخيص على من يرجو نفعه والتعسير على ضده، نعم إن طلب حيلة لا شبهة فيها
ولا تجرّ إلى مفسدة، بل ليتخلص بها السائل عن نحو اليمين في نحو الطلاق فلا بأس بل
ربما تندب.
(مسألة ش): تجب، على مفت، إجابة مستفت في واقعة يترتب عليها الإثم بسبب
الترك أو الفعل، وذلك في الواجب أو المحرم على التراخي إن لم يأت وقت الحاجة وإلا
فعلى الفور، فإن لم يترتب عليها ذلك فسنة مؤكدة، بل إن كان على سبيل مذاكرة العلم
التي هي من أسباب إحيائه ففرض كفاية، ولا ينبغي الجواب بلا أدري إلا إن كان
صادقاً، أو ترتب على الجواب محذور كإثارة فتنة، وأما الحديث الوارد في كتم العلم
فمحمول على علم واجب تعليمه ولم يمنع منه عذر كخوف على معصوم، وذلك كمن يسأل عن
الإسلام والصلاة والحلال والحرام، ولو كان العالم بالغاً درجة الفتوى في مذهبه
وعلم أمراً فأفتى به بحكم ولم يمتثل أمره، فله الحمل عليه قهراً بنفسه أو بغيره،
إذ تجب طاعة المفتي فيما أفتى به.ونقل
السمهودي عن الشافعي ومالك أن للعالم وإن لم يكن قاضياً أن يعزر بالضرب والحبس
وغيرهما من رأى استحقاقه إذ يجب امتثال أمره.
(مسألة: ي): اعلم أن العبارات الواردة في مسألة واحدة التي ظاهرها التنافي
والتخالف إذا أمكن الجمع بينها من غير تعسف وجب المصير إليه ويكون الأمر من المتفق
عليه، وأن إطلاقات الأئمة إذا تناولت شيئاً وصرح بعضهم بخلافه فالمعتمد الأخذ
بإطلاقهم، كما نص عليه في التحفة والنهاية.
(مسألة: ش): المذهب القديم ليس مذهباً للشافعي، لأن المقلد مع المجتهد
كالمجتهد مع الرسول عليه السلام، فكما أن الحادث من أدلة الشرع ناسخ للمتقدم منها
إجماعاً حتى يجب على المجتهد الأخذ به، كذلك المقلد مع المجتهد، وأما المسائل التي
عدوها وجعلوها مما يفتى به على القديم، فسببها أن جماعة من المجتهدين في مذهبه لاح
لهم في بعض المسائل أن القديم أظهر دليلاً فأفتوا به، غير ناسبي ذلك إلى الشافعي
كالقول المخرَّج، فمن بلغ رتبة الترجيح ولاح له الدليل أفتى بها، وإلا فلا وجه
لعلمه، وفتواه على أن المسائل التي عدُّوها أكثرها فيه قول جديد، فتكون الفتوى به
وهي ثمانية عشر مسألة: عدم وجوب التباعد عن النجاسة في الماء الكثير بقدر قلتين،
وعدم تنجس الماء الجاري إلا بالتغير، وعدم النقض بلمس المحرم، وتحريم أكل الجلد
المدبوغ، والتثويب في أذان الصبح، وامتداد وقت المغرب إلى مغيب الشفق، واستحباب
تعجيل العشاء، وعدم ندب قراءة السورة في الأخيرتين، والجهر بالتأمين للمأموم في
الجهرية، وندب الخط عند عدم الشاخص، وجواز اقتداء المنفرد في أثناء صلاته، وكراهة
تقليم أظافر الميت، وعدم اعتبار الحول في الركاز، وصيام الولي عن الميت الذي عليه
صوم، وجواز اشتراط التحلل بالمرض، وإجبار الشريك على العمارة، وجعل الصداق في يد
الزوج مضموناً، ووجوب الحد بوطء المملوكة المحرم، ذكره المجموع. ويجب اتفاقاً نقض
قضاء القاضي وإفتاء المفتي بغير الراجح من مذهبه، إذ من يعمل في فتواه أو عمله بكل
قول أو وجه في المسألة، ويعمل بما شاء من غير نظر إلى ترجيح، ولا يتقيد به، جاهل
خارق للإجماع، ولا يجوز للمفتي أن يفتي الجاهل المتمسك بمذهب الشافعي صورة بغير
الراجح منه.
(مسألة: ش): نقل ابن الصلاح الإجماع على أنه لا يجوز تقليد غير الأئمة
الأربعة، أي حتى العمل لنفسه فضلاً عن القضاء والفتوى، لعدم الثقة بنسبتها
لأربابها بأسانيد تمنع التحريف والتبديل، كمذهب الزيدية المنسوبين إلى الإمام زيد
بن عليّ بن الحسين السبط رضوان الله عليهم، وإن كان هو إماماً من أئمة الدين،
وعلماً صالحاً للمسترشدين، غير أن أصحابه نسبوه إلى التساهل في كثير لعدم اعتنائهم
بتحرير مذهبه، بخلاف المذاهب الأربعة فإن أئمتها جزاهم الله خيراً بذلوا نفوسهم في
تحرير أقوالها، وبيان ما ثبت عن قائلها وما لم يثبت، فأمن أهلها التحريف، وعلموا
الصحيح من الضعيف، ولا يجوز للمقلد لأحد من الأئمة الأربعة أن يعمل أو يفتي في
المسألة ذات القولين أو الوجهين بما شاء منهما، بل بالمتأخر من القولين إن علم،
لأنه في حكم الناسخ منهما، فإن لم يعلم فبما رجحه إمامه، فإن لم يعلمه بحث عن
أصوله إن كان ذا اجتهاد، وإلا عمل بما نقله بعض أئمة الترجيح إن وجد وإلا توقف،
ولا نظر في الأوجه إلى تقدم أو تأخر، بل يجب البحث عن الراجح، والمنصوص عليه مقدم
على المخرج ما لم يخرج عن نص آخر، كما يقدم ما عليه الأكثر ثم الأعلم ثم الأورع،
فإن لم يجد اعتبر أوصاف ناقلي القولين، ومن أفتى بكل قول أو وجه من غير نظر إلى
ترجيح فهو جاهل خارق للإجماع، والمعتمد جواز العمل بذلك للمتبحر المتأهل للمشقة
التي لا تحتمل عادة، بشرط أن لا يتتبع الرخص في المذاهب بأن يأخذ منها بالأهون بل
يفسق بذلك، وأن لا يجتمع على بطلانه إماماه الأوَّل والثاني اهـ. وعبارة ب تقليد
مذهب الغير يصعب على علماء الوقت فضلاً عن عوامهم خصوصاً ما لم يخالط علماء ذلك
المذهب، إذ لا بد من استيفاء شروطه، وهي كما في التحفة وغيرها خمسة: علمه بالمسألة
على مذهب من يقلده بسائر شروطها ومعتبراتها. وأن لا يكون المقلد فيه مما ينقض قضاء
القاضي به، وهو ما خالف النص أو الإجماع أو القواعد أو القياس الجلي. وأن لا يتتبع
الرخص بأن يأخذ من كل مذهب ما هو الأهون عليه. وأن لا يلفق بين قولين تتولد منهما
حقيقة لا يقول بها كل من القائلين كأن توضأ ولم يدلك تقليداً للشافعي، ومس بلا
شهوة تقليداً لمالك ثم صلى فصلاته حينئذ باطلة باتفاقهما. وأن لا يعمل بقول إمام
في المسألة ثم يعمل بضده، وهذا مختلف فيه عندنا، والمشهور جواز تقليد المفضول مع
وجود الفاضل، وفي قول يشترط اعتقاد الأرجحية أو المساواة اهـ. وفي ك: من شروط
التقليد عدم التلفيق بحيث تتولد من تلفيقه حقيقة لا يقول بها كل من الإمامين، قاله
ابن حجر، إذ لا فرق عنده بين أن يكون التلفيق في قضية أو قضيتين، فلو تزوّج امرأة
بولي وشاهدين فاسقين على مذهب أبي حنيفة، أو بلا ولي مع حضوره وعدم عضله، ثم علق
طلاقها بإبرائها من نفقة عدَّتها مثلاً فأبرأته، ثم أراد تقليد الشافعي في عدم
وقوع الطلاق لعدم صحة الإبراء عنده من نفقة العدَّة لم يصح، بل يحرم وطؤها حينئذ
على كلا المذهبين، أما الشافعي فلأنها ليست بزوجة عنده أصلاً لعدم صحة النكاح،
ولولا الشبهة لكان زناً محضاً، وأما أبو حنيفة الذي يرى تزويجها فلكونها بانت منه
بالبراءة المذكورة، وقال ابن زياد: القادح في التلفيق إنما يتأتى إذا كان في قضية
واحدة، بخلافه في قضيتين فليس بقادح، وكلام ابن حجر أحوط، وابن زياد أوفق بالعوام،
فعليه يصح التقليد في مثل هذه الصورة.
(مسألة: ش): يجوز تقليد ملتزم مذهب الشافعي غير مذهبه أو المرجوح فيه
للضرورة، أي المشقة التي لا تحتمل عادة، إما عند عدمها فيحرم، إلا إن كان المقلد
بالفتح أهلاً للترجيح ورأى المقلد رجحان دليله على دليل إمامه. اهـ، وعبارة ي يجوز
العمل في حق الشخص بالضعيف الذي رجحه بعض أهل الترجيح من المسألة ذات القولين أو
الوجهين، فيجوز تقليده للعامل المتأهل وغيره، أما الضعيف غير المرجح من بعض أهل
الترجيح فيمتنع تقليده على العارف بالنظر، والبحث عن الأرجح كغير عارف وجد من
يخبره بالراجح وأراد العمل به، وإلا جاز له العمل بالمرجوح مطلقاً اهـ.
(مسألة: ك): صرح الأئمة بأنه لا يجوز تعاطي ما اختلف فيه ما لم يقلد القائل
بحله، بل نقل ابن حجر وغيره الاتفاق عليه، سواء كان الخلاف في المذهب أو غيره،
عبادة أو غيرها، ولو مع من يرى حل ذلك، نعم إنما يأثم من قصر بترك تعلم ما لزمه مع
الإمكان، أو كان مما لا يعذر أحد بجهله لشهرته، أما من عجز عنه ولو لنقلة أو
اضطرار إلى تحصيل ما يسدّ رمقه وممونه فيرتفع تكليفه كما قبل ورود الشرع، قاله في
التحفة اهـ. وعبارة ب: ومعنى التقليد اعتقاد قول الغير من غير معرفة دليله
التفصيلي، فيجوز تقليد القول الضعيف لعمل نفسه كمقابل الأصح والمعتمد والأوجه
والمتجه، لا مقابل الصحيح لفساده غالباً، ويأثم غير المجتهد بترك التقليد، نعم إن
وافق مذهباً معتبراً، قال جمع: تصح عبادته ومعاملته مطلقاً، وقال آخرون: لا
مطلقاً، وفصل بعضهم فقال: تصح المعاملة دون العبادة لعدم الجزم بالنية فيها، وقال
الشريف العلامة عبد الرحمن بن عبد الله بافقيه: ويظهر من عمل وكلام الأئمة أن
العامي حيث عمل معتقداً أنه حكم شرعي ووافق مذهباً معتبراً، وإن لم يعرف عين قائله
صح ما لم يكن حال عمله مقلداً لغيره تقليداً صحيحاً اهـ. قلت: ونقل الجلال السيوطي عن جماعة كثيرة من
العلماء أنهم كانوا يفتون الناس بالمذاهب الأربعة، لا سيما العوامّ الذين لا
يتقيدون بمذهب، ولا يعرفون قواعده ولا نصوصه، ويقولون حيث وافق فعل هؤلاء قول عالم
فلا بأس به، اهـ من الميزان. نعم في الفوائد المدنية للكردي أن تقليد القول أو
الوجه الضعيف في المذهب بشرطه أولى من تقليد مذهب الغير لعسر اجتماع شروطه اهـ.
(مسألة: ك): يجوز التقليد بعد العمل بشرطين:
أن لا يكون حال العمل عالماً بفساد ما عنّ له بعد العمل تقليده، بل عمل نسيان
للمفسد أو جهل بفساده وعذر به، وأن يرى الإمام الذي يريد تقليده جواز التقليد بعد
العمل، فمن أراد تقليد أبي حنيفة بعد العمل سأل الحنفية عن جواز ذلك، ولا يفيده
سؤال الشافعية حينئذ، إذ هو يريد الدخول في مذهب الحنفي، ومعلوم أنه لا بد من شروط
التقليد المعلومة زيادة على هذين اهـ. وفي ي نحوه، وزاد: ومن قلد من يصح تقليده في
مسألة صحت صلاته في اعتقاده بل وفي اعتقادنا، لأنا لا نفسقه ولا نعدّه من تاركي
الصلاة، فإن لم يقلده وعلمنا أن عمله وافق مذهباً معتبراً، فكذلك على القول بأن
العامي لا مذهب له، وإن جهلنا هل وافقه أم لا لم يجز الإنكار عليه.
كتاب الطهارة
[فائدة]: الكتاب لغة الضم والجمع، واصطلاحاً اسم لجنس من الأحكام. والباب
لغة فرجة في ساتر يتوصل منها من داخل إلى خارج، وعكسه حقيقة في الأشخاص مجازاً في
المعاني، واصطلاحاً اسم لجملة من الألفاظ مما دخل تحت الكتاب. والفصل لغة الحاجز
بين الشيئين، واصطلاحاً اسم لألفاظ مخصوصة دالة على معان مخصوصة مشتمل على فروع
الخ. والفرع لغة ما انبنى على غيره ويقابله الأصل، واصطلاحاً اسم لألفاظ مخصوصة
مشتملة على مسائل غالباً. والمسألة لغة السؤال، واصطلاحاً مطلوب خبري يبرهن عليه
في العلم، والتنبيه لغة الإيقاظ، واصطلاحاً عنوان البحث اللاحق الذي سبقت إليه
إشارة بحيث يفهم من الكلام السابق إجمالاً. والخاتمة لغة آخر الشيء، واصطلاحاً اسم
لألفاظ مخصوصة دالة على معان مخصوصة جعلت آخر كتاب أو باب. والتتمة ما تم به ذلك
وهي قريب من معنى الخاتمة، اهـ باجوري. والقيد اصطلاحاً ما جيء به لجمع أو منع أو
بيان واقع، وبتأمل تعريفه هذا مع تعريف الشرط يعلم أن القيد أعم مطلقاً. اهـ
إيعاب.
[فائدة]: الطهارة لها وسائل أربع: الماء والتراب والدابغ وحجر الاستنجاء،
ومقاصد كذلك الوضوء والغسل والتيمم وإزالة النجاسة، ووسائل الوسائل الاجتهاد
والأواني، اهـ باجوري.
(مسألة): جزم القاضي والمزجد واختاره الإمام أن اختصاص الطهورية بالماء
تعبد لا يعقل، ورجح في الإيعاب تبعاً للغزالي وابن الصلاح أنه معقول المعنى، قال: وسبب
الاختصاص به جمعه للطاقة وعدم التركيب اللذين لا يوجدان في غيره، وفقده للون،
وإنما يتلون بلون ظرفه أو ما يقابله، ولا يحدث فيما يلاقيه كيفية ضارة، ولا يغير
طبيعة، ولا يحدث من استعماله خيلاء ولا كسر قلوب الفقراء، بخلاف نحو ماء الورد،
ولا يلزم من استعماله إضاعة مال غالباً اهـ.
[فائدة]: الفرق بين مطلق الماء والماء المطلق، أن الحكم المترتب على الأول
يترتب على حصول الحقيقة من غير قيد فيشمل سائر أنواع الماء، وعلى الثاني يترتب
عليها بقيد الإطلاق فيختص ببعض
أنواعها وهو الطهور، اهـ إيعاب.
[فائدة]: اسم الأعرابي الذي بال في مسجده عليه الصلاة والسلام ذو الخويصرة
حرقوص بن زهير اليمامي لا التميمي وهو أصل الخوارج، ووقع له أيضاً أنه سها في
صلاته وقال: لئن مات محمد لأتزوّجن عائشة، وقال: اللهم اغفر لي ومحمد ولا تشرك
معنا أحداً، فقال له النبي : لقد حجرت واسعاً، كذا بهامش شرح المنهج.
(مسألة: ب): لا يضر تغير رائحة الماء كثيراً بالقرظ أو القطران، وإن لم
تغسل القربة بعد الدبغ، كما أطلقه في الخادم قال بخلاف تغيره كثيراً بالطعم أو
اللون، وأفتى البكري بالعفو مطلقاً أي في جميع الصفات.
[فائدة]: قال البجيرمي: (قوله: فمتغير بمخالط طاهر غير الطهر) أي لغير ذلك
المخالط، أما بالنسبة له فمطهر، كما لو أريد تطهير سدر أو عجين أو طين فصب عليه
ماء فتغير به تغيراً كثيراً قبل وصوله للجميع فإنه يطهر جميع أجزائه بوصوله لها،
إذ لا يصل إلى جميع أجزائه إلا بعد تغيره كذلك فاحفظه، اهـ رشيدي خلافاً للونائي،
ونقل أبو مخرمة عن السمهودي أنه لا يضر تغير الماء بأوساخ المتطهرين أي وإن طال
مكثه.
[فائدة]: يشترط لضرر تغير الماء بالطاهر ستة شروط: أن لا يكون بنفسه، وأن
يكون بمخالط، وأن يستغني عنه الماء، وأن لا يشق الاحتراز عنه، وأن يكون بحيث يمنع
إطلاق اسم الماء، وأن لا يكن ملحاً مائياً ولا تراباً، اهـ كردي.
(مسألة): ظاهر عبارة التحفة ومال إليه في الإيعاب أنه لو وقع في الماء ما
يوافقه في الصفات كلها أو في صفة واحدة أنها تقدر كل الصفات، واعتمده في المغني،
واعتمد في حاشية الحلبي أن الموجودة لا تقدر، وعبارة الباجوري إذا وقع في الماء ما
يوافقه في كل الصفات قدرت كلها، كطعم الرمان ولون العصير وريح اللاذن بفتح الذال
أي اللبان الذكر، وقيل: رطوبة تعلو شعر المعز ولحاها، فإن فقد بعض الصفات قدر
المفقود فقط،إذ الموجود إذا لم يغير فلا معنى لفرضه، واعتبر الروياني الأشبه
بالخليط، فإذا وقع فيه ماء ورد منقطع الرائحة قدر ماء ورد له رائحة، وهذا التقدير
مندوب كما نقل عن سم والبجيرمي، فلو هجم واستعمله جاز، إذ غايته أنه شاكّ في
التغير والأصل عدمه.
(مسألة): قال في الإسعاد شرح الإرشاد في مبحث القلتين: والجرية ما في
المجموع الدفعة بين حافتي النهر، والمراد بها ما يرتفع وينخفض بين حافتيه تحقيقاً
أو تقديراً، وقول صاحب البحر الجرية ما وقع تحت أدق خيط من إحدى حافتي النهر إلى
الأخرى فيه نظر، إذ قضيته أن لا توجد جرية هي قلتان إلا في نحو النيل، فما في
المجموع أولى بالاعتماد لأنها من قبيل الأجسام المحسوسة، وحينئذ فإذا كان طول
الجرية وهو عرض النهر ثلاثة أذرع، وعرضها وهو عمق النهر ذراع ونصف، وعمقها في طول
النهر نصف ذراع، كان الحاصل مائة وأربعة وأربعين فهي فوق القلتين، ولو كان طولها
ذراعين والعمق والعرض كما مرّ، كان الحاصل ستة وتسعين فهي دون القلتين، اهـ ملخصاً.
[فائدة]: أفتى العلامة داود حجر الزبيدي بأنه لو اختلف القلتان وزناً
ومساحة كان الاعتبار بالمساحة، إذ هي قضية التقدير في الحديث بقلال هجر، ويؤيده
ذكرهم التقريب في الوزن دونها، فدل على أن تقديرهم بالوزن للاحتياط كصاع الفطرة
وغيره اهـ.
[فائدة]: وقع في ماء كثير عينان طاهرة ونجسة فتغير ولم يدر أبهما أم
بإحداهما؟ فالذي يظهر مراجعة أهل الخبرة، فإن عرفوا شيئاً وإلا فالظاهر الطهارة
عملاً بأصل بقائها حتى يعلم ضده، كما لو شك هل التغير بمجاور أو مخالط أو بطول مكث
أو بأوساخ المغترفين؟ فلا يضر أيضاً، اهـ إيعاب.
(مسألة: ب): توضأ جماعة من ماء قليل ثم رأوا بعد الصلاة بعرات غنم، جاز لهم
تقليد القائلين بعدم تنجس الماء مطلقاً إلا بالتغير بشروطه أي التقليد المار، وهم
كثير من الصحابة والتابعين والفقهاء، كعلي وابن عباس وأبي هريرة والحسن والنخعي
وابن المسيب وعكرمة وابن أبي ليلى ومالك والأوزاعي والثوري، لقوله عليه الصلاة
والسلام: "خلق الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غلب على طعمه أو لونه وريحه
" وعليه العمل في الحرمين والغرب وغيرها، وكفى بهؤلاء قدوة، على أن جماعة من
الشافعية ذهبوا إلى طهارة روث المأكول كما يأتي.
(مسألة): توضأ حنفي من ماء قليل بنية التجديد من غير نية اغتراف لم يستعمل
الماء، وإن فرض أنه مس فرجه لأن قصده التجديد صارف للاستعمال، ولم يرتفع حدثه عندنا
للصارف كما لو توضأ شافعي مجدداً ناسياً للحدث ثم تبين حدثه، وكذا لو غسل وجهه
بنية رفع الحدث ثم علم في ظنه أنه متطهر فكمله بنية التجديد ولا يكفيه، فيما لو
نسي لمعة أو ترك شرطاً من وضوئه الأوّل من غير الوجه للعلة المذكورة.
(مسألة): لا يحكم باستعمال الماء إلا بعد فصله عن العضو، فحينئذ لو أدخل
متوضىء يده بعد غسل وجهه بلا نية اغتراف ثم أحدث ولو حدثاً أكبر فله أن يغسلها، بل
وباقي البدن في الجنابة بالانغماس قبل فصلها خلافاً للإرشاد، لكن إن كان الحدث
الثاني أصغر فلا بد من غسل الوجه بماء آخر مع بقائها في الماء.
(مسألة: ش): لم يرد في نية الاغتراف خبر ولا أثر، ولا نص عليها الشافعي ولا
أصحابه، وإنما استنبطها المتأخرون وتبعهم الأصحاب، ووجه وجوبها ظاهر، فعليه متى
أدخل المحدث يده بعد تثليث الوجه ما لم يقصد الاقتصار على واحدة، أو الجنب بعد
النية، صار الماء مستعملاً بالنسبة لغير ما فيها، وطريق من لم يرد نية الاغتراف أن
يغرف الماء قبل النية أو يفرغ على كفه، ولا تكون نية الاغتراف صارفة لنية الوضوء
بخلاف نية التبرد.
[فائدة]: اختلف
العلماء في نية الاغتراف، ونظم ابن المقري القائلين بعدم وجوبها فقال:
أوجب جمهور الثقات الظراف عند التوضي نية الاغتراف
من بعد غسل الوجه من يلغها فماؤه مستعمل بالخلاف
ووافق الشاشي ابن عبد
السلام في تركها والبغوي ذو العفاف
وابن العجيل الحبر أفتى
على إهمالها والحبر فتواه كاف
واختاره الغزالي والمزجد. قال أبو مخرمة: فلا يشدد العالم على العامي بل
يفتيه بعدم وجوبها.
المعفوَّات في نحو الماء
[فائدة]: يعفى عما لا يسيل دمه بوقوعه ميتاً، في نحو المائع بنفسه أو بنحو
ريح، وكذا بطرح بهيمة أو مميز، وكان مما نشؤه من الماء خلافاً لـ (مر) فيهما، بل
أومن غير مميز مطلقاً، أو مميز بلا قصد، كأن قصد طرحه على غيره فوقع فيه، قاله
الخطيب، بل رجح في الإيعاب و ق ل عدم الضرر مطلقاً، وهو ظاهر عبارة الإرشاد وغيره،
كما لا أثر لطرح الحي مطلقاً، قال ابن حجر في حاشية تحفته: وإذا تأملت جميع ما
تقرر، ظهر لك أن ما من صورة من صور ما لا دم له سائل طرح أم لا، منشؤه من الماء أم
لا، إلا وفيه خلاف في التنجيس وعدمه، إما قوي أو ضعيف، وفيه رخصة عظيمة في العفو
عن سائر هذه الصور، إما على المعتمد أو مقابله، فمن وقع له شيء جاز تقليده بشرطه،
وهذا بناء على نجاسة ميتته، أما على رأي من يقول إنها طاهرة فلا إشكال في جواز تقليد
ذلك، اهـ كردي. وأفتى أبو مخرمة بأنه لا يضر نقل ما فيه الميتة المعفوّ عنها من
إناء لآخر، كما لا يضر إدارته في جوانب الإناء ومسها لجوانبه.
(مسألة: ك): قرص قملة بين أصبعيه وتلطختا بالدم ثم غمسهما في نحو مائع،
فالأحوط عدم العفو والأسهل الذي أميل إليه، وأفتى به م ر العفو حيث لم يتعمد
الغمس، مع ملاحظة تنجسهما لقلته وللحاجة إليه.
[فائدة]: قال في
القلائد: يعفى عن بعر الفأر في المائع إذا عم الابتلاء به، وعن جرة البعير، وفم ما
يجترّ إذا التقم أخلاف أمه، ولا ينجس ما شرب منه، ونقل عن ابن الصباغ أن الشاة إذا
بعرت في لبنها حال الحلب عفي عنه، فلا ينجس ولا يغسل منه إناء ولا فم، فإن وقع فيه
بعرة من غيرها عفي عنه للطعم فقط، وأفتى المزجد بالعفو عما يلصق ببدنها ويتساقط
حال الحلب وما صدمته بذنبها اهـ. وأفتى السمهودي بالعفو عن بول الإبل والبقر في
ضرعيهما المتأخرين، وعما اتصل بهما حين تريض، وأفتى به أيضاً الفقيه محمد صاحب
عيديد علوي، ومن خط السيد أبي بكر بافقيه، قال: يعفى عن ذرق الطيور في المياه
كالسقايات والحياض لمشقة الاحتراز كما قاله البلقيني اهـ. وقال ع ش: ومما يشقُّ
الاحتراز عنه نجاسة نحو الفيران في الأواني المعدّة للاستعمال كالجرار، والأباريق
كحياض الأخلية، وإن أمكن الفرق بسهولة تغطيتها على الأقرب.
(مسألة: ش): المذهب عدم طهارة الآجرّ المعمول بالنجس بالإحراق وإن غسل بعد،
واختار ابن الصباغ طهارة ظاهره حينئذ، وأفتى به القفال، ويجوز الوضوء من الأواني
المذكورة، ويعفى عن فم كل مجترّ وصبي، وعما تلقيه الفيران في بيوت الأخلية إذا عمّ
الابتلاء به.
(مسألة: ب): الفرق بين
دخان النجاسة وبخارها، أن الأول انفصل بواسطة نار، والثاني لا بواسطتها، قاله
الشيخ زكريا. وقال أبو مخرمة: هما مترادفان، فما انفصل بواسطة نار فنجس وما لا
فلا، أما نفس الشعلة أي لسان النار فطاهرة قطعاً، حتى لو اقتبس منها في شمعة لم
يحكم بنجاستها.
[فائدة]: خلط زباد فيه شعرتان أو ثلاث بزباد كذلك أوصاف عنه، بحث بعض
المتأخرين أن محل العفو عن قليل شعر غير المأكول ما لم يكن بفعله فعليه ينجس
الزبادان، اهـ فتاوى ابن حجر.
الماء المكروه
(مسألة: ش): يكره الطهر بماء البحر للبري إن خشي منه ضرراً على نحو عينيه
ولو بقول ثقة لمنعه الإسباغ كشديد البرودة، بل إن تحققه حرم.
[فائدة]: المياه
المكروهة ثمانية: المشمس، وشديد البرودة أو الحرارة، وماء ديار ثمود إلا بئر
الناقة وقوم لوط، وبئر برهوت، وبئر بابل، وبئر ذروان، وألحق بذلك ماء محسر، والطهر
بفضل المرأة، ومن الإناء النحاس، وماء وتراب كل أرض غضب عليها كعاد، اهـ كردي.
وعبارة التحفة. ويكره الطهر بفضل المرأة للخلاف فيه، قيل: بل ورد النهي عنه وعن
الطهر من إناء النحاس اهـ.
النجاسات
[فائدة]: يتبع الفرع أخس أبويه في سبعة أشياء: النجاسة، وتحريم الذبيحة،
والمناكحة، وتحريم الأكل، وامتناع التضحية في متولد بين نعم وغيرها، وعدم استحقاق
سهم الغنيمة لمتولد بين فرس
وحمار، وعدم وجوب الزكاة المتولد بين نحو بعير وفرس، وأشرفهما في الدين، وإيجاب
البدل، وعقد الجزية، وأخفهما في الزكاة والأضحية، وأغلظهما في جزاء الصيد، ويتبع
الأب في النسب وتوابعه كاستحقاق سهم ذوي القربى، وفي الجرية إن كان من أمته أو أمة
فرعه، وفي الولاء ومهر المثل ويتبع الأم في الرق والحرية، فالولد بين مملوكين لمالك
الأم كولد البهيمة، اهـ كردي.
[مسألة): المني طاهر
من الآدمي اتفاقاً، وكذا غيره من بقية الحيوانات غير الكلب والخنزير على المعتمد،
لكن إن لم يكن صاحبه مستنجياً بماء فهو متنجس، ومن ثم حرم الجماع على مستجمر
بالحجر منهما، وإن فقد الماء واحتاج إلى الوقاع كما في النهاية والمغني، وقيده في
التحفة بوجود الماء، وهذا كما لو تنجس ذكره بمذي ما لم يعلم أن الماء يفتر شهوته
فيجوز حينئذ، واغتفر في القلائد المذي مطلقاً للضرورة، وحيث حكمنا بطهارة المني
جازت الصلاة في الثوب الذي وقع فيه ولو من جماع، نعم يسنّ غسله رطباً وفركه
يابساً.
(مسألة: ب): ذهب بعضهم إلى طهارة روث المأكول، بل ذهب آخرون إلى طهارة جميع
الأرواث حتى من الكلب إلا الآدمي، وجمعهم الشيخ عبد الله بن أبي بكر باشعيب فقال:
روث لمأكول لدى زهريهم وعطاء
والثوري والروياني
وإمام نخع وابن سيرين
والأصـ ـطخرّي والشعبيّ والشيباني
وابن خزيمة منذر حبانهم ثم ابن حنبل مالك الرياني
طهر وزاد الظاهرية والبخا ري لغير فضلة الإنسان
[فائدة]: قال في الخادم للزركشي: الدم كله نجس إلا عشرة: الكبد، والطحال،
والمسك، والدم المحبوس في ميتة السمك، والجراد، والميت بالضغطة، والسهم، والجنين،
وكذا مني ولبن خرجا على لون الدم اهـ. وفي حكمه بطهارة الدم المحبوس إن أراد ما
دام كامناً فلا يستثنى، إذ هو حينئذ ليس دماً، أو إذا تحلب وتلوث به غيره فممنوع
لأنه نجس، اهـ إيعاب.
[فائدة]: قال (بج):
ومن القيء ما عاد حالاً لو من مغلظ، فلا يجب تسبيع الفم منه كالدبر، نعم اعتمد (ع
ش) عدم وجوب التسبيع من خروج ما من شأنه الاستحالة، وإن لم يستحل كاللحم إلا إن
خرج من الفم كذلك، ووجوبه مما شأنه عدمها وإن استحال اهـ. ولا يجب غسل البيضة
والولد إذا خرجا من الفرج، إن لم يكن معهما رطوبة نجسة، اهـ شرح روض.
(مسألة: ب): الحياض
التي تجتمع فيها المياه ويلغ الكلاب فيها نجسة إن تغيرت، فلا يعفى عما لا تعم
البلوى به منها، فمن أصابه شيء من ذلك لزمه تسبيعه، كما لو قصدها الخراز فوضع فيها
الجلود فيلزمه تسبيعها وتسبيع ما تحقق ملاقاته نحو بدنه، ويحرم عليه تلويث المسجد
به، إذ لا ضرورة إلى ذلك، ومثل ذلك ما لو ضرب الكلب بنحو سكين مع الرطوبة في أحد
الجانبين، إذ لا مجال للعفو حينئذ، ويجوز استعمال أواني العوام المذكورين
ومؤاكلتهم حيث لم يتحقق ملاقاة نجاسة لها.
(مسألة: ي): خذ قاعدة ينبغي الاعتناء بها لكثرة فروعها ونفعها، وهي كل عين
لم تتيقن نجاستها لكن غلبت النجاسة في جنسها، كثياب الصبيان، وجهلة الجزارين،
والمتدينين من الكفار بالنجاسة كأكلة الخنازير أرجح القولين فيها العمل بالأصل وهو
الطهارة، نعم يكره استعمال كل ما احتمل النجاسة على قرب، وكل عين تيقناً نجاستها
ولو بمغلظ ثم احتمل طهارتها ولو على بعد لا تنجس ملاقاته، فحينئذ لا يحكم بنجاسة
دكاكين الجزارين والحواتين وزوارقهم التي شوهدت الكلاب تلحسها، أو لا يحكم بنجاسة
اللحم أو الحوت الموضوع عليها، وما لاقاه من أبدان الناس إلا إن شوهد ملاقاتها
للنجاسة، فتكون البقعة التي لحسها الكلب نجسة، وكذا ما لاقاها يقيناً بمشاهدة أو
إخبار عدل مع الرطوبة قبل احتمال طهرها بمرور سبع جريات بماء بتراب طهور، ولا
يتعدى حكمها لباقي الدكان فضلاً عن غيره، وكل لحم وحوت وغيرهما خرج من تلك الأماكن
محكوم بطهارته، إلا ما تيقن ملاقاته لنفس المحل المتنجس ولم يشق ويعم الابتلاء به
وإلا عفي عنه أيضاً، قاله أبو قضام وخالفه ابن حجر، وفي النهاية: والضابط أن كل ما
يشق الاحتراز عنه غالباً يعفى عنه.
(مسألة: ب): رجح أبو قضام طهارة صيفة اللحم التي يقال لها العلق، ونجاسة
صيفة العيد لاختلاطها بما في جوفه، والذي نعتمده أن الصيفة مطلقاً إما طاهرة أو
متنجسة معفوّ عنها، فلا ينجس ما دهن بها أو مسته، لكن لا ينبغي التسريح بها في
المسجد مطلقاً للخلاف في طهارتها مع التأذي بكراهة الأنفس لها اهـ. قلت: وأفتى
بالطهارة الناشري وأبو مخرمة وأبو صهي اهـ. وعبارة ك الصل يعني الصيفة كما في نسخة
الذي يجتمع مع الدم في حوض ثم يعلو الصلّ فيؤخذ لا يضر اختلاطه، إذ الظاهر أن الصل
المذكور إما طاهر أو نجس، معفوّ عنه للعفو عن الدم المتحلب من الكبد، ولقول عائشة
رضي الله عنها: "كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله فتعلوها الصفرة من الدم
فيأكل ولا ينكره" وقد اتفق ابنا حجر وزياد و م ر وغيرهم على طهارة ما في جوف
السمك الصغير من الدم والروث، وجواز أكله معه، وأنه لا ينجس به الدهن، بل جرى عليه
م ر الكبير أيضاً، ولأن لنا قولاً قوياً أن السمك لا دم له لأنه يبيضّ إذا وضع في
الشمس.
(مسألة: ي): الذي يظهر أن الشيء الأسود الذي يوجد في بعض الحيتان وليس بدم
ولا لحم نجس، إذ صريح عبارة التحفة أن كل شيء في الباطن خارج عن أجزاء الحيوان
نجس، ومنه هذا الأسود للعلة المذكورة إذ هو دم أو شبهة، وقد صرحوا بنجاسة الخرزة
التي في الكرش كحصى الكلي والمثانة، لخروجها من معدن النجاسة مع شبهها بالطاهر
فأولى هذا الأسود، ولأنه فضلة مستحيلة وهي نجسة إلا ما استثني، ومن قال بطهارته
فقد أخطأ.
[فائدة]: نقل عن
البريهمي أنه قال: في الأصح أن ذرق السمك والجراد وما يخرج من فيها نجس، وفي
الإبانة أنه طاهر، ومع الحكم بالنجاسة يعفى عنه إذا عمت به البلوى كدم البراغيث،
وأفتى ابن كبن بأن بصاق الجراد وهو بلاقها طاهر، وما في باطن ذنبها نجس على
الصحيح، وأفتى عبد الله باسودان بأن الخارج مما لا نفس له سائلة عند قتله إن خرج
حال حياته وليس به تغير فطاهر كريق الآدمي، أو بعد موته فنجس مطلقاً، إذ الميتة
وجميع أجزائها نجسة، وإنما لم تنجس المائع للنص، ولو شك في شعر أطاهر أم نجس
فطاهر، وألحق به في الجواهر العظم بخلاف اللحم.
(مسألة: ك): يصير العصير خلاً من غير تخمر فيكون طاهراً في ثلاث صور وهي:
فيما إذا صب العصير في الدن العتيق بالخل، وفيما إذا جردت حبات العنب من عناقيده
وملىء منها الدنّ وطين رأسه، ومثله الرطب إن أخبر عدل بتخلله حينئذ من غير تخمر،
وإلا فيتبع الغالب من التخمر وعدمه، وفيما إذا صبّ خلّ على عصير دونه بل أو مساويه
كما قاله ابن حجر والخطيب، وقال م ر : إن أخبر عدل يعرف ما يمنع التخمر وما لا اتبع،
وإلا حكم بالغالب من التخمر وعدمه، بل لنا وجه مرجوح يجوز تقليده بشرطه أنه يتخلل
العصير حينئذ، وإن كان أكثر من الخل، ولو وضع التمر بنواه في الماء حتى تخلل كعادة
أهل البصرة، فقياس ما ذكره ابن حجر في الإيعاب من العفو عن حبات العناقيد ونوى
التمر أنه يطهر وجرى غيره على عدم العفو عن ذلك، وفي النهاية: ولا فرق في العصير
بين المتخذ من نوع واحد أو أنواع، فلو جعل فيه عسلاً أو سكراً، أو اتخذه من نحو
عنب ورمان أو برّ وزبيب طهر بانقلابه خلاً، وليس ذلك تخللاً بمصاحبة عين، لأن نفس
ذلك كله يتخمر، ولا يضر وضع النبيذ أو العصير على الخمر، وعكسه كما لو أريقت خمر
فصب في إنائها خمر أخرى.
[فائدة]: لا يطهر ظاهر الدن المترشح إليه الخمر قبل تخللها إذ لا ضرورة
إليه بخلاف الباطن، نعم ما ارتفع أو انخفض إليه من الدنّ بغير الغليان، بل بوضع
شيء أو أخذه لم يطهر هو أيضاً لعدم الضرورة ولا هي لاتصالها بنجس اهـ إيعاب. ومنه
للخل خمس صور طاهرة قطعاً إذا تخللت من غير عين ولا إمساك بل اتفاقاً، أو على
الأصح إذا تخللت بعد إمساك، وقال العراقيون: لا تطهر غير المحترمة، أو لا تطهر
قطعاً إذا طرحت العين قصداً، أو على الأصح إن كانت بغير قصد، أو تطهر على الأصح
أيضاً إذا نقلت من نحو شمس، ولا يحرم التخلل به لأنه سبب لإصلاحها من غير محذور
اهـ.
[فائدة]: أصاب جلد الميتة نجاسة مغلظة، لم يكف غسله قبل الدبغ، بل لا بد من
تسبيعه بعده، لأنه قبله لم يكن قابلاً للتطهير، وأخذ منه سم أن نحو عظم الميتة إذا
أصابه مغلظ لا يطهر بغسله أبداً، فينجس مماسه رطباً نجاسة مغلظة اهـ مدابغي وفي ي
نحوه وزاد: ونقل الشوبري عن الشيخ زكريا أنه يطهر من المغلظة بتسبيعه.
إزالة النجاسة
(مسألة: ي): تحرم مباشرة النجاسة مع الرطوبة لغير حاجة فيجب غسلها فوراً،
بخلافه لحاجة كالاستنجاء، وغسلها من نحو بدن، ووضعها في نحو زرع أو بنحو قصد، وكذا
التداوي بشرط فقد طاهر صالح.
(مسألة: ج): قطرات بول
متفرقات وقعت بمسجد، ومر الناس في المحل مع ترطب أرجلهم، لم يجب إلا غسل محل البول
فقط، لا كل المحل للشك في تنجسه، إذ يحتمل مرور المتوضئين على النجاسة وعلى الموضع
الطاهر، والقاعدة أننا لا ننجس بالشك.
[فائدة]: أفتى ابن حجر بأن الكفين كعضو واحد حكماً، فإذا غسلهما معاً من
نجاسة بهما أو بأحدهما كفى، وأفتى أيضاً بجواز غسل النجاسة بمطعوم عند الحاجة،
كغسل لثوب إبريسم يفسده الصابون، ونخالة لغسل يد، وملح لدم كما في المجموع اهـ.
(مسألة: ك): وقعت في
الصبغ أجزاء نجسة، فإن كانت مما تنعقد فيه ولا يزيلها الماء كزبل لم يكف غمر
المصبوغ بالماء، بل لا بد من إزالة تلك الأجزاء، فإن تعذر فحكمها حكم نجس العين
الذي تعذر تطهيره، وإن لم تكن كذلك طهر بغمره في ماء كثير أو ورود قليل عليه، وإن
بقي اللون في المحل أو الغسالة، كما يطهر الصبغ المنفرد أو المخضوب بمتنجس أو نجس
بذلك اهـ. وفي ب نحوه زاد: وقال القاضي يطهر المصبوغ بالنجس أي مطلقاً بما ذكر وإن
بقي اللون، ومال إليه في القلائد ومحمد بن أحمد فضل وبلحاج والريمي.
[فائدة] قال بج:
والحاصل أن المصبوغ بعين النجاسة كالدم، أو بالمتنجس الذي تفتتت فيه النجاسة أو لم
تتفتت كان المصبوغ رطباً يطهر إذا صفت الغسالة من الصبغ، أما المصبوغ بمتنجس لم
تتفتت فيه النجاسة والمصبوغ جافّ فيطهر بغمسه في قلتين أو صب ماء يغمره وإن لم تصف
الغسالة، فقولهم: لا بد في طهر المصبوغ من أن تصفو الغسالة محمول على ما صبغ بنجس
أو مخلوط بنجس العين، اهـ سم وطب.
(مسألة: ش): أفتى ابن مطير في نيل وقعت فيه نجاسة فترك حتى جمد ولم يتصاب
فصب عليه ماء يغلبه وهو في حوضه فشربه ثم شربته الأرض بأنه يطهر كالآجرّ المعجون
بالنجس، والظاهر عدم طهره والفرق واضح.
(مسألة: ي): تنجس مائع
كدهن وغسل بنجاسة غير متفتتة ثم لاقى جامداً كدقيق اشترط في طهارته زوال أوصاف
المائع إلا ما عسر، هذا إن كان له أي المائع وصف، وإلا كفى جري الماء عليه بحيث
يظن وصوله إلى جميع أجزائه، كما لو عجن لبن ببول فيطهر باطنه بنقعه في الماء ولو
مطبوخاً رخواً يصله الماء.
(مسألة: ي): لحم عليه دم غير معفوّ عنه ذر عليه ملح فتشربها طهر بإزالة
الدم، وإن بقي طعم الملح كحب أو لحم طبخ ببول فيكفي غسل ظاهره، وإن بقي طعم البول
بباطنه إذ تشرب ما ذكر كتشرب المسام، كما في التحفة.
(مسألة: ب ك): تنجس
عضو شخص كيد جزار أو شفرته وبه دهن أو نحو حلتيت، فلا بد من إزالة أثر نحو الدهن
مع النجاسة لأنه صار متنجساً، كما لو تنجس الدهن ثم دهن به نحو جرب أو تنجس به
العضو، فلا بد من إزالته ولو بنحو صابون على المعتمد إلا ما عسر زواله، زاد ب: وقد
يفرق بأن المشقة في مسألة الجزار، بل الضرورة أظهر بكثرة تكراره وفي تكليفه نحو
السدر كل مرة مشقة، فينبغي الاكتفاء بمجرد إزالة أوصاف النجاسة لا الدسم، لأن
المشقة تجلب التيسير، ولأنه يعفى عن كل ما يشق الاحتراز عنه كما في النهاية، لا
سيما وقد قال بطهارة روث المأكول مالك وأحمد وغيرهما كما مر اهـ. قلت: وقال السيد
علي الونائي في كشف النقاب: لو دهن عضوه بدهن متنجس كفاه جري الماء عليه وإن لم
يزل أثر الدسومة، لأنه بانبساطه على العضو يصل الماء إلى جميع أجزائه اهـ.
[فائدة]: المذهب وجوب غسل ما أصابه الكلب مع الرطوبة ولو معضاً من صيد على
المعتمد، وقيل: يجب تقويره، وقيل: يعفى عن محل نابه وظفره، وقيل: طاهر، قال في
الإمداد ونقله البجيرمي عن (م ر): ما عدا الأخيرة وزاد، وقيل: تكفي السبع من غير
تتريب، وقيل: يجب مرة فقط اهـ، ولو لم تزل العين إلا بست غسلات مثلاً حسبت مرة على
المعتمد، لكن يكفي التتريب في إحداها قبل إزالة العين، اهـ حاشية الشرقاوي. ولو
جمع غسلات الكلب في إناء وقد ترب في إحداها فلا بد من غسله سبعاً مع التتريب،
لأنها صارت نجاسة مستقلة، قاله ابن أبي شريف وتبعه ع ش وحف، وقال سم: إن ترب
الأولى كفى وإلا أعاد التراب اهـ جمل.
[فائدة]: أصابه شيء من الأرض الترابية قبل تمام غسلها لم يجب تتريبه قياساً
على ما أصابه من غير الأرض بعد تتريبه قاله الخطيب، وقال (م ر): يجب، وحمل ابن حجر
عدم الوجوب على ذات التراب المتطاير، أما ما لاقاه من نحو الثوب فيجب تتريبه، اهـ
كردي.
(مسألة): الغسالة
طاهرة إذا لم تتغير وقد طهر المحل، وإلا فهي نجسة مع المحل، لأن البلل المنفصل بعض
ما بقي بالمحل، ولا يتبعض الماء القليل طهارة ونجاسة كذا قالوه، لكن قال البجيرمي
على الإقناع قوله لأن المنفصل الخ، هذا التعليل يعطي أنه يلزم من طهارة أحدهما
طهارة الآخر، ومن نجاسة أحدهما نجاسة الآخر، وهو ظاهر شرح الروض، وذكر ق ل ما
حاصله: أنه لا يلزم من نجاسة الغسالة نجاسة المحل، ولعل الأوّل مفروض فيما إذا كان
الغسل في نحو إجانة. والثاني فيما إذا كان بالصب والمغسول بين يديه اهـ شيخنا.
الاجتهاد
[فائدة]: شروط جواز الاجتهاد أحد عشر: كون كل من المشتبهين له أصل في
التطهير أو الحل، وللعلامة فيه مجال، وظهورها وبقاء المشتبهين وتعدد المشتبه،
والعلم بتنجس أحدهما أو ظنه بخبر عدل رواية، والحصر في المشتبه، واتساع الوقت
للاجتهاد والطهارة والصلاة، وإلا صلى وأعاد، وكون الإنائين لواحد على ما قيل،
اعتمد ابن حجر و (م ر)، خلافه، وأن لا يخشى منه ضرراً كالشمس، وأن يسلم من
التعارض، كخبر عدلين تعذر الجمع بينهما فيتساقطان، إلا إن كان أحدهما أوثق أو أكثر
فيؤخذ به، ويزيد وجوب الاجتهاد بدخول الوقت، وعدم تيقن الطهارة، وعدم بلوغهما
بالخلط قلتين اهـ كردي.
(مسألة: ش): اشتبه تراب طهور بغيره وتحير، فلا بد لصحة الصلاة من خلطهما كالمائين، ويظهر أنه لا يتيمم بكل في اشتباه
الطهور بالمستعمل، والفرق بينه وبين الماء عسر إزالة التراب الأول عن العضو، إذ
يضر الخليط فيه وإن قل بخلاف الماء، فلو فرض تنقية العضو منه صح، لكن لا بد من
الجزم بالنية بأن يأخذ كفاً من هذا وكفاً من هذا ويمسح بهما الوجه ناوياً ثم يعكس.
(مسألة): اجتهد في
ماءين فظن طهارة أحدهما فتوضأ به وصلى، وأراق الآخر كما هو السنة ثم أحدث لم يتوضأ
ثانياً ببقية الأول، لوجوب الاجتهاد لكل وضوء، ولا يجتهد حينئذ لفقد شرطه وهو
التعدد، بل يتيمم ويصلي ولا إعادة عليه، قاله في الإمداد، وهي مسألة نفيسة غامضة
معلومة من كلامهم، فإن لم يرق الآخر وبقي من الأول بقية أعاد الاجتهاد، ثم أن ظهر
له طهارة الأول أيضاً استعمله أو الثاني أراقهما ثم تيمم، واعلم أن لزوم الاجتهاد
مقيد بما إذا لم يكن ذاكراً للدليل الأول كما في النهاية وسم ، وإلا فلا يجب
ويتوضأ ثانياً وثالثاً، وهل ذلك عام سواء بقي الآخر أو تلف ظاهر إطلاقهم، نعم ثم
رأيت سم استقربه.
[فائدة]: لا يقبل خبر الفاسق إلا فيما يرجع لجواب نحو دعوى عليه، أو فيما
ائتمنه الشرع عليه، كإخبار الفاسقة بانقضاء عدتها، أو إخباره بأن هذه الشاة مذكاة
فيحكم بجواز أكلها، وكذا بطهارة لحمها تبعاً، وإن كان لا يقبل خبره في تطهير الثوب
وتنجيسه وإن أخبر عن فعل نفسه، اهـ بامخرمة. لكن اعتمد ابن حجر والشيخ زكريا، قبول
قوله طهرت الثوب لا طهر.
(مسألة: ي): الخبر الواقع في القلب صدقه بأن غلب على القلب صدقه، وهو
المراد بقولهم: الاعتقاد الجازم يجب العمل به على من صدقه كذلك، وإن لم يثبت عند
الحاكم، ولم يكن المخبر مكلفاً عدلاً، فإن ظن صدقه من غير غلبة جاز وذلك في خمس عشرة
مسألة تنجس نحو المياه، ونقض الوضوء من نحو مس وريح، وتوقف إزالة النجاسة على نحو
صابون أو عدمه، ودخول الوقت والقبلة، وكشف العورة، ووقوع النجاسة، ودخول رمضان
وشوَّال وذي الحجة، أو شهر معين منذور صومه، وشعبان بالنسبة لرمضان فيجب الصوم
عليه، وعلى من صدقه بتمامه، وطلوع الفجر، وغروب الشمس، وتعليق الطلاق بأي شهر كان،
بل وفي أكثر أبواب الفقه، كما نقله ابن زياد عن الشيخ زكريا، ويجوز العمل بقوله:
ولا يجب، وإن غلب على قلبه صدقه في سبع مسائل: عدم الماء، ومبيح التيمم، وفوات
الجمعة، والإخبار بولاء زوج لمريدة التزويج، وكذا للمعتدة التي جهلت أشهرها أو
كانت عمياء أو محبوسة.
خصال الفطرة
[فائدة]: هذان البيتان في خصال الفطرة التي ابتلي بها إبراهيم الخليل عليه
السلام:
تمضمض واستنشق وقصّ لشارب
>< دوام سواك واحفظ الفرق للشعر
ختان ونتف الإبط حلق لعانة
>< ولا تنس الاستنجاء والقلم للظفر
[فائدة]: قال ع ش: لو
نذر السواك حمل على المتعارف من ذلك الأسنان وما حولها اهـ، وأفتى الزمزمي بأنه لا
بد لأصل السنة من استيعاب الأسنان وما حولها أي ظاهراً وباطناً، وقال أبو مخرمة:
لا شك أن سقف الحلق من أكمله.
[فائدة]: قال البجيرمي
على الإقناع: والحاصل أن أحكامه أي السواك أربعة: واجب كأن توقف عليه إزالة نجاسة
أو ريح كريه في جمعة، وحرام كسواك الغير بغير إذنه وعلم رضاه، ومكروه من حيث
الكيفية كاستعماله طولاً، وسنة على الأصل، ولا تعتريه الإباحة لأن ما أصله الندب
لا تعتريه الإباحة، ولا يكره الاشتراك في السواك والمشط والمرود خلاف ما تظنه
العوام فإن ذلك لنفرة نفوسهم، ولم يرد نص بالكراهة، قال: والخلوف بالضم تغير الفم،
وبالفتح كثير الخلف بالوعد، والخلف بفتحتين الذرية الصالحة، وبإسكان اللام الذرية
السوء اهـ.
[فائدة]: تردد في التحفة في كراهة إزالة الخلوف بغير السواك، وصرح زي بأنه
لا يكره بنحو أصبعه وكالصائم الممسك، نعم إن تغير فمه بنحو نوم لم يكره، قاله م ر
والخطيب خلافاً لابن حجر، ولو مات الصائم بعد الزوال حرم إزالة خلوفه بالسواك
قياساً على دم الشهيد، قاله (م ر) والخطيب خلافاً لابن حجر، ولو مات الصائم بعد
الزوال حرم إزالة خلوفه بالسواك قياساً على دم الشهيد، قاله (م ر) اهـ بج.
[فائدة]: نقل الكردي عن البكري والإيعاب وغيرهما أن أغصان الأراك أولى من
عروقه، وكلام الرافعي وابن الرفعة والإمام يقتضي التسوية بينهما، وقال ق ل: وينبغي
أن ينوي بالسواك السنة ويقول: اللهم بيض به أسناني، وشدّ به لثاتي، وثبت به لهاتي،
وبارك لي فيه، وأثبتني
عليه يا أرحم الراحمين. وقال في التحفة: ويسنّ أن يكون السواك باليمنى، وأن يجعل
خنصره وإبهامه تحته، والثلاثة الباقية فوقه، وأن يبلع ريقه أول استياكه إلا لعذر
ولا يمصه، وأن يضعه فوق أذنه اليسرى أو ينصبه بالأرض ولا يعرضه، وأن يغسله قبل
وضعه، كما إذا أراد الاستياك به ثانياً وقد حصل به تغير، ولا يزيد في طوله على
شبر، ولا يستاك بطرفيه اهـ.
[فائدة]: من فوائد
السواك أنه يطهر الفم، ويرضي الرب، ويبيض الأسنان، ويطيب رائحة الفم، ويشد اللثة
ويصفي الخلقة عن نحو البلغم، ويذكي الفطنة، ويقطع الرطوبة، ويجلو البصر، ويبطىء
الشيب ويسوّي الظهر، ويضاعف الأجر، ويسهل النزع، ويذكر الشهادة عند الموت، ويورث
السعة والغنى واليسر، ويسكن الصداع وعروق الرأس، ويذهب وجع الضرس والحفر، ويصحح
المعدة ويقوِّيها، ويزيد في الفصاحة والعقل، ويطهر القلب، ويقوي البدن، وينمي
الولد والمال. وذكر بعضهم فوائد أخر تحتاج إلى توقيف اهـ. إيعاب.
[فائدة]: يسنّ حلق الرأس للرجل في النسك وسابع الولادة وكافر أسلم، ويكره
للمضحي في عشرذي الحجة، ويباح فيما عدا ذلك، إلا إن تأذى ببقاء شعره أو شق عليه
تعهده فيندب، اهـ إقناع وبج. وعن أنس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله يكثر
دهن رأسه وتسريح لحيته". وعن شيخنا ابن علان المكي: من قال إن النبي كان يدهن
جسده الشريف فقد استنقص به عليه السلام ويخشى عليه الكفر، اهـ من زاد العجلان شرح
الزبد.
(مسألة: ش): لا يكره حلق ما تحت الحلقوم على المعتمد، إذ لم يرد فيه نهي
وليس هو من اللحية، على أنه لا يكره الأخذ من طول اللحية وعرضها كما ورد في
الحديث، وإن نص الأصحاب على كراهته، نعم نص الشافعي رضي الله عنه على تحريم حلق
اللحية ونتفها، ولو قيل بتحريم نتف الشيب لم يبعد.
[فائدة]: يكره الأخذ
من طول الحاجبين لأنه تغيير لخلق الله تعالى، وعن الحسن وغيره أنه لا بأس به، وأن
النبي فعله، اهـ تجريد المزجد. والمعتمد في تقليم أظفار اليدين أن يبدأ بسبابة
يمناه إلى خنصرها ثم إبهامها، ثم خنصر يسراه إلى إبهامها. وفي تقليم الرجلين من
خنصر يمناه إلى يسراه على التوالي، قاله في التحفة والباجوري تبعاً للإحياء، إلا
أنه فيه أخر إبهام اليد اليمنى إلى الفراغ وأبدى في ذلك نكتة.
[فائدة]: قال النووي: يحرم خضب يدي ورجلي رجل بحناء، وكلام صاحب البيان
والماوردي والرافعي وغيرهم يقتضي الحلّ وهو المختار اهـ عباب. وفي القلائد: خص بعض
أصحابنا كراهة القزع بترك مواضع متفرقة أو بجانب، أما القصة والقفا فلا بأس بهما
للغلام، وجزم به الفقيه عبد الله بن أبي عبيد التريمي.
(مسألة: ش): لو ختن المولود الجن بأن أزيل ما يغطي الحشفة كفى، إذ القصد
إزالته كما لو ولد مختوناً، ولا يسنّ حينئذ إمرار الموسى بخلاف الرأس في المحرم.
[فائدة]: نقل عن الشيخ
عبد الله بلحاج بافضل عن شيخه الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ علي علوي أنه قال: رأيت
في بعض شروح المنهاج أنه ينبغي للشخص وضع النعل عرضاً لا طولاً، ورأى بلحاج
المذكور يوماً نعله موضوعة طولاً وقد أراد أن يحرم فانحرف ووضعها عرضاً.
الحجامة
[فائدة]: في الحجامة على الريق بركة وزيادة في العقل والحفظ، وخير أيامها
الأحد والاثنين، وفي التلوّث خلاف، وتكره يوم السبت والربوع، وخير أوقاتها من
الشهر بعد النصف وقبل آخره، وينبغي أن لا يقرب النساء قبلها بيوم وليلة وبعدها
كذلك، وإذا أراد الحجامة في الغد فليتعشّ عند العصر، ولا يأكل أثرها مالحاً،
وليشرب على أثرها خلاًّ، ثم يحسو شيئاً من المرقة والحلو لا رائباً ولبناً، ويقلّ
شرب الماء، والفصد مثلها، اهـ من البستان للسمرقندي.
فروض الوضوء
[فائدة]: حكمة اختصاص الوضوء بهذه الأعضاء كما قيل: إن آدم عليه السلام
توجه إلى الشجرة بوجهه وتناولها بيده، وكان قد وضع يده على رأسه ومشى إليها برجله،
فأمر بتطهير هذه الأعضاء، اهـ باجوري.
[فائدة]: تتعلق بالنية سبعة أحكام نظمها بعضهم فقال:
حقيقة حكم محل وزمن ><
كيفية شرط ومقصود حسن
فحقيقتها قصد الشيء مقترناً بفعله، ومحلها القلب، وحكمها الوجوب، ومقصودها
تمييز العبادة عن العادة، كالجلوس للاعتكاف تارة وللاستراحة أخرى، أو تمييز رتبها
كالفرض عن النفل، وشرطها إسلام الناوي وتمييزه وعلمه بالمنويّ، وعدم الإتيان
بمنافيها، وعدم تعليقها كإن شاء الله إلا إن قصد التبرك، وزمنها أي وقتها أول
العبادات إلا الصوم، وكيفيتها تختلف بحسب الأبواب اهـ ش ق.
(مسألة: ي): تطلق النية على معنيين: أحدهما قصد العمل وإرادته وانبعاث
النفس إليه لتحصيل ما هو محبوب لها في الحال أو المآل، وهو طلب رضا الله تعالى
والخوف من عقابه، وهذه هي التي بحث على تصحيحها جميع العلماء والصالحين، وهي خارجة
عن اختيار العبد، إذ ما تميل إليه النفس خارج عن الاختيار، بل من قوي إيمانه، وكثر
خوفه، وعظمت رغبته فيما أعد الله لأوليائه، وقل التفاته إلى ما سواه، صارت قصوده
وإراداته في أغلب حركاته تحصيل رضا من
آمن به، وما يبعد من عقابه، ومن ضعف إيمانه، وغلبت عليه الشهوات، وكثرت رغبته في
زهرة الدنيا، صارت قصوده مقصورة عن ذلك، وإن أتى بأعمال ظاهرها طاعة، نعم للعبد
اختيار في هذه النية، وتصحيحها بتقوية أسبابها من الإيمان بمولاه، والرغبة والرهبة
فيما أعد من الثواب والعقاب، لتنبعث الإرادة الصالحة المثمرة للتجارة الرابحة،
وحكم هذه الوجوب في جميع أنواع الطاعات، والندب في جميع المباحات وفي ترك المعاصي
والمكروهات. والثاني على قصد الشيء مقترناً بفعله، وهذه هي التي يبحث عنها
الفقهاء، وهي في الحقيقة عين الأولى، وإنما امتازت عنها باستحضار ذلك عند ابتداء
الفعل، ووجوب ذلك الاستحضار مبني على أن وجوبه لازم، إما لتميير العبادة عن العادة
كالغسل الواجب، أو المسنون من غسل التبرد، وإما لتمييز راتب العبادة بعضها عن بعض،
كالصلاة تكون فرضاً أو نفلاً، فكل ما كان من العبادات مشتبهاً بالعادة أو على
مراتب مختلفة لزم استحضار قصده عند ابتدائه، إلا نحو الصوم والزكاة مما جوّز الشرع
فيه تقديم الاستحضار، وما لم يكن كذلك فلا، بل اللازم فيه النية بالمعنى الأول وهو
إرادة وجه الله تعالى، فعلم أنه إما أن تجب النيتان معاً كما مر أو الأولى فقط،
فيما سلم من الاشتباه والاختلاف، وذلك كالإسلام والأذان ومطلق الأذكار والقراءة،
أما العادات وترك المعاصي والمكروهات فلا تجب لها نية، بل تندب الأولى ليثاب
عليها، ولو أشرك في النية ما لا تطلب له نية فاته الكل عند ابن عبد السلام، واعتبر
الباعث عند الغزالي اهـ. قلت: رجع ابن حجر في حاشية الإيضاح وأحال عليه في غيرها
أن له ثواباً بقدر قصده الأخروي وإن قل. واعتمد (م ر) كلام الغزالي، وهذا في غير
قصد نحو الرياء، أما هو فمسقط للثواب مطلقاً اتفاقاً، قاله الكردي:
(مسألة: ب): اللحية إما خفيفة بأن ترى البشرة من خلالها في مجلس التخاطب، أو كثيفة
بأن لا ترى، أو بعضها كذا وبعضها كذا، فلكل حكمه إن تميز، وإلا وجب غسل الجميع،
وليس بينهما درجة متوسطة، وتحصل سنة التخليل بغسل الكثيفة بلا كراهة كالرأس، وورد
أن من السنة أخذ غرفة بعد تثليث الوجه يغسل بها لحيته، ونص عليه العامري في البهجة
لكنه لم يشتهر في كتب المذهب، وكأنهم لم يروه لقوادح خفيت عن المقلدين، فلم يسع
لمثلنا إلا الإفتاء بما عليه أئمة المذهب، وقد ذكروا أنه تكره الزيادة على الثلاث،
وللعامل سبيل غير الفتوى.
(مسألة: ك): اعتمد
الشيخ زكريا وابن حجر أن ما خرج
عن حد الوجه بحيث لو مد خرج بالمد عن جهة نزوله من شعور وجه المرأة، والخنثى حكمه
حكم الداخل في حده، أي فيجب غسل ظاهره وباطنه، والبشرة تحته مطلقاً، واعتمد (م ر):
أن الخارج من شعورهما كالخارج من شعور الرجل إن خف وجب غسل ظاهره وباطنه، وإن كثف
وجب غسل ظاهره فقط.
(مسألة: ك): الوسخ
الذي على ظاهر البدن والظفر والسرة إن نشأ من البدن كالعرق المتجمد فله حكم البدن
فينقض لمسه، ويكفي إجراء الماء عليه في الطهارة، وإن نشأ من غير البدن كالغبار
وجبت إزالته، أما الوسخ الذي يجتمع تحت الأظفار، فإن لم يمنع وصول الماء صح معه
الوضوء، وإن منع فلا في الأصح، ولنا وجه وجيه بالعفو اختاره الغزالي والجويني
والقفال، بل هو أظهر من حيث القواعد من القول بعدمه عندي، إذ المشقة تجلب التيسير،
فيجوز تقليده بشرطه ولو بعد الصلاة اهـ. وفي ب نحوه في وسخ الأظفار وزاد: وفصل
بعضهم بين أن يكون من وسخ البدن الذي لا يخلو عنه غالب الناس فيصح معه الوضوء
للمشقة، وأن يطرأ من نحو عجين فلا، وهذا الذي أميل إليه.
(مسألة: ب): يجب في نحو الشقوق إيصال الماء إلى جميع ما في محل الفرض من
الغور الذي لم يستتر، وإزالة ما أذيب فيها من نحو شمع وسمن مانع من إيصال الماء
إلى البشرة ما لم يصل اللحم، ويجب أيضاً إزالة ما خيط به الشق مما يمنع وصول الماء
إلى محل الفرض ما لم يستتر، نعم إن خاف من إزالته محذور تيمم تيمماً عنه.
[فائدة]: الذي يظهر من كلامهم أن الشق والثقب حيث كانا في الجلد ولم يصلا
إلى اللحم الذي وراء الجلد وجب غسلهما إن لم يخش ضرراً وإلا تيمم، وحيث وصلا اللحم
لم يجب، وإن لم يستتر، إلا إن ظهر الضوء من الجهة الأخرى فيجب غسل جميعه حينئذ،
اهـ كردي.
(مسألة): محدث حدثاً
أصغر غمس أعضاءه الأربعة فقط في الماء ونوى ارتفع حدثه وإن لم يمكث، كما لو غطس
بعد أن طلى ما عداها بشمع، نقله الكردي عن فتاوى ابن حجر، وأفتى به عبد الله بن
سراج، وخالفهما أبو حويرث فقال: لا يرتفع بغمس الأعضاء المذكورة بل لا بد من
الغطس، وفرق بين المسألتين.
سنن الوضوء
[فائدة]: يسن للمتوضىء أن يتعوذ قبل التسمية ثم بعدهما: الحمد لله الذي جعل
الماء طهوراً والإسلام نوراً، الحمد لله على الإسلام ونعمته، رب أعوذ بك من همزات
الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون، ثم يتشهد، ومما ينفع للوسوسة في أي أمر كان أن
يضع يمناه على صدره ويقول: سبحان الملك الخلاق الفعال سبعاً {إن يشأ يذهبكم ويأت
بخلق ـ إلى ـ عزيز} اهـ (ش ق). ولا ينبغي أن يأتي بالأذكار الواردة في الوضوء
وبعده في نحو الجوابي المعهودة، لأنها صارت محلاً للبول والقذر فيكره فيها الذكر،
كما قاله الحبيب القطب عبد الله الحداد، وشد النكير على من نقل عنه خلافه.
(مسألة: ش): المعتمد أن أول سنن الوضوء التسمية، وقيل السواك، ولو ترك بعض
السنن ولو من أوله أثيب على ما أتى به منها بشرط أن توجد النية فيما قبل غسل
الوجه، نعم الترتيب بين المضمضة وغسل الكفين مستحق، فلو قدمها لم تحسب على
المعتمد، وكذا بين مسح الرأس والأذنين لا غير. وهنا دقيقة وهي ندب السواك لكل ذكر
فيشمل التسمية، وندبها لكل أمر ذي بال، فيحصل حينئذ دور كما هو معلوم، ولا يتخلص
منه إلا بأن يقال: تسمية السواك لا يندب قبلها سواك، وهو أولى من عكسه لاعتناء
الشارع بالتسمية أكثر.
[فائدة]: قال سم: يحرم وضع اليد المتنجسة بعينية في البركة الموقوفة أو
المسبلة إن تقذر منها الماء لإمكان طهرها خارجها، ومثله البصاق والمخاط، اهـ كردي.
(مسألة): يتخير نحو
المتوضىء في تخليل اللحية والأصابع كالدلك، بين أن يفعله مع كل غسلة أو يؤخره بعد
الثالثة، ويخلل ثلاثاً وهو الأولى، ويسنّ تخليل اللحية بغرفة مستقلة، قاله في
التحفة، نعم في الإيعاب ندب تخليل أصابع الرجلين مع غسلهما.
(مسألة: ب): يحصل سنّ تخليل أصابع اليدين والرجلين بأي كيفية كانت، وكمالها
بالكيفية المشهورة ومستقلاً بماء جديد.
(مسألة): لا يحصل
تطويل الغرة إلا بعد نية معتبرة ولو عند غسل حمرة الشفة، وظاهر قوله : "أنتم
الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء" أن هذه السيما إنما تكون لمن
توضأ بالفعل في حياته لا بوضوء الغاسل للميت، وينبغي أن مثل الوضوء التيمم لإقامته
مقامه، اهـ ع ش.
(مسألة): لا تحصل سنة
تثليث الرأس بمسح ثلاثة جوانب منه ولو مرتباً إذ لا يسمى تثليثاً، إلا إن كان بموضع واحد كما
نص عليه، نعم يحصل بذلك تكميل الرأس إن عمه، وشرط المسح على العمامة أن لا يعصي
بلبسها لذاته كمحرم، وأن لا يكون عليها نجاسة ولو معفوّاً عنها، وأن يمسح جزءاً من
الرأس أولاً، وأن يتصل مسح الجزء بمسح العمامة وإلا صار مستعملاً. قاله في حاشية
الجمل، وفي ش ق: لا يشترط الاتصال على المعتمد.
[فائدة]: يندب غسل
الأذنين مع الوجه ثلاثاً كمسحهما مع الرأس ومنفردتين ووضع كفيه عليهما، فالجملة
اثنا عشر اهـ أجهوري. وقوله: ووضع كفيه إلخ قال ش ق: أي ثلاث مرات على التوالي بعد
تثليث مسح الأذنين على الأظهر، لا بعد المرة الأولى ولا بعد كل مرة اهـ.
(فرع): لو كان معه ماء لا يكفي كل السنن قدم ما قيل بوجوبه، ثم ما أجمع على
طلبه، ثم ما قوي دليله على الأوجه، ولو كفى تثليث بعض الأعضاء كالوجه فالظاهر أن
تفريقه على الكل مرتين أولى، اهـ بجيرمي على الإقناع.
(مسألة: ب): تردد سم
في ندب الشرب عقب الوضوء من الماء الموقوف، ولم أر من صرح بندبه، لكن إطلاقهم
يقتضي أنه لا فرق كسائر السنن، وكأن ترك الشرب من الجوابي المعروفة لاستقذارها
غالباً، ومعلوم أن تناول المستقذر حرام، فلو فرض عدم الاستقذار سنّ الشرب حينئذ
اهـ، وخالفه ج فقال: الظاهر حرمة الشرب أخذاً من إطلاقهم حرمة الشرب من الماء
الموقوف للطهارة، سواء قبل الوضوء وبعده، إذ هو مناف لشرط الواقف، وقاعدة إذا
اجتمع المقتضي والمانع تقديم المانع تؤيد ذلك.
[فائدة]: يندب للمشتغل بالوضوء إجابة المؤذن ولو فرغ من الوضوء مع فراغ
المؤذن أتى بالذكر المشروع عقب الوضوء، ثم ذكر الأذان، ثم دعاء الوضوء، ولا يفوت
الأذكار عقبه بطول الفصل كركعتي الطواف والتكبير المقيد، اهـ فتاوى بامخرمة.
[فائدة]: ينبغي أن لا
يتكلم بين الوضوء والذكر لخبر: "من توضأ ثم قال قبل أن يتكلم أشهد الخ غفر له
ما بين الوضوء من قبل". وورد: "من قرأ {إنا أنزلناه} في أثر وضوئه مرة
كان من الصدِّيقين، ومن قرأها مرتين كتب في ديوان الشهداء، ومن قرأها ثلاثاً حشره
الله مع الأنبياء" اهـ إيعاب. وفي نزهة المجالس حديث: "من قرأها مرة كتب
له عبادة خمسين سنة، أو مرتين أعطاه الله ما يعطي الخليل والكليم والحبيب، أو
ثلاثاً فتحت له أبواب الجنة يدخل من أيها شاء بلا عتاب ولا عذاب" ويسنّ قراءة
الإخلاص لأنه عليه الصلاة والسلام أمر علياً بذلك، ويسنّ عقب الوضوء: اللهم اغفر
لي ذنبي، ووسع لي في داري. وبارك لي في رزقي اهـ. زاد في الترحيمية للشيخ حسن بن
خليل المقدسي: وقنعني بما رزقتني، ولا تفتني بما زويت عني، اهـ من تكملة فتح
المعين للشيخ عبد الله باسودان.
(مسألة: ك): تفوت سنة الوضوء بطول الفصل عرفاً كما في التحفة والنهاية،
وضابطه بأن يزيد على الذكر المأثور وإنا أنزلناه ثلاثاً بقدر ركعتين خفيفتين، ونقل
عن إفتاء السمهودي أن فواتها بالحدث، ويسنّ أن يقرأ في الأولى: {ولو أنهم إذ ظلموا
أنفسهم ـ إلى ـ رحيماً} وفي الثانية: {ومن يعمل سوءاً ـ إلى ـ رحيماً} اهـ. قلت:
ورجح في فتاوى بامخرمة كلام السمهودي، وينبغي أن يستغفر الله ثلاثاً كل ركعة بعد
قراءة الآية المذكورة، كما نص عليه في المسالك وغيره.
[فائدة]: في استحباب تجديد الوضوء خمسة أوجه: أصحها بعد أن يصلي بالأول ولو
نفلاً، والثاني بعد فرض، والثالث بعدما يطلب له الوضوء، والرابع بعد صلاة أو سجدة
أو قراءة في مصحف، والخامس مطلقاً اهـ شرح المهذب، قال ابن حجر: يحرم التجديد قبل
أن يصلي صلاة ما إن قصد عبادة مستقلة، وقال (م ر): يكره.
[فائدة]: لا بد للوضوء
المسنون من نية معتبرة ولو نية الفرضية إذا لم يرد الحقيقة، ولا تكفي نية الأسباب،
لأن القصد هنا رفع الحدث الأصغر، إما لنحو حدثه الأكبر في صورة الجنب، أو لتحصيل
حقيقة الطهارة، فيكفر إثمه في نحو التكلم بكلام فيه إثم، أو لرفع حدثه فيما فيه
خلاف بنقض الوضوء، أو ليزداد تعظيمه وتأمله في نحو قراءة القرآن والعلم، وبه علم
الفرق بينه وبين الغسل المسنون حيث نوي سببه اهـ ش ق.
مسح الخف
[فائدة]: شرع مسح الخف في السنة التاسعة، وثبت عنه قولاً وفعلاً، وعن
الحسن: حدثني سبعون صحابياً أنه مسح على الخفين اهـ باجوري.
(مسألة: ك): المعتمد
الذي دل عليه كلام ابن حجر و (م ر) وغيرهما اشتراط الطهارة وغيرها من شروط المسح
عند اللبس فقط، فلو طرأت نجاسة وزالت قبل المسح ولو بعد الحدث، أو لم تزل ومسح على
غير موضعها أو موضعها وهي معفوّ عنها لم يضر، وما أوهمته عبارة التحفة من الضرر
فمؤوّل، إذ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء.
[فائدة] : ابتداء المدة في الخف من انتهاء الحدث مطلقاً عند ابن حجر
والخطيب تبعاً لشيخهما زكريا، وفرق (م ر) بين ما كان بغير اختياره كالخارج فمن
انتهائه، أو باختياره كاللمس والنوم فمن ابتدائه كما لو اجتمعا اهـ باسودان.
نواقض الوضوء
(مسألة: ج): ابتلي ببلل يخرج من ذكره، فإن تحقق خروجه من داخله فنجس ينتقض
به الوضوء، وإلا فلا نقض ولا تنجس للشك، وأما الدم الخارج من الدبر من علة
البواسير أو غيرها، فإن كان من داخل الدبر نقض قطعاً أو من خارجه فلا.
(مسألة): خرجت مقعدة المبسور انتقض وضوؤه، وتصح إمامة المبسور إذ لا تلزمه
الإعادة.
[فائدة]: الحاصل في
النقض بالخارج من الثقبة أنه إن كان المخرج منفتحاً فلا نقض بالخارج من غيره
مطلقاً اتفاقاً، أو منسدّاً نظر، فإن كان خلقياً نقض الخارج مطلقاً حتى من المنافذ
كالفم عند ابن حجر، خلافاً لـ(مر) والخطيب فيها أو عارضاً فلا نقض به، إلا إن خرج
من تحت السرة اتفاقاً، وتثبت للمنسدّ جميع الأحكام، سواء كان خلقياً أو عارضاً،
ولا يثبت للمنفتح إلا النقض بالخارج منه فقط، قاله الشيخ زكريا وابن حجر، ووافقهما
(م ر): في العارض، قال: أما في الخلقي فتنقل جميع الأحكام للمنفتح وتسلب عن الأصلي
اهـ كردي.
[فائدة]: خروج المني يوجب الغسل ولا ينقض الوضوء، ونظم بعضهم صور خروجه من
غير نقض فقال:
نظر وفكر ثم نوم ممكن ><
إيلاجه في خرقة هي تقبض
وكذاك في ذكر وفرج بهيمة
>< ست أتت في روضة لا تنقض
وكذاك وطء صغيرة أو محرم
>< هذي ثمان نقضها لا يعرض
وزيد عليها إخراج المني بنحو فخذه اهـ باجوري.
[فائدة]: العقل
الغريزي صفة غريزية يتبعها العلم بالضروريات عند سلامة الحواس، وهو إما وهبي وهو
ما عليه مناط التكليف، أو كسبي وهو ما يكسب من تجارب الزمان، وسمي عقلاً لأنه يعقل
صاحبه عن ارتكاب الفواحش، ولذا يقال: لا عقل لمرتكب الفواحش، والأصح أن مقره
القلب، وله شعاع متصل بالدماغ، وهو أفضل من العلم لأنه منبعه وأسه، قاله ابن حجر.
وقال (م ر) عكسه لاستلزامه له، ولأن الله تعالى يوصف بالعلم لا بالعقل اهـ باجوري.
[فائدة]: الجنون مرض
يزيل الشعور من القلب مع بقاء القوة والحركة في الأعضاء، والإغماء يزيلها مع فتور
الأعضاء، والسكر خبل في العقل مع طرب
واختلاط نطق، والنوم ريح لطيفة تأتي من الدماغ إلى القلب فتغطي العين، فإن لم تصل
إلى القلب فنعاس لا نقض به اهـ جمل.
فائدة أخبر معصوم نائماً غير ممكن بعدم خروج
شيء لم ينتقض كما في الإمداد، ولو أخبر من نام ممكناً عدل بخروج ريح أو بلمسها له
وجب الأخذ بقوله، كما اعتمده في التحفة والإيعاب، خلافاً لما نقله زي عن (م ر) من
النقض في الأولى وعدمه في الثانية، واعتمد بج وجوب الأخذ في الثانية إن كان المخبر
معصوماً.
[فائدة]: المس يخالف
اللمس في هذا الباب من ثمانية أوجه، إذ اللمس لا يكون إلا من شخصين، وشرطه اختلاف
الجنس بذكورة وأنوثة، وأن لا تكون بينهما محرمية، وأن يبلغا حد الشهوة، وأن لا
يكون الملموس مباناً إلا إن كان فوق النصف، ويكون بأي عضو كان، وفي أي موضع من
البشرة، وينتقض وضوؤهما لا اللامس فقط بخلاف المس في الكل اهـ كردي.
[فائدة]: ليس في الحيوان خنثى غير الآدمي والإبل والبقر، ولو اتضح الخنثى
بما يقتضي النقض عمل به، ووجبت الإعادة عليه وعلى من لامسه اهـ ق ل، اهـ جمل.
ما يحرم بالحدثين
[فائدة]: مصحف فوق كتابين يجوز حمل الذي تحته معه لأخذ الأسفل، ويحل مس
المصحف من وراء ثوب حيث لم يكن بصورة التقليب، ويحرم توسده وإن خيف سرقته، لا إن
خيف تلفه أو تنجسه أو أخذ كافر بل يجب حينئذ، ويكره إحراق خشبة كتب فيها قرآن،
وقراءة القرآن ممن فمه متنجس، ولا يمنع المميز ولو جنباً من حمله ولو لغير الدراسة
اهـ فتاوي بامخرمة، وقيده ابن حجر و (م ر) وغيرهما بحاجة تعلمه ولو جلد مع المصحف
غيره، اعتمده ابن حجر حرمة مسه من سائر جهاته، واعتمد (م ر) والخطيب حرمة مس
الساتر للمصحف فقط، وجوّز أبو مخرمة مس جميع الجلد.
[فائدة]: قال أبو حنيفة: يجوز حمل المصحف ومسه بحائل. وقال داود: لا بأس
بهما للمؤمن مطلقاً. وقال طاوس: يحلان لآل محمد مع الحدث اهـ شرح الدلائل.
(مسألة: ي): يكره حمل التفسير ومسه إن زاد على القرآن وإلا حرم، وتحرم
قراءة القرآن على نحو جنب بقصد القراءة ولو مع غيرها لا مع الإطلاق على الراجح،
ولا يقصد غير القراءة كردّ غلط وتعليم وتبرك ودعاء، ويجوز له حمل ومس وقراءة نحو
التوراة والحديث القدسي وكتب العلم والحديث، نعم يكره للجنب ذكر الله تعالى حتى
إجابة المؤذن كما اختاره السبكي، لا لنحو حائض قبل الانقطاع، وقالت الحنفية: يكره
له قراءة نحو التوراة وحملها، ونص العيني منهم على الحرمة، قالوا: ويحرم مس
التفسير مطلقاً، وتحل قراءته بقصد معرفة التفسير، ولا تكره قراءة الكتب الشرعية
والذكر والدعاء، لكن تستحب الطهارة.
[فائدة]: يجوز حمل المصحف مع المتاع وإن صغر جداً، قال ب ر: ولو خيط إبرة
لكن بقصد المتاع فقط، وكذا مع الإطلاق خلافاً للتحفة، بل أو بقصدهما عند (م ر) اهـ
كردي. وقال ع ش: لو جعل المصحف في خرج على دابة وركب عليها، فإن كان على وجه يعدّ
إزراء به كأن وضعه تحته ملاقياً لأعلى الخرج وصار الفخذ موضوعاً عليه حرم وإلا فلا.
(مسألة: ش): يحرم
التصليب بأوراق نحو المصحف كما أفتى به الطنبداوي وغيره اهـ. قلت: وفي فتاوى أبي مخرمة ويجوز تصليب الجلود
بورق كتب فيها قرآن لا يقصده كحرز وورق حديث، لا بورق قرآن كتبت للدراسة وإن بليت،
بل إن فعله استخفافاً كفر اهـ.
(مسألة: ش): تجب إزالة
النجاسة من المصحف، ويلحق به كل اسم معظم وعلم محترم، وإن أدّى لتلفه وكان لنحو
يتيم، ومحله إن مست النجاسة شيئاً من حروفه لا نحو جلده وحواشيه، ولا تكفي إزالة
العين فقط، نعم إن كانت النجاسة مما اختلف فيها كروث مأكول جاز تقليد القائل
بطهارتها للضرورة ويضمن منجسه، وقول أهل السير إن دم عثمان رضي الله عنه ترك على
المصحف لا يسلم، بل لعله أزيلت عينه بالدلك حتى بقي أثر يسير لا يمكن تطهيره
بالماء.
[فائدة]: وجد القارىء غلطاً في شكل المصحف أو حروفه لزمه إصلاحه إن كان
ملكه، وكذا إن كان وقفاً أو علم رضا مالكه ولم يعبه خطه ولم يقابل بأجرة اهـ تحفة.
قضاء الحاجة والاستنجاء
[فائدة]: يحرم التبرز على محترم كعظم وقبر وفي موضع نسك ضيق كالجمرة
والمشعر وبقرب نبيّ، قال الأذرعي: وبين قبور نبشت اهـ تحفة. وقال في حاشية الكردي:
يندب تقديم اليمنى دخولاً واليسرى خروجاً في الانتقال إلى مكان شريف، ومنه إلى
أشرف منه، وما لا دناءة فيه ولا شرف وما جهل حاله، ويندب العكس في الانتقال من
مستقذر إلى أقذر منه، ومن شريف إلى دنيّ، ويخير في الانتقال من شريف ودنيّ لمثله
اهـ.
[فائدة]: ورد أن البصاق على الخارج من الشخص يورث الوسواس وصفرة الأسنان
ويبتلى فاعله بالدم، والسواك حال الخلاء يورث النسيان والعمى، وطول القعود فيه
يورث وجع الكبد والبواسير، والامتخاط يورث الصمم والهم، وتحريك الخاتم يأوي إليه
الشيطان، والتكلم بلا ضرورة يورث المقت، وقتل القمل يبيت معه الشيطان أربعين ليلة
ينسيه ذكر الله، وتغميض العينين يورث النفاق، وإلقاء حجر الاستنجاء على الخارج
يورث الرياح، وإخراج الأسنان وجعل الرأس بين اليدين يقسي القلب ويذهب الحياء ويورث
البرص، والاستناد إلى الحائط يذهب ماء الوجه وينفخ البطن، وينبغي أن يقعد على قدمه
اليسرى معتمداً عليها، ويأخذ فرجه بين أصبعيه السبابة والوسطى حتى يفرغ، ويضم
فخذيه، ويضع يده اليمنى على فخذها، ولا يضع اليسرى على اليمنى ولا رأسه على
ركبتيه، اهـ من عجالة ابن النحوي.
[فائدة]: أفتى بعضهم يندب غفرانك الخ عقب الريح والقيء والحجامة والخروج من
أحد قبلي المشكل ومن الثقبة وعقب الحيض، اهـ حاشية الجوهري على شرح المختصر، ويندب
تكرير غفرانك ثلاثاً كما في الكردي.
(مسألة: ش): نص الشافعي رضي الله عنه على جواز الاستطابة بالآجر، وحمل على
الخالي عن السرجين كما هو بالمدينة الشريفة أو على المحرق إن قلنا يطهر.
(مسألة: ج): يجوز
الاستنجاء بالحجر الطاهر، وفي معناه كل جامد لم ينفصل منه شيء إلى المحل حال الاستنجاء
قالع للنجاسة كجذع وطين متحجر، ولا يلزم المستنجي بالحجر القضاء وإن تيمم.
[فائدة]: يجوز
الاستنجاء بأوراق البياض الخالي عن ذكر الله تعالى كما في الإيعاب، ويحرم
الاستجمار بالجدران الموقوفة والمملوكة للغير قاله (سم) . وقال بج: وتعتريه أي
الاستنجاء الأحكام الخمسة، فهو واجب من الخارج الملوث، ومستحب من خروج دود وبعر
بلا لوث، ومكروه من خروج ريح، وحرام بمطعوم، ومباح قبل دخول الوقت على الأصل اهـ.
الغسل
(مسألة): نوى رفع الجنابة عند الاستنجاء كفته نيته، بل ينبغي النية حينئذ
لترتفع جنابة المحل، إذ يجب غسل محل الاستنجاء عن الجنابة، وما يظهر من فرج المرأة
عند الجلوس على القدمين، ومن صماخ وباطن قلفة، لكن يتفطن لدقيقة، وهي أنه إذا نوى
عند محل النجو ومس بعد النية ورفع جنابة اليد، حدث بيده حدث أصغر فقط، فلا بد من
غسلها عنه بعد رفع حدث الوجه، ويكفي الغسل بنية الأكبر عن الحدثين، وإن نفى نية
الوضوء ولم يرتب أعضاءه لسقوطه حينئذ، ولا تحصل سنة الوضوء المسنون للجنب بترتيب
الأعضاء، ولو انغمس جنب في ماء كثير أو قليل ونوى كفاه وإن لم يدلك، نعم لو كان
على الأعضاء نحو شمع أو وسخ أو دهن جامد يمنع وصول الماء إلا بالدلك وجب كما في
الوضوء.
[فائدة]: يثبت للعلقة من أحكام الولادة وجوب الغسل، وفطر الصائم بها،
وتسمية الدم عقبها نفاساً، وتزيد المضغة بانقضاء العدة وحصول الاستبراء، وتزيد ما
فيها صورة ولو خفية بوجوب الغرة، وأمية أم الولد، وجواز أكلها من المأكول عند (م
ر) اهـ (بج).
[فائدة]: قال أحمد
زروق في الاحتلام:
من يحتلم بصورة شرعية ><
فإنه كرامة مرضية
وإن يكن بصورة قد حرمت ><
فهو إذن عقوبة تعجلت
أولا بصورة فذاك نعمة ><
حكاه زروق عليه الرحمة
وينبغي أن لا يجامع
بعد الاحتلام فإنه يورث الجنون اهـ بج.
(مسألة): يجب على
الجنب غسل ما تحت القلفة، فإن تعذر تيمم وقضى، كما لو تنجس ما تحتها بالبول فتصح
صلاته حينئذ مع القضاء أيضاً لا القدوة به لقدرته على إزالتها، فلو مات غير
المختون وتعذر غسل ما تحتها يمم وصلي عليه للضرورة قاله ابن حجر، وقال (م ر): يدفن
بلا صلاة، ويحرم تأخير
الختان بعد البلوغ لغير عذر.
(مسألة: ج): اغتسل عن
جنابة ثم رأى لمعة ببدنه لم يصبها الماء كفاه غسلها فقط، إذ لا يجب على الجنب
ترتيب.
(مسألة: ك): الصليب
الذي تجعله النساء على رؤوسهنّ ويبقى أثره عند الغسل، فإن منع وصول الماء إلى
البشرة لكثافته لم يصح الغسل، وإن لم يمنع ولم يتغير به الماء تغيراً كثيراً أو
كان مجاوراً لم يضر، ولنا وجه قوي بعدم الضرر وإن تغير الماء.
(مسألة: ب): المشطة
المعروفة وهي وضع النساء بروؤسهنّ تمراً مع نحو طيب بدعة منكرة شديدة التحريم لما
فيها من المفاسد من فعلها بالتمر مع حشوه بالطيب وتركه أياماً، ثم إخراجه غالباً
بمحل النجاسة، ومن تضييع المال سفهاً في غير عرض صحيح، وقد أوجب الله حفظ الكليات
الخمس وهي: الدين والعقل والنفس والنسب والمال، وزيد العرض، ومن ترك الصلاة من
المزوّجات غالباً كما هو مشاهد فيمن وجب عليها غسل لا تسمح نفسها بإزالتها، بل
تمكث أياماً تاركة للصلاة، وهذا من أكبر المناكير، لو لم يكن إلا هو لكفى، وقد
حرمت أشياء لا مفسدة فيها لكن تجرّ إليها، كقليل المسكر، وقبلة الصائم، وهذه
البدعة حدثت من قريب، ولأنها قد تجر إلى الإسراف في الحلي، ومجرد الإسراف فيه يوجب
الزكاة اهـ. قلت: وأطال العلامة طاهر بن حسين علوي في إباحة تلك المشطة، ورد كلام
هذا المجيب بدلائل واضحة فلينظر في كلامه.
[فائدة]: مذهب الحنفية أنه لا يجب على المرأة إلا غسل أصول الشعر ومنابته
في نحو الجنابة دون المسترسل، ومذهب مالك وأحمد أنه لا يجب نقض الضفائر على الجنب،
وإن لم يصل الماء إلى باطنها، بل يكفي غسل ظاهرها، ومثله الحائض عند مالك، واختاره
الروياني والشاشي، فلو فعلت نحو طيب برأسها وأرادت تقليد الإمامين في الجنابة،
ومالك في الحيض جاز بشرطه كما ذكره الجيشي اهـ فتاوى العلامة سليمان الأهدل.
الأغسال المسنونة
[فائدة]: ضابط الفرق بين الغسل الواجب والمستحب، أن ما شرع بسبب ماض كان
واجباً كالغسل من الجنابة والموت، أو لمعنى مستقبل كان مستحباً كأغسال الحج،
واستثنى منه الغسل من غسل الميت والجنون والإغماء وللإسلام اهـ ش ق. وقال ب ر:
ينبغي لصائم خشي منه مفطراً تركه، وهل ينتقل للتيمم بعد أن يغسل من بدنه ما لا
يخاف منه الفطر أو يسقط التيمم من أصله؟ قال ( ع ش): الأقرب السقوط اهـ جمل.
[فائدة]: الأغسال
المسنونة كثيرة منها: غسل الجمعة وهو أفضلها على المعتمد، ولو تعارض البكور والغسل
أو بدله قدم الغسل، فإن
عجز تيمم فيقول: نويت التيمم عن غسل الجمعة، فيكون مستثنى من أنه لا تكفي نية
التيمم، ولو أحدث أو أجنب عقبه سن إعادته قاله سم وقال الباجوري: ولا يبطل، بالحدث
والجنابة، ويكره تركه لخبر: "اغتسلوا ولو كأساً بدينار" والغسل من غسل
الميت أو تيممه ولو شهيداً وكافراً، وغسل العيدين ولو لحائض وغير مميز، ويدخل بنصف
الليل، ويخرج بغروب شمسه، وينصرف عند إطلاق النية للذي هو فيه بقرينة الحال
والاستسقاء، ويدخل بإرادة فعلها للمنفرد، وباجتماع من يطلب فعله لمن يصلي جماعة،
ويخرج بفعلها، والكسوفين ولو منفرداً، ويدخل بأول التغير، ويخرج بالانجلاء،
والكافر إذا أسلم ولو تبعاً إن لم تعرض له جنابة وإلا وجب، وسن له غسل آخر وله
نيتهما معاً، ولا يجزئه إلا بعد الإسلام، والمغمى عليه وإن تكرر، والسكران، وعند
الإحرام بنسك ولو حائضاً وغير مكلف، ولدخول الحرم ومكة والكعبة، نعم إن اغتسل
للأول وقرب الفصل ولم يتغير بدنه لم يعده للثاني كغسل العيد والجمعة، وللوقوف
بعرفة ويدخل بالفجر، والأولى كونه بثمرة، وقبل الزوال كما في التحفة، وفي النهاية
الأولى بعده، وللوقوف بالمشعر الحرام غداة النحر، ويغنيه عن غسل العيد، ورمي جمرة
العقبة، وثلاثة لرمي الجمار الثلاث كل يوم من أيام التشريق لا لكل جمرة غسل،
وللطواف بأنواعه على رأي مرجوح، نعم إن تغير بدنه سن له الغسل على المعتمد، والغسل
من الحجامة والفصد، وللخروج من الحمام، وكذا لدخوله إذا عرق، ولدخول المسجد
وللأذان، ولكل ليلة من رمضان، وإن لم يحضر التراويح، ولدخول مدينة الرسول ، وقيده
ق ل بعد الدول، وقيل عند إرادته، ولإزالة شعر العانة، وحلق الرأس، ونتف الإبط، وقص
الشارب، ولبلوغ الصبي بالسن، وكذا بالاحتلام فيطلب منه غسلان، وللمعتدة بعد فراغ
عدتها، وعند سيلان الوادي كالنيل أيام الزيادة كل يوم، ولكل مجمع خير أو مباح، اهـ
ملتقطاً من التحفة وحواشي بج وباجوري وغيرها جملتها 37.
(مسألة): قال في الفتح والإمداد: لو ترك غسل دخول مكة حتى دخلها لم يبعد
ندب قضائه كسائر الاغتسال قياساً على قضاء النوافل اهـ وعبارة فتح المعين.
(تنبيه): قال شيخنا:
يسن قضاء غسل الجمعة كسائر الأغسال المسنونة، وإنما طلب قضاؤه لأنه إذا علم أنه
يقضي دوام على أدائه اهـ. ووافقه سم في غسل دخول مكة والمدينة فقط، ونقل ابن حجر
في الإيعاب وحاشية الإيضاح عن السبكي، واستوجه عدم ندب قضاء الأغسال كلها واعتمده
(م ر).
التيمم
[فائدة]: نظم بعضهم أسباب التيمم فقال:
يا سائلي أسباب حلّ تيمم >< هي سبعة بسماعها ترتاح
فقد وخوف حاجة إضلالة ><
مرض يشق جبيرة وجراح
والرخصة هي الحكم
الثابت على خلاف الدليل الأصلي اهـ (ش) (م ر) . وقال العزيزي: هي الانتقال من
صعوبة لسهولة لعذر مع قيام سبب الحكم الأصلي.
[فائدة]: يجب طلب التراب
على التفصيل في طلب الماء، ولو مر متيمم نائم ممكن بماء فلم ينقه إلا والماء بحدّ
البعد لم يبطل تيممه، كما لو كان ببئر خفية اهـ (م ر). ولو مرّ بالماء في الوقت
وبعد عنه بحيث لا يلزمه طلبه فتيمم لم يقض اهـ عباب، وقضيته عدم وجوب الوضوء. قال
الأسنوي: والقياس وجوبه اهـ إيعاب. ولو
أبيح أو وهب ماء قليل لجمع متيممين بطل تيمم الكل ولا يتوقف على القبول اهـ. سم.
ولو خاف راكب سفينة غرقاً لو تناول الماء تيمم بلا إعادة، كمن حال بينه وبينه سبع
اهـ زيادي.
(مسألة): تزوّد للعطش
ففضلت فضلة، فإن ساروا على العادة ولم يمت منهم أحد قضى من الصلوات لما تكفيه تلك
الفضلة عادة اهـ تحفة. قال سم: أي يقدر كل وضوء لصلاة من آخر المدة اهـ. لكن
استوجه ع ش ما اعتمده ابن عبد الحق من وجوب قضاء جميع صلوات تلك المدة، إذ يصدق
عليه في كل تيمم أنه تيمم مع وجود ماء قادراً على استعماله.
(مسألة: ب ش): إزالة
النجاسة عن البدن شرط لصحة التيمم، كالاجتهاد في القبلة، أو تقليد الأعمى فيها،
نعم إن تعذر إزالتها لنحو مرض وفقد ماء تيمم وصلى لحرمة الوقت وقضى كما قاله ابن
حجر، زاد ش: فلو وجده ماء قليلاً تعين للنجاسة. وإن لزمه قضاء الصلاة بالتيمم على
المعتمد اهـ. قلت: وقال (م ر): لا يصح التيمم قبل إزالة النجاسة أي الغير المعفوّ
عنها وإن تعذرت إزالتها، بل يصلي حينئذ لحرمة الوقت ويعيد، ونقل في الإيعاب عن
الريمي وغيره أن محل اشتراط إزالة النجاسة للتيمم لنحو الصلاة، أما القراءة ومس
المصحف فيصح لهما التيمم مع بقاء نجاسة النجو وغيره، قال: وهو حسن اهـ. وأفتى به
ابن كبن، ولو طلب منه غسلان: واجب ومندوب وعجز عن الماء كفاه تيمم واحد اهـ أسنى.
[فائدة]: قال الأسنوي: لو كانت العلة بيده، فإن نوى عند غسل وجهه رفع الحدث
احتاج لنية أخرى عند التيمم لأنه لم يندرج في النية الأولى أو الاستباحة فلا، ولو
عمت الجراحة وجهه لم يحتج للنية عند غسل بقية الأعضاء، بل تكفيه نية التيمم اهـ
إيعاب، لكن رجح في التحفة وجوب نية الوضوء عند اليد، وقال البرماوي: وضابط تأخير
البرء أي طول مدته بأن يسع قدر صلاة أو وقت المغرب.
(مسألة ش): تيمم ذي الجبيرة يبطل بالبرء، فيجب غسل العضو وما بعده، فلو صلى
حينئذ جاهلاً بالبرء لزمه إعادة كل صلاة تيقنها بعده، كما لو صلى بنجاسة، إذ لا
عبرة بالظنّ البين خطؤه.
(مسألة: ك): الحاصل في الجبيرة أنه إن أمكن نزعها وغسل ما تحتها أو مسحه
بالتراب حيث وجب بأن كانت في عضو التيمم لزمه مطلقاً، وإلا فإن أخذت من الصحيح
زائداً على قدر الاستمساك أو لم تأخذ، ووضعت على حدث وكذا على طهر، وكانت في الوجه
واليدين على المعتمد، وجبت الإعادة وإلا فلا، وما في التحفة من عدم وجوب الإعادة
في الأخيرة مؤوّل أو ضعيف، ولو كان ببدن
جنب جبيرة في غير أعضاء الوضوء وجب التيمم لكل فرض وإن لم يحدث، فلو أحدث قبل أن
يصلي فرضاً لزمه الوضوء فقط.
(مسألة:ب ج): من تيمم
بمحل الغالب فيه فقد الماء لم يلزمه القضاء، سواء كان التيمم لحدث أكبر أو أصغر،
زاد ب: وإن كان معه ماء يحتاجه لعطش ويلزمه الغسل أو الوضوء عند وجود الماء ولو
بالفاضل من عطشه، وزاد ج: ولو تيمم عن جرح وأراد فرضاً آخر لم يلزمه غسل ما بعد
عليله مطلقاً، وقيل يلزمه للحدث اهـ. قلت: وقوله بمحل الغالب فيه فقد الماء الخ،
قال ابن حجر: أي فيه وفيما حواليه إلى حد القرب، والعبرة بمحل التيمم لا محل
الصلاة، وقال (م ر): العبرة بمحل الصلاة، قال: ولو شك في المحل الذي صلى فيه هل
تجب فيه الإعادة أم لا؟ يحتمل عدم الوجوب.
(مسألة): فاقد الطهورين إذا صلى لحرمة الوقت ثم وجد التراب قبل خروج الوقت
لزمه إعادتها ولو بمحل لا يسقط به القضاء، ثم يعيدها ثالثاً بالماء أو بالتراب حيث
يسقط القضاء، قاله في العباب و ش ق، وحين يتصوَّر أن يصلي في الوقت أربع مرات، هذه
الصور الثلاث والرابعة إعادتها مع جماعة.
[فائدة]: ألغز السيوطي
فقال:
أليس عجيباً أن شخصاً مسافراً
>< إلى غير عصيان تباح له الرخص
إذا ما توضأ للصلاة أعادها
>< وليس معيداً للتي بالتراب خص
فأجاب آخر فقال:
لقد كان هذا للجنابة ناسياً
>< وصلى مراراً بالوضوء أتى بنص
كذاك مراراً بالتيمم يا فتى
>< عليك بكتب العلم يا خير من فحص
قضاء التي فيها توضأ واجب
>< وليس معيداً للتي بالتراب خص
لأن مقام الغسل قام تيمم
>< خلاف وضوء هاك فرقاً به تخص
الحيض
[فائدة]: قوله : "النساء ناقصات عقل ودين" المراد بالعقل الدية،
وقال بعضهم: هو العقل الغريزي وهو المناسب للمقام، وبنقص الدين بالنسبة للرجال من
حيث عدم تعبدهنّ في بعض الأوقات، وإن كنّ يثبن على الترك إن قصدن امتثال أمر الشارع
كترك المحرمات اهـ بجيرمي.
(مسألة: ي): رأت دماً يصلح حيضاً بأن زاد على يوم وليلة ونقص عن خمسة عشر،
ثم نقاء دون خمسة عشر، لكن لو اجتمع مع الدم زاد عليها ثم دماً، فالأول حيض، وما
يكمل الطهر من العائد دم فساد، والزائد حيض بشرطه ما لم يجاوز أكثره، وإلا فتأخذ
المبتدأة غير المميزة من أول الزائد يوماً وليلة، وتطهر تسعة وعشرين، والمعتادة
عادتها حيضاً وطهراً اهـ. قلت: وعبارة أبي مخرمة من كانت تحيض في كل شهر خمسة أيام
مثلاً، فحاضت في دور خمستها وطهرت أربعة عشر ثم عاد الدم واستمر، فالأصح أن يوماً
من أول العائد استحاضة تكميلاً للطهر، وخمسة بعده حيض، وخمسة عشر طهر وهكذا ويصير
دورها عشرين، وكالأربعة عشر ما دونها إلى العشرة، فما يكمل الخمسة عشر استحاضة، ثم
خمسة حيض وخمسة عشر طهر، بخلاف ما لو نقص النقاء عن العشرة فليس بطهر، لأن الدم
الذي بعده يجتمع مع الذي قبله حيضاً اهـ. وفيه مخالفة لما ذكر فتأمله، وتشبيه
التحفة انتقالها للعادة بما ذكره أبو مخرمة يقتضي أن معنى رجوعها للعادة يعني
المتأخرة وهو الخمسة عشر الطهر والخمس الحيض، وصرح بذلك في هامش حاشية الشرقاوي
واقتضته عبارة سم، ولعله مراد صاحب الفتاوى بقوله: والمعتادة عادتها طهراً وحيضاً
فتأمله.
(مسألة: ش): قوله في التحفة: أقل الحيض يوم وليلة، أو قدرهما متصلاً
فمتصلاً، حال من قوله: أو قدرهما أي أقله يوم وليلة حقيقة، كأن رأته من الصبح إلى
الصبح، أو قدر يوم وليلة، وفرض ذلك القدر متصلاً، وإن لم يتصل هو ولا الدم ولم
يتلفق إلا من أربعة عشر يوماً، كأن رأت ست ساعات دماً ثم ثمانياً نقاء، ثم ستاً
دماً ثم ثمانياً نقاء، ثم ستاً دماً ثم ثمانياً نقاء، ثم ستاً دماً، فمجموع الدماء
بقدر يوم وليلة متصلين، فلا شك في كونها حيضاً، وإنما الخلاف في أن حيضها الدماء
فقط، فيكون الأقل لأنه بقدره وهو قول
التلفيق، أو مع النقاء المتخلل وهو قول السحب الذي عليه العمل، وقوله بناء على قول
السحب أراد به الإشارة إلى الخلاف، وهو أنها لو رأت أول الأربعة عشر دماً مقدار
عشر ساعات وآخرها كذلك، فالمجموع دون أقله متصلاً فليس حيضاً على قول التلفيق،
وكذا على قول السحب على الأصح من ستة أوجه، إذ من شرط قول السحب أن لا ينقض مجموع
الدماء عن يوم وليلة وقد نقص، فهذا الخلاف الذي أشار إليه في التحفة فكأنه قال:
شرط إذا تلفقت الدماء أن لا ينقص مجموعها عن يوم وليلة وإن بنينا على قول السحب.
(مسألة: ب): اختلاف
عادة المرأة في الطهر كاختلافها في الحيض، فإذا لم تنتظم ولم تتكرر كأن كان عادتها
ستة أيام حيضاً وأربعة وعشرين طهراً فتغيرت في دور إلى ستة وعشرين يوماً، وفي آخر
إلى تسعة أشهر، ثم آخر إلى شهرين، ثم استحيضت ردّت إلى ما قبل شهر الاستحاضة وهو
الشهران، فإن تكررت كذلك وانتظم تكرارها فترجع إلى أربعة وعشرين، ثم إلى ما بعدها
على الترتيب المذكور، وهذا حيث لم تر قوياً بشرطه، وإلا فهو الحيض وإن تأخر وغيره
استحاضة، وإن طال أو كان فيه قوي وضعيف لم يتميزا.
(مسألة: ي): الدم
الخارج للحامل بسبب الولادة قبل انفصال جميع الولد، وإن تعدد عن الرحم يسمى طلقاً،
وحكمه كدم الاستحاضة فيلزمها فيه العصب والطهارة والصلاة، ولا يحرم عليها ما يحرم
على الحائض حتى الوطء، أما ما يخرج لا بسبب الولادة فحيض بشرطه، نعم لو ابتدأ بها
الحيض ثم ابتدأت الولادة انسحب على الطلق حكم الحيض، أي سواء مضى لها يوم وليلة
قبل الطلق أم لا على خلاف في ذلك اهـ، وما خرج بعد انفصال الولد وإن بقيت المشيمة
فنفاس.
كتاب
الصلاة
(مسألة: ش): أفضل عبادات البدن الصلاة، فرضها أفضل الفروض، ونفلها أفضل
النوافل، لكن صوم يوم أفضل من ركعتين، بل وما فوقهما إذا اقتضى العرف أنه قليل في
جانب يوم، فهو أفضل منها من حيث الأكثرية، فإن كثرت عرفاً كأن اشتغل بها في جزء من
الأوقات له وقع بحيث لا يعدّ قليلاً عرفاً كانت أفضل من حيث الذات والأكثرية، وإن
استويا كثرة في ميزان العرف فضلته من حيث الذات فقط.
[فائدة]: أكثر العلماء على أن اختصاص الصلوات الخمس بأوقاتها تعبدي لا يعقل
معناه، وأبدى بعضهم له حكمة وهي تذكر الإنسان بها نشأه فكماله في البطن، وتهيؤه
للخروج منه كطلوع الفجر، وولادته كطلوع الشمس، ومنشؤه كارتفاعها، وشبابه كوقوفها
عند الاستواء، وكهولته كميلها، وشيخوخته كقربها من الغروب، وموته كغروبها، وفناء
جسمه كانمحاق أثر الشمس اهـ تحفة.
[فائدة]: يجب على الشخص بدخول الوقت إما فعل الصلاة أو العزم عليها في
الوقت وإلا عصي، أي وإن فعلها في الوقت اهـ ع ش، اهـ (م ر) فإن مات بعد العزم
والوقت يسعها لم يعص وفارقت الحج حيث يعصي بموته بعد الاستطاعة، وإن عزم على فعله
بأن وقتها محدود بحيث لو أخرجها عنه أثم ووقته العمر وقد أخرجه عنه، والعزم
المذكور عزم خاص، والعزم العام أن يعزم الإنسان عند بلوغه على فعل الواجبات وترك
المحرمات، فإن لم يعزم عصى وتداركه، ومعنى العزم القصد والتصميم على الفعل اهـ
باجوري.
(مسألة: ب): ينبغي متأكداً التغليس أي التبكير بصلاة الصبح أول وقتها، كما
نقل عن النبي والصحابة ومن بعدهم من العلماء رضوان الله عليهم، وحدّه أن يخرج منها
وهو لا يعرف جليسه، ولم ينقل عن أحد من العلماء غير أبي حنيفة ندب التأخير إلى
الإسفار وهو الإضاءة بحيث يرى شخصاً من موضع كان لا يراه منه عند طلوع الفجر
الصادق، ويقدر ذلك في فضاء خال عن نحو الجدران العالية، بل قال الاصطخري ومن تبعه:
إن الصبح يخرج بالإسفار عكس أبي حنيفة، ويجوز للحاسب وهو من يعتمد منازل القمر
والشمس وتقدير سيرهما، والمنجم وهو من يرى أول الوقت طلوع النجم الفلاني العمل
بحسابهما، ولمن غلب على ظنه صدقهما تقليدهما قياساً على الصوم كما قاله ع ش وبج،
ويتحقق طلوع الفجر كما في الإحياء قبل الشمس بمنزلتين، وقدرهما أربع وعشرون درجة،
وكل درجة ستون دقيقة، وكل دقيقة قدر قراءة الإخلاص مرة، وكل إحدى عشر من الإخلاص
قدر قراءة مقرىء تقريباً، فمجموع ذلك مائة وثلاثون مقرئاً، وذلك نحو ثمانية أجزاء
من القرآن، ومن راقب غروب القمر ليلة اثنتي عشرة، وطلوعه من أفقه ليلة ست وعشرين،
فقرأ بين ذلك إلى طلوع الشمس قارب هذا القدر، وقد نص في الإحياء على أن الفجر يطلع
مع غروب القمر، وطلوعه في تينك الليلتين ليقيس عليهما العامي بقية أيام الشهر بأخذ
علامة من نحو كوكب، ومن العلوم بديهة أن من مسكنه بين جبال كحضرموت لا يبدو له
أوَّل الضوء المنتشر إلا وقد انتشر في أفقه انتشاراً عظيماً حتى يبدو مبادي
الصفرة، وإنما يعرف أوَّله حينئذ العارفون بالأوقات المجرِّبون لها بالعلامات التي
لا تختلف عادة على ممرِّ السنين الداخلة تحت اليقينيات، وهذا وصف العارفين من
المؤذنين الثقات الذين أوجب الله الأخذ بقولهم لا كل الناس، فعند عدم من هذا وصفه
ينبغي الاحتياط، إذ لا يصح الصلاة مع الشك بخلاف الظن، وأما ما قيد به في بعض
المؤلفات على طريقة حساب الشبامي من أن النجم يغرب مع الفجر حادي عشره، ويطلع
رقيبه وهو الخامس عشر، ويتوسط الثامن فلا عبرة به الآن، لتزحلق الفلك من ابتداء
حسابه إلى هذه المدة بنحو منزلة وسدس، فظهر فيه الخلل، لأن أهل الهيئة يقولون إن
الفلك حركة مخالفة إلى جهة الشرق لكنها بطيئة، بحيث يحصل منها في كل اثنتين وسبعين
سنة عربية درجة نحو يوم، ففي نحو ألف يكون التفاوت أكثر من ثلاثة عشر يوماً،
فحينئذ يكون غروب الثريا على حساب الشبامي مع غروب البطين، بل الفضاء الذي قدامه
كما حققه أبو مخرمة وغيره، وقد عدَّ العلماء من الواجب في تعلم النجوم ما يعرف به
وقت الصلاة والقبلة اهـ.
وفي ي كلام مبسوط في تحقيق ذلك، وبعض مخالفة لما سبق، وحاصله أن الفجر
الصادق هو اعتراض البياض المشرب بالحمرة الذي لا يزال يتزايد، فيندب حينئذ
الاشتغال بالصلاة وما يطلب لها، وهذا هو المراد بالتغليس في الحديث، إذ هو آخر
الليل المختلط بضوء الصباح، فمن صلى ولم تظهر زيادة نور النهار بعد صلاته فصلاته
باطلة قطعاً، فعلم أنه لا بد من الإضاءة في وقت الفضيلة ووقت الاختيار، إلا أنها
في الأوَّل أنقص، وبتمام الإضاءة يدخل وقت الجواز إلى ابتداء الحمرة التي قبل طلوع
الشمس لا التي مع طلوع الفجر كما قد يتوهم، إذ تلك تشرب البياض، وهذه حمرة خالصة،
فحينئذ يدخل وقت الكراهة، ويستدل على الفجر بالمنازل الفلكية التي هي ثمان وعشرون
منقسمة بين الليل والنهار، ولا يزيد الفجر على منزلتين قطعاً، بل ينقص عنهما
احتياطاً، كما حققه المؤقتون وبعض الفقهاء، وهو المراد بالتقريب في كلام الإمام
الغزالي وغيره، وعلى هذا يكون وقت الفضيلة في الاعتدال نصف منزلة، وهو قدر أربع
ركعات متوسطات، وما يتعلق بالصلاة من الواجبات والمستحبات، ووقت الاختبار نصف
منزلة أيضاً، والمنزلة ثلاث عشرة درجة إلا سبعاً، والساعة خمس عشرة درجة، وكل درجة
ستون دقيقة، واختلفوا في الدقيقة المذكورة فقيل قدر سبحان الله مستعجلاً، وقيل قدر
سورة الإخلاص بالبسملة، وبين المقالتين تفاوت كثير كما لا يخفى، وأما تقدير بعضهم
لحصة الفجر بقراءة أكثر من ثمانية أجزاء من القرآن فغلط، والذي حققه الثقات
وضبطناه أنه من طلوع الفجر إلى الإشراق في الاستواء قدر ثلاثة أجزاء بترتيل،
وأربعة إلا ربعاً بالوسط، وأربعة ونصف بالأدراج، ويزيد وينقص بزيادة الليل ونقصه،
ويستدل عليه أيضاً بالمنازل في السماء، وذلك أن أوَّل يوم من النجم الذي أنت فيه
يغرب مع الفجر ويتوسط ثامنه ويطلع خامس عشره، نعم قد تغير هذا الحساب لطول الزمان
وتأخر الفلك، من أوَّل حساب الشبامي إلى الآن بأربعة عشر يوماً، فحينئذ إذا كان
أوَّل يوم من نجم الثريا فيطلع الفجر آخر درجة من نجم النطح وهكذا، ويستدل عليه
أيضاً بالقمر وهو غروبه ليلة ثلاث عشرة من الشهر، وطلوعه ليلة سبع وعشرين غالباً،
كما ذكره ابن قطنة وغيره، وأما ما ذكره الغزالي واليافعي فهو بالنسبة لبلدهما، وما
قاربها في العرض والطول، بل هذه الاستدلالات كلها تقريبية لا تحقيقية، وأضبط من
هذه وأتقن تحقيقاً ضبطه بالساعات، وهو قدر ساعة ونصف في الاستواء على المعتمد، من
أن حصة الفجر تكون دائماً ثمن الليل في أي مكان وزمان، كما قاله في الإيعاب وغيره
من كتب الأئمة المحققين، وقيل سبعة، وقيل تسعة، فعلى الأوَّل يزيد في غاية طول
الليل ثمن ساعة، وفي غاية قصره ينقص كذلك، هذا في جهة حضرموت وما والاها مما يكون
غاية طول الليل فيها ثلاث عشرة ساعة إلا نصف درجة يعني دقيقتين، وغاية قصره إحدى
عشرة ونصف درجة، وذلك لكون عرضها أي بعدها عن خط الاستواء خمس عشرة درجة ونصفاً،
فحينئذ يكون مع الاستواء بعد مضي عشر ساعات ونصف من الغروب، وإحدى عشرة وربع وثمن
مع الطول، وتسع ونصف وثمن مع القصر، ويضاف لكل من الثلاثة ما قاربه، وهذه عادة
الله المستمرَّة في جهتنا لا يتقدم ولا يتأخر، وكذا في جميع الجهات، مع مراعاة
الزيادة والنقص بطول ليلها وقصره، فمن أخبر بما يخالف هذه العادة عن علم أو اجتهاد
فغير مقبول للقاعدة التي ذكرها ابن عبد السلام والسيوطي وغيرهما أن ما كذبه العقل
أو العادة مردود، وإذا رد الشرع الشهادة بما أحالته العادة فأولى رد الحساب
والاجتهاد، بل الحاسب والمنجم إن دل علمه على طلوع الفجر وقد بقي من الليل ثمنه
فالحس يصدقه، فيجوز له العمل بذلك، وكذا لمن صدقه على ما قاله ( ع ش)، واعتمد في
التحفة والنهاية والمغني والفتح والإمداد خلافه وإلا فلا، ومحل هذا حيث لم يعلم هو
أو يخبره الثقة بعدم طلوع الفجر بمشاهدة، ولم يسهل عليه العمل باليقين أو بمشاهدة
أو إخبار الثقة أيضاً، وإلا لم يجز له العمل بحساب نفسه فضلاً عن تقليده، ولا
العدول عن ذينك أيضاً، فعلم أن من سمع أذان إنسان أو أخبره بدخول الوقت لا يجوز
الاعتماد عليه إلا إن علم اتصافه بالعدالة ومعرفة الوقت وعدم تساهله في ذلك، ولم
يكذبه الحس والعادة، ولم يعارض خبره، فلو أخبر أوثق أو أكثر بل أو مثله تساقطاً
ولم يجز العمل بقوله، نعم لو اعتقد صدق الفاسق واجتمعت فيه بقية الشروط جاز العمل
بقوله مطلقاً، ويجوز اعتماد الساعات المضبوطة والمناكيب المحررة إذ هما أقوى من
الاجتهاد اهـ. قلت: وحاصل التفاوت بينهما يزيد وينقص بحسب طول الليل وقصره،
والأخير حقق أن الحصة المذكورة في الاستواء ثمن الليل عن منزلتين إلا ربع منزلة،
وذلك ساعة ونصف ويزيد وينقص كما مرّ.
(مسألة: ج): صلاة الصبح بمجرد استواء النجوم وغروبها مما يغلط فيه، والشرع
لم يعلق الحكم بمعرفة النجوم، بل علقه بطلوع الفجر الصادق، وليس لمن صدق المنجم
تقليده في ذلك.
(مسألة: ي): العبرة في
دخول وقت الصلاة وخروجه بما وقته الشارع له لا بما ذكره المؤقتون، وحينئذ لو غاب
الشفق قبل مضي العشرين درجة التي هي قدر ساعة وثلث دخل وقت العشاء، وإن مضت ولم
يغب لم يدخل كما في فتح الجواد، ومثل المغرب غيرها من بقية الخمس، فالعبرة بتقدير
الشارع في الجمع، وما ذكر لها من الاستدلالات محله ما لم يخالف ما قدره فتأمله
فإنه مهمّ. قلت: وقوله ساعة وثلث الذي حققه العلامة علوي بن أحمد الحداد في
الفتاوى أنه ساعة وثمن.
(مسألة: ي): مراتب الاجتهاد في الوقت ستّ: إمكان معرفة يقين الوقت، ووجود
من يخبر عن علم، والمناكيب المحررة أو المؤذن الثقة في الغيم، وإمكان الاجتهاد من
البصير، وإمكانه من الأعمى، وعدم إمكانه منهما، فصاحب الأولى مخير بينها وبين
الثانية حيث وجدت وإلا فالثالثة ثم الرابعة، وصاحب الثانية ليس له العدول إلى ما
دونها، وصاحب الثالثة يخير بينها وبين الاجتهاد، وصاحب الرابعة ليس له التقليد،
وصاحب الخامسة يخير بينها وبين السادسة، وصاحب السادسة يقلد ثقة عارفاً، ذكره
الكردي.
(مسألة: ب ي): يستحب للإمام الحرص على أول الوقت، لكن بعد مضي قدر اجتماع
الناس وفعلهم لأسبابها عادة، لما في ذلك من التعرض للنفحات، وتكثير الجماعة،
والاقتداء بسيد السادات عليه أفضل الصلوات والتسليمات، هذا في غير المغرب للخلاف
في ضيق وقتها، ثم يصلي بمن حضر وإن قل، لأن الأصح أن الجماعة القليلة أوله أفضل من
الكثيرة أثناءه، وغاية قدر الانتظار قدر نصف جزء تقريباً، فمخالفته بزيادة أو نقص
خلاف السنة، زاد ب ويظهر أنه لو كان الإمام يؤخر كثيراً لم يكره الخروج من محل
الجماعة بعد الأذان للمشقة الحاصلة أخذاً من قولهم يكره التطويل ليلحق آخرون بل
هذه أعظم، والجمعة كغيرها في ندب الانتظار لدخولها في إطلاقهم، بل ينبغي زيادة
الانتظار فيها على هذا القدر ما لم يفحش التأخير بخروج وقت الفضيلة ليدركها الآتي
من بعد، والأجير الآتي بعد دخول الوقت، ولا يقاس بعدم سنّ الإبراد، لأن السنة ثم
ملحوظة في حق كل شخص على انفراده، فلهذا لم يسن الإبراد بها لئلا يؤدي التأخير إلى
فواتها، ولا كذلك تأخير الإمام إلى آخر وقت الفضيلة.
[فائدة]: يندب تأخير الصلاة عن أول وقتها في سبع وعشرين صورة: الصبي علم
بلوغه أثناء الوقت بالسن، ولمن غلبه النوم مع سعة الوقت، ومن رجا زوال عذره قبل
فوات الجمعة، ومن تيقن الجماعة، ولدائم حدث رجا الانقطاع، وللخروج من الأمكنة التي
تكره فيها الصلاة، ولمن عنده ضيف حتى يطعمه ويؤويه، ومن تعينت عليه شهادة حتى
يؤدِّيها، وعند الغضب والغيظ حتى يزول، ومن يؤنس مريضاً يستوحش بفراقه، وخائف على
معصوم، ومشتغل بذبح بهيمة مشرفة على الهلاك أو إطعامها، أو قتل نحو حية، ولشدة
الحر، وللرمي ظهراً والمغرب بمزدلفة، ومدافعة الحدث، ولتوقان الطعام، وتيقن الماء
آخره، أو السترة أو القدرة على القيام، وللغيم إلى اليقين، واشتغاله بنحو غريق أو
صائل على نفس أو مال وتجهيز ميت اهـ كردي و ش ق. وقوله: ومن تيقن الجماعة قال في
الفتح: إن فحش التأخير ما لم يضق الوقت، والمراد بالتيقن الوثوق بحصولها بحيث لا
يختلف عادة، ففي ظنها لا يندب التأخير إلا إذا لم يفحش عرفاً اهـ. وقال في
الإمداد: ويحتمل أن يضبط الفحش بنصف الوقت اهـ.
(مسألة: ش): شخص أوقع الصلاة قضاء مع إمكانها أداء ولم يأثم، وصورة ذلك أن
يشرع فيها والوقت يسعها فيمد حتى يخرج الوقت ولم يوقع فيه ركعة فهي قضاء غير مأثوم
عليه، خلافاً للأسنوي القائل إنه لا بد من إيقاع ركعة في الوقت اهـ. قلت: وهل
ينويها قضاء نظراً لقصده، أو أداء نظراً للوقت؟ الظاهر الثاني قاله الشوبري والجمل.
(مسألة: ش): شك هل
تلزمه الصلاة أو هل هي عليه أم لا؟ لم يلزمه، كما لو شك هل تركت شيئاً من صلوات أمس
أم لا؟ وهل تركت ظهر أمس أو ما قبله للإبهام؟ بخلاف ما لو شك في ترك ظهر معين
فيلزمه إعادته إن كان في الوقت قطعاً، وكذا بعده على المعتمد، وعلى هذا تحمل
عباراتهم المتنافية.
(مسألة: ك): شك في قدر فوائت عليه لزمه الإتيان بكل ما لم يتيقن فعله كما
قاله ابن حجر و (م ر): وقال القفال: يقضي ما تحقق تركه، والصوم كالصلاة، ولو شك
فيما فاته منهما هل كان قبل البلوغ أو بعده؟ لم يلزمه شيء، والضابط أنه متى لزمه
شيء وشك هل أتى به أم لا؟ لزمه لتيقن شغل الذمة، وإن شك هل لزمه أم لا؟ لم يلزمه
إذ الأصل براءته منه.
[فائدة]: يندب ترتيب الفوائت إن فاتت كلها بعذر أو دونه، وإلا وجب تقديم
الفائت بلا عذر على غيره وإن فقد الترتيب، قاله ابن حجر. وقال (م ر): يندب الترتيب
مطلقاً. قال ش ق: محل ندب الترتيب إن كانتا من يوم واحد، أما لو فاته عصر السبت
وظهر الأحد بدأ بالعصر محافظة على الترتيب أي في أصل الفوات اهـ. ومن كلام الحبيب
القطب عبد الله الحداد: ويلزم النائب أن يقضي ما فرَّط فيه من الواجبات كالصلاة
والصوم والزكاة لا بد له منه، ويكون على التراخي والاستطاعة من غير تضييق ولا
تساهل فإن الدين متين،
وقد قال : "بعثت والحنيفية السمحاء". وقال: "يسروا ولا
تعسروا" اهـ، وهذا كما ترى أولى مما قاله الفقهاء من وجوب صرف جميع وقته
للقضاء، ما عدا ما يحتاجه له ولممونه لما في ذلك من الحرج الشديد.
(مسألة: ك): الذي
يفيده كلام ابن حجر في فتاويه ندب تقديم التهجّد على صلاة الصبح حيث وسع الوقت،
ولولا سبقه لذلك لكان الأوجه عندي خلافه، والفرق بين الفرض والنفل ظاهر، وعلته من
الاتباع والخروج من الخلاف لا تتأتى هنا، بل قضية تأخيره عليه الصلاة والسلام سنة
الظهر لما فاتته إلى بعد العصر تخالف ما ذكره ابن حجر، وإذا كان هذا في ركعتين،
فما بالك بالتهجد الذي تكثر ركعاته حتى ربما يصل إلى الإسفار فالذي ينبغي لمن له
تهجد وخاف طلوع الفجر تخفيفه، وفعل الصبح أول وقتها أو قضاء التهجد بعدها لا سيما
إن كان إماماً، إذ الصلاة أوَّل وقتها أفضل الأعمال، والتغليس بالصبح هو الذي
استمر عليه إلى أن توفي. وحديث: "أسفروا بالفجر" حمله الشافعي وأحمد على
تحقق طلوعه، فالتأخير إليه أفضل من التعجيل عند ظن طلوعه، ولما في تعجيل الفرض من
الفضيلة المتعدية، وما في التأخير من الضرر على المصلين، ولأن الإصطخري من أئمتنا،
قائل إنه بالإسفار يخرج وقت الصبح اهـ. قلت: والذي رجحه ع ش كراهة التنفل بعد طلوع
الفجر غير سنته فقط، وأنه إذا فاته الوتر الأولى تأخيره إلى ما بعد طلوع الشمس،
للخروج من خلاف من منع التنفل وقت الكراهة مطلقاً.
[فائدة]: تحرم صلاة بلا سبب وقت طلوع الشمس حتى ترتفع كرمح في رأي العين
وهو سبعة أذرع، قال بج: أي قدر أربع درج، والساعة الفلكية خمس عشرة درجة.
الأذان
[فائدة]: قد اشتهر أن الديك يؤذن عند أذان حملة العرش، وأنه يقول في صياحه:
يا غافلون اذكروا الله، ونقل الغزالي عن ميمون قال: بلغني أن تحت العرش ملكاً في
صورة ديك، فإذا مضى ثلث الليل الأول ضرب بجناحه وقال: ليقم القائمون، وإذا مضى
النصف قال: ليقم المصلون، فإذا طلع الفجر قال: ليقم الغافلون وعليهم أوزارهم. وروي
أنه قال: "الديك الأفرق حبيبي وحبيب حبيبي جبريل يحرس بيته وستة عشر بيتاً من
جيرانه" وأنه كان له ديك أبيض اهـ بج.
[فائدة]: يندب الأذان للرجل وإن سمع أذان غيره ما لم يكن مدعوًّا به، بأن
سمعه من مكان وأراد الصلاة فيه وصلى فيه فلا يندب له الأذان حينئذ اهـ (م): وقوله:
وصلى فيه أي ولو بعد الجماعة الأولى كما هو ظاهر السياق، وفي فتاوى ابن حجر: أن
الأذان الواحد يكفي لجميع الجماعات المتكررة في المسجد بالنسبة لسقوط الكراهة، أما
بالنسبة لحصول الفضيلة فهو للجماعة التي تليه، ولا عبرة بقصد المؤذن ولا بدخوله في
الجماعة، نعم لا يثابون عليه حتى يأمروه أو يتسببوا فيه اهـ. وخالفه أبو مخرمة
وعبارته: ولو أذن لجماعة المسجد المعهودة فأراد من حضر أن يصلي منفرداً أو جماعة
قبل جماعة المسجد فالأرجح أنه يؤذن سراً، ولا تحتاج جماعة المسجد إلى أذان اهـ.
[فائدة]: قال الشيخ أحمد الحبشي: ندب رفع الصوت للجماعة مقيد بوقت الاختيار
لا بعده، وبما إذا لم يتعدد محل الجماعة، وبما إذا لم ينصرفوا، وإلا فلا يندب
الرفع الكثير مطلقاً اهـ.
[فائدة]: لا تجزي إقامة الأنثى للرجال والخناثى بخلافها للنساء فتسنّ،
ويحرم أذانها بحضرة رجال ولو محارم، كما لو رفعت صوتها به مطلقاً وقصدت التشبه
بالرجال أو الأذان الشرعي وإن لم ترفع اهـ كشف النقاب. ولا يندب الأذان للمعادة،
كما نقله الزمزمي عن فتاوى ابن حجر، واعتمده ابن عبد البر، ونقل عن سم وبج أنه
يقال فيها: الصلاة جامعة، وقال باعشن: يؤذن لها على خلاف فيه اهـ. ولو أذن وأقام
للعيد حرم لتعاطيه عبادة فاسدة كالأذان قبل الوقت، لكن في شرح (م ر): الكراهة،
ويمكن حمله على ما إذا أذن لا نبيته، اهـ ع ش، اهـ بج.
(مسألة): يجب ترك الأذان والإقامة عند ضيق الوقت بحيث لا يسعها كسائر
السنن، أما لو فاتت وأراد قضاءها سنّ لها الأذان وغيره من سائر السنن حينئذ.
[فائدة]: شرط المؤذن
كالمقيم إن نصبه الإمام كونه مكلفاً أميناً عارفاً بالوقت، أو معه أمين يخبره به،
لأن ذلك ولاية فاعتبر فيه شروطها، وإلا حرم نصبه ولم يستحق أجرة، وشرطه مطلقاً
الإسلام والتمييز والذكورة اهـ باعشن. وقوله: الذكورة أي ولو في أذان غير الصلاة
قاله سم. وقال ع ش: يجزي أذان الأنثى في أذن المولود.
[فائدة]: قال الدميري:
في الجمع بين الأذان والإمامة ثلاثة: أوجه الكراهة لحديث ضعيف، نهي أن يكون المؤذن
إماماً، والاستحباب ليحوز الفضيلتين وهو الذي صححه في المجموع، والجواز. ونقل أبو
الطيب الإجماع عليه. والماوردي، وحمل الروياني ذلك على اختلاف أحوال الناس اهـ.
ولا يسنّ لمن يؤذن سراً جعل سبابتيه في صماخيه قاله في التحفة. وقال أبو مخرمة: يسّن،
قال: ولا يسنّ النظر إلى المؤذن والخطيب، وخالفه في القلائد وفي التحفة، ويسنّ
النظر إلى المؤذن، وقال الزمزمي: يستقبل المؤذن ظهر المسافر إذ لا يكون خلفه إلا
كذلك اهـ.
(مسألة: ب): تسنّ الصلاة على النبي بعد الإقامة كالأذان ولا تتعين لها
صيغة، وقد استنبط ابن حجر تصلية ستأتي في الجمعة قال: هي أفضل الكيفيات على
الإطلاق، فينبغي الإتيان بها بعدهما، ثم اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة الخ. ونقل
عن النووي واعتمده ابن زياد أنه يسنّ الإتيان بها قبل الإقامة، وعن البكري سنها
قبلهما، وأما الترضي عن الصحابة فلم يرد بخصوصه هنا كبين تسليمات التراويح، بل هو
بدعة إن أتي به يقصد أنه سنة في هذا المحل بخصوصه، لا إن أتي به بقصد كونه سنة من
حيث العموم لإجماع المسلمين على سنِّ الترضي عنهم، ولعل الحكمة في الترضي عنهم وعن
العلماء والصلحاء التنويه بعلوِّ شأنهم والتنبيبه بعظم مقامهم.
(مسألة: ك): يسنّ لكل من المؤذن والمقيم وسامعهما الصلاة على النبي بعد
الفراغ ثم الدعاء المشهور، وورد أنها تفتح أبواب السماء، ويستجاب الدعاء إذا أقيمت
الصلاة، فلا يكره الدعاء حينئذ، ولا يكون بدعة بشرط أن لا يطيله بحيث تنقطع نسبته
عن الإقامة، وأما تأمين المأمومين لدعاء الإمام حينئذ فلم أقف على من صرح به
بخصوصه إن لم يؤخذ من عموم طلب الدعاء، نعم قال في الإيضاح في مبحث الطواف، ولو
دعا واحد وأمّن جماعة فحسن، وأقره شارحه ومختصره.
[فائدة]: الفضيلة عطف
بيان على الوسيلة أو من عطف العام، وقيل الوسيلة والفضيلة قبتان في أعلى عليين،
إحداهما من لؤلؤة بيضاء يسكنها النبي صلى الله عليه وسلم وآله، والأخرى من ياقوتة
صفراء يسكنها إبراهيم عليه السلام وآله اهـ (م ر) . وقال ع ش: ولا ينافي سؤاله
لهما لجواز أن يكون السؤال لتنجيز ما وعد به من أنهما له، ويكون سكنى إبراهيم وآله
فيها من قبله عليه الصلاة والسلام اهـ بج.
[فائدة]: قال في الإمداد: الأوجه أنه لا يجيب في الزيادة، فيما لو ثنى
المقيم الإقامة ولو حنفياً، أو زاد المؤذن في أذانه على المشروع اعتباراً بعقيدته
اهـ. وقال ابن كج: يثني مثله، ووافقه
في الإيعاب. وتردد (م ر) قال: ولا يجيب أذان غير الصلاة لكن في القلائد، وشرح
المنهاج لابن شعيب أنه يجيبه، وأفتى باستحباب إجابة كل أذان مشروع أيضاً أحمد بن
علي بحير. قال: وقول سم لا يجيب أذان المسافر لم نر من صرح به فهو مخالف، ولو لم
يسمع إلا آخره أجاب فيه، وفيما لم يسمعه مبتدئاً بأوَّله قاله في الفتح، وقال في
الإيعاب: والفتاوى يتخير بين أن يجيب من أوَّله وبين أن يجيب ما سمعه، ثم يأتي
بأوَّله وهو الأفضل.
(مسألة: ك): طال الفصل
بين الإقامة والإحرام بقدر ركعتين ولو بسبب وسوسة الإمام في التكبير أعادها ولا
يغتفر ذلك: كما لا تغتفر الوسوسة الظاهرة في إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام.
استقبال القبلة
(مسألة: ب): تعلم أدلة القبلة فرض عين في حق من بحضر أو سفر يقلّ فيه
العارفون، وكفاية فيهما مع كثرتهم، أو كان ثم محاريب معتمدة معتبرة بشرطها، أو يجد
من يعلمه، وحيث كان التعلم عيناً فسافر دونه فعاص لا تباح له الرخص فليتنبه لذلك،
وأدلة القبلة كثيرة، قال أبو مخرمة المعتمد الذي دلت عليه القرائن أن قبلة الشحر
ودوعن على مغيب النسر الواقع وحضرموت قريب منه، وذكر العلامة أبو قشير صاحب
القلائد أن قبلة حضرموت على مغيب السماك
الرامح والثريا، وبين النسرين وبين الفرغين مع الميل إلى الشمالي، وعلى النجمين
الشاميين من الجبهة، وعلى مغيب الشمس في آخر الليل الشمالي يعني في نجم الشولة،
وفي الميل الجنوبي في غايته يعني نجم الهقعة تكون على الخد الأيسر، ثم على ماق
العين الأيسر، ثم وسطها بين الميلين يعني في الصرفة والفرع المقدم، ثم تميل إلى
وسط الوجه قليلاً قليلاً حتى ينتهي الميل كما سبق، وكل هذا على التقريب عند
الغروب، أما في الاستواء فتكون في الميل الجنوبي على نصف جانب الرأس الأيسر، وفي
الشمالي على الأيمن، ثم تأخذ
إلى قدام حتى عند الغروب كما سبق بين الوقتين، يتوسط بين إحدى الغروب والزوال من
الرأس بقدر ما تقدمت إلى جهة المغرب، وقبلة الشحر والفوة والمشغاص كحضرموت، إلا
أنه في دوعن يتيامن بقدر لطيف لا بأس به، وقبلة عين بامعبد في الظاهر على مغيب
النسر الواقع، ثم بعدها يتيامن قليلاً كل يوم حتى تكون قبلة عدن على مغيب بنات نعش،
ويكون الجاه حينئذ في العين اليمنى، ثم يتيامن قليلاً حتى يكون بباب المندب على
مغيب الفرقدين، ثم يتيامن في المخا وبعدها كذلك حتى تكون بجازان البحر حتى الجاه،
ولا يزال كذلك إلى حلى، ثم يتيامن قليلاً إلى الرياضة، ثم يتيامن كثيراً بتدريج
لطيف حتى ينتهي غايته في جدة مشرق الشمس، هذا في البحر وسواحله. وأما في البر من
حضرموت فمن هينن إلى العبر كحضرموت وشبوة كدوعن، ثم يتيامن قليلاً حتى تكون قبلة
إيراد على يسار مغيب بنات نعش قرب النسر، ثم الجوف الأعلى على جانبهنّ الأيسر،
وصعدة على جانبهنّ الأيمن، وجاز أن البر غربي الجاه، وسواحلها على الجاه، وقبلة
الرياضة إلى مكة برّ الشرقي الجاه قليلاً حتى يقرب منها يسأل عن جهة عينها من
يسكن، ثم هذا ما تتبعناه في سلوكها لا سيما باعتبار الجهة وعليه العمل، واختاره
الغزالي وقوّاه الأذرعي اهـ. والقول بالجهة هو مذهب أبي حنيفة ومالك وهو أرجح
الطريقين للشافعي، وإن كان المشهور اشتراط العين ولو مع البعد اهـ. قلت: والذي
شاهدناه وتحققناه في غالبه مساجد تريم التي هي أعظم بلدة بحضرموت وأشهرها، ومحط
العلماء والأولياء وأهل الكشف أن القبلة في المساجد المذكورة كمسجد الجامع، ومسجد
الأبي علوي، ومسجد السقاف الذي يقول فيه: ما بنيته وأسسته إلا والنبي في قبلته
والأئمة الأربعة بأركانه، وغيرها على مغيب النسر الواقع، فتكون الثريا حينئذ وسط
العين اليسرى فافهم.
(مسألة): ومن أثناء رسالة للشيخ العلامة عبد الله بن سعيد باقشير قال: ومن
توجه من مكة إلى المدينة يجعل الجاه خلف أذنه اليسرى إن سلك درب الماشي إلى أن يصل
إلى جهم، ومن سميا يجعله خلف أذنه اليمنى إلى أن يصل المدينة، وقبلته من البيت
الركن العراقي إلى الميزاب، ومن سلك درب السلطان فإنه يجعل الجاه كذلك إلى أن يصل
الصفراء ويتيامن قليلاً قليلاً إلى جهة مطلع السلبار إلى أن يصل المدينة ذهاباً
وإياباً اهـ.
(مسألة: ك): الراجح أنه لا بد من استقبال عين القبلة، ولو لمن هو خارج مكة
فلا بد من انحراف يسير مع طول الصف، بحيث يرى نفسه مسامتاً لها ظناً مع البعد، والقول الثاني يكفي استقبال الجهة، أي إحدى
الجهات الأربع التي فيها الكعبة لمن بعد عنها وهو قويّ، اختاره الغزالي وصححه
الجرجاني وابن كج وابن أبي عصرون، وجزم به المحلي، قال الأذرعي: وذكر بعض الأصحاب
أنه الجديد وهو المختار لأن جرمها صغير يستحيل أن يتوجه إليه أهل الدنيا فيكتفى
بالجهة، ولهذا صحت صلاة الصف الطويل إذا بعدوا عن الكعبة، ومعلوم أن بعضهم خارجون
من محاذاة العين، وهذا القول يوافق المنقول عن أبي حنيفة وهو أن المشرق قبلة أهل
المغرب وبالعكس، والجنوب قبلة أهل الشمال وبالعكس، وعن مالك أن الكعبة قبلة أهل
المسجد، والمسجد قبلة أهل مكة، ومكة قبلة أهل الحرم، والحرم قبلة أهل الدنيا، هذا
والتحقيق أنه لا فرق بين القولين، إذ التفصيل الواقع في القول بالجهة واقع في
القول بالعين إلا في صورة يبعد وقوعها، وهي أنه لو ظهر الخطأ في التيامن والتياسر،
فإن كان ظهوره بالاجتهاد لم يؤثر قطعاً، سواء كان بعد الصلاة أو فيها، بل ينحرف
ويتمها أو باليقين، فكذلك أيضاً إن قلنا بالجهة لا إن قلنا بالعين، بل تجب الإعادة
أو الاستئناف، وتبين الخطأ إما بمشاهدة الكعبة ولا تتصوَّر إلا مع القرب، أو إخبار
عدل، وكذا رؤية المحاريب المعتمدة السالمة من الطعن قاله في التحفة، ويحمل على
المحاريب التي ثبت أنه صلى إليها ومثلها محاذيها لا غيرهما.
(مسألة: ك): محل الاكتفاء بالجهة على القول به عند عدم العلم بأدلة العين،
إذ القادر على العين إن فرض حصوله بالاجتهاد لا يجزيه استقبال الجهة قطعاً، وما
حمل القائلين بالجهة على ذلك إلا كونهم رأوا أن استقبال العين بالاجتهاد متعذر،
فالخلاف حينئذ لفظي إن شاء الله تعالى لمن تأمل دلائلهم.
(مسألة: ك): تنقسم
المحاريب إلى ما ثبت أنه صلى فيه، إما بطريق التواتر كمحراب مسجده عليه الصلاة
والسلام، فله حكم رؤية الكعبة في جميع ما ذكروه من عدم جواز الاجتهاد مطلقاً،
والأخذ بالإخبار عن علم إذا خالفه، وكذا بطريق الآحاد، لكن ليس له حكم القطع من كل
الوجوه، ويمتنع الاجتهاد فيه يمنة ويسرة أيضاً، وألحق بمحرابه محاذيه، وإلى ما لم
يثبت أنه صلى فيه، فإن كان بمحل نشأ به قرون من المسلمين، أو كثر به المارّون
منهم، بحيث لا يقرون على الخطأ وسلم من الطعن، لم يجز الاجتهاد جهة وجاز يمنة
ويسرة ولم يجب على المعتمد، فإن انتفى شرط من ذلك وجب الاجتهاد مطلقاً، والمراد
باليمنة وضدها أن لا يخرج عن الجهة التي فيها الكعبة كما مرّ، ويجوز الاعتماد على
بيت الإبرة يعني الديرة في دخول الوقت والقبلة لإفادتها الظن كالاجتهاد.
[فائدة]: ضبط أبو حامد السفر القصير بميل والقاضي بالخروج لمحل لا يسمع منه
النداء وبينهما تقارب، والأوّل أضبط، والثاني أحوط لزيادته على الأول والمعتمد اهـ
إمداد.
أركان الصلاة
(مسألة: ي): لا يلزم الناوي لركعتين من نحو التراويح والوتر استحضار من التبعيضية
عند ابن حجر و ع ش، ورجح في شرح المنهج والنهاية وغيرهما لزومها.
[فائدة]: قال في
المنتخب: لو قال بعد أصلي الظهر طاعة لله كفاه عن نية الفرضية إن أراد امتثال أمره
الواجب عليه اهـ.
(مسألة): السنن التي
تندرج مع غيرها عشر: التحية، وركعتا الطواف، والإحرام، والوضوء، وصلاة الغفلة،
والاستخارة، والحاجة، والزوال والقدوم من السفر، والخروج له، ذكره في النهاية، فلو
جمعها كلها أو بعضها ولو مع الفرض بنية واحدة جاز وأثيب على الكل، ويسنّ لمن وجد
الإمام في الفرض أن يحرم به معه، وينوي معه التحية، ولا يشتغل بها عن الفرض بل
يكره ذلك.
(مسألة: ي): ضابط الشك
المبطل في نية الصلاة وإمامة الجمعة والقدوة فيها طول زمنه عرفاً أو فعل ركن فعلي
أو قولي، أما الشك في نية القدوة في غير الجمعة، بل أو تيقن تركها فلا يبطل، إلا
إن انتظر الإمام طويلاً وتابعه في الأفعال عمداً اهـ. قلت: قال ابن حجر: التردد
بين مصححين كأن أحرم بالظهر ثم شك هل نواها أو العصر ثم بان الحال لا يضر، وإن طال
زمن الشك أو فعل معه أركاناً وبين مصحح ومبطل ففيه ما مر اهـ.
(مسألة: ي ش): وصل همزة الجلالة بما قبلها كمأموماً الله أكبر لم يضر، زاد
ي لو قال: والله أكبر ضر، أو والسلام عليكم فلا، قاله القفال، ولعل الفرق أن الأول
ابتداء لا يليق به العطف بخلاف الثاني.
(مسألة: ش): لو وصل
همزة أكبر بهاء الجلالة في تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته كما لو أبدلها واواً
خلافاً للأفقهسي، أو ضم راء أكبر بحيث تولد منها واو لصيرورته فعلاً ماضياً مسنداً
لواو الجمع بخلاف ضمه بلا تولد فلا يضر.
[فائدة]: يستثنى من وجوب القيام ما لو كان به رمد أو سلس يستمسك بقعوده
فيصلي قاعداً بلا إعادة، أو كان لو صلى جماعة قعد أو منفرداً قام فله القعود، لكن
الانفراد حينئذ أفضل، وكذا لو صلى قائماً لم يمكنه قراءة السورة، أو قاعداً أمكنه،
أو خاف راكب سفينة سقوطه في البحر لدوران رأسه، أو خاف الغزاة غير البغاة رؤية
عدوهم، أو لم يمكنه القيام لضيق المكان، أو شق عليه البروز في المطر كمشقة المرض،
فيصلي قاعداً في الكل بلا إعادة، وإن اتسع الوقت اهـ قلائد وكردي. وقوله: أو سلس
يستمسك بقعوده أي فيقعد وجوباً كما في النهاية والإيعاب وشرح المختصر. قال أبو
مخرمة: أو لم يمكنه القيام إلا بحركات مبطلة فيقعد بلا إعادة، لكن أفتى ابن حجر
بوجوب القيام في هذه ولو تعارض القيام والستر، قال المدابغي: راعى القيام. وقال ع
ش: راعى السترة أو القيام والاستقبال قدم الاستقبال أو الاستقبال والفاتحة استدبر
لها اهـ شوبري.
[فائدة]: يجب على
العاجز عن الإيماء برأسه الإيماء بجفنه، وهل يلزم تغميض عينيه عند نحو الركوع، وفتحهما عند نحو الاعتدال، أو يجوز
العكس؟ استظهر العلامة أحمد الحبشي اللزوم. قال: ويجب أن يكون الإيماء بطرفيه
جميعاً، ولا يجب التمييز بكون الإيماء للسجود أخفض خلافاً للجوهري اهـ.
(مسألة): قال في
التحفة: وللمتنفل قراءة الفاتحة في هويه، وإن وصل لحد الراكع فيما يظهر، لأن هذا
أقرب إلى القيام من الجلوس، ومن ثم لزم العاجز كما مر، نعم ينبغي أن لا يحسب ركوعه
إلا بزيادة انحناء له بعد فراغ قراءته ويحتمل أن لا يشترط، بل تكفي زيادة طمأنينته
بقصده اهـ.
[فائدة]: اختلف
العلماء في وجوب الفاتحة، فأوجبها الشافعي في الجديد في كل ركعة وفي الجنازة،
ومالك في ثلاث ركعات إلا للمأموم في الجهرية كقول قديم عندنا، وأبو حنيفة، وقول
آخر: لا تجب على المأموم مطلقاً والحسن في ركعة. وقال علي كرم الله وجهه والأصم
وابن راهويه: لا تجب في الصلاة مطلقاً، ولا تتعين الفاتحة عند أبي حنيفة ولو آية
مختصرة كمد هامتان، وقال صاحباه: لا بد من ثلاث آيات أو آية طويلة اهـ من البلابل
الصادحة لأبي شعيب.
[فائدة]: كتب الشيخ أبو إسحاق الكندي وزير السلطان السلجوقي إلى إمام
الحرمين: سمعت أنك زدت في القراءة سطراً ونقصت من الإقامة شطراً، فدع هذه العادة
وصن قلمي عن الإعادة والسلام، فكتب إليه الإمام: أمر الله المتعال أولى بالامتثال
وسنة الرسول أحرى بالقبول، وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام قرأ البسملة فجهر ثم
أقام وأوتر اهـ.
(مسألة: ك): لا يجوز وصل البسملة بالحمدلة مع فتح ميم الرحيم، إذ القراءة
سنة متبعة، فما وافق المتواتر جاز، وما لا فلا، وهذا وإن صح عربية، غير أنه لم يصح
قراءة ولا في الشواذ، وليس كل ما جاز عربية جاز قراءة.
[فائدة]: موسوس قال:
بس بس، إن قصد بذلك القراءة لم تبطل وإلا بطلت اهـ فتاوى ابن حجر. وقال أبو مخرمة
وبلحاج: تبطل مطلقاً ولو بسمل بنية قراءة السور، فذكر أنه لم يقرأ الفاتحة كفته عن
بسملتها اهـ باخرمة.
[فائدة]: تبطل الفاتحة بتغير المعنى وإبطاله، وإبدال حرف منه في غير
القراءة الشاذة، وإن لم يغير المعنى، وكذا فيها إن غيره، ولو نطق بالكلمة الواحدة
مرتين حرم: كما لو وقف بين السين والتاء من نستعين اهـ باعشن. ويقطع الموالاة في
الفاتحة الذكر الأجنبي لا كتأمين وسجدة ودعاء لقراءة إمامه، وفتح عليه إذا توقف
فيها، ومحله إن سكن وإلا قطعها اهـ فتح. وفي الإيعاب: وكذا يسنّ تلقينه إذا كان
يقرأ في موضع فسها وانتقل لغيره، أو سها عن ذكر فأهمله، وقال بعضهم: يجهر به
المأموم ليسمعه فيقوله اهـ.
(مسألة: ب): لو أبدل الضاد ظاء في الفاتحة بطلت صلاته في الأصح، ومقابله
وجه قوي يجوز تقليده أنها لا تبطل لعسر التمييز بينهما، وفي تفسير الفخر الرازي:
تجوز القراءة بإبدال الضاد ظاء لتشابههما، وهذا يخفف عن العوام، ويوجب عدم التشديد
والتنطع عليهم، واختلف العلماء في النطق بقاف العرب المتردّدة بينها وبين الكاف
فقال كثيرون: تجزي القراءة بلا كراهة، منهم المزجد والشيخ زكريا في شرح البهجة
وابن الرفعة وعلماء حضرموت وأولياؤها، وقد سأل العلامة القاضي سقاف بن محمد شيخه العلامة عبد الرحمن بن عبد الله
بلفقيه عن القراءة بها فأجابه بأن لا ينهى من قرأ بها، وأن يقرأ هو بها قال:
وعندنا من الاطلاع على صحة الصلاة بلا كراهة شيء كثير اهـ. وعن صاحب القاموس أنها
لغة فصيحة صحيحة، وروي أنه نطق بها، بل نقل الشعراني عن ابن عربي أن شيوخه لا
يعقدون القاف ويزعمون أنهم أخذوها عن شيوخهم، وهكذا إلى الصحابة إلى النبي ، وفي
الأسنى والنهاية والإقناع صحتها مع الكراهة. وقال ابن حجر والطبري وعبد الله بن
أبي بكر الخطيب بعدم الإجزاء، مع أن الثقات نقلوا أن الخطيب المذكور كان يصلي
بالناس في جامع مدينة تريم بهذه القاف المذكورة، ويقتدي به الأكابر كالقطب الحداد
والعلامتين أحمد الهندوان وعبد الله بن أحمد بلفقيه، والذي نعتمده ونشير به عدم
الإنكار على من يقرأ في الصلاة وخارجها بقاف العرب أو المعقودة، إذ كل منهما قائل
بصحتها أئمة لا يحصون، وأما عملنا فبالقاف المعقودة، إذ الجمهور من سائر المذاهب
قائلون بصحتها بلا كراهة بخلاف الأخرى، فحينئذ فمن قدر على النطق بالمعقودة على
وجهها من غير شائبة بغيرها مع صفاء ما قبلها ومن غير رياء وتكلف مناف الخشوع
فالأولى له القراءة بها، وإلا فالأولى بل المتعين النطق بالأخرى وهذا شأن الكثير،
ولعل هذا هو السبب في اختيار سلفنا لقاف العرب، وكفى بهم أسوة اهـ. (قلت): ونقل
العلامة علوي الحدّاد عن الحبيب عبد الرحمن بلفقيه المتقدم ذكره عن أبيه ومشايخه
في المسائل الخلافيات، لا سيما فيما كثر فيه الاختلاف أن تعويلهم وعملهم على ما
استمر عليه فعل السلف الصالح العلويين من العمل، وإن كان القول فيه مرجوحاً، إذ هم
أهل احتياط وورع وتقوى وتحفظ في الدين وفي العلم في المرتبة العليا.
[فائدة]: قال في الإيعاب ونحوه الفتح: ولو قرأ غافلاً ففطن عند صراط الذين
ولم يتيقن قراءة الجميع لزمه استئنافها، وإن كان الغالب أنه لا يصل آخرها إلا بعد
قراءة أولها لاحتمال ترك بعضها اهـ. ولو شك بعد الفاتحة أو التشهد في بعضها لم
يضر، قال ابن حجر: وكذا غيرهما من سائر الأركان، فلو شك في نحو السجود من أصله
لزمه الإتيان به أو بعده في وضع نحو اليد فلا، واعتمد (م ر) الضرر فيما عداهما من
الأركان القولية والفعلية اهـ سم.
(تنبيه): إنما وجب
للقيام قراءة وللجلوس الأخير تشهد دون الركوع والسجود والاعتدال وبين السجدتين،
لالتباس الأولين بالعادة، فوجب تمييزهما عنها وهو حاصل بذلك، بخلاف الركوع والسجود
فإنهما ممتازان عنها بذاتهما فلم يحتاجا إلى تمييز آخر، وأما الآخران فغير مقصودين
لذاتهما بل للفصل، ومن ثم كانا قصيرين فلم يناسبهما إيجاب شيء فيهما إعلاماً بذلك
اهـ إيعاب.
[فائدة]: سجد بعد القيام ظاناً أنه قد ركع فذكر في هويه لزمه القيام ولا
يكفيه هذا الهوي، كما لو قرأ إمامه آية سجدة وهوى فهوى معه بظن السجود فثبت الإمام
راكعاً فيلزمه القيام أيضاً ثم الركوع، قاله ابن حجر وخالفه (م ر) وصاحب القلائد
في الثانية فجزما بحسبان هويه.
(مسألة: ك): المراد
بقولهم في الطمأنينة بحيث تستقر أعضاؤه انفصال حركة الهويّ عن حركة القيام بحيث لا
تتصل الحركتان، فلو فرغ من حركة الهويّ ثم مكث يحرك شيئاً من أعضائه حركة غير
مبطلة، ثم رفع إلى الاعتدال مثلاً صح ركوعه إذا لم يطلقوا استقرار الأعضاء، بل
قيدوه بحيث ينفصل الخ، فظهر أن المراد بالسكون والاستقرار في كلامهم الانفصال بين
الحركتين لا حقيقة السكون، ولو شك بعد رفع رأسه من السجود في وضع نحو يده لم يضر،
كما اعتمده ابن حجر في كتبه.
[فائدة]: تعارض التنكيس ووضع الأعضاء راعى الأوَّل للاتفاق عليه اهـ ع ش.
وحدَّ التنكيس رفع العجيزة وما حولها على الرأس والمنكبين والكفين، فلو انعكس أو
تساويا لم يجزه إلا لعذر، كأن
كان بسفينة وضاق الوقت فيفعل الممكن ويعيد اهـ كشف النقاب. قال أبو مخرمة: ولو وضع
الكفين بحذاء العجيزة أو رفعهما على الرأس أو المنكب ضر اهـ.
(مسألة): سجد الإمام
ولم يضع بطون أصابع رجليه بطلت إن علم وتعمد، بناء على الأظهر من وجوب وضع بقية
الأعضاء كالجبهة، سواء قلنا وضعها شرط للسجود فيكون من باب خطاب الوضع، أو شطر منه
وهو الأوجه فيكون من باب خطاب التكليف كالجبهة، وهذا كما لو سجد على نحو خشن ثم
رفع رأسه عامداً عالماً مع إمكان تحوّله عنه بجر جبهته مع بقائها لزيادة صورة ركن
اطمأن أم لا، نعم إن رفع معذوراً كأن سجد على نحو كمه لم تبطل، كما لا تبطل في
الصورتين صلاة الناسي والجاهل وإن كان مخالطاً للعلماء، لأنه مما يخفى لكن لا يعتد
بسجوده الأوَّل فيعيده.
(مسألة: ش): يجوز تنكير سلامي التشهد، ثم إن وقف على سلام وإن لم يطلب
الوقف فالأولى إسكانه، وإن وصله فالأولى تنوينه، فلو ترك التنوين مع الوصل لم
تبطل، إذ غايته لحن لا يغير المعنى، كما لو ضم الهمزة من أشهد أو كسرها، بل الكسر
لغة من يكسر حرف المضارعة إذا لم يكن تاء مطلقاً، ولو كسرها على هذه اللغة وسكن
الدال لم يضر إيضاً، إذ غايته أنه استعمل تلك اللغة مع اللحن بترك الرفع، نعم إن
قصد به الأمر بطلت، كما لو وصل همزة أشهد بالصالحين، إلا إن قصد الوقف على
الصالحين ونقل حركة الهمزة إليها مع معرفته بذلك اهـ. (قلت): وافقه في عدم الضرر
بترك التنوين في سلام أبو قضام، وخالفه أبو مخرمة فقال: تبطل بعدمه مع التنكير إن
علم وتعمد.
[فائدة]: أفتى ابن زياد بأنه لا يضر زيادة عز وجل لا شريك له بعد إلا الله
أوَّل التشهد، كما لا يضر اليسير في تكبيرة الإحرام.
(مسألة: ي): لو قال:
السلام عليك يا أيها النبي لم يضر خلافاً لبعض اليمنيين اهـ. (قلت): اعتمده الشيخ
زكريا، وأفتى ابن حجر ببطلان الصلاة بذلك مع العلم والتعمد، وأفتى بالبطلان معهما
فيمن قال: السلام مني عليكم، أو اللهم صلي بالياء وقصد به خطاب مؤنث. عبد الله
بلحاج، وأبو مخرمة قال: بل العامد العارف بالعربية يكفر، وأما الناسي والجاهل
فتبطل قراءتهما.
[فائدة]: قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: من ترك صلاة أضر بجميع
المسلمين، لأن المصلي لا بد أن يقول في تشهده: السلام علينا إلخ، فيكون مقصراً في
خدمة الله تعالى وفي غيره حتى نفسه، ولذلك عظمت المصيبة بتركها اهـ.
(مسألة): ترك ركناً من
الصلاة واشتغل بما بعده بطلت إن علم وتعمد
وإلا فلا، لكن لا يعتد بما بعده، بل إن علم المتروك قبل أن يأتي بمثله من ركعة أخرى
عاد إليه وإلا تمت به ركعته الأولى وأتى بركعة وسجد للسهو في الصورتين، نعم إن لم
يكن المثل من الصلاة كسجود التلاوة والسجود لأجل المتابعة لم يجزه، كأنه ترك سجدة
من الركعة الأولى وسجد للتلاوة في الثانية، أو صلى ركعة منفرداً ونسي منها سجدة،
فلما قام اقتدى بمصلّ في الاعتدال، لكن، قال الشوبري: محل عدم الإحزاء في الصورتين
ما لم يتذكر حال السجود المذكور ترك السجدة ويقصدها وإلاَّ فتكفيه، سواء كان
مستقبلاً أو مأموماً، لأنه قصدها عما عليه حال السجود، وقيد ع ش الإجزاء بتذكره
حال الهويّ لها لا حال السجود، لأنه صرف هويه حينئذ للتلاوة أو المتابعة اهـ من
الجمل وبج.
سنن الصلاة
(مسألة: ج): يسن للمأمون رفع يديه إذا قام من التشهد الأول مع إمامه، وإن
لم يكن موضع تشهده لأجل المتابعة، بل بحث بعضهم سن الرفع عند القيام من جلسة
الاستراحة مطلقاً.
[فائدة]: للأصابع ست
حالات في الصلاة: فحالة الرفع في نحو التَّحرم يندب تفريقها، وحالة القيام
والاعتدال لا تفريق، وحالة الركوع تفرق على الركبتين، وحالة السجود تضم وتوجه
للقبلة، وحالة الجلوس بين السجدتين كالسجود في الأصح، وحالة التشهد تقبض اليمنى لا
المسبحة وتبسط اليسرى مضمومة اهـ كردي و ش ق.
(مسألة: ك): الظاهر أن الأنثى تؤنث الضمائر فتقول مستقبلة القبلة مقتدية،
ويجوز التذكير على إرادة الشخص، كما يجوز تأنيث الذكر على إرادة الذات ونحوها قياس
ما ذكروه في الجنائز من التذكير والتأنيث، بل يجوز ولو لم يلاحظ ذلك وعلم وتعمد.
(مسألة: ك): ينبغي
للمأموم السامع قراءة إمامه الاقتصار في الافتتاح على نحو {وجهت وجهي} الخ، وأن
يسرع به ليستمع القراءة، بل لا يسن للمأموم الافتتاح إلا إن علم إمكانه مع
التعوُّذ والفاتحة قبل ركوع إمامه، فلو أمكنه البعض أتى به.
[فائدة]: يفوت دعاء الافتتاح والتعوُّذ بالإتيان بما بعدهما من التعوّذ في
الأوّل والبسملة في الثاني عمداً أو سهواً، بخلاف ما لو سبق لسانه اهـ جمل. وقال
المدابغي على الإقناع والحاصل إن شرط الافتتاح خمسة: أن لا تكون صلاة جنازة، وأن
لا يدرك الإمام في غير القيام، ولا يشرع في التعوّذ ولا يخاف فوت بعض الفاتحة، ولا
فوت الوقت، وهي شروط للتعوذ أيضاً ما عدا الأولين اهـ.
[فائدة]: يسن أن يقول
بعد تكبيرة الإحرام: اللهم إني أعوذ بك أن تصدَّ عني وجهك يوم القيامة، اللهم
أحيني مسلماً وأمتني مسلماً. وعند ختم القرآن: اللهم اختم لنا بخير وافتح لنا
بخير، فكلا هذين ورد الوعد لنا عليهما بالموت على الإسلام، اهـ حدائق الأرواح
لباسودان.
(مسألة: ك): يسن
التطويل للمنفرد كإمام محصورين بمسجد غير مطروق لم يطرأ غيرهم، وقد رضي الجميع
لفظاً بتطويله ولم يتعلق بهم حق، كأجراء عين على عمل ناجز وأرقاء ومزوّجات حسبما
أراد ما لم يضق الوقت، فإن لم يكن كذلك سن الاقتصار على أدنى الكمال، فلا يقتصر
على الأقل، ولا يستوفي الأكمل، وإلا كره، فحينئذ يقتصر في دعاء الافتتاح على: وجهت
وجهي إلى وأنا من المسلمين، ثم يقرأ الفاتحة بعد التعوذ، ثم سورة من قصار المفصل
في الفروض الخمسة المتكررة حيث طلبت، أما ما لا يتكرر كصبح الجمعة فيقرأ فيه: {الم
السجدة} {وهل أتى} كغيره مما ورد فيه سورة معينة، ويقتصر على ثلاث تسبيحات في
الركوع والسجود، ويقول في الاعتدال بعد التسميع: ربنا لك الحمد حمداً كثيراً طيباً
مباركاً، فيه ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، وفي
الجلوس بين السجدتين: رب اغفر لي إلى واعف عني، وفي الدعاء بعد التشهد الأخير،
والصلاة على النبي على أقل منهما اهـ. قلت: وقوله على أقل منهما يعني أن الدعاء
يكون أقل من أقل التشهد والصلاة على النبي كما قاله ابن حجر في التحفة وشرح
الإرشاد. وقال (م ر): أقل مما يأتي به منهما، فإن أطالهما أطاله وإن خففهما خففه.
[فائدة]: يندب التعوّذ كل ركعة والأولى آكد، ويندب أيضاً لقراءة القرآن
خارج الصلاة، بل أفتى أبو حويرث بندبه لقراءة الحديث والفقه والنحو والأذكار، قال:
وإذا أتى بالبسملة بقصد القراءة سنّ لها التعوّذ أو التبرك فلا اهـ.
(مسألة: ش): عطس في
الصلاة سنّ له أن يحمد سرّاً ولو في أثناء الفاتحة، لكنها تنقطع بذلك فيعيدها، لا
يقال: لا يندب التحميد حينئذ لقطعه فرضاً لنفل إذ لا محذور في ذلك، فإنه محل
القراءة والإتيان بها مستأنفاً ممكن فاغتفر ذلك ليحصل كلاًّ من المطلوبين أعني
القراءة والحمد، وإنما المحذور قطع الأركان الفعلية وما ألحق بها، على أن قطع
الفرض للنفل معهود كما في التيمم إذا وجد الماء.
[فائدة]: قال الشريف العلامة طاهر بن حسين: لا يطلب من المأموم عند فراغ
إمامه من الفاتحة قول رب اغفر لي، وإنما يطلب منه التأمين فقط، وقول ربي اغفر لي
مطلوب من القارىء فقط في السكتة بين آخر الفاتحة وآمين اهـ. وفي الإيعاب: أخبر
الطبراني عن وائل بن حجر قال: رأيت رسول الله دخل الصلاة فلما فرغ من فاتحة الكتاب
قال: آمين ثلاث مرات، ويؤخذ ممن ندب تكرير آمين ثلاثاً حتى في الصلاة، ولم أر من
صرح بذلك اهـ.
(مسألة: ي): تطلب إعادة الفاتحة في الصلاة في خمسة مواضع: إذا قرأها
المأموم قبل إمامه، ولعاجز قرأها قاعداً ثم أطاق القيام، ومن نذر قراءتها كلما عطس
فعطس بعد قراءتها فتجب إعادتها، ومن ختم القرآن في الصلاة يستحب له أن ينتقل
للختمة الأخرى فيعيدها ندباً، ومن لم يحفظ غيرها فيعيدها عن السورة، قاله ابن
العماد اهـ. وقال في ش: ختم القرآن في الصلاة أتى بالفاتحة في الثانية مرة ثم شرع
في البقرة، وقول ابن العماد: يكرر الفاتحة مرتين مرة للفرض وأخرى لأول الختمة الثانية
مردود بالإجماع الفعلي على عدم تكريرها في التراويح أول ليلة من رمضان، وليست
الفاتحة مطلوبة لذاتها، بل المطلوب وجود قراءة قبل الشروع في سورة البقرة، فيحصل
بالفاتحة التي هي ركن، بخلاف ما لو نذر الفاتحة كلما عطس فعطس في الصلاة قبل أو
بعد قراءة الفاتحة فلا بد من تكريرها لأن كلاًّ مقصود.
(مسألة: ش): فرغ المأموم من الفاتحة قبل إمامه اشتغل بذكر أو قراءة وهي
أولى، كإمام انتظر قراءة المأموم الفاتحة في الجهرية.
(مسألة: ب): لم أقف في
كتب الحديث والفقه والتصوُّف على ندب سور مخصوصة في الصلوات الخمس وغيرها سوى ما
ذكروا في مغرب ليلة الجمعة وعشائها وصبحها، وصلاة الجمعة من السور المشهورة، وفي
ليلة السبت نم ندب المعوّذتين، وما ورد من طوال المفصل وأوساطه وقصاره، وما ذكروه
في العيدين والاستسقاء والخسوف مما لا يخفى، نعم استحسن بعض العلماء قراءة سورتي
الإخلاص في كل صلاة لم يرد فيها قرآن بخصوصه، وذكر بعضهم أن الصلوات التي يسنّ
فيها السورتان المذكورتان اثنتا عشرة: مغرب ليلة الجمعة، وصبح المسافر أبداً،
وراتبة العشاءين، والصبح، وركعتي الإحرام، والطواف، والتحية، وصلاة الحاجة، وعند
السفر في بيته، وعند القدوم في المسجد، والتقديم للقتل، وأما عمل أهل الفضل من
أئمة السلف وتوظيف أوقاتهم وتنوع كيفياتهم من سائر العبادات فمما لا يخل في الحصر،
فكم لكل منهم طريقة وكيفية وغاية واحدة، وآخرهم ترتيباً خاتمة المحققين القطب
الحبيب عبد الله الحداد. وحاصل ما ذكره تلميذه السيد محمد بن سميط في غاية القصد،
والمراد أنه في أواخر عمره اقتصر في الصبح على أوساط المفصل كالأعلى والغاشية في
يوم الجمعة دائماً، وفي غيره ربما قرأهما وربما قرأ غيرهما، وإذا قرأ الطارق في
أولى الصبح فالتين في الثانية، أو البلد فالشمس أو الليل فالقدر أو لم يكن
فالعاديات، وأما المغرب ففي ليلة الجمعة والثلاثاء بسورتي الإخلاص، وفي السبت
والأربعاء بالمعوذتين، وفي الأحد بالفيل وقريش، وفي الاثنين والخميس بالماعون
والكوثر، وفي ثالثة كل ليلة: {ربنا لا تزغ قلوبنا ـ إلى ـ الوهاب} وأما العشاء
فيقرأ فيها: إما الضحى وألم نشرح، أو ألم نشرح والنصر، أو التين والقدر، أو
الزلزلة والتكاثر، أو القارعة والتكاثر، أو الهمزة والفيل، ويقول في ثالثتها: {أنت
وليي في الدنيا ـ إلى ـ الصالحين} وفي الآخرة: {ربنا آتنا من لدنك ـ إلى ـ رشداً}
وربما قرأ في العصر التكاثر والعصر، أو العصر والإخلاص، ويقرأ في ثالثة الظهر
والعصر: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} وفي رابعتهما {ربنا آتنا في الدنيا
حسنة} الآية، وأما النوافل فيقرأ في ركعتي الفجر بآيتي البقرة وآل عمران، وربما
قرأ بسورتي الإخلاص أو ألم وألم، ويصلي قبلية الظهر أربعاً بسلام واحد، يقرأ في كل
ركعة بآية الكرسي ومقرى من يس وثلاث من الإخلاص، ويصلي بعدية الظهر ركعتين
بالمعوذتين وربما صلاها أربعاً، ويصلي سنة العصر أربعاً مفصولة بالزلزلة والعاديات
والقارعة والتكاثر، وفي ذلك أثر ذكره الحبشي في كتاب البركة، ويصلي بعدية المغرب
ركعتين بسورتي الإخلاص، ويقرأ في قبلية العشاء بقريش والتكاثر، ويقرأ في بعديتها
بألم السجدة والملك، وفي آخر وقته اقتصر على المعوذتين، ويصلي قبلية الجمعة أربعاً
بتسليمة يقرأ في الأولى آية الكرسي وأول الجمعة إلى {فينبئكم بما كنتم تعملون} وفي
الثانية {آمن الرسول} إلى آخر السورة وبقية الجمعة، وفي الثالثة آية الكرسي وأول
المنافقين إلى {ولكن المنافقين لا يعلمون} وفي الرابعة بقية السورة ثم آية الكرسي
وآخر الحشر من {هو الله الذي} ويصلي الضحى ثمانياً يقرأ بالشمس والضحى والشرح
والنصر والتكاثر وقريش والمعوذتين على الترتيب، واقتصر أواخر عمره في صلاة
الأوّابين على أربع: يقرأ في الأولى: {أفحسبتم} إلى آخر السورة. وقوله: {فسبحان
الله ـ إلى ـ تخرجون} وفي الثانية: {والصافات ـ إلى ـ لازب} وفي الثالثة: {حم غافر
ـ إلى ـ المصير} وآية الكرسي. وفي الرابعة : {لقد جاءكم رسول} إلى آخر السورة
وربما قرأ فيها: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا ــ إلى آخر السورة أو إلى ـ فتحاً
قريباً}
[فائدة]: لا تسن ليلة السبت المعوذتان خلافاً للناشري التابع للغزالي،
وعلله بعضهم بأن الشياطين تنتشر عند السبت بعد خروج يوم الجمعة، ويسن في عشاء ليلة
الجمعة الجمعة والمنافقون أو الأعلى والغاشية اهـ فتاوي ابن حجر. وفي الإيعاب:
تكره المداومة على سور معينة لما فيه من هجر القرآن، ومحله فيمن يحفظ غير ما خصصه
بالقراءة، ولو اقتصر مرات عديدة على سورة أو سور من غير قصد تخصيص فلا كراهة اهـ.
[فائدة]: ذكر الحبشي في كتاب البركة أنه يسن أن يقرأ في راتبة العصر الأربع
الزلزلة والعاديات والقارعة والتكاثر، وأورد العلامة عبد الرحمن ابن الشيخ علي
علوي حديثاً أن من واظب عليها كذلك حرّم الله لحمه على النار.
[فائدة]: سمي المفصل
مفصلاً لكثرة الفصل بالسور، وقيل غير ذلك، والأصح أن أوّله الحجرات وفيه عشرة
أقوال للسلف نظمها بعضهم فقال:
مفصل قرآن بأوّله أتى ><
خلاف فصافات فقاف فسبح
وجاثية ملك فصفّ قتاله ><
وفتح ضحى حجراتها ذا المصحح
[فائدة]: يسنّ تدبر
القراءة وترتيلها، ومحله حيث أحرم، والقوت يسعها وإلا وجب الإسراع، وحرف الترتيل
أي التأني في إخراج الحروف أفضل من حرفي غيره، فنصف السورة مثلاً معه أفضل من
تمامها بدونه، ولعل هذا في غير ما طلب بخصوصه، كقراءة الكهف يوم الجمعة فإن
إتمامها مع الإسراع أفضل من بعضها مع التأني اهـ ع ش، قال: وقولهم تطويل القيام
أفضل من عدد الركعات محله أيضاً في النفل المطلق، أما نحو الوتر فالمحافظة على
العدد المطلوب فيه أفضل وإن قصر الزمن اهـ.
[فائدة]: لو شك القارىء حال التلاوة في حرف أهو بالياء أو التاء، أو هو
بالواو أو الفاء لم تجزه القراءة مع الشك حتى يغلب على ظنه الصواب اهـ. فتاوى ابن
حجر، لكن في بج عن الفخر الرازي أنه قال: إذا شك في حرف أهو بالياء أم التاء؟ أو
مهموز أم لا؟ أو مقطوع أم موصول؟ أو ممدود أم مقصور؟ أو مفتوح أم مكسور؟ فليقرأ
بالخمسة الأول إذ مدار القرآن عليها اهـ.
[فائدة]: قال في
الإيعاب: ويسن أن يفصل الإمام بين التأمين والسورة بزمن يكون قدر قراءة المأموم
الفاتحة، وإن كان بطيء القراءة فيما يظهر، نعم لا يسن السكوت لأصم، ومن لا يرى
قراءة الفاتحة بعد الإمام لانتفاء العلة أي وهي تفرّغ المأموم لسماع السورة، وهل
يلحق بهما من يعلم الإمام منه أنه لا يستمع قراءته بل يقرأ معه أم لا؟ إرشاداً إلى
الاستماع المندوب، ولعل الثاني أقرب اهـ ملخصاً. وكتب عليه ب ولو قيل الأليق بأهل
زماننا الأول لم يكن بعيداً لكثرة ما يرد عليهم في الصلاة، ولكراهتهم التطويل،
بحيث تخرجهم تلك الكراهة إلى حدّ أن لا تحضر قلوبهم في غالب الصلاة أو جميعها، بل
يفضي بالبعض إلى ترك الجماعة كما هو مشاهد، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح اهـ.
(مسألة: ك): نقل الخطيب عن فتاوي الرملي أنه لا يسنّ قلب الكفين في دعاء
القنوت عند قوله: وقنا شر ما قضيت، إذ الحركة في الصلاة غير مطلوبة بل يكره، وجزم
الشوبري و ح ل بندبه قالا: لأن محل كراهة الحركة فيما لم يرد، والمفهوم من ظاهر
كلام ابن حجر وصريح كلام (م ر): أن كل داع في قنوت الصلاة أو في غيرها إن دعا برفع
ما نزل به من بلاء جعل ظهر كفيه إلى السماء من أول القنوت إلى آخره، أي قنوت كان
وإن كان بصيغة الطلب، كاللهم اسقنا غيثاً مغيثاً الخ، لأن المراد بقولهم برفع بلاء
أي إذا كان المقصود منه رفع البلاء، ويؤيده التصريح بندب رفع اليدين في حال الثناء
مع أنه لا دعاء فيه.
(مسألة: ش): استحسن العلماء زيادة: ولا يعز من عاديت في القنوت قبل تباركت
الخ، بل قال في البحر: لو زاد فيه: رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين فحسن، كما لو
زاد قنوت عمر رضي الله عنه. والحاصل أن الصحابة والسلف فهموا أن الشارع لم يرد
تعيين الألفاظ التي قالها وعلمها للقنوت، كما لم يرد تعيين السورة التي قرأها،
وعلمها معاذاً في العشاء، فمن ثم اخترعوا تارة وزادوا أخرى، وقنتوا بالآيات
القرآنية والأدعية النبوية، وكل ذلك توسيع، فالإتيان حينئذٍ بزيادات العلماء أولى،
فهي داخلة في حيز البدع المسنونة، وهذا الذي نعتمده ونعمل به، وقول بعضهم زيادة
الآل والأصحاب والأزواج في الصلاة على النبي لا أصل لها يردّ بأنه إنما يأتي على
تعيين الوارد.
(مسألة: ب): الإقعاء المسنون في الجلوس بين السجدتين هو أن يضع أطراف أصابع
رجليه وركبتيه على الأرض وألييه على عقبيه، لكن الافتراش أفضل منه.
(مسألة): يسنّ
الافتراش في جميع جلسات الصلاة الست وهي: الجلوس بين السجدتين، وللتشهد الأول،
وللاستراحة، وجلوس بدل القيام، وجلوس المسبوق مع إمام، ومن عليه سجود سهو لم يرد
تركه، ولا يستثنى إلا الجلوس الأخير الذي لا يعقبه سجود سهو فيسن فيه التورك، وقال
في حاشية الجمل: وكالافتراش الإقعاء المسنون، فيندب في كل جلوس ندب فيه، وإن كان
الافتراش أفضل اهـ، وليس من التورك المسنون جلوسه على وركه اليمين مع إخراج رجله
من جهة يساره وإن لم يمكنه إلا كذلك للنهي عنه قاله ح ل . وقال في النهاية: ويندب
للمنفرد وإمام محصورين في الجلوس بين السجدتين زيادة: رب هب لي قلباً تقياً نقياً
من الشرك برياً لا كافر ولا شقياً، رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز
الأكرم.
(مسألة: ش): كمل المأموم الموافق تشهده الأول قبل إمامه، فالقياس أنه يعيده
لأنه محله، ولا يأتي بالصلاة على الآل إذ هو نقل ركن قولي، نعم مال النووي في
التنقيح إلى ندبها فيه للمصلي، قال السمهودي: وهو الظاهر، ويندب للمسبوق الإتيان
بها متابعة لإمامه مع بقية أدعية التشهد أخذاً من قولهم: إن المأموم يوافق إمامه
في الأذكار وإن لم تحسب له اهـ . قلت ونقل سم عن فتاوى الشهاب الرملي أن المأموم
الموافق إذا فرغ من تشهده الأول قبل إمامه يأتي بالصلاة على الآل وما بعدها اهـ ع
ش: أما المسبوق فيأتي بها لأجل المتابعة ولو في تشهده الأول كما قاله ابن حجر و (م
ر) الأذكار والدعوات المطلوبة خلف الصلوات والواردة مطلقاً.
[فائدة]: الذكر لغة ما يذكر، وشرعاً قول سيق لدعاء أو ثناء أو كل قول يثاب
فاعله اهـ تحفة. وفي اصطلاح الصوفية الذكر كل ما يتوجه به العبد إلى الحق ظاهراً
وباطناً.
(مسألة: ي): الأذكار
الواردة خلف الصلوات وعند النوم واليقظة وفي المساء والصباح لإخفاء أنه لا بد فيها
من النية بالمعنى الأول المار في مبحث الوضوء الذي هو إرادة وجه الله تعالى، وكذا بالمعنى الثاني الذي هو استحضار
القصد عند الابتداء لحصول الأجر المخصوص عليها، لأنها بتخصيص الشارع لها بتلك الأسباب
صارت من المختلفة المراتب، وقد أفتى ابن حجر بأن من ترك الأذكار بعد العشاء وأتى
بها عند النوم أنه إن نواهما معاً حصلا أو أحدهما حصل ثوابه فقط، وسقط الطلب عن
الآخر، فعلم من سقوط الطلب حينئذ عدم حصول الثواب الوارد، وأنه لو لم ينو شيئاً
منهما لم يحصل له الثواب المخصوص بل ثواب الذكر المطلق.
[فائدة]: قال سم: قوة
عباراتهم وظاهر كثير من الأحاديث اختصاص طلب الذكر بالفريضة، وأما الدعاء فيتجه أن
لا يتقيد طلبه بها بل يطلب بعد النافلة أيضاً اهـ.
(مسألة): ومن خط أحمد الحكيم قال: والجامع بين الصلاتين كيف يفعل بأدعية
الصلاتين؟ والظاهر أنه يكفي لهما مرة واحدة، لأن ترك ذلك عقب الأولى مطلوب اهـ
جواب ابن كبن. قال أبو قضام: وهو كذلك اهـ.
(مسألة: ك): الذكر
كالقراءة مطلوب بصريح الآيات والروايات والجهر به حيث لم يخف رياء ولم يشوّش على
نحو مصل أفضل، لأن العمل فيه أكثر، وتتعدى فضيلته للسامع، ولأنه يوقظ قلب القارىء،
ويجمع همه للفكر، ويصرف سمعه إليه، ويطرد النوم، ويزيد في النشاط، ولو جلس أناس
يقرأون القرآن ثم آخر ونام بقربهم وتأذى بالجهر أمروا بخفض الصوت لا بترك القراءة
جمعاً بين فضيلة القراءة وترك الأذى، فإن لم يخفضوه كره، وإن أذن المتأذي لإطلاقهم
كراهة الأذى من غير تقييد بشيء، ولأن الإذن غالباً يكون عن حياء، نعم إن ضيق
النائم على المصلين أو شوّش عليهم حرم عليه النوم حينئذٍ كما هو المنقول، وكالنائم
المشتغل بمطالعة أو تدريس، وما ورد في الكتاب والسنة من الأدعية والأذكار مطلقاً
يحمل على إطلاقه، نعم ما قيده الأئمة تقيد، إذ من المعلوم أن الصلاة على النبي لا
تطلب في نحو قيام الصلاة وركوعها وقس عليه.
[فائدة]: قال في التحفة: وأفتى بعضهم بأن الطواف بعد صلاة الصبح أفضل من
الجلوس ذاكراً إلى طلوع الشمس وصلاة ركعتين وفيه نظر، بل الصواب أن هذا الثاني
أفضل لما صح أن لفاعله ثواب حجة وعمرة تامتين، ولم يرد في الطواف ما يقارب ذلك،
ولأن بعض العلماء كره الطواف حينئذٍ، ولم يكره أحد الجلوس بل أجمعوا على عظيم فضله
اهـ.
(مسألة: ك): ورد في
الأحاديث الصحيحة أن من قال دبر صلاة الصبح أو العصر أو المغرب: لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، كان كعدل
عشر رقاب من ولد إسماعيل، وفي رواية: كتبت له عشر حسنات، ومحيت عنه عشر سيئات،
ورفعت له عشر درجات، وكان يومه في حرز من كل مكروه، وحرس من الشيطان، ولم ينبغ
لذنب أن يدركه إلا الشرك، وهذا الذكر مقيد في الأحاديث، وكلام الفقهاء بعشر مرات،
وقبل أن يتكلم وهو ثان رجليه، لكن لا يفوت بتقديم نحو الاستغفار عليه، وما روي
مطلقاً يحمل على المقيد ويفوت بتحوله ولو إماماً أصل الثواب أو كماله، وما في مسلم
عن عائشة: "ما كان يجلس إلا قدر ما يقول: اللهم أنت السلام.. الخ" يحمل
على الظهر والعشاء، أما ما ورد الإتيان به بعد الصلاة أو عقبها أو دبرها فيأتي به،
وإن قام من مجلسه كما هو الأفضل للإمام، أو استقبل القوم بأن جعل يمينه إليهم،
ومحل ندب الذكر ما لم يطل الفصل بأن تنقطع نسبة ابتدائه عن الصلاة. وقال (ح ل )
وإن طال، نعم لا يفوت بتقديم السنة البعدية وإن كان الأفضل تقديمه عليها.
[فائدة]: روى ابن منصور: أنه كان إذا قضى صلاته مسح جبهته بكفه اليمنى ثم
أمرَّها على وجهه حتى يأتي بها على لحيته الشريفة وقال: "بسم الله الذي لا
إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، اللهم أذهب عني الهم والحزن والغم،
اللهم بحمدك انصرفت، وبذنبي اعترفت، أعوذ بك من شرِّ ما اقترفت، وأعوذ بك من جهد بلاء الدنيا وعذاب
الآخرة".
[فائدة]: نقل عن القطب
الحدَّاد أن مما يوجب حسن الخاتمة عند الموت أن يقول بعد المغرب أربع مرات: أستغفر
الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم الذي لا يموت وأتوب إليه، ربّ اغفر لي. وعن
بعض العارفين من قال بعد صلاة المغرب أيضاً قبل أن يتكلم: اللهم صلّ على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه بعدد كل حرف جرى به القلم عشر مرات مات على الإيمان اهـ حدائق
الأرواح لباسودان.
(مسألة: ك): المفهوم
من كلام كثير من المتأخرين أن الإمام يطيل الأذكار حيث أراد، والحق كما قاله
الأسنوي وأقره الشيخ زكريا أنه يختص الذكر والدعاء بحضرة المأمومين، ولم أر من نبه
على أقل الكمال، والظاهر أنه موكول إلى نظر الإمام، ويختلف باختلاف الأزمان
والأحوال، ولا فرق بين الصبح وغيرها، وأما ترتيب الأذكار بعد الصلاة فقد صرَّح
الأئمة بتقديم الاستغفار، وقد استوعبها في الإيعاب، وذكر نحو سبع ورق في القطع
الكامل منها: أستغفر الله ثلاثاً، اللهم أنت السلام إلى الإكرام، ثم لا إله إلا
الله وحده إلى قدير، اللهم لا مانع إلى الجد، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله
إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة والفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله
مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، ثم آية الكرسي والإخلاص والمعوذتين، ويسبح
ويحمد ويكبر العدد المشهور ويدعو: اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أردّ
إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر، اللهم أعني على
ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أذهب عني الهم والحزن، اللهم اغفر لي ذنوبي وخطاياي
كلها، اللهم أنعمني واجبرني واهدني لصالح الأعمال والأخلاق إنه لا يهدي لصالحها
ولا يصرف سيئها إلا أنت، اللهم اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتيمه، وخير أيامي
يوم لقائك، اللهم إني أعوذ بك من الفقر وعذاب القبر، سبحان ربك إلى العالمين،
ويزيد في الصبح: اللهم بك أحاول، وبك أصاول، وبك أقاتل، اللهم إني أسألك علماً
نافعاً، وعملاً متقبلاً، ورزقاً طيباً، وبعده وبعد المغرب: اللهم أجرني من النار
سبعاً، وبعدهما وبعد العصر: لا إله إلا الله وحده إلى قدير عشراً، والظاهر أن هذا
الترتيب بتوقيف، وذكر الكوراني ما يخالف ذلك.
[فائدة]: عن بعض الصحابة رضي الله عنهم من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من
قلبه ومدَّها بالتعظيم غفر له أربعة آلاف ذنب من الكبائر، قيل: فإن لم تكن له هذه
الذنوب قال: غفر له من ذنوب أبويه وأهله وجيرانه اهـ. وأما حذف ألف الله فلا تنعقد
معه يمين ولا يصح ذكر، اهـ شرح راتب الحبيب الحداد لباسودان.
[فائدة]: أخرج البيهقي أن الدعاء يستجاب في أربعة مواضع: عند التقاء
الصفوف، ونزول الغيث، وإقامة الصلاة، ورؤية الكعبة، ومن علامة استجابة الدعاء
الخشية والبكاء والقشعريرة، وقد تحصل الرعدة والغشاء وسكون القلب عقبه، وبرد الجأش
وظهور النشاط باطناً، والخفة ظاهراً، حتى كأنها نزعت عنه حملة ثقيلة اهـ أ ج.
[فائدة]: شروط الدعاء
عشرة نظمها بعضهم فقال:
قالوا شروط الدعاء المستجاب لنا
>< عشر بها يبشر الداعي بإفلاح
طهارة وصلاح معهما ندم ><
وقت خشوع وحسن الظن يا صاح
وحل قوت ولا يدعو بمعصية
>< واسم يناسب مقروناً بإلحاح
اهـ من شرح إبراهيم الخليل.
(مسألة: ك): لا يسنّ
مسح الوجه في أدعية الصلاة أصلاً عندنا، بل ولا رفع اليدين إلا في القنوت للاتباع،
وزاد أحمد: مسح الوجه فيه أيضاً، والفرق ظاهر، وأما رفع اليدين خارجها للدعاء
فالمعتمد كما ذكره السيوطي في رسالته في ذلك عن بضع وعشرين صحابيًّا، وأورد فيه
نيفاً وأربعين حديثاً، وكذا يسنّ مسح الوجه، وقد روي عن ابن عمر أنه قال: ما مدّ
رسول الله يديه في دعاء
قط فقبضهما حتى يمسح بهما وجهه، أخرجه الطبراني.
[فائدة]: يندب في كل
دعاء أي خارج الصلاة رفع اليدين، فإن تعذر رفع أحدهما رفع الأخرى، ويكره رفع اليد
المتنجسة ولو بحائل، وغاية الرفع حذو المنكبين إلا إذا اشتدّ الأمر، وتسنّ الإشارة
فيه بسبابة اليمنى، ويلاحظ فيها ما مر في رفعها في التشهد، ويكره بأصبعين، ويسنّ
آخر كل دعاء: ربنا تقبل منا إلى الرحيم، وسبحان ربك إلى العالمين، اهـ من باعشن.
[فائدة]: المصافحة
المعتادة بعد صلاتي الصبح والعصر لا أصل لها، وذكر ابن عبد السلام أنها من البدع
المباحة، واستحسنه النووي، وينبغي التفصيل بين من كان معه قبل الصلاة فمباحة، ومن
لم يكن معه فمستحبة، إذ هي سنة عند اللقاء إجماعاً. وقال بعضهم: إن المصلي كالغائب
فعليه تستحب عقيب الخمس مطلقاً اهـ شرح التنبيه للريمي. ويسنّ تقبيل يد نفسه بعد
المصافحة قاله ابن حجر.
(مسألة: ك): يندب الفصل بين كل صلاتين فرضاً أو نفلاً بالانتقال إلى موضع
آخر لتشهد له البقاع، قال ق ل: ولو بعد الإحرام بفعل خفيف خلافاً للخطيب، فإن لم
ينتقل فصل بكلام إنسان مما يبطل الصلاة ولو بذكر وتنحنح مبطلين، بوجود صارف في
الأول وظهور حرفين في الثاني، لا ذكر ودعاء لا خطاب فيهما، ويكره الكلام الدنيوي
بين الصبح وسنتها.
شروط الصلاة
[فائدة]: اعلم أن للصلاة شروط وجوب وهي: الإسلام، والتكليف، والنقاء عن الحيض،
والنفاس، وشروط صحة وهي أربعة أقسام: ما هو شرط لكل عبادة وهو الإسلام والتمييز
والعلم بالفرضية وأن لا يعتقد فرضاً سنة، وما هو شرط للصلاة فقط وهو طهارة الحدث
والخبث والستر والاستقبال، وما هو شرط للنية وهو أن لا يمضي ركن مع الشك ولا ينوي
قطعها ولا يعلق قطعها بشيء، وما هو من الموانع المطلوب تركها وهو ترك الكلام
والأفعال والأكل اهـ باعشن.
(مسألة: ك): صلى صلاة
وأخلّ ببعض أركانها أو شروطها ثم علم الفساد لزمه قضاؤها مطلقاً، إلا إن كان ما
أخلّ به مما يعذر فيه الجاهل بجهله مما قرر في كتب الفقه.
(مسألة: ب): تنجس بعض بساط أو بيت وجهل محل النجاسة لم ينجس مماسه رطباً
للشك، وتجوز الصلاة عليه إن اتسع عرفاً ويبقى قدر النجاسة، فإن صغر جداً كملحفة
اجتنب الكل ولا يجتهد، نعم إن علم محل النجاسة صلى على ما سواه مطلقاً اهـ. قلت:
وفي بج الواسع ما زاد على قدر موضع صلاته.
(مسألة: ب): لا تصح
الصلاة مع حمل خبز خبز في تنور معمول بروث نحو الحمر إذ لا ضرورة لحمله، بخلاف
أكله مع نحو المرقة وفته فيها فيجوز، ويعفى عما تطاير حال الأكل في الثوب والبدن
للضرورة، كما أفتى به غير واحد اهـ. قلت وفي باعشن: ويجوز حمل الخبز المعمول في
التنانير المعمولة بالسرجين في الصلاة كما قاله الخطيب خلافاً لـ(م ر) اهـ. ومحل
الخلاف حيث لم يحرق التنور ثم يغسل وإلا فيطهر ظاهره، وحينئذ لا ينجس مماسه
مطلقاً، كما مر في الطهارة عن ابن الصباغ والقفال فتنبه.
[فائدة]: لو لسعت المصلي حية بطلت صلاته أو عقرب فلا، قاله ابن حجر و (م ر)
وأبو مخرمة، والفرق بينهما أن سم الحية يبقى ظاهراً لكونها تلحس بلسانها والسم
نجس، بخلاف العقرب فإنه يغيض إبرته في اللحم.
[فائدة]: شرط ساتر العورة أن يمنع إدراك لون البشرة، قال ابن عجيل في مجلس
التخاطب: فلو قرب وتأملها فرآها لم يضر وهو ظاهر، كما لو رؤيت بواسطة نار أو شمس
بحيث لم تر بدونها لمعتدل البصر اهـ ع ش، اهـ جمل. وقال أبو مخرمة: والمعتمد أنه
لا فرق بين مجلس التخاطب ودونه، نعم لو كان لا ترى إلا بحيث يلصق الناظر عينه
بالثوب أو قريباً منه فلا اعتبار به قطعاً اهـ. ولو أخبره عدل رواية بنحو نجس أو
كشف عورة وجب قبوله، كما لو أخبره بكلام أو فعل كثير اهـ تحفة.
[فائدة]: لو كشفت الريح عورته فسترها حالاً لم يضر، كما
لو كشفه نحو آدمي قاله بج وح ل،، وقيده سم بغير المميز، وقال زي: وحينئذ يضر غير
الريح مطلقاً.
(مسألة: ي): قولهم:
يشترط الستر من أعلاه وجوانبه لا من أسفله الضمير فيها عائد إما على الساتر أو
المصلي، والمراد بأعلاه على كلا المعنيين في حق الرجل السرة ومحاذيها، وبأسفله
الركبتان ومحاذيهما، وبجوانبه ما بين ذلك، وفي حق المرأة بأعلاه ما فوق رأسها
ومنكبيها وسائر جوانب وجهها، وبأسفله ما تحت قدميها، وبجوانبه ما بين ذلك، وحينئذ
لو رؤي صدر المرأة من تحت الخمار لتجافيه عن القميص عند نحو الركوع، أو اتسع الكمّ
بحيث ترى منه العورة بطلت صلاتها، فمن توهم أن ذلك من الأسفل فقد أخطأ، لأن المراد
بالأسفل أسفل الثوب الذي عم العورة، أما ما ستر جانبها الأعلى فأسفله من جانب
العورة بلا شك كما قررناه اهـ. قلت: قال في حاشية الكردي وفي الإمداد: ويتردد
النظر في رؤية ذراع المرأة من كمها مع إرسال يدها، استقرب في الإيعاب عدم الضرر،
بخلاف ما لو ارتفعت اليد، ويوافقه في ما في فتاوى (م ر) وخالفه في التحفة قال: لأن
هذا رؤية من الجوانب وهي تضر مطلقاً اهـ. وفي الجمل وقولهم: ولا يجب الستر من أسفل
أي ولو لامرأة فلو رؤيت من ذيله في نحو قيام أو سجود لا لتقلص ثوبه بل لجمع ذيله
على عقبيه لم يضر، كما قاله ب ر و ع ش اهـ.
[فائدة]: قال في القلائد: لنا وجه أن عورة الرجل في غير الصلاة القبل
والدبر فقط وهو رواية عن مالك وأحمد اهـ، ولو انكشف بعض وركه فستره بالأرض في
جلوسه كفى كالستر بيده اهـ فتاوى ابن حجر، ولو لم يجد إلا ثوب حرير استتر به ولو
خارج الصلاة حيث تعذر نحو الطين والحشيش والورق، أو لم يلق به ذلك بخلافه مع عدم
الحرير فيجب الستر بها وإن لم تلق به اهـ جمل.
المعفوّات
[فائدة]: يعفى عن محل استجماره، فلو حمل مستجمراً بطلت كما لو حمل حامله،
وكالمستجمر كل ذي نجس معفوَ عنه، أو ما فيه ميتة معفوّ عنها، أو طين شارع اهـ جمل.
(مسألة: ب ك): يعفى عن جلد نحو القمل الذي في تضاعيف الخياطة مما يشق
إخراجه ولا يظهر إلا بالفتق، وإن علم به، زاد ب: فإن لم يشقّ فلا، خِلافاً للزركشي
وابن العماد، وعلى كل تقدير فالاحتياط لا يخفى، وإذا قلنا بعدم العفو لزمه إعادة
كل صلاة تيقنها بعده.
[فائدة]: يعفى عن دم
نحو البراغيث وإن تفاحش، ولا في البدن وهو رطب لكن بنحو عرق وماء طهارة وحلق، أو
بما تساقط حال الشرب والأكل، أو بنحو بصاق في ثوبه لمشقة الاحتراز في الكل، بخلاف
نحو ماء تبرد، وهذا بالنسبة للصلاة ولملبوس يحتاج إليه ولو للتجمل. واعلم أن
النجاسة أربعة أقسام: قسم لا يعفى عنه مطلقاً وهو معروف، وقسم عكسه وهو ما لا
يدركه الطرف، وقسم يعفى عنه في الثوب دون الماء وهو قليل الدم لسهولة صون الماء
عنه، ومنه أثر الاستنجاء فيعفى عنه في البدن، والثوب المحاذي لمحله خلافاً لابن
حجر، وقسم عفي عنه في الماء دون الثوب وهو الميتة التي لا دم لها سائل حتى لو
حملها في الصلاة بطلت، ومنه منفذ الطير اهـ ش ق.
(مسألة): حاصل كلامهم في رطوبة فرج المرأة التي هي ماء أبيض متردد بين
المذي والغرق، أنها إن خرجت من وراء ما يجب غسله في الجنابة يقيناً إلى حد الظاهر،
وإن لم تبرز إلى خارج نقضت الوضوء، أو من حد الظاهر وهو ما وجب غسله في الجنابة،
أعني الذي يظهر عند قعودها لقضاء حاجتها لم تنقض، وكذا لو شكت فيها من أيهما هي
على الأوجه، وأما حكمها نجاسة وطهارة فما كان من حد الظاهر فطاهر قطعاً، وما وراءه
مما يصله ذكر المجامع فطاهر على الأصح، وما وراء ذلك فنجس قطعاً، هذا ما اعتمده في
التحفة وغيرها، واعتمد في الفتاوى و (م ر) أن الخارجة من الباطن نجسة مطلقاً، لكن
يعفى عما على ذكر المجامع. وقال (ع ش:) ويعفى عن دم الاستحاضة، فلا ينجس به ذكر
المجامع أيضاً وإن طال خلاف العادة فيهما، كما لو أدخلت أصبعها لحاجة فعلق به دم
اهـ.
[فائدة]: أفتى الشيخ عبد الله باسودان بالعفو عن مدخل الجوابي ومخرجها،
وتقذر الرجل بها، والمشي بذلك في المسجد، وإن كان لا يعفى عن طين الشارع في المسجد
لإمكان تجفيف الرجل، بخلاف هذا لزيادة المشقة هنا.
(مسألة: ك): يعفى عن
طين الشارع ومائه، يعني محل المرور ولو في البيت إذا مشى فيه، وبه أو برجله رطوبة
وإن تنجس بمغلظ، قال ق ل: وسواء أصابه ما ذكر من الشارع أو من شخص أصابه، أو من محل انتقل إليه ولو
كلباً انتفض، ولو مشى بذلك في مكان آخر طاهر لم ينجس بتلويثه بما في رجله ونعله
على المعتمد، وأفتى (م ر) فيما لو تلوثت رجله بطين الشارع المعفوّ عنه وأراد غسلها
عن الحدث بالعفو عن إصابة ماء الوضوء لهذا الطين حتى لا يحتاج إلى تسبيع رجله عند
غسلها لو فرض أن الطين متنجس بمغلظ، وفيما لو غسل ثوباً فيه دم براغيث لأجل تنظيفه
وبقي به الدم بالعفو عنه إيضاً، قال: ويعفى عن كل ما يشق الاحتراز عنه ذكره أم لا.
وأفتى ابن حجر بأنه لو وقع ونيم الذباب على الورق وجرى عليه القلم عفي عنه.
(مسألة: ب ي): يعفى عن
نحو ذرق الطيور في محل الصلاة والمشي إليها من المسجد وأماكن الصلاة بشرط كثرته،
وأن لا تكون رطوبة في أحد الجانبين أجنبية وهي التي لا يحتاج إليها، بخلاف ماء
الطهارة والشرب والعرق وغسل التبرد، وأن لا يتعمد ملامستها من غير حاجة، فلا يكلف
المشي والصلاة على المكان الطاهر.
(مسألة: ب): الحياض
التي يجتمع فيها الماء والبول ونحوه من النجاسات المغيرة وتلغ فيها الكلاب، فإن
كانت مما تعم بها البلوى كأن تكون بطريق المارة، عفي عن مائها وترابها مع الرطوبة
بالنسبة لنحو القدم والثوب مما يتعسر الاحتراز عنه غالباً، بأنه لا ينسب صاحبها
إلى سقطة أو قلة تحفظ، وإن كثر وانتشر بنحو عرق، ومع ذلك يحرم تلويث المسجد به،
وأفتى بعضهم بالعفو عن ولوغ الكلب الحياض وخالفه ابن حجر.
(مسألة: ك): ابتلي بخروج دم كثير من لثته أو بجروح سائلة أو بواسير أو
ناصور واستغرق جل أوقاته، لزمه التحفظ والحشو بوضع نحو قطنة على المحل، فإن لم
ينحبس الدم بذلك لزمه ربطه إن لم يؤذه انحباس الدم ولو بنحو حرقان وكان حكمه حكم
السلس، لكن لا يلزمه الوضوء لكل فرض، ويعفى عن قليل الدم وإن خرج من المنافذ كما
قاله ابن حجر، خلافاً لـ (م ر) لكن قاعدته العفو مما يشق الاحتراز تقتضي العفو هنا
أيضاً، وتصح صلاته ووضوؤه ولا قضاء، ويعفى عما يصيب مأكوله ومشروبه للضرورة.
[فائدة]: قال في التحفة: ولو رعف في الصلاة ولم يصبه إلا القليل لم يقطعها،
وإن كثر نزوله على منفصل عنه، فإن كثر ما أصابه لزمه قطعها ولو جمعة، وإن رعف
قبلها واستمر فإن رجى انقطاعه والوقت متسع انتظره وإلا تحفظ كالسلس اهـ.
مبطلات الصلاة
[فائدة]: اعلم أن الباطل والفاسد عندنا سواء إلا في مواضع منها الحج، فيبطل
بالردة ويفسد بالجماع الطارىء، والعارية كإعارة الدراهم لغير التزيين. فإن قلنا
باطلة كانت غير مضمونة أو فاسدة فمضمونة، والخلع والكتابة فالباطل فيهما ما كان
على عوض غير مقصود كدم، أو رجع إلى خلل في العقد كالصغر والسفه، والفاسد يترتب
عليه الطلاق والعتق، ويرجع السيد بالقيمة والزوج بالمهر اهـ ح ل.
(مسألة: ك): نطق بنظم قرآن، أو ذكر لنحو استئذان داخل، أو فتح على إمامه أو
جهر نحو الإمام بالتكبير، فإن قصد بذلك التفهيم والفتح أو أطلق بطلت، لأن عروض
القرينة أخرجه عن موضوعه من القراءة والذكر وصيره من كلام الناس، بخلاف قصد
القراءة ولو مع التفهيم، والأوجه أنه لا فرق بين أن يكون انتهى في قراءته إليها أو
لا، ولا بين ما يصلح لتخاطب الناس به من القرآن أو لا، وحينئذ فلا بد من قصد نحو
الذكر أو مع التفهيم بجميع اللفظ عند كل ركن، كما في التحفة والنهاية وغيرهما، لكن
نقل عن الخطيب الاكتفاء بقصد ذلك عند أول تكبيرة، قال سم: ويغتفر للعامي ولو
مخالطاً لمزيد خفائه، ولا يسع جهلة الأئمة إلا هذا، واعتمد السبكي والأسنوي
والأذرعي والسمهودي أن ما لا يحتمل غير القرآن أو كان ذكراً محضاً لا تبطل به
الصلاة على كل تقدير، قال أبو مخرمة: وبه يعلم أن التسبيح والتهليل وغيرهما من
أنواع الذكر من قسم ما لا يصلح لخطاب الآدميين فلا إبطال، وإن جرد به قصد التفهيم
اهـ. قلت: ونقل السيوطي في الأشباه والنظائر الإجماع على جواز جهر الإمام بقصد
إعلام المأموم لأنه تشريك بين مندوبين.
[فائدة]: لا تبطل الصلاة بالدعاء المنظوم خلافاً لابن عبد السلام، ولا
بالمسجع والمستحيل خلافاً للعبادي اهـ كردي. وقال الأجهوري: ولو مثلت له نفسه أن
من أراد أن يدعو على شخص دعا له لينعكس الحال وفعل ذلك معتقداً بطلت صلاته، لأنه
حينئذ دعاء بمحرم لاستعماله اللفظ في ضده، فإذا قال: اللهم ارحم فلاناً، فكأنه
قال: اللهم لا ترحمه اهـ.
[فائدة]: قال في
القلائد: لو جلس المصلي بعد سجدته الأولى قاصداً به الجلوس بدل القيام عامداً بطلت
أو ناسياً فلا، وهل يكفيه عن الجلوس بين السجدتين فيه احتمالان اهـ. ولو نام
متمكناً في الصلاة لم يضر اتفاقاً كما في المجموع، قال القماط: وإن طال خلافاً
لحسين الأهدل، قال ابن حجر: ولو في ركن قصير خلافاً لـ (ش ق).
(مسألة: ب): تبطل
الصلاة بالحركات المتوالية ولو مندوبة، كرفع يديه عند تكبيرة الإحرام مع تحريك نحو
الرأس، وتصفيق المرأة لموجبه، لأنه إذا لم تغتفر الثلاث لعذر كنسيان فأولى لأجل
مندوب قاله ابن حجر. وفرق أبو مخرمة بين أن يكون لهيئة الصلاة كرد اليد لما تحت
الصدر والرجل إلى محاذاة الأخرى فيغتفر، إذ هو مأمور به في كل لحظة أو لغيرها فلا،
والاحتياط لا يخفى اهـ. قلت: واعتمد (م ر) عدم البطلان بالحركة المندوبة مطلقاً
وإن كثرت.
(مسألة): مصلّ أومأ برأسه عند سلامه، فإن خفضه حتى حاذى ما قدام ركبتيه أو
التفت بصدره قبل النطق بميم عليكم من التسليمة الأولى بطلت وإلا فلا.
[فائدة]: نظم بعضهم
الأعضاء التي لا يضر تحريكها فقال:
فشفة والأذن واللسان ><
وذكر والجفن والبنان
تحريكهنّ إن توالى وكثر
>< بغير عذر في الصلاة لا يضر
وقال سم: ولو تكرر كشف
الريح وتوالى بحيث احتاج في الستر إلى حركات كثيرة متوالية بطلت، كما لو صلت
مكشوفة الرأس فعتقت فيها ووجدت خماراً بعيداً أو طالت مدة الكشف اهـ. ولو كثر
البعوض ولم يمكن دفعه إلا بتحريك اليد ثلاثاً متوالية لم تبطل للضرورة اهـ فتاوى
ابن حجر.
مكروهات الصلاة
[فائدة]: من المكروهات قول بعضهم:
أخي تجنب في صلاتك سبعة
>< نعاساً حكاكاً والتثاؤب والعبث
ووسوسة كذا الرعاف التفاتة
>< على تركها قد حرض المصطفى وحث
واختلف العلماء في
الاختصار على خمسة أقوال، أصحها أنه وضع اليد على الخاصرة، ويقال التوكي على عصا،
أو اختصار السورة بأن يقرأ آخرها، أو اختصار الصلاة بأن يتم حدودها، أو يقتصر على
آيات السجدة فلا يسجد اهـ خطيب. قال العراقي: وهل يتعدى النهي عن التشبيك إلى
تشبيكه بيد غيره فيه نظر، نعم إن كان تشبيكه لذلك لمودة أو ألفة لم يكره اهـ
أجهوري.
(مسألة): يكره الاضطباع المعروف في الصلاة للذكر وغيره ولو فوق الثياب،
سواء الكتف الأيمن أو الأيسر، كما قاله في حاشية الجمل، وهل منه الاضطباع بالحبوة
المعروفة لاستدارتها وتكون حينئذ كالرداء المعقود فيحرم لبسها للمحرم كذلك أم لا؟
إلحاقاً لها بالسبحة فيهما محل نظر.
[فائدة]: قد يجب تغميض
العينين في الصلاة كأن كان العراة صفوفاً، وقد يسنّ كما إذا صلى لحائط مزوّق،
ويسنّ فتحهما في السجود ليسجد معه البصر اهـ نهاية. قال سم: وقياسه سنة في الركوع.
(مسألة): أسرّ الإمام
في صلاة جهرية أو جهر في سرية كره ولم تبطل صلاته، ولا صلاة من خلفه، ولا يسجد
للسهو وإن تعمده، إذ لا يندب بترك السنن غير الأبعاض.
(مسألة: ك): الاهتزاز
في الصلاة وهو التمايل يمنة ويسرة مكروه ما لم يكثر وإلا أبطل، كالمضغ إلا أن يكون
عن الاضطرار، وأما خارج الصلاة ففي شرح الشمائل لابن حجر ما يفيد ندبه، وقال
الونائي: هو خلاف الأولى، وفي رفض الخرائد لعبد العزيز المغربي تشديد النكير فيه
وكراهته، قال: لأنه تشبه باليهود.
(مسألة: ش): مذهب الحنابلة نجاسة المخدرات للعقل كالحشيشة وجوزة الطيب
فتكره الصلاة مع حملها حينئذ.
[فائدة]: قال النووي: تكره الصلاة في ثوب واحد من غير أن يجعل على عاتقه
شيئاً بالإجماع، ويكره مسح الجبهة في الصلاة وبعدها، وأن يروِّح على نفسه فيها،
وأن يترك شيئاً من سنن الصلاة اهـ. وإطلاقه الكراهة بترك السنن مقيد بما فيه خلاف
غير واه أو تأكد ندبه قاله ابن حجر، وقوله: يكره مسح الجبهة الخ عبارة النهاية،
ويكره أن يمسح وجهه فيها وقبل انصرافه مما يلصق به من نحو غبار، قال ع ش: قوله قبل
انصرافه أي من محل الصلاة، واقتصر ابن حجر فيما نقله عن بعض الحفاظ على كونه فيها
اهـ، بل قال باعشن: يسنّ مسح الجبهة عقيب الصلاة كما مر في السنن.
(مسألة: ك): يكره الإيطان وهو اتخاذ المصلي ولو إماماً موضعاً يصلي فيه لا
ينتقل عنه إلى غيره كأنه متوطن به، ومن ذلك صلاة الإمام في المحراب فهي بدعة مفوتة
لفضيلة الجماعة له ولمن يأتمّ به، قاله السيوطي، لكن قال (م ر): لا يكره إذ لم
يعدوا ذلك من مكروهاتها، والعلة في الإيطان خشية الوقوع في الرياء، فإن كان الصف
الأوّل أو يمين الإمام يسع أكثر من واحد فلا يلازم مكاناً واحداً إذ ذاك من
الإيطان.
سترة المصلي
[فائدة]: يحرم المرور بين المصلي وسترته، وإن لم يجد طريقاً ولو لضرورة كما
في الإمداد والإيعاب، لكن قال الأذرعي: ولا شك في حل المرور إذا لم يجد طريقاً
سواء عند ضرورة خوف بول، ككل مصلحة ترجحت على مفسدة المرور، وقال الأئمة الثلاثة:
يجوز إذا لم يجد طريقاً مطلقاً، واعتمده الأسنوي والعباب وغيرهما اهـ كردي، وبه
يعلم جواز المرور لنحو الإمام عند ضيق الوقت أو إدراك جماعة اهـ باسودان. وقال في
فتح الباري: وجواز الدفع وحرمة المرور عام ولو بمكة المشرفة، واغتفر بعض الفقهاء
ذلك للطائفين للضرورة عن بعض الحنابلة جوازه في جميع مكة اهـ.
[فائدة]: سترة الإمام سترة من خلفه ولو تعارضت السترة، والصف الأوّل أو
القرب من الإمام فيما إذا لم يكن للإمام سترة، فتقديم الصف الأوّل والقرب من
الإمام بل وسدّ الفرج أولى كما هو ظاهر اهـ باسودان.
سجود السهو
[فائدة]: ذكر ابن عربي أن النبي سجد للسهو خمس مرات لشكه في عدد الركعات،
وقيامه من ركعتين بلا تشهد، وسلامه من ركعتين ومن ثلاث، وشكه في ركعة خامسة اهـ جمل. فإن قيل: كيف سها مع أن السهو لا يقع
إلا من القلب الغافل؟ أجيب: بأنه غاب عن كل ما سوى الله تعالى، فاشتغل بتعظيم الله
فقط وسها عن غيره اهـ بجيرمي.
(مسألة): لو اعتقد
العامي وجوب نحو التشهد الأول ثم تركه عمداً، فالظاهر بطلان صلاته لتلاعبه حينئذ
بفعله مبطلاً في ظنه، ولا نظر لما في نفس الأمر، كما صرح به (م ر) وأفهمته عبارة
التحفة فيما لو زاد في تكبير الجنازة معتقداً البطلان فتأمله.
[فائدة]: لو نذر
التشهد الأوّل فنسيه حتى انتصب، فالأقرب عدم عوده، لأنه تلبس بما وجب شرعاً، وهو
آكد مما وجب جعلاً اهـ ع
ش ويسنّ السجود بترك التشهد الأول ولو في نفل إن قلنا بندبه فيه، دون ما إذا صلى
أربعاً نفلاً مطلقاً بقصد أن يتشهد تشهدين فاقتصر على الأخير ولو سهواً على
الأوجه، قاله في التحفة، وجرى (م ر) على ندب السجود مطلقاً، وفرق الخطيب بين أن
يتركه سهواً فيسجد أو عمداً فلا، ولو كرر الفاتحة أو التشهد سجد، قاله ابن حجر في
الإيعاب في الأولى والفتاوى في الثانية.
(مسألة: ش): يتصور
سجود السهو لترك الصلاة على الآل في التشهد الأخير، بأن يتيقن المأموم بعد سلام
إمامه وقبل سلامه هو أو بعده وقبل طول الفصل أن إمامه تركها، وأما البسملة أو
التشهد فرجح الجمهور عدم ندبها، وأن روايتها عن ابن عمر شاذة اهـ. (قلت): بل قال
في التحفة: لو بسمل أول التشهد سجد للسهو، وقال (م ر): لا يسجد.
(مسألة): تذكر الإمام
بعد وضع جبهته ترك القنوت لم يجز له العود، بل إن عاد عامداً عالماً بطلت وإلا
فلا، ويسجد للسهو في الصورتين، أما المأموم خلفه فإن أمكنه القنوت حينئذ ولو بنحو
اللهم اغفر لي ويلحقه في السجود ندب له أو بين السجدتين جاز وإلا تركه.
(مسألة: ش): سجد
المأموم وإمامه في القنوت، فإن كان عامداً عالماً ندب له العود، وقال الإمام:
يحرم، أو ناسياً أو جاهلاً لغا ما فعله، ثم إن زال عذره والإمام في الاعتدال أو
الهويّ منه بل أو في السجدة الأولى على المعتمد لزمه العود إلى الاعتدال، ولا
تغنيه مفارقة الإمام، وفارقت هذه مسألة التشهد فيما إذا قام المأموم منه سهواً من
لزوم العود للمتابعة ما لم يقم إمامه بفحش المخالفة هنا لإثم وإن زال، والإمام
فيما بعد السجدة الأولى حرم العود لفحش المخالفة، ولم تبطل صلاته لعذره بالنسيان
أو الجهل، وإن كان مخالطاً للعلماء لخفائه، بل يتابعه فيما هو فيه ويأتي بركعة بعد
سلامه ولا يسجد للسهو، وهذا كما لو استمر عَذره حتى سلم الإمام، فإن سلم هو ناسياً
أو جاهلاً ولم يطل الفصل بنى وإلا استأنف، نظير ما لو علم ترك الفاتحة، أو شك فيها
بعد ركوعهما فيأتي بركعة بعد سلام إمامه ولا يسجد للسهو في صورة العلم اهـ. ونقل
في ك نحو ذلك عن ابن حجر، ثم قال: وقال (م ر): هما أعني مسألة القنوت والتشهد على
حد سواء، فإن علم والإمام فيهما لزمه العود إليه وإلا فلا، بل لم يجز العود حينئذ،
لأن العود إنما وجب لأجل المتابعة، وبانتصابه أو سجوده زال المعنى اهـ. قلت: وحاصل
كلام ابن حجر و (م ر) أنه من ركع قبل إمامه، أو رفع رأسه من السجدة قبله، أو قام
من التشهد الأول وإمامه جالس، أو سجد والإمام في الاعتدال، فإن كان عامداً سن له
العود في الجميع، أو ناسياً أو جاهلاً تخير في الأولين لعدم فحش المخالفة، ووجب
عليه العود في الثالثة ما لم يقم الإمام أو ينو مفارقته كالرابعة عند (م ر) . وقال
ابن حجر: يجب العود فيه مطلقاً ولم تغنه نية المفارقة كما تقرر في ش، وخرج بذلك ما
لو تقدم بركنين ناسياً فلا يحسب ما فعل، بل إن علم والإمام فيما قبلهما رجع إليه
وإلا لزمه ركعة كما هو مقرر.
(مسألة): سلم وقد نسي ركناً وأحرم فوراً بأخرى لم تنعقد لأنه في الأولى، ثم
إن ذكر قبل طول الفصل بين سلامه وتذكره الترك بنى على الأولى ولا نظر لتحرّمه
بالثانية، كما لو تخلل كلام يسير أو استدبر القبلة وحسب له ما قرأه، وإن كانت
الثانية نفلاً في اعتقاده، ولا أثر لقصده بالقراءة، كما لو ظن أنه في صلاة أخرى
فرض أو نفل فأتم عليه، أو بعد طوله استأنفها لبطلانها به مع السلام بينهما وخرج
بفور، أما لو طال الفصل بين السلام وتحرم الثانية فيصح التحرم قاله في التحفة.
وقال في القلائد: لم يحسب ما أتى به قبل تذكره لقصده به النفلية، كما صرح به
القاضي والبغوي والطنبداوي اهـ.
(مسألة): قام الإمام بعد تشهده وقبل سلامه ناسياً أو ظاناً أنه قد سلم ثم تذكر عاد وجوباً
وسجد للسهو ندباً ثم سلم، وإن استدبر القبلة أو تكلم بكلام قليل، فلو سلم المأموم
حينئذ ظاناً أنه قد سلم لغا ولزمه إعادته، ولا يضر الشك بعد السلام في ترك ركن غير
النية وتكبيرة الإحرام، نعم تسنّ الإعادة كما في الإيعاب، أما النية والتكبيرة
فيضر الشك فيهما، لكن إن تذكر ولو بعد سنين أجزأه، ولو تيقن آخر صلاته زيادة ركعة
سجد للسهو وسلم، ولا يجوز للمأموم متابعته في الزيادة إن تيقنها.
(مسألة: ك): قام الإمام
بعد السجدة الأولى انتظره المأموم في السجود لعله يتذكر، لا في الجلوس بين
السجدتين لأنه ركن قصير أو فارقه وهو أولى هنا، ولا تجوز متابعته، ولو تشهد الإمام
في ثالثة الرابعية ساهياً فارقه المأموم أو انتظره في القيام، وأفتى الشهاب الرملي
بوجوب المفارقة مطلقاً، وجوّز سم انتظاره قائماً، وجوز ابن حجر في الفتاوى متابعته
إن لم يعلم خطأه بتيقنه أنها ثالثة لا بنحو ظنه اهـ.
(قلت): ومثلها في الإيعاب قال: والظاهر أنه لو تشهد إمامه في رابعة ظنها هو
ثالثة، ووافقه جميع أهل المسجد وكثروا بحيث لا تجوّز العادة اتفاقهم على السهو أنه
يرجع إليهم فيتشهد ويسلم معهم، ولا أثر لشكه لأنه حينئذ وسوسة اهـ. وهل للإمام
الأخذ بفعل المأمومين بالقيد المذكور الظاهر؟ نعم كما قاله في التحفة فيما إذا
أخبره عدد التواتر، وأن الفعل كالقول خلافاً لـ (مر).
(مسألة: ش): سجد الإمام ولم يضع بطون أصابع الرجلين مثلاً، فإن تعمده وعلم
المأموم ذلك باختيار معصوم أو الإمام بنحو كتابة لزمه مفارقته حالاً وإلا بطلت
لربطه القدوة بمن ليس في صلاة، وإن لم يعلم تعمده انتظره لعله يتذكر ثم يفارقه عند
سلامه، نعم لا ينتظر في ركن قصير بل يفارقه حالاً، فلو علم المبطل بعد أن سلم، فإن
نسب إلى تقصير كأن لم يسجد إلا بعد تمام سجود الإمام على تلك الهيئة أعاد وإلا فلا.
(مسألة: ج): قام
الإمام لخامسة لم يجز للمأموم متابعته ولو مسبوقاً ولا انتظاره بل تجب مفارقته،
نعم في الموافق تردد في جواز الانتظار اهـ. قلت: وعبارة التحفة ولو قام إمامه
لزائدة كخامسة سهواً لم تجز متابعته، ولو مسبوقاً أو شاكاً في فعل ركعة ولا نظر،
لاحتمال أنه ترك ركناً من ركعة، لأن الفرض أنه علم الحال أو ظنه بل يفارقه وهو
أولى أو ينتظره على المعتمد، ثم إن فارقه بعد بلوغ حد الراكع سجد للسهو اهـ. ولو
سلم إمامه فسلم معه، ثم سلم الإمام ثانياً فقال له المأموم: قد سلمت قبل هذا فقال: كنت ناسياً لم تبطل صلاة المأموم لظنه
انقضاء الصلاة كما في قصة ذي اليدين، نعم يندب له سجود السهو لأنه تكلم بعد انقطاع
القدوة، ذكره ب ر.
[فائدة]: اقتدى بإمام
بعد سجوده للسهو سجد آخر صلاته، لأن جبر الخلل لا يمنع وجوده قاله المزجد و سم
والجوهري و ق ل، ورجح الكمال الرداد و ع ش وعطية عدم السجود، وكذا لو اقتدى به حال
السجود فيعيده عند سم، وقال البرلسي: لا يعيده.
[فائدة]: لو تخلف
المأموم عن سجود إمامه سهواً حتى فرغ منه ثم تذكر، قال (م ر): لم يجب عليه الإتيان
به لأنه إنما وجب للمتابعة وقد فاتت، وقال في التحفة تبعاً لشيخه زكريا: يجب
وحينئذ لو سلم عامداً بطلت، أو ناسياً فإن تذكر قبل طول الفصل أتى به وإلا استأنف
الصلاة اهـ.
[فائدة]: يسن سجود السهو لشافعي صلى خلف حنفي مطلقاً صبحاً وغيرها من سائر
الخمس، لأن الحنفي لا يقنت في الصبح، ولا يصلي على النبي في التشهد الأول في
غيرها، بل لو صلى عليه فيه سجد للسهو في مذهبه، وبتركها فيه يتوجه على المأموم
سجود السهو كالقنوت فتنبه لذلك اهـ كردي.
(مسألة): يلزم المأموم
متابعة إمامه في سجود السهو موافقاً أو مسبوقاً، ولو كان سهوه قبل الاقتداء به، أو
لم يعلم به المأموم، فلو سلم الإمام ناسياً سن له العود للسجود إن لم يطل الفصل،
وحينئذ يلزم المأموم متابعته ولو مسبوقاً قام ليتم ما عليه، خلافاً لما في القلائد
عن أبي مخرمة من عدم لزوم العود عليه حينئذ، نعم إن علم المأموم خطأ إمامه، أو
تخلف بعد سلامه ليسجد، أو قام أو سلم عامداً مع تذكره سهو الإمام لم تجب عليه
متابعته، بل لا تجوز حينئذ، ويندب للمسبوق إعادة السجود آخر صلاته كمن اقتدى به
وإن لم يسجد الأول.
(مسألة: ب): حد طول الفصل في المسائل التي حد فيها بطول الفصل وقصره يرجع
إلى العرف، فما عده طويلاً فطويل، وما لا فلا، إذ لا ضابط لذلك شرعاً ولا عرفاً،
ومثل لطوله في التحفة في بعض المواضع بركعتين، ولنا وجه أن طوله بقدر ركعة، وآخر
أنه بقدر الصلاة التي هو فيها.
(مسألة): لو علم المصلي بعد تسليمته الأولى مقتضى سجود السهو فسلم الثانية
عامداً لم يكن له الرجوع للسجود لتعمده السلام المبطل لو لم يكن بمحله، فيكون
مانعاً حينئذ من الرجوع، كما لو سلم ناسياً له ثم علمه وأتى بمبطل كالحركات
واستدبار القبلة فيمتنع العود أيضاً، إذ ما يضر ابتداء يضر انتهاء غالباً.
(مسألة): قولهم: وإذا
سجد صار عائداً إلى الصلاة أي أراد السجود وإن لم يسجد بالفعل، حتى لو شك في ركعة
لزمه الإتيان بها قبل أن يسجد وإلا بطلت، قاله (م ر) تبعاً للإمام والغزالي، وقال
ابن حجر: أي وضع جبهته بالأرض وإن لم يطمئن.
[فائدة]: يتكرر سجود السهو في صور: في مسبوق سها إمامه فسجد معه للمتابعة
وآخر صلاته، وفيمن ظن سهواً فسجد فبان عدمه فيسجد ثانياً، وفيما إذا خرج وقت
الجمعة أو نقصوا عن العدد بعد سجود السهو فيتموا ظهراً ويسجدوا للسهو فيهما كقاصر
لزمه الإتمام بعده اهـ شرح تحرير. ويتصور أن يسجد للسهو في الصلاة الواحدة اثنتي
عشرة سجدة، وذلك فيمن اقتدى في رباعية بأربعة، فاقتدى بالأوّل في التشهد الأخير ثم
بالباقين في الركعة الأخيرة من صلاة كلّ، وسها كل منهم وظنّ هو سهواً فسجد ثم بان
عدمه فيسجد ثانياً فتمت اثنتي عشرة اهـ ع ش.
سجود التلاوة والشكر
[فائدة]: هذان البيتان يجمعان الصور التي فيها سجدة التلاوة:
بأعراف رعد النحل سبحان مريم
>< بحج بفرقان بنمل وبالجرز
بحم نجم انشقت اقرأ فهذه
>< مواضع سجدات التلاوة إن تجز
اهـ.
قال ش ق: في قوله آية
سجدة الإضافة للجنس، لأنه لا بد من آيتين في النحل والإسراء والنمل وفصلت، وما عدا
هذا فآية، وضابط ما يطلب له السجود هو كل آية مدح فيها جميع الساجدين، ويستثنى
اقرأ اهـ. قال الكردي: ويقوم مقام سجود التلاوة والشكر ما يقوم مقام التحية إن لم
يرد فعلها ولو متطهراً، وهوسبحان الله إلى العظيم اهـ ق ل اهـ. قال الجوهري:
وأخبرني بعض الإخوان أنها تقوم مقامها مرة واحدة من سبحان الله الخ.
[فائدة]: قال في التحفة: يسنّ للإمام تأخير السجود في السريّة إلى الفراغ
اهـ. وظاهره وإن طال الفصل، وحينئذ يستثنى من قولهم لا تقضى لأنه مأمور بالتأخير
لعارض، فوسع له في تحصيل هذه السنة اهـ سم. وفي النهاية: ولو ترك الإمام سجود
التلاوة سنّ للمأموم السجود بعد السلام إن قرب الفصل اهـ. قال حب: وحدّ طول الفصل
قدر ركعتين، ويسنّ السجود لكل قارىء ولو خطيباً أمكنه عن قرب لا سامعوه، وإن سجد
لما فيه من الإعراض إن لم يسجد، ولأنه ربما فرغ قبلهم إن سجد، وينبغي أن يقول في
سجدتي التلاوة والشكر: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وضع
عني بها وزراً، واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود عليه السلام اهـ شرح المنهج.
[فائدة]: سجد الإمام بعد القراءة وقبل الركوع، فإن علم المأموم أنه ترك
الركوع سهواً، كأن سمع جميع قراءته في سرية أو جهرية، أو ظنه مستنداً لقرينة كأن
سمع بعض القراءة لم يتابعه كما لو قام لخامسة، وإلا بأن احتمل أنه سجد للتلاوة
لزمه متابعته، وإن لم يسمع قراءته كما تلزمه في سجود السهو، بل تبطل صلاته بمجرد
هويّ الإمام وعزمه على عدم المتابعة اهـ باسودان.
(مسألة: ج): يسنّ سجود الشكر عند هجوم نعمة أو اندفاع نقمة، فخرج استمرار
النعم كنعمة الإسلام، ولرؤية مبتلي وعاص يعني العلم بوجوده أو ظنه، كسماع صوته
وإطلاقهم يقتضي تكرر السجود بتكرر الرؤية، ولا يلزم تكرره إلى ما لا نهاية له،
فيمن هو ساكن بإزائه مثلاً، لأنا لا نأمره، كذلك إلا حيث لم يوجد أهمّ منه، قاله
في التحفة.
(مسألة: ي): مذهبنا أن السجود في غير الصلاة مندوب لقراءة آية السجدة
للتالي والسامع، ولمن حدثت له نعمة ظاهرة أو اندفعت عنه نقمة ظاهرة شكراً لله
تعالى، ولا يجوز السجود لغير ذلك، سواء كان لله فيحرم أو لغيره فيكفر، هذا إن سجد
بقصد العبادة، فلو وضع رأسه على الأرض تذللاً واستكانة بلا نيته لم يحرم إذ لا
يسمى سجوداً.
صلاة النفل
[فائدة]: النفل والسنة والحسن والتطوُّع والمرغب فيه والمستحب والمندوب،
والأولى ما رجح الشارع فعله على تركه مع جوازه فكلها مترادفة، خلافاً للقاضي،
وثواب الفرض يفضله بسبعين درجة اهـ
تحفة. وقد يفضله المندوب في صور نظمها بعضهم فقال:
الفرض أفضل من نفل وإن كثرا
>< فيما عدا أربعاً خذها حكت دررا
بدء السلام أذان مع طهارتنا
>< قبيل وقت وإبراء لمن عسرا اهـ.
(مسألة): من صح إحرامه
بالفرض صح تنفله، إلا فاقد الطهورين والعاري وذا نجاسة تعذرت إزالتها فلا يصح
تنفلهم اهـ من الأشباه والنظائر للسيوطي.
(مسألة): أحرم بالوتر
ولم يذكر عدداً اقتصر على ما شاء من واحدة إلى إحدى عشرة وتراً قاله ابن حجر، وأبو
قشير قال: وقياسه الضحى، وقال (م ر): يقتصر على ثلاث، ولو نذر الوتر لزمه ثلاث
لأنه أقل الجمع اهـ ع ش، ولو أوتر بثلاث ثم أراد التكميل جاز، قاله البكري وابن
حجر والعمودي، وقال (م ر): لا يجوز، وتسنّ الجماعة في وتر رمضان مطلقاً، وإن لم
تصلّ التراويح خلافاً للغرر، وأفتى الريمي وابن ظهيرة أن من فاته الوتر في نصف
رمضان الأخير فقضاه في غيره أنه يقنت فيه، وفي شرح البهجة ما يقتضي خلافه.
(مسألة): أفتى أبو زرعة وأبو حويرث وأحمد بن علي بحير بندب التكبير لمن قرأ
من سورة الضحى إلى آخر القرآن في الصلاة وخارجها، سواء الإمام والمأموم والمنفرد
قياساً على سؤال الرحمة، ويفهم منه الجهر لهم بذلك في الجهرية، وأفتى بذلك الزمزمي لكن خص الجهر به للإمام،
قال: فإن تركه الإمام جهر به المأموم ليسمعه، ذكره العلامة علوي بن أحمد الحداد.
(مسألة: ك): يسنّ
الاضطجاع بعد سنة الصبح على الشق الأيمن، فإن لم يفعل فصل بكلام أو تحوّل، لكن
يكره بكلام الدنيا، ويندب أن يقول بعدها: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل
وعزرائيل ومحمد أجرني من النار ثلاثاً، اللهم إني أسألك علماً نافعاً ورزقاً
واسعاً وعملاً متقبلاً، ويزيد يوم الجمعة: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيّ
القيوم وأتوب إليه ثلاثاً، وإذا أراد القيام للصلاة سبح وهلل وكبر ثلاثاً، ويندب
صلاة ركعتين عقب كل أذان إلا المغرب وينوي بهما سنته.
[فائدة]: يسنّ أن يقول بين سنة الصبح وفرضها ما نقل عن الترمذي الحكيم قال:
رأيت الحق جلّ جلاله في المنام مراراً فقلت: يا رب إني أخاف زوال الإيمان، فأمرني
بهذا الدعاء في هذا المحل إحدى وأربعين مرة وهو: "يا حي يا قيوم، يا بديع
السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا ألله لا إله إلا أنت أسألك أن تحيي
قلبي بأنوار معرفتك، يا ألله يا ألله يا أرحم الراحمين" اهـ ش ق.
(مسألة: ك): مذهب
الحنفية منع تأخير سنة الصبح عن فرضها فالخروج من خلافه مطلوب لا سيما والمعتمد أن
المصيب في الفروع واحد.
[فائدة]: الجمعة كالظهر في راتبتها أي إن كانت مجزئة عنه، وإلا صلى قبلها
أربعاً، وقبل الظهر أربعاً، وبعده كذلك، وسقطت بعدية الجمعة للشك في إجزائها بعد
فعلها، ولا تقضي سنتها البعدية بعد الوقت، لأن الجمعة لا تقضى فكذلك سنتها اهـ بج.
وفي فتاوى الجوهري سنّ قضاؤها كغيرها قال: وما نقله الشوبري عن الخادم أي من عدم
القضاء فيه نظر اهـ، ولا تسنّ إعادة الرواتب مطلقاً اهـ جمل، والمعتمد أن القبلية
كالبعدية في الفضل، وقيل البعدية أفضل لتوقفها على فعل الفرض اهـ ع ش.
(مسألة: ب): المشهور
أن الرواتب هي التابعة للفرائض فقط، وقيل: يقال للوتر والضحى راتبة، وأما التخفيف
المفرط في صلاة التراويح فمن البدع الفاشية لجهل الأئمة وتكاسلهم، ومقتضى عبارة
التحفة أن الانفراد في هذه الحالة أفضل من الجماعة إن علم المأموم أو ظن أن الإمام
لا يتم بعض الأركان لم يصح الاقتداء به أصلاً، ويجوز الفصل بين ركعات التراويح أو
الوتر بنفل آخر، إذ لا ينقطع إلا عما قبله لكنه خلاف الأفضل.
[فائدة]: أكثر الضحى
اثنتا عشرة ركعة على الراجح قاله ابن حجر. وقال (م ر): أكثرها ثمان، وللشيخ عبد
السلام النزيلي أبيات في فضلها، منها قوله:
بثنتين منها ليس تكتب غافلاً
>< وأربع تدعى مخبتاً يا أبا عمرو
وستّ هداك الله تكتب قانتا
>< ثمان بها فوز المصلي لدى الحشر
وتمحى ذنوب اليوم بالعشر فاصطبر
>< وإن شئت ثنتا عشرها فزت بالنصر
اهـ كردي.
وينبغي أن يقرأ بعد
صلاة الضحى: رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم، اللهم لك الحمد أصبحت
عبدك على عهدك ووعدك، أنت خلقتني ولم أك شيئاً، أستغفرك لذنبي فإنه قد أرهقتني
ذنوبي وأحاطت بي، إلا أن تغفرها لي فاغفرها يا أرحم الراحمين، فإنه مرجوّ الإجابة
إن شاء الله تعالى اهـ شرح البداية. وقال في التحفة تنبيه: ما ذكر من أن الثمان في
صلاة الضحى أفضل من اثنتي عشرة لا ينافي قاعدة أن كل ما كثر وشقّ كان أفضل لخبر
عائشة رضي الله عنها: "أجرك على قدر نصبك" لأنها أغلبية لتصريحهم أن
العمل القليل قد يفضل الكثير، كالقصر أفضل من الإتمام بشرطه وكالوتر بثلاث أفضل
منه بخمس أو سبع أو تسع على ما قاله الغزالي وهو مردود، وكالصلاة مرة في جماعة
أفضل من تكريرها خمساً وعشرين انفراداً، لو قلنا بجوازه وتخفيف ركعتي الفجر أفضل
من تطويلها بغير الوارد، وركعتا العيد أفضل من ركعتي الكسوف بكيفيتها الكاملة،
وركعة الوتر أفضل من ركعتي الفجر وتهجد الليل وإن كثر اهـ.
[فائدة]: قال ع ش: ينبغي أن محل اندراج التحية مع غيرها ما لم ينذرها وإلا
لم تدخل، لأنها صارت مقصودة في نفسها اهـ جمل. ويندب لمن لم يتمكن من التحية لحدث
أن يقول أربع مرات: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، زاد
بعضهم: ولا حول إلى العظيم، لأنها تعدل ركعتين في الفضل فتندفع بها الكراهة، ومحله
حيث لم يتيسر له الوضوء في المسجد قبل طول الفصل، وبالأولى ما لو كان متطهراً،
واشتغل بغيرها اهـ ش ق عن ق ل. وقال الجوهري: إن ذلك كالكفارة لا أنه تحية كما
حققه ابن حجر، وألحق بعضهم بها سجدة التلاوة والشكر، ومثلها سنة الوضوء والإحرام،
ولا يتقيد ذلك بما إذا كان محدثاً كما هو مقتضى النقل، ولا يشترط الإتيان به حال
القيام، بل لو شرع فيه ثم جلس كفاه كالتحية، واعتمد سم عدم إجزائها بعد جلوسه وفيه
نظر، إذ القصد إنابة هذا مقام تقصيره بالجلوس المكروه، فلا فرق بين الإتيان به أي
الإحرام قبل القعود أو بعده اهـ.
(مسألة: ب): صلى ركعتين من صلاة التسبيح ليلاً وأراد التكميل نهاراً جاز،
وعدت صلاة التسبيح وإن طال الفصل، إذ لا تشترط الفورية فيها، ولأنها ليست من ذات
السبب أو الوقت حتى تتقيد به، بل العمر كله وقت لها، ما عدا وقت الكراهة كالنفل
المطلق فعلم أنها لا تقضى، وأنه يسن تكرارها ولو مراراً في ساعة، والتسبيحات فيها
هيئة تابعة كتكبير العيد بل أولى، فلا سجود لتركها وإن نوى صلاة التسبيح، نعم إن
أطال ركناً قصيراً حينئذ ضر، لأن اغتفار تطويله بالتسبيح الوارد، فحيث لم يأت به
صارت نفلاً مطلقاً، ولم تسمّ صلاة التسبيح، كما لو لم ينوها وأراد التسبيح فيجوز
بشرط أن لا يبطل الركن القصير أيضاً لأن نيته انعقدت نافلة، ويندب الإسرار
بتسبيحها مطلقاً، وبقراءتها نهاراً وأن يتوسط فيها ليلاً، وتجب بالنذر، ويجوز فيها
الفصل والوصل، ولكن استحسن الإمام الغزالي الوصل نهاراً، وضده ليلاً.
[فائدة]: الأولى أن يقرأ في صلاة التسبيح سور التسبيح كالحديد والحشر والصف
والجمعة والتغابن للمناسبة، فإن لم يفعل فسورة الزلزلة والعاديات وألهاكم
والإخلاص، ويقول قبل السلام: اللهم إني أسألك توفيق أهل الهدى، وأعمال أهل اليقين،
ومناصحة أهل التوبة، وعزم أهل الصبر، وجدّ أهل الخشية، وطلب أهل الرغبة، وتعبد أهل
الورع، وعرفان أهل العلم حتى أخافك، اللهم إني أسألك مخافة تحجزني بها عن معاصيك
حتى أعمل بطاعتك عملاً أستحق به رضاك، وحتى أناصحك بالتوبة خوفاً منك، وحتى أخلص
لك النصيحة حباً لك، وحتى أتوكل عليك في الأمور كلها حسن ظن بك، سبحان خالق النور
اهـ إيعاب.
(مسألة: ك): يسن التوسط بقراءة صلاة التسبيح ليلاً، ولم أر من صرح
بالاكتفاء بها لمن عادته التهجد عن أربع ركعات، والذي يظهر الاكتفاء إذ هي من
النفل المطلق، ويحصل به التهجد كما يحصل بالوتر، إذ التهجد هو النفل ليلاً بعد نوم
لأن الهجود النوم، يقال هجد إذا نام، وتهجد أزال نومه بتكلف.
[فائدة]: قال في
الإحياء: قال :"من صلى المغرب في جماعة، ثم صلى بعدها ركعتين ولا يتكلم بشيء
فيما بينهما من أمر الدنيا، يقرأ في
الأولى بفاتحة الكتاب، وعشر آيات من أول سورة البقرة إلى يشعرون الثانية، وآيتين
من وسطها، وإلهكم إلى يعقلون، والإخلاص خمس عشرة مرة، وفي الثانية بالفاتحة وآية
الكرسي إلى خالدون، ولله ما في السموات إلى آخر السورة، والإخلاص خمس عشرة
مرة" ووصف في الحديث من ثوابها ما يجلّ عن الحصر اهـ. وهذه المسماة صلاة
الفردوس.
[فائدة]: ذكر السيوطي
في رسالة له في خصائص يوم الجمعة وأوصلها إلى مائة خصوصية وواحدة قال: وأخرج
الأصبهاني عن ابن عباس قال: قال رسول الله : "من صلى الضحى أربع ركعات في يوم
الجمعة في دهره مرة، يقرأ بفاتحة الكتاب عشراً، وقل أعوذ بربّ الناس والفلق
والإخلاص والكافرون وآية الكرسي عشراً عشراً في كل ركعة، فإذا سلم استغفر الله
سبعين مرة وسبح كذلك سبحان الله إلى العظيم، دفع الله عنه شر أهل السموات والأرض
والجن والإنس".
(مسألة: ش): لا تجوز صلاة الحاجة بالرواية التي في آخرها أنه يسجد بعد
التشهد وقبل السلام، بل إن سجد بطلت صلاته لأن حديثها ضعيف جداً، ولا عبرة
بالتجربة، بل من أراد صلاة الحاجة فليفعلها بالروايتين اللتين ذكرهما في عدّة
الحصن الحصين قبل هذه الرواية، نعم لو سلم من الصلاة فأتى بالقراءة والتهليل، ثم
تلا آية سجدة ولم يقصد إيقاعها في الوقت المكروه وسجد فلا بأس ولا يقال إنه مأمور
به.
(مسألة): يندب قضاء النفل المؤقت كالعيد والوتر والرواتب مطلقاً، بل لو
اعتاد شيئاً من النفل المطلق فتركه في وقته المعتاد ولو لعذر سن له قضاؤه لئلا
تميل نفسه إلى الدعة والرفاهية، ولا يجوز قضاء ذي السبب كالكسوف والتحية.
[فائدة]: النفل في البيت أفضل، أي حتى من جوف الكعبة كما في التحفة وغيرها،
ونظم الطبلاوي ما يستثنى من ندب النفل في البيت فقال:
صلاة نفل في البيوت أفضل
>< إلا لدى جماعة تحصل
وسنة الإحرام والطواف ><
ونفل جالس للاعتكاف
ونحو علمه لإحياء البقعة
>< كذا الضحى ونفل يوم الجمعة
وخائف الفوات بالتأخر ><
وقادم ومنشىء للسفر
والاستخارة وللقبلية ><
لمغرب ولا كذا البعدية
وذكر ذلك في الإيعاب
وزاد: من خشي التكاسل والمنذورة، وزاد ق ل: قبلية دخل وقتها اهـ كردي.
أحكام المساجد
[فائدة]: لو اشترك جماعة في بناء مسجد بني لكل منهم بيت في الجنة، كما لو
أعتق جماعة عبداً فإن كلاًّ يعتق من النار، ويسنّ بناؤها في الدور، ويكره فيما
تكره فيه الصلاة إلا الحمام والمقبرة المندرسة اهـ إيعاب ومشرع.
(مسألة: ي): المسجد
المعمور بموات تثبت له أحكام المسجدية بشرط أن يكون العامر مسلماً، وأن يتلفظ
بوقفه، أو يقصد بالبناء جعله مسجداً، وأن تكون الأرض المذكورة لم تعمر أصلاً، أو
شك في عمارتها أو عمرها كافر قبل استيلاء المسلمين عليها أو بعده ولم تدخل تحت يد
مسلم، أو شك هل العمارة جاهلية أو إسلاماً؟ وكالموات ما أخذه المسلم ولو بشراء
فاسد من كافر فخرج بالمسلم الكافر، فلا اعتداد ببنائه في تلك الصور، إذ لا يجوز له
إحياء موات الإسلام، فلو باعها المسلم فبناها مسجداً، أو ملكها لمسلم آخر فبناها
الثاني، كذلك باللفظ أو
النية ثبتت له أحكامه، ولم يملك الثمن آخذه إذ بيع الكافر المذكور حينئذ فاسد،
وإنما ذلك صورة افتداء، نعم لو بنى كافر مسجداً بأرض تحت يده ولم يعلم أنها ترتبت
عليها بغير حق ثبتت له الأحكام، كما لو باع الكافر تلك الأرض لمسلم بيعاً صحيحاً
بإيجاب وقبول فبنى بها مسجداً، لكن لا بد في هاتين من التلفظ بالوقف، فلا تكفي
النية، بخلاف الموات كما مر، ولو رأينا صورة مسجد ولم ندر من بانيه، وهل هو في
موات أو ملك، وهل تلفظ عامره بوقفه أم لا؟ ثبتت له أحكامه أيضاً، سواء استفاض بين
الناس تسميته مسجداً أم لا، كما قاله ابن حجر. وقال (م ر): بشرط الاستفاضة، قال ع ش:
والأقرب كلام ابن حجر، وإذا ثبتت لأرض المسجد أحكامه ثبتت لجدرانه وأخشابه وغيرها
من آلات العمارة، لأن المتصدي لقبض ذلك من الناس نائب عنهم في شرائها، فيزول ملكهم
عنها باستقرارها في محلها لا قبله، كما لو قال لقيم المسجد: اضرب اللبن للمسجد من
أرضي فضربه وبنى به يصير له حكم المسجد حينئذ.
(مسألة: ب): ليست
الجوابي المعروفة وزواياها من رحبة المسجد ولا حريمه، بل هي مستقلة لما وضعت له،
ويستعمل كل على ما عهد فيه بلا نكير، ومن ذلك البول في مضاربها ومكث الجنب فيهما،
ولا تحتاج إلى معرفة نص من واقفها، إذ العرف كاف في ذلك، ويجوز الاستنجاء وغسل
النجاسة الخفيفة منها، وأما الممرّ من المطاهر إلى المسجد فما اتصل بالمسجد مسجد،
وما فصل بينهما بطريق معترضة فلا، وأطلق ابن مزروع عدم المسجدية فيه مطلقاً للعرف.
(مسألة: ب): وجد في قائمة مسجد في صيغة وقفه: جعلت فلانة الموضع الذي
أحدثته وأحيته على صورة المسجد المبني ببلد كذا مع الساحات التي يجري المسجد
المقطتعات معها من السلطان، وقفت ذلك مسجداً، ووقفت إيضاً كما ذكر البئر والمنارة
والزاوية والدكك والحوض المنسوجات للمسجد، فالذي يظهر ببادىء الرأي من تلك الصيغة
أن الساحات التي عينتها الواقفة قد كانت بجانب الموضع الذي أحدثته على صورة المسجد
قبل أن يكون مسجداً، ثم جعلته مع الساحات مسجداً، فصارت الساحات داخلة في جملة
المسجد، إذ يبعد كل البعد أن تكون الساحات الخارجة اليوم عن المسجد المطروقة التي
لم تحوّط ببناء، ولم تحترم مع تطاول الزمان، وتعدد النظار في بلدة هي محط العلم
وموضع الحكم مسجداً بنص الواقفة مع تداول النظار السابقين لهذه الصيغة، اللهم إلا
إن تحقق أو غلب على الظن بقرائن قوية لا بمجرد كتابة الصيغة، أن تلك الساحات
الخارجة عن المسجد هي المعنية والمرادة للواقفة، فحينئذ لا شك في كونها من جملة
المسجد، ودخولها في حكم المسجدية مطلقاً للنص، أما مجرد كتابة الصيغة فلا عبرة به،
وقد أفتى ابن حجر بأنه لا يعتمد على التواريخ المكتوبة على المقابر والمساجد بل
تفيد نوعاً من الاحتياط، فلو رأينا محلاً مهيأ للصلاة ولم يتواتر بين الناس أنه
مسجد لم يجب التزام أحكام المسجدية فيه، فإذا رأينا مكتوباً في بعضه تأكد ندب
الاحتياط والتزام أحكام المسجدية، وبه يعلم حكم الساحات المذكورة وقولها وقفت كما
ذكر البئر والمنارة الخ، الذي يظهر أيضاً أن التشبيه في مجرد مطلق الوقف لا بقيد
المسجدية، إذ لا يعطى المشبه حكم المشبه به من كل الوجوه، مع أنه يبعد قصد
المسجدية بالبئر وما عطف عليها ما عدا الزاوية والمنارة، بل لا يتصوَّر مع أن
العرف والعادة زمن الواقفة وقبله وبعده ماضيان بأن تلك المذكورات من مرافق المسجد
لا منه، وإن شملها لفظ الوقف، بل قولها المنسوبات للمسجد يؤيد ما ذكر، وإذا أريد
توسيع المسجد من تلك الساحات الخارجة ففيه تفصيل ذكره في التحفة والقلائد. قلت:
وقوله عن ابن حجر: إذا رأينا صورة مسجد ولم يتواتر الخ هو كذلك في فتاوى له، لكن
مال بعد ما ذكر إلى أنه إن كان في موات أنها تجري عليه الأحكام، ورجح في فتيا أخرى
أنها تثبت الأحكام لضرر المسجد المجهول مطلقاً، وإن لم يستفض أنه مسجد كما تقدم في
ي.
(مسألة ي): اشترى بيتاً ووقفه مسجداً صح، وأعطى حكمه وحرم عليه وعلى غيره
هدمه وتوسيعه إلا لضرورة أو حاجة، كخوف سقوط جدار، ودفع حرّ وبرد، وضيق على نحو
المصلين، فيجوز حينئذ بشرط أن يبنيه في تلك الأرض الموقوفة، وأن يعم جميعها
بالبناء، وله أن يدخل غيرها معها، وللزيادة المذكورة حكم الوقف إن بنيت في أرض
موقوفة مسجداً، أو وقفت كذلك وإلا فلا، وأن يكون المعاد صورة مسجد بأن يطلق عليه
اسمه لا نحو رباط، إذ يمتنع
تغيير الوقف بما يغيره بالكلية عن اسمه الذي كان عليه حال الوقف بخلاف ما لا
يغيره، وإن قدم مؤخراً أو جعل محراباً صحناً أو رحبة وعكسه، وأن يأذن الإمام أو
نائبه إن كانت الزيادة فتح باب أو هدم حائط، بخلاف نحو التحويط خارجه، والزيادة
المتصلة ببابه، نعم لا يجوز فعل نحو حوض فيه مما يغير هيئة المسجد، إلا إن شرطه
الواقف في صلب الوقف متصلاً به كأن يقول: وقفت هذه الأرض مسجداً بشرط أن يفعل فيها
حوض للماء مثلاً، أو اطردت عادة موجودة في زمن الواقف علم بها بفعل نحو الحوض،
وإذا امتنع فعله دفن وأدخل محله في المسجد وجوباً، والمتولي للعمارة مطلقاً الناظر
الخاص الأهل الثابت له النظر من جهة الواقف، المشروط له ذلك حال الوقف، فلو فعل
ذلك غيره، فإن كان بإذنه أو الحاكم عند عدم تأهل الناظر جاز فعله، أو بإذن الحاكم
مع أهلية الناظر أثم ولا تعزير عليه لشبهة إذن الحاكم أو بغير إذنهما مع تأهلهما
فمتعدّ يستحق التعزير من الحاكم المسلم المتأهل للحكم، ولا يجوز رفعه لكافر ولا
غير متأهل، بل يستحق الرافع التعزير حينئذ، لكن للبناء المذكور وآلاته حكم المسجد
بشروطه المارة، فلا يجوز نقصه حينئذ، لأن الحرج إنما لحق الهادم بافتياته ما هو
لغيره لا غيره.
(مسألة: ك): يحرم تطيين المسجد بالآجر النجس، ويكره بناؤه به، ونص بعضهم
على الحرمة أيضاً، ويجوز توسيع المسجد وتغيير بنائه بنحو رفعه للحاجة بشرط إذن
الناظر من جهة الواقف، ثم الحاكم الأهل، فإن لم يوجد وكان الموسع ذا عدالة ورآه
مصلحة بحيث يغلب على الظن أنه لو كان الواقف حياً لرضي به جاز، ولا يحتاج إلى إذن
ورثة الواقف إذا لم يشرط لهم النظر، ولو وقف ما حواليه مرافق له جاز توسيعه منه
أيضاً إن شرط الواقف التوسيع منها عند الحاجة أو اطرد به عرف، لأن العادة المقترنة
بالوقف منزلة منزلة شرطه، وكذا إن جعل لمن تولاه أن يفعل ما رآه مصلحة، واقتضى نظر
المتولي بدلالة الحال ذلك، ولا تصير الزيادة المذكورة مسجداً إلا بالتلفظ بوقفها
أو ما قام مقامه، كإشارة الأخرس وكالبناء في الموات بنية المسجدية، نعم يندب تقديم
الداخل فيها يمينه والخارج يساره إن ألحقنا موضع الصلاة في ذلك بالمسجد وهو ما
بحثه الأسنوي.
(مسألة): بئر قرب مسجد تضرر بها وخيف على جداره بنداوتها جاز بل وجب على
الناظر طمها وحفر غيرها، ولا ينقطع الثواب بحفر الثانية إن كان من غلة المسجد، وفي
الإيعاب: لا يكره حفر البئر في المسجد لحاجة كأن لا يحضره جماعة لعدم ماء فيه الخ.
(مسألة: ي): ليس للناظر العام وهو القاضي أو الوالي النظر في أمر الأوقاف
وأموال المساجد مع وجود الناظر الخاص المتأهل، فحينئذ فما يجمعه الناس ويبذلونه
لعمارتها بنحو نذر أو هبة وصدقة مقبوضين بيد الناظر أو وكيله كالساعي في العمارة
بإذن الناظر يملكه المسجد، ويتولى الناظر العمارة بالهدم والبناء وشراء الآلة
والاستئجار، فإن قبض الساعي غير النذر بلا إذن الناظر فهو باق علىملك باذله، فإن
أذن في دفعه للناظر، أو دلت قرينة أو اطردت العادة بدفعه دفعه وصار ملكاً للمسجد
حينئذ فيتصرف فيه كما مر، وإن لم يأذن في الدفع للناطر فالقابض أمين الباذل، فعليه
صرفه للأجراء وثمن الآلة وتسليمها للناظر، وعلى الناظر العمارة، هذا إن جرت العادة
أو القرينة أو الإذن بالصرف كذلك أيضاً، وإلا فإن أمكنت مراجعة الباذل لزمت، وإن
لم تمكن فالذي أراه عدم جواز الصرف حينئذ لعدم ملك المسجد لها، إذ لا يجوز قبض
الصدقة إلا بإذن المتصدق وقد انتفى هنا، وليتفطن لدقيقة، وهو أن ما قبض بغير إذن
الناظر إذا مات باذله قبل قبض الناظر أو صرفه على ما مر تفصيله يرد لوارثه، إذ هو
باق على ملك الميت، وبموته بطل إذنه في صرفه.
(مسألة: ب): يجوز للمقيم شراء عبد للمسجد ينتفع به لنحو نزح إن تعينت
المصلحة في ذلك، إذ المدار كله من سائر الأولياء عليها، نعم لا نرى للقيم وجهاً في
تزويج العبد المذكور كولي اليتيم إلا أن يبيعه بالمصلحة فيزوجه مشتريه ثم يرد
للمسجد بنحو بيع مراعياً في ذلك المصلحة، ويجوز بل يندب للقيم أن يفعل ما يعتاد في
المسجد من قهوة ودخون وغيرهما مما يرغب نحو المصلين، وإن لم يعتد قبل إذا زاد على
عمارته.
[فائدة]: قال الفيومي: يحرم على المستجمر بالحجر المكث في المسجد إلا بقدر
الصلاة فقط، ويحرم على من ببدنه أو ثوبه نجاسة المكث فيه لغير ضرورة، أما مروره من
غير مكث فلا يحرم، ولا يجوز إدخال النعل المتنجس إلا إن خشي عليه خارجه وأمن
تلويثه اهـ وف التحفة: ومع حل لبسه يعني الثوب المتنجس يحرم المكث به في المسجد من
غير حاجة إليه كما بحثه الأذرعي، لأنه يجب تنزيهه عن النجس اهـ.
[فائدة]: جماعة يقرأون القرآن في المسجد جهراً، وينتفع بقراءتهم أناس،
ويتشوّش آخرون، فإن كانت المصلحة أكثر من المفسدة فالقراءة أفضل، وإن كانت بالعكس
كرهت اهـ فتاوى النووي.
(مسألة: ك): لا يكره
في المسجد الجهر بالذكر بأنواعه، ومنه قراءة القرآن إلا إن شوّش على مصلّ أو أذى
نائماً، بل إن
كثر التأذي حرم فيمنع منه حينئذ، كما لو جلس بعد الأذان يذكر الله تعالى، وكل من
أتى للصلاة جلس معه وشوّش على المصلين، فإن لم يكن ثم تشويش أبيح بل ندب لنحو
تعليم إن لم يخف رياء، ويكره تعليق الأوراق المنقوش فيها صورة الحرمين وما فيهما
من المشاعر المسماة بالعمر في المسجد للتشويش على المصلين وغيرهم، ولكراهة الصلاة
إلى ما يلهي لأنه يخلّ بالخشوع، وقد صرحوا بكراهة نقش المسجد وهذا منه، نعم إن
كانت مرتفعة بحيث لا تشوّش فلا بأس، إلا إن تولد من إلصاقها تلويث المسجد أو فساد
تجصيصه، ولا يجوز الانتفاع بها بغير رضا مالكها، إلا إن بليت وسقطت ماليتها، فلكل
أخذها لقضاء العرف بذلك.
(مسألة: ك): قال الخطيب في المغني: ويصرف الموقوف على المسجد وقفاً مطلقاً
على عمارته في البناء والتجصيص المحكم والسلم والسواري للتظليل بها، والمكانس
والمساحي لينقل بها الترب، وفي ظلة تمنع حطب الباب من نحو المطر إن لم تضرّ
بالمارة، وفي أجرة قيم لا مؤذن وإمام وحصر ودهن، لأن القيم يحفظ العمارة بخلاف
الباقي، فإن كان الوقف لمصالح المسجد صرف من ريعه لمن ذكر لا لتزويقه ونقشه، بل لو
وقف عليها لم يصح اهـ. واعتمد في النهاية أنه يصرف للمؤذن وما بعده في الوقف
المطلق أيضاً، ويلحق بالمؤذن الحصر والدهن.
(مسألة: ك): انهدم مسجد وله وقف، فإن توقع عوده حفظ ريعه، وإلا جاز صرفه
لمسجد آخر، فإن تعذر صرف للفقراء كما في التحفة، وقال في النهاية: صرف لأقرب الناس
إلى الواقف ثم الفقراء اهـ. قلت: وقال أبو مخرمة: وإذا عمر المسجد المنهدم رد عليه
وقفه اهـ.
[فائدة]: تعطل مسجد
وتعذرت عمارته لخراب البلاد وقلة ما يحصل من غلته وخيف ضياعها باستيلاء ظالم، جاز
نقلها لمسجد آخر معمور على المعتمد من خمسة أوجه، نعم المسجد الأقرب أولى، وكذا
يقال في البئر والقنطرة إذا تعذرت إعادتها أو استغني عنها، أما المسجد في المكان
العامر فتجمع غلاّت وقفه إلى أن يحصل منها ما يعمره ولا تنقل عنه اهـ حسن النجوق
للعموي، وبنحوه أفتى العلامة أحمد بن حسن الحداد قال: فإن تعذر وجود مسجد فلرباط
أو زاوية أو قنطرة أو بئر ونحوها من الأوقاف العامة الأشبه فالأشبه، ولا يبنى بها
مسجد جديد مع إمكان صرفها لعامر اهـ.
[فائدة]: لا يجوز للقيم بيع الفاضل مما يؤتى به لنحو المسجد من غير لفظ،
ولا صرفه في نوع آخر من عمارة ونحوها، وإن احتيج إليه ما لم يقتض لفظ الآتي به أو
تدل قرينة عليه، لأن صرفه فيما جعل له ممكن وإن طال الوقت، قاله أبو شكيل اهـ
فتاوى ابن حجر.
[فائدة]: ليس لمن أخذ شيئاً من صدقة الفطور أن يصرفها في غير الإفطار
عليها، وليس له التصرف فيها، ولا إعطاؤها لغيره، لأنها في حكم الضيافة للصائمين،
ولو شرط الواقف التفرقة في المسجد فلمن أعطى فيه الخروج به منه، لأنه لم يقصد
الأكل في المسجد بل قصد خصوص التفرقة، ويقبل قوله: أنا صائم لأجل الفطور حراً
بالغاً حاضراً أم لا، لكن يختص الصرف بالفقراء الصوَّام، إلا إن اعتيد الصرف
لغيرهم من النظار الورعين أو اطراد العرف بذلك اهـ فتاوى بامخرمة. وقال أبو يزيد:
الظاهر أن المصروف إليه يتصرف في المقبوض بما شاء.
صلاة الجماعة
(مسألة): ذهب بعض العلماء إلى تفضيل الصلاة في الفلاة عليها في الجماعة
للحديث الصحيح: "الصلاة في جماعة تعدل خمساً وعشرين صلاة، فإذا صلاها في فلاة
فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة، وفي رواية: خمسين درجة": وروى عبد
الرزاق: "أن من صلى بالفلاة إن أقام صلى معه ملكان، وإن أذن وأقام صلى خلفه
من جنود الله ما لا يعرف طرفاه". وفي الموطأ عن ابن المسيب: "من صلى
بأرض فلاة بأذان وإقامة صلى وراءه أمثال الجبال من الملائكة". وفي ذلك نظر،
بل الصلاة في الجماعة أفضل من الانفراد في الفلاة، ويحمل الحديثان الأولان على من
صلاها في الفلاة في جماعة، بل ظاهرهما يدل على ذلك، والروايتان الأخيرتان محتملتان
بأن يراد بالمعية مجرد الموافقة، أو تكون هذه الخاصة بهذه الأمور جعلها الشارع
أفضل من الجماعة ولا مانع، فإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وأفتى الحناطي بأنه
يبرّ بها من حلف ليصلي في جماعة وهو ضعيف اهـ ملخصاً من الإيعاب. وهل ينوي الإمامة
حينئذ أم لا؟ الظاهر نعم كما قد رأيته معزوًّا.
(مسألة: ب ك): تباح الجماعة في نحو الوتر والتسبيح فلا كراهة في ذلك ولا
ثواب، نعم إن قصد تعليم المصلين وتحريضهم كان له ثواب، وأي ثواب بالنية الحسنة،
فكما يباح الجهر في موضع الإسرار الذي هو مكروه للتعليم فأولى ما أصله الإباحة،
وكما يثاب في المباحات إذا قصد بها القربة كالتقوّي بالأكل على الطاعة، هذا إذا لم
يقترن بذلك محذور، كنحو إيذاء أو اعتقاد العامة مشروعية الجماعة وإلا فلا ثواب بل
يحرم ويمنع منها.
(مسألة: ش): لا خلاف عندنا في ندب إعادة الصلاة المقصورة مع مثلها،
والمعتمد ندب إعادتها مع متمّ، كما تندب إعادة الجمعة مع مصلي الظهر على المعتمد
أيضاً، وزعم بعضهم أن القاصر لو أتى بلده مثلاً في الوقت فوجد مسافراً أعاد معه
قصراً لأنها حاكية للأولى بعيد اهـ. قلت: وقوله تندب إعادة الجمعة ظهراً خالفه في
ي ج كما يأتي في الجمعة، وابن حجر في فتاويه أيضاً فقال: لا تصح إعادة الجمعة
ظهراً، واشترط الجماعة في المعادة ولو في جزء منها وإن فارق الإمام، واعتمد (م ر)
اشتراط الجماعة في جميعها.
(مسألة: ب ش): الأصح ندب إعادة الصبح والعصر كغيرهما من بقية الخمس ولو
إماماً، خلافاً للقماط والردّاد لإطلاقهم ندب الإعادة، والمسألة إذا دخلت في عموم
كلامهم كانت منقولة كما في المجموع، وتجب فيها نية الإمامة على الأوجه.
(مسألة: ب): تندب
تسوية الصفوف وتعديلها بأن لا يزيد أحد جانبي الصف على الآخر وتكميلها إجماعاً، بل
قيل بوجوبه، فمخالفته حينئذ مكروهة مفوّتة لفضيلة الجماعة، ككل مكروه من حيث
الجماعة بأن لا يوجد إلا فيها، وحينئذ فقولهم الوقوف بقرب الإمام في صف أفضل من البعد
عنه فيه وعن يمين الإمام، وإن بعد أفضل من الوقوف عن يساره، وإن قرب محله كما في
فتاوى ابن حجر ما إذا أتى المأموم وقد صفت الصفوف ولم يترتب على ذلك خلوّ مياسر
الصفوف، وإلا لم يكن مفضولاً لئلا يرغب الناس كلهم عنه، ويقاس بذلك ما في معناه،
لأنه لما رغب في ميامن الصفوف وفضلها رغب الناس في ذلك وعطلوا ميسر المسجد فقيل:
يا رسول الله إن ميسرة المسجد قد تعطلت فقال: "من عمر ميسرة المسجد كتب له
كفلان من الأجر" وإنما خصهم بذلك لما تعطلت تلك الجهة، إذ ليس لهم ذلك في كل
حال، ورجح ابن حجر فوات فضيلة الجماعة بالانفراد عن الصف والبعد بأكثر من ثلاثة
أذرع بلا عذر، ووقوف أكثر المأمومين في جهة، واعتمد أبو مخرمة وصاحب القلائد
حصولها مع ذلك اهـ. قلت: ونقل باعشن عن سم والبصري وغيرهما عدم الفوات بالانفراد
أيضاً، لكنه دون من دخل في الصف. وعن المحلي وابن حجر و (م ر) فواتها بكل مكروه من
حيث الجماعة، واستثنى أحمد الرملي تقطع الصفوف.
(مسألة: ب): الصلاة بين السواري في الجماعة تقطع الصف واتصاله مطلوب، قال
المحب الطبري: وكره قوم الصف بين السواري للنهي الوارد في ذلك، والحكمة فيه إما
لانقطاع الصف أو لأنه موضع النعال، وقال القرطبي: روي في سبب كراهته أنه مصلى مؤمن
الجن اهـ شرح تراجم البخاري للإمام محمد بن أحمد فضل، ورأيت معزوّاً للسيد عمر
البصري: لو تخلل الصف أو الصفوف سوار وقف مسامتاً لها ولم تعدّ فاصلاً لاتحاد الصف
معها عرفاً.
(مسألة: ي): لو كان في
الصف من لا تصح صلاته لنحو نجاسة أو لحن، أو كان أهل الصف المتقدم كذلك، لم تفت
فضيلة الجماعة على من وراءهم، وإن زاد البعد عمن تصح صلاته على ما يسع واقفاً في
الأولى وثلاثة أذرع في الثانية، إلا إن علم المتأخرون بطلان صلاة من ذكر، وأنها لا
تصح عند إمام يصح تقليده، وقدروا على
تأخيرهم من غير خوف على نفس أو مال أو عرض، لأن فضيلة الجماعة تحصل مع إمام جهل
حدثه، فأولى جهله ببطلان صلاة من لا رابطة بينه وبينه، ولأن التأخير بعذر كحر لا
يفوّتها فكذا هنا، ولأنه استحق ذلك المكان بسبقه مع تقليده القائل بالصحة، وكذا
بعدم التقليد، بناء على أن العامي لا مذهب له، فعلم أن من وقف في صف لا تجوز
تنحيته إلا إن علم بطلان صلاته إجماعاً أو اعتقاده فسادها حال فعلها.
(مسألة: ب): إدراك الركعة الأخيرة أولى من إدراك الصف الأوّل، وإن كان
الداخل في آخر المسجد وبعد عن الصف قبله بأكثر من ثلاثة أذرع، كما قاله في العباب
والقلائد وأبو مخرمة خروجاً من خلاف الإمام الغزالي القائل بأن الجماعة لا تدرك
بأقل من ركعة.
[فائدة]: يكره ارتفاع
المأموم على الإمام كعكسه إن أمكن وقوفهما مستويين كما في التحفة والنهاية، بل
أفتى (م ر) بأن الصف الثاني الخالي عن الارتفاع أولى من الأول معه، وفي (ع ش: )
إذا صلى الناس بالصحراء نحو عيد فالأولى جعلهم صفوفاً حيث كثروا لا صفاً واحداً،
لما فيه من التشويش بالبعد عن الإمام وعدم سماع قراءته وغير ذلك، وتعتبر المسافة
في عرض الصفوف بما يهيأ للصلاة وهو ما يسعهم عادة مصطفين من غير إفراط في السعة
والضيق اهـ جمل.
[فائدة]: يسنّ لمنفرد
رأى جماعة مشروعة أن يقلب فرضه نفلاً ويدخل فيها بشرط أن يبقى معه أكثر من ركعتين،
وأن لا يكون الإمام ممن يكره الاقتداء به، وأن لا يرجو جماعة غيرها، وأن يتسع
الوقت بأن يدرك جميعها فيه، وأن تكون الجماعة مطلوبة لا فائتة خلف حاضرة وعكسه من
غير جنسها، فإن انتفى شرط من ذلك حرم القلب في الأخيرتين، كما لو وجبت الفورية في
الفائتة مطلقاً، وجاز فيما عداهما كفائتة خلف مثلها من جنسها، فإن خشي فوت الحاضرة
أو كانت الجماعة في جمعة وجب القلب، فعلم أن القلب تعتريه أحكام أربعة اهـ ش ق.
(مسألة: ي): يتعين على الإمام أن يستكمل السنن المطلوبة التي ذكرها الفقهاء
في حقه، فلا يزيد فيكون من الفتانين، ولا ينقص فيكون من الخائنين، ويتأنى في ذلك
ليتمكن الضعيف منها وإلا كره، ومن تأمل ذلك عرف أن أئمة المساجد الآن مطففون
خائنون، لأنه إذا نقص الإمام عما طلب منه فنقص بسببه المأمومون لأجل متابعته فقد
ضمن ما نقص من صلاتهم كما في الحديث وهو من أشد المكروهات، بل إن اعتقد العوام أن
هذه الكيفية هي المطلوبة فقد وقع الإمام في الحرام، إذ ما يجوز فعله قد يجب تركه
إذا خشي من فاعله اقتداء الناس به، واعتقادهم سنيته وليس بسنة كما نص عليه اهـ.
وقال في ب: ويندب للإمام التخفيف بأن يقتصر على قصار المفصل في السور وأدنى الكمال
في التسبيحات وإن لم يرض المأمومون، ولا يزيد على ذلك إلا برضا محصورين، واعتمد
ابن حجر وغيره فيما إذا صلى منفرداً حصل معه الحضور، وإذا صلى جماعة لم يتيسر له
أن الجماعة أفضل من الانفراد حينئذ.
(مسألة: ب): يسنّ انتظار الداخل في الركوع والتشهد الأخير، وقيدوه بأن لا
يطوله تطويلاً، بحيث لو وزع على جميع أفعال الصلاة لظهر له أثر محسوس، ولا يتقيد
بثلاث تسبيحات بل ولا سبع، إذ لا يظهر لها أثر لو وزعت على أفعالها اهـ. وعبارة ش
الذي يظهر في ضابط تطويل الإمام لانتظار الداخل أنه يعتبر الزائد على ما يشرع له،
إذ المشروع له ليس تطويلاً بل من سنن الصلاة، فإذا كان إمام غير محصورين اعتبر
التطويل في الركوع مثلاً بعد الثلاث التسبيحات، فحينئذ يأخذ في ذلك القدر بغلبة
الظن، فما دام يغلب على ظنه أن التطويل لو وزع على جميع الصلاة لما ظهر أثر زائد
على ما يشرع له بغلبة الظن من اللبث في كل فعل فهو باق في محل ندب الانتظار، وما
شك فيه ألحق بما لا يظهر له أثر، إذ ندب الانتظار قد تحقق فلا يزول إلا بيقين.
[فائدة]: لو انتظره للركوع والاعتدال والسجود وهو قليل في كل واحد ولكنه
كثير باعتبار الجملة، فالظاهر أنه كثير، وقال طب: إنه قليل اهـ سم. وفي الفتح:
بحيث لو وزع أي بالنسبة لكل منتظر على حدته خلافاً للإمام اهـ.
(مسألة: ش): من أعذار
الجمعة والجماعة سوى ما في المنهاج والإرشاد كون إمامها ممن يكره الاقتداء به
لبدعة لا تكفر، أو فسق أو عدم اعتقاد وجوب بعض الأركان أو الشروط وإن أتى بها، أو
كونه يلحن لحناً لا يغير المعنى، أو موسوساً وسوسة ظاهرة، أو معروفاً بالتساهل في
الطهارة، أو أقلف، أو تأتاء، أو فأفاء، أو سريع القراءة بحيث لا تدرك معه الفاتحة،
أو يطوِّل تطويلاً يزول معه الخشوع، أو كون المسجد بني من مال خبيث، أو شك في ملك
بانيه، ومنها عمي إن لم يجد قائداً، وسمن مفرط، ونحو زلزلة وصواعق وإنشاد الضالة
وسعي في رد مغصوب يرجى حصوله ولو لغيره، وتجهيز ميت، وزفاف حليلته في مغرب وعشاء،
وكونه متهماً بأمر ما بأن كان خروجه يشق عليه كمشقة بلل الثوب بالمطر إذ ذاك ضابط
العذر، وليس كل الأعذار تذكر كما قاله الغزالي، فكم ممن يشق عليه حضور الجمعة لعذر
لا يمكنه ذكره، كخوف فتنة في نحو الإمام الفاسق، أو كونه يستحي من ذكره كذي
بواسير، أو لا يحب إفشاء المرض الذي له ليتم له الكتمان الذي يترتب عليه الثواب
الجزيل، ولهذا قال الأصحاب: يسنّ للمعذورين إخفاء الجماعة إن خفي عذرهم.
[فائدة]: صرح الكبشي في الجوهرة بأن أيام الزفاف السبع أو الثلاث عذر عن
الجمعة والجماعة، وفي التحفة أنها عذر في المغرب والعشاء فقط اهـ.
شروط القدوة
(مسألة: ك): الأئمة المبتدعة إن كانوا من
المحكوم بكفرهم لإنكارهم ما علم مجيء الرسول به ضرورة، كمنكري حدوث العالم والبعث
والحشر للأجسام، وعلم الله بالجزئيات، فلا خلاف في عدم صحة صلاتهم والاقتداء بهم،
وإن لم نكفرهم ببدعتهم كالمعتزلة والرافضة والقدرية، فإن علمنا إخلالهم بشيء من
الواجبات لم يصح الاقتداء أيضاً، نعم إن كان ذا ولاية جرى في التحفة على صحة
الاقتداء به خوفاً من الفتنة لكن في غير الجمعة، قال: ولم يوجبوا عليه موافقته في
الأفعال مع عدم النية لعسر ذلك، واعتمد (م ر) عدم اغتفار ذلك، وإن خيف الفتنة،
ومال في الإيعاب إلى عدم صحة الاقتداء فيما لو رآه مسّ فرجه.
(مسألة: ج): اقتدى بمن لا يرى وجوب بعض الأركان كالفاتحة في الأخيرتين، فإن
علم تركه لها لزمته المفارقة، وإلا لم يؤثر تحسيناً للظن في توقي الخلاف اهـ. قلت:
وفي ع ش ولا يؤثر اعتقاد الفرض المعين نفلاً هنا، لأنه إنما يضر ذلك إذا لم يكن
مذهباً للمعتقد، وإلا فيكتفي بمجرد الإتيان به اهـ بج.
(مسألة: ش): لا يصح
اقتداء من يقرأ الفاتحة، وإن أخلّ ببعض حروفها، كأن يبدل السين تاء بمن لا يعرف
الفاتحة أصلاً، بل يأتي ببدلها من قرآن أو ذكر ويجوز عكسه اهـ.
[فائدة]: لا يصح
اقتداء قارىء بأمي، وهو من يخلّ بحرف من الفاتحة فخرج التشهد، فيصح اقتداء القارىء
فيه بالأمي، وإن لم يحسنه من أصله، كما في النهاية والشوبري اهـ بجيرمي، ومثل
التشهد التكبير والسلام إذ لا إعجاز في ذلك، لكن محله إن أتى ببدله من ذكر أو
دعاء، فإن أخلّ بحرف من أحد الثلاثة فحكمه حكم الأمي اهـ باسودان.
[فائدة]: قال الشوبري: والحاصل أن الإمام والمأموم إما أن يكونا قائمين أو
قاعدين أو مضطجعين أو مستلقيين فهي أربعة أحوال، تضربها في مثلها بستة عشر، ويزاد
ما لو كان المأموم مصلوباً، فتضم للأربعة في أربعة الإمام بعشرين صورة ولا تخفى
أحكامها اهـ. وفي ق ل: والضابط في ذلك كله أن لا يتقدم المأموم بجميع ما اعتمد
عليه على جزء مما اعتمد عليه الإمام، سواء اتحدا في القيام أو غيره أم اختلفا اهـ.
وفي الإيعاب: ومن ثم اتجه أن العبرة بالركبتين حال السجود في حق كل أحد للاعتماد
عليهما حينئذ اهـ. وظاهر ما ذكر أنه لو قام الإمام من السجود ومكث المأموم فيه
فتقدمت ركبتاه المعتمد عليهما على عقب الإمام بطلت صلاته فليحرر ذلك، مع قولهم: إن
إمامة النساء تقف وسطهنّ كإمام العراة، وأن الذكر الواحد يقف يمين إمامه ويتأخر
قليلاً، قال في التحفة: بأن تتأخر أصابعه عن عقب إمامه، ولا بد في هذه الصور
الثلاث من تقدم ركبتي المأموم حالة السجود إن مكث بعد إمامه، ثم رأيت ابن قاسم
استوجه أن العبرة بالعقب مطلقاً، وإن اعتمد على غيره في نحو السجود اعتماداً
بالقوة لا بالفعل، وهو مقتضى عبارة النهاية اهـ.
(مسألة): من شروط القدوة اجتماع الإمام
والمأموم في مكان، ثم إن جمعهما مسجد، ومنه جداره ورحبته بفتح الحاء وهي ما حجر
لأجله، وإن فصل بينهما طريق ما لم يعلم حدوثها بعده، ومنارته التي بابها فيه أو في
رحبته لا حريمه، وهو ما هيِّىء لإلقاء نحو قمامته، فالشرط العلم بانتقالات الإمام،
وإمكان المرور من غير ازورار وانعطاف، بأن يولي ظهره القبلة على ما فهمه الشيخ عبد
الله باسودان من عبارة التحفة، لكن رجح العلامة علي ابن قاضي عدم ضرر الازورار
والانعطاف في المسجد مطلقاً وكما يأتي في ي، ولا يضر غلق الباب وكذا تسميره كما في
التحفة، خلافاً لـ (م ر) ولا ارتفاع موقف أحدهما، والمساجد المتلاصقة المتنافذة
كمسجد، نعم يضر التسمير هنا اتفاقاً، وإن كان أحدهما فقط بمسجد أو لم يكونا به
فتشترط خمسة شروط: العلم بانتقالات الإمام، وإمكان الذهاب إليه من غير ازورار
وانعطاف، وقرب المسافة بأن لا يزيد ما بينهما أو بين أحدهما وآخر المسجد على
ثلاثمائة ذراع، ورؤية الإمام أو بعض المقتدين وأن تكون الرؤية من محل المرور فيضر
هنا تخلل الشباك والباب المردود، ويكفي في الرؤية وقوف واحد قبالة الباب النافذ
بينهما، وحينئذ يكون هذا الواقف المذكور كالإمام بالنسبة لمن خلفه، فيضر التقدم
عليه بالإحرام والموقف، وكذا بالأفعال عند (م ر) كما لو كان امرأة لرجال خلافاً
لابن حجر فيهما، نعم لا يضر زوال الرابطة في الأثناء فيتمونها جماعة إن علموا
بانتقالات الإمام، إذ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء.
(مسألة: ي): لا يشترط في المسجد كون المنفذ أمام المأموم أو بجانبه بل تصح
القدوة وإن كان خلفه، وحينئذ لو كان الإمام في علو والمأموم في سفل أو عكسه كبئر
ومنارة وسطح في المسجد، وكان المرقى وراء المأموم بأن لا يصل إلى الإمام إلا
بازورار بأن يولي ظهره القبلة، صح الاقتداء لإطلاقهم صحة القدوة في المسجد، وإن
حالت الأبنية المتنافذة الأبواب إليه وإلى سطحه، فيتناول كون المرقى المذكور أمام
المأموم أو وراءه أو يمينه أو شماله، بل صرح في حاشيتي النهاية والمحلي بعدم
الضرر، وإن لم يصل إلى ذلك البناء إلا بازورار وانعطاف، نعم إن لم يكن بينهما منفذ
أصلاً لم تصح القدوة على المعتمد، ورجح البلقيني أن سطح المسجد ورحبته والأبنية
الداخلة فيه لا يشترط تنافذها إليه، ونقله النووي عن الأكثرين، وهو المفهوم من
عبارة الأنوار والإرشاد وأصله، وجرى عليه ابن العماد والأسنوي، وأفتى به الشيخ
زكريا، فعلم أن الخلاف إنما هو في اشتراط المنفذ، وإمكان المرور وعدمه، أما اشتراط
أن لا يكون المنفذ خلف المأموم فلم يقله أحد، ولو قاله بعضهم لم يلتفت لكلامه
لمخالفته لما سبق، وليس في عبارة ابن حجر ما يدل على الاشتراط، وقوله في التحفة
بشرط إمكان المرور، مراده أن المنفذ في أبنية المسجد شرطه أن يمكن المأموم أن يمر
المرور المعتاد الذي لا وثوب فيه ولا انحناء يبلغ به قرب الراكع فيهما، ولا التعلق
بنحو جبل، ولا الممر بالجنب لضيق عرض المنفذ، فإذا سلم المنفذ مما ذكر صح الاقتداء
وإن كان وراء المأموم.
[فائدة]: يؤخذ من اعتبارهم في السير كونه سيراً معتاداً أن السير في السفن
من المرتفع منها كالسطحة إلى المنخفض لا يمنع قدوة من بأحدهما بالآخر، لأنه يصل
إلى الإمام في ذلك بالسير المعتاد فيه، إذ العادة في كل شيء بحسبه، أما السفن
الكبار فلأنهم يفعلون فيها سلماً، وأما الصغار فالوثبة التي يحتاجها إلى التوصل من
المرتفع إلى المنحفض لطيفة لا تمنع كونه سيراً معتاداً، وكذا لا تضر حيلولة
الفرمان، إذ المعتبر في الحائل العرف وهو لا يعد حائلاً، ويؤيد ذلك أنه يفعل لسطوح
البيوت تحويط بجدار لو فرض الاستطراق منه لاحتاج ذلك إلى وثبة لطيفة ولم يعدوه
مانعاً اهـ باعشن.
[فائدة]: نوى الصلاة مأموماً إلا ركعة صح وصار منفرداً في الأخيرة لتعينها
للإخراج اهـ (م ر) . فلو عينها كالثانية صار منفرداً فيها، ولا يعود إلى الجماعة
إلا بنية جديدة، كما قاله في الإيعاب فيما لو نوى الاقتداء به في غير التسبيحات
صار منفرداً عند تسبيح أوّل ركوع، ولا يتابعه بعد ذلك إلا بنية، والمراد لفظ
التسبيحات ولو احتمالاً، كأن لم يسمعه يسبح حملاً على الإتيان به اهـ بجيرمي. وقال
أيضاً: لو انتظر الإمام من غير نية القدوة لا لأجل المتابعة له بل لغيرها كدفع لوم
الناس عليه لاتهامه بالرغبة عن الجماعة لم يضر وإن كثر اهـ. وقال أيضاً: قوله
سيصير إماماً يقتضي أن الفرض فيمن يرجو جماعة يحرمون خلفه وإلا بطلت، وقال
الزركشي: وأقره في الإيعاب: تنبغي نية الإمامة وإن لم يكن خلفه أحد إذا وثق
بالجماعة، قال سم: ولا تبطل حينئذ لو لم يأت خلفه أحد.
(مسألة): إذا لم
ينو المأموم الاقتداء بالإمام عمداً أو سهواً في غير الجمعة انعقدت صلاته فرادى،
كما لو شك هل نوى أم لا على المعتمد، ثم إن تابع قصداً وطال انتظاره عرفاً بطلت،
ولا فرق بين أول الصلاة وآخرها، فلو نوى القدوة به في الأثناء ولم تسبق منه متابعة
مبطلة جاز مع الكراهة.
(مسألة): رأى جماعة
يصلون فظن أنهم مقتدون بإمام ولم يدر أيهم هو فصلى معم، ثم تبين أنهم منفردون وجبت
الإعادة، قاله (م ر) نعم لو قال حال التباس الإمام بغيره نويت القدوة بالإمام منهم
صح لأن مقصود الجماعة لا يختلف، قاله ابن حجر و (م ر) وهذا كما لو رأى اثنين
يصليان فظن أحدهما الإمام فاقتدى به، قاله في الفتح، أي إن لم يبن المقتدى به
مأموماً.
(مسألة ج): سلم الإمام فقام مسبوق فاقتدى به آخر، أو مسبوقون فاقتدى بعضهم
ببعض صح في غير الجمعة مع الكراهة المفوّتة لفضيلة الجماعة كما في النهاية، ووجه
الكراهة أن المسبوقين قد حصلوا الجماعة مع الإمام، فربط صلاة بعضهم ببعض فيه إبطال
لتلك الفضيلة فكره، والفرق بين الاقتداء بالمسبوق المذكور حيث كره ولم يكره خلف
المستخلف عن الإمام، أن صلاة الإمام قد فرغت في الأول، وأما الثاني فصلاته لم تتم
فقام المستخلف مقامه اهـ.
قلت: وهذا معتمد (م ر) كما نقله عن النهاية،
واعتمد ابن حجر صحة الجمعة خلف المسبوق إن درك ركعة وعدم كراهة غيرها خلفه، وخص
عدم صحة الجمعة وكراهة غيرها في اقتداء المسبوقين بعضهم ببعض، كما نقله العلامة
علوي بن أحمد الحداد عن والده، وع ش، والخياري، وبلعفيف، وعبد الرحمن الأهدل من أن
عبارة التحفة ظاهرة في الثاني لا فيهما معاً، خلافاً لمن وهم فيه، ونقله أيضاً عبد
الله باسودان عن إبراهيم الكردي ومحمد صالح الريس واعتمده فتأمل.
[فائدة]: تكره مقارنة الإمام في أفعال الصلاة، وكذا أقوالها على المعتمد،
وتفوت بها فضيلة الجماعة فيما قارن فيه ولو في السرية، ما لم يعلم من إمامه أنه إن
تأخر إلى فراغه لم يدرك الركوع، قاله ع ش، وتوقف الرشيدي في فوات الفضيلة
بالمقارنة في الأقوال، ومحل كراهة المقارنة إذا قصدها، لا إن وقع ذلك اتفاقاً أو
جهل الكراهة كما قاله الشوبري اهـ بجيرمي.
(مسألة: ب): أحرم والإمام في التشهد فسلم عقب إحرامه لم يجز له القعود
لانقضاء المتابعة، فإن لم يسلم لزمه، فلو استمر قائماً بطلت إن تخلف بقدر جلسة
الاستراحة اهـ
قلت: وقوله جلسة الاستراحة يعني أكملها وهو
قدر أقل التشهد، ودعاء الجلوس بين السجدتين عند ابن حجر، وأقلها وهو قدر سبحان
الله عند (م ر) وهذا ككل ما قيل فيه يلزم المأموم الانتقال عنه فوراً، كأن سلم
الإمام والمأموم في غير موضع تشهده وغير ذلك، فهذا ضابط الفورية عندهما، كما ذكراه
في التحفة والنهاية.
[فائدة]: أحرم المسبوق والإمام في السجدة الأولى فسجدها معه ثم خرج الإمام
من الصلاة، قال ابن كج وابن أبي هريرة: يأتي بالثانية لأنه في حكم من لزمه
السجدتان، ونقل أبو الطيب عن عامة الأصحاب أنه لا يسجد، لأنه بحدث الإمام صار
منفرداً، فهي زيادة محضة لغير المتابعة فكانت مبطلة اهـ ح ل. ولو رأى مصلياً
جالساً فظن أنه في التشهد فأحرم وجلس معه، ثم بان أن جلوسه بدل عن القيام لعجز قام
وجوباً وكان له حكم المسبوق، خلافاً للسمهودي والجوجري وابن أبي شريف في قولهم إنه
كالموافق اهـ مجموعة بازرعة.
(مسألة:ش): أدرك من قيام الإمام أقل من الفاتحة كان مسبوقاً، فشرط إدراكه
الركعة أن يدرك الإمام في الركوع ويطمئن يقيناً قبل وصول الإمام إلى حد لا يسمى
ركوعاً.
(مسألة): لو شك
المأموم هل أدرك قدر الفاتحة فيكون موافقاً أم لا فيكون مسبوقاً قال (م ر): له حكم
الموافق وأبو مخرمة حكم المسبوق وابن حجر يحتاط فيتمّ الفاتحة وتفوته الركعة إن لم يدرك ركوعها كمسبوق اشتغل بسنة اهـ.
(مسألة): شك في
الفاتحة قبل ركوعه ولو بعد ركوع إمامه أو تيقن تركها، وجب التخلف لقراءتها، ويعذر
إلى ثلاثة أركان طويلة وهي هنا الركوع والسجودان، ولا يحسب منها الاعتدال والجلوس
بين السجدتين لأنهما ليسا مقصودين لذاتهما بل للفصل، فإن كمل الإمام ما ذكر وهو في
فاتحته نوى مفارقته أو وافقه فيما هو فيه من القيام أو القعود، وأتى بركعة بعد
سلامه، وإذا وافقه بنى على ما قرأه، فإن لم يفعل بطلت صلاته بركوع الإمام للثانية،
وإن تيقن أو شك في الفاتحة بعد ركوعهما أتى بركعة بعد سلام إمامه وسجد للسهو في
صورة الشك لاحتمال زيادتها، ككل ما أتى به مع تجويز كونه زائداً، ولو اشتغل
الموافق بسنة كدعاء الافتتاح فركع إمامه وهو في فاتحته عذر كما مر بخلاف مسبوق
اشتغل بسنة فلا يعذر خلافاً للفتح والإمداد، بل يلزمه أن يقرأ بقدر ما اشتغل به،
ثم إن أدرك الركوع أدرك الركعة وإلا فاتته كما قاله في النهاية والمغني وابن حجر
في شرح المختصر تبعاً للشيخ زكريا، وعن الكثير من العلماء أنه يركع معه وتسقط عنه
القراءة، كمن لم يشتغل بسنة، ولا يسع العوام إلا هذا بل كلام التحفة كما قاله
الكردي، كالمتردد بين هذا وبين عذره إلى ثلاثة أركان طويلة.
(مسألة): المواضع التي يعذر فيها المأموم إلى ثلاثة أركان طويلة تسعة، نظم
بعضهم ثمانية منها فقال:
إن شئت ضبطاً للذي شرعاً عذر
>< حتى له ثلاثة أركان اغتفر
من في قراءة لعجزه بطي ><
أو شك هل قرا ومن لها نسي
وصف موافقاً لسنة عدل ><
ومن لسكتة انتظاره حصل
من نام في تشهد أو اختلط
>< عليه تكبير الإمام ما انضبط
كذا الذي يكمل التشهدا ><
بعد إمام قام عنه قاصدا
والخلف في أواخر المسائل
>< محقق فلا تكن بذاهل
يعني أن الخمس الأول وهي: بطيء القراءة لعجز خلقي لا لوسوسة إلا إن صارت
كالخلقية كما بحثه في التحفة، ومن شك في الفاتحة قبل ركوعه وبعد ركوع إمامه أو
عكسه، ومن نسي الفاتحة ثم تذكرها كذلك، ومن اشتغل بسنة كدعاء الافتتاح، ومن انتظر
سكتة الإمام ليقرأ الفاتحة فلم يسكت، يعذر فيها المأموم الموافق المتخلف لإتمام
الفاتحة إلى ثلاثة أركان طويلة باتفاق ابن حجر و (م ر) وغيرهما، وأما الثلاث
الأخيرة وهي من نام في تشهده الأوّل متمكناً، أو اختلط عليه تكبيرة الإمام كأعمى
أو في ظلمة، بأن قام إمامه من السجود فظنه جلس للتشهد ولم يبن له الحال إلا
والإمام راكع أو قريب أن يركع، أو جلس يكمل التشهد الأول بعد أن قام إمامه منه، والتاسعة
التي لم تذكر في النظم من نسي القدوة في السجود ولم يتذكر إلا وإمامه راكع، فهذه
الأربع رجح (م ر) أنه يعذر فيها إيضاً كالتي قبلها، وقال ابن حجر: حكمه في غير
المشتمل بتكميل التشهد حكم المسبوق، فيركع معه وتسقط عنه الفاتحة، وأما المشتغل
بالتكميل فلا يعذر، بل هو كمن تخلف بلا عذر، تبطل صلاته بتخلفه بركنين فعليين.
(مسألة): تدرك الركعة بإدراك ركوعها مع الإمام، بشرط أن يكبر تكبيرتين أو
واحدة، وينوي بها الإحرام فقط ويتمها، وهو إلى القيام أقرب، ويطمئن معه يقيناً،
وأن لا يكون الإمام محدثاً، ولا
في ركعة زائدة، ولا الثاني من صلاة الكسوف، نعم صرح (م ر) بإدراك الركعة بالركوع
الثاني من الركعة الأخيرة منها لغير مصليها، فلو شك في الطمأنينة قبل ارتفاع
الإمام بل أو ظنها، وإن نظر فيه الزركشي لم تحسب ركعته في الأظهر والثاني تحسب لأن
الأصل بقاؤه فيه، قاله في النهاية، بل نقل المحلي عن الكفاية أن أكثر الأئمة
قائلون بعدم اشتراط طمأنينة المأموم قبل رفع الإمام من الركوع وفي ذلك فسحة.
[فائدة]: قال في كشف
النقاب: والحاصل أن قطع القدوة تعتريه الأحكام الخمسة واجباً، كأن رأى إمامه
متلبساً بمبطل وسنة لترك الإمام سنة مقصودة، ومباحاً كأن طوّل الإمام، ومكروهاً
مفوتاً لفضيلة الجماعة إن كان لغير عذر، وحراماً إن توقف الشعار عليه أو وجبت
الجماعة كالجمعة اهـ.
صلاة المسافر
[فائدة]: الرخص المتعلقة بالسفر إحدى عشر: أربع منها مختصة بالطويل فقط
وهي: القصر والجمع والفطر ومسح الخف ثلاثاً، والبقية تعمهما وهي: أكل الميتة
والتنفل على الراحلة وإسقاط الصلاة بالتيمم وترك الجمعة وعدم القضاء لضرّات زوجة
أخذت بقرعة، والسفر بالوديعة والعارية لعذر، اهـ تسهيل المقاصد لعلوان الحموي.
(مسألة: ي): ضابط مبيح
الترخص في السفر ما ذكره السيوطي بقوله: فعل الرخصة متى توقف على وجود شيء نظر في
ذلك الشيء، فإن كان تعاطيه في نفسه حراماً امتنع معه الرخصة وإلا فلا اهـ. أي
فالقصر والجمع رخصة متوقفة على السفر، والسفر مشي في الأرض، فمتى حرم المشي كان
سفر معصية فتمتنع جميع الرخص، وتحريم المشي إما لتضييع حق الغير بسببه، كإباق
المملوك، ونشوز الزوجة، وسفر الفرع، والمدين بلا إذن أصل، ودائن حيث وجب
استئذانهما، وإما لتعديه بالمشي على نفسه أو غيره، كإتعاب النفس بلا غرض، وركوب
البحر مع خشية الهلاك، وسفر المرأة وحدها أو على دابة أو سفينة مغصوبتين، أو مع
إتعاب الدابة، أو بمال الغير بلا إذن، وإما لقصد صاحبه محرّماً كنهب وقطع طريق
وقتل بلا حق وبيع حرّ ومسكر ومخدّر وحرير لاستعمال محرم ونحوها، هذا إن كان الباعث
قصد المحرم المذكور فقط أو مع المباح، لكن المباح تبعاً بحيث لو تعذر المحرم لم
يسافر، فعلم أن من سافر بنحو الأفيون قاصداً بيعه مثلاً لمن يظن استعماله في
محرّم، أو بيعه لذلك إن تجرد قصده بأن لم يكن له غرض سواه أو كان، لكن لو عدم قصد
الأفيون لم يسافر ولم يترخص، وحكم صاحب السفينة في ذلك حكم المسافر به في الحرمة
والترخص وعدمهما.
[فائدة]: مسافة القصر مسيرة يومين معتدلين أو يوم وليلة، وقدر ذلك ثلاثمائة
وستون درجة، وإذا قسمت الدرج المذكورة على الفراسخ الستة عشر خرج لكل فرسخ اثنتان
وعشرون درجة ونصف، والفرسخ ثلاثة أميال اهـ ع ش وقدر الساعة الفلكية خمس عشرة
درجة، فحينئذ يكون الفرسخ مشي ساعة ونصف، والميل نصف ساعة.
(مسألة): كم مسافة ما بين تريم حرسها الله تعالى، وقبر نبي الله هود عليه
الصلاة والسلام؟ فإنا نسمع من بعض مشايخنا أنها مرحلتان، ولم يقض السلف في ذلك
احتياطاً، والمشهور المتواتر عند أهل الجهة الحضرمية أن المرحلتين من سقاية مشيخ
قرب حيد قاسم إلى هود، وهو أبعد مسافة بنحو ثلاثة أميال، والعمل عليه سابقاً
ولاحقاً، فمن كان من ذلك المحل أو مصعداً عنه ترخص، ومن انحدر عنه لم يترخص،
فالجواب أنا تحققنا ذلك بالذراع سابقاً، فإنا أجرنا ثلاثة من ثقات المشايخ
وأذكيائهم فمسحوها من خارج عمران تريم إلى القبر الكريم سالكين طريق يبحر، فكانت
تلك المسافة تفصيلاً من تريم إلى مسجد إبراهيم بن السقاف بذراع اليد: 3705، وإلى
حصن بلغيث: 7475، وإلى الحجيل: 13175، وإلى سقاية فرط البيع: 15625، وإلى خشم
البضيع وغرفة الحبيب تحقيقاً وكذا إلى بلد عينات تقريباً: 35500، وإلى بلد قسم:
43925، وإلى نخر الخون: 59075، وإلى السوم: 81900، وإلى عصم: 97000، وإلى فغمة:
117075، وإلى يبحر: 121450، وإلى القبة والقبر الكريم وهو مجموع جميع تلك المسافة:
152075، ومعلوم أن المرحلتين مجموعهما بذراع اليد 28800، فإذا أسقطت الأوّل من
الثاني بقي منه 135925 عن اثنين وعشرين ميلاً ونحو ثلثي ميل، فحينئذ تكون المسافة
المذكورة مرحلة ونحو ميل وثلث، وفي ذلك بون كبير ومخالفة لما تقدم عن السلف، وهذا
على ما اعتمده الإمام النووي من أن الميل ستة آلاف ذراع، أما على مقابله الذي صححه
ابن عبد البر وغيره كما يأتي من أن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة فمجموع الأميال
1680001 وحينئذ يكون التفاوت بين هذا ومسافة ما بين تريم وقبر هود: 15925 وهو قدر
ما بين تريم وسقاية مشيخ المتقدم ذكرها تقريباً، وبذلك ظهر أن ما فعله السلف من
العلماء والأولياء، وأمروا به من الترخص بنحو القصر والجمع لزوّار هذا النبي
الكريم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والتسليم من تلك السقاية وأعلى كما مر هو
المعتمد، وهم المقلدون فيه، وكلامهم هو الحجة ولا يعترض عليهم، وإن خالفهم غيرهم،
قال العلامة علوي بن أحمد الحداد نقلاً عن علامة الدنيا الحبيب عبد الرحمن بن عبد
الله بلفقيه الذي بلغ رتبة الاجتهاد عن أبيه ومشايخه في المسائل الخلافيات: لا
سيما فيما كثر فيه الاختلاف أن تعويلهم وعملهم على ما استمر عليه فعل السلف الصالح
العلويين من العمل، وإن كان القول فيه مرجوحاً، إذ هم أهل احتياط وورع وتقوى وتحفظ
في الدين وفي العلم في المرتبة العليا اهـ، وها أنا أنقل لك اختلافهم في الأميال،
قال في التحفة: والميل ستة آلاف ذراع، كذا قالوه هنا، واعترض بأن الذي صححه ابن
عبد البر وهو ثلاثة آلاف وخمسمائة هو الموافق لما ذكروه في تحديد ما بين مكة ومنى،
وهي ومزدلفة، وهي وعرفة ومكة والتنعيم والمدينة وقباء واحد بالأميال اهـ. ويردّ
بأن الظاهر أنهم في تلك المسافات قلدوا المحددين لها من غير اختبارها لبعدها عن
ديارهم اهـ. وعبارة القلائد وقدر النووي وغيره الميل بستة آلاف ذراع، قال الشريف
السمهودي في تاريخ المدينة وهو بعيد جداً: بل الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة، كما
صححه ابن عبد البر، وهو الموافق لما ذكروه من المسافات، يعني المارّة في عبارة
التحفة في تحديدهم لها بالأميال، وقيل: هو ألف ذراع باليد وهو ذراع إلا ثمن
بالحديد اهـ. أقول: وقد جرب عندنا بالذرع فنقص ما ذكروا من كونه مرحلتين عما ذكره
النووي بكثير، فلعل كلام السمهودي
أوفق لذلك انتهت.
(مسألة: ي): لا يجوز الترخص للمسافر، إلا بعد
مجاوزة السور والخندق عند فقده، أو التحويط ولو بتراب إن اختص كل بمحل لا إن جمع
قرى، فإن لم يكن شيء من ذلك بشرطه فبمجاوزة عمران البلد وهو آخر الدور، وإن اتصلت
به مقابر أو ملعب الصبيان أو خراب ذهبت أصوله، واعلم أن سفر السفينة من الندى الذي
بين بيوت البلد مبدؤه خروجها من العمران، وحينئذ يترخص من فيها بمجرد خروجهم، هذا
إن لم ينتظروا أحداً بالبلد، أو قصدوا انتظاره بمرحلتين، لا إن خرجوا قاصدين
انتظاره بمحل قريب أو السير قليلاً قليلاً حتى يأتي المنتظر، فلا يرخص لهم في مشيهم
ووقوفهم إلى مجيئه، كما أنهم بعد وصولهم المرحلتين فيما تقدم لا يترخص أيضاً من
نيته عدم السفر إذا لم يجىء المتخلف، أو قصد انتظاره أربعة إيام صحاح، أو علم عدم
مجيئه قبلها، فإن توقع وصوله كل وقت ونيته السفر إن لم يأت ترخص إلى ثمانية عشر
يوماً.
[فائدة]: قولهم وأوّل السفر مجاوزة السور الخ، قال ابن حجر: سواء سافر
برًّا أو بحراً، واعتمد (م ر) فيما إذا سافر في البحر المتصل ساحله بالبلد وقد
سافر في عرضه، أنه لا بد من جري السفينة أو الزورق إليها آخر مرة وإن لم يصل إليها
اهـ جمل.
(مسألة: ش): ونحوه (ب): متى انقطع سفر المسافر بأن أقام ببلد أربعة أيام
صحاح بلا توقع سفر، أو ثمانية عشر من التوقع، أو نوى إقامة الأربعة حال دخوله، أو
اشتغل بنحو بيع يغلب على ظنه أنه يحتاجها انقطع ترخصه بالقصر والجمع والفطر وغير
ذلك، فتلزمه الجمعة حينئذ لكن لا يعد من الأربعين.
(مسألة: ب ش): أقام الحاج بمكة قبل الوقوف دون
أربعة أيام صحاح لم ينقطع سفره وحينئذ فله الترخّص في خروجه بعرفات، وإن كان نيته
الإقامة بمكة بعد الحج، إذ لا ينقطع سفره بذلك حتى يقيم الإقامة المؤثرة على
المعتمد، زاد ش: وهذا كما لو خرج لعرفات ونيته الرحيل بعد الحج فيكون هذا ابتداء
سفره، فيترخص من حينئذ أيضاً، فالحاصل في المسافر الخارج إلى عرفات أنه إن انقطع
سفره قبل خروجه وكان نيته الإقامة بعد الحج لم يترخص وإلا ترخص بسائر الرخص.
[فائدة]: الإتمام أفضل من القصر إلا إن قصد ثلاث مراحل وإن لم يبلغها
خروجاً من خلاف أبي حنيفة القائل بوجوب القصر، نعم حقق الكردي أن الثلاث المراحل
عنده بقدر مرحلتين عندنا، وحينئذ فالقصر أفضل مطلقاً اهـ باعشن. وقال بج: وحيث ندب
القصر فهو أفضل ولو كان مقيماً ببلد إقامة غير مؤثرة لأنه في حكم المسافر اهـ ومحل أفضلية القصر ما لم تفت بسببه الجماعة
بأن لم توجد إلا خلف متمّ، وإلا فمراعاتها أولى إن لم يبلغ سفره ثلاث مراحل، وكذا
إن بلغها خلافاً لابن مخرمة اهـ.
(مسألة: ي): ينقطع
السفر بنية الرجوع إلى وطنه ولو من مرحلتين على المعتمد كما في التحفة والنهاية،
ورجح في الفتح وشرح الروض و (م ر) في شرح البهجة عدم انقطاعه إلا إن كان من قرب،
كما لا يضر لغير الوطن مطلقاً اتفاقاً، بل قال البلقيني والعراقيون لا مطلقاً ولو
لوطنه، وهذا في نية الرجوع قبل وصول المقصد، أما بعده فيترخص ما لم ينو إقامة تقطع
السفر.
[فائدة]: ضابط انقطاع السفر بعد استجماع شروطه بأحد
خمسة أشياء، بوصوله إلى مبدأ سفره من سور أو غيره، وإن لم يدخله إن رجع مستقلاً
كما في التحفة، وأطلقه في غيرها من مسافة القصر لوطنه مطلقاً، أو لغيره وقصد إقامة
مطلقة أو أربعة أيام صحاح، وبمجرد شروعه في الرجوع إلى ما ذكر من دونها بالشرط
المتقدم في الثانية، وبنية إقامة الأربعة بموضع غير الذي سافر منه قبل وصوله
مستقلاً، وكذا عنده أو بعده وهو ماكث، وبإقامة أربعة أيام كوامل أو ثمانية عشر
صحاحاً إن توقع قضاء وطره قبل مضي أربعة أيام ثم توقع ذلك قبلها، وهكذا إلى أن مضت
المدة المذكورة، فتلخص أن انقطاعه
بواحدة من الخمسة المذكورة، وفي كل واحدة مسألتان، وكل ثانية تزيد على أولاها بشرط
اهـ كردي.
[فائدة]: جوز المزني
كأبي حنيفة القصر ولو للعاصي بسفره، إذ هو عزيمة عندهما وفيه فسحة عظيمة، إذ يندر
غاية الندور مسافر غير عاص، كما لو كان عليه دين حالّ وهو مليء إلا بظن رضا دائنه
ومنعا الجمع مطلقاً إلا في النسك بعرفة ومزدلفة، ومذهبنا كمالك وأحمد منعه للعاصي،
فصار الجمع للعاصي ممتنعاً اتفاقاً فليتنبه له اهـ باعشن.
(مسألة: ج): شرط
المقصر أن لا يقتدي بمتم، فإن اقتدى به صح ولزمه الإتمام، وإن نوى القصر وعلم أن
إمامه متمّ كما في الإيعاب خلافاً لأحمد الرملي، نعم الأحوط أن لا ينوي حينئذ
خروجاً من الخلاف، وإذا اقتدى بمتمّ لزمه الإتمام في تلك الصلاة لا فيما بعدها،
وإن جمعهما تقديماً أو تأخيراً، ويجوز اقتداء المتم بالقاصر إجماعاً، ولا يلزم
الإمام الإتمام والفرق جليّ.
(مسألة): صلى مقصورة أداء خلف من يصلي مقصورة قضاء كظهر خلف عشاء قصر
بخلافه خلف تامة ولو في نفسها كصبح أو سنتها فيلزمه الإتمام وإن كانا مسافرين.
[فائدة]: شروط جمع
التقديم سبعة: الأربعة المشهورة من البداءة بالأولى ونية الجمع فيها، والموالاة،
ودوام السفر إلى عقد الثانية، ويزاد وقت الأولى، فلو خرج أثناء الثانية أو شك في
خروجه بطلت لبطلان الجمع، قاله المدابغي و بج . ورده ابن حجر و سم والعلم بجوازه
كالقصر، وظن صحة الأولى لتخرج صلاة المتحيرة، وفاقد الطهورين، وكل من يلزمه
القضاء، فليس لهم جمع التقديم، كما في الفتح والإمداد والخطيب والأسنوي، وقال في
التحفة: وفيه نظر ظاهر، لأن الأولى مع ذلك صحيحة، وفي النهاية وفيه وقفة إذ الشرط
ظن صحة الأولى وهو موجود هنا، واقتصر في شرحي المنهج و (م ر) في شرحي البهجة
والزبد على المتحيرة فقط اهـ كردي وباعشن.
[فائدة]: صلى الظهر ثم أعادها مع جماعة جاز تقديم العصر معها حينئذ بشرطه،
قاله عبد الله بن أحمد مخرمة وخالفه ابن حجر فرجح عدم الجواز.
[فائدة]: لنا قول
بجواز الجمع في السفر القصير اختاره البندنيجي، وظاهر الحديث جوازه ولو في حضر كما
في شرح مسلم، وحكى الخطابي عن أبي إسحاق جوازه في الحضر للحاجة، وإن لم يكن خوف
ولا مطر ولا مرض، وبه قال ابن المنذر اهـ قلائد. وعن الإمام مالك رواية أن وقت
الظهر يمتد إلى غروب الشمس، وقال أبو حنيفة: يبقى إلى أن يصير الظل مثلين ثم يدخل
العصر، ذكره الردّاد، وكان سيدنا القطب عبد الله الحداد يأمر بعض بناته عند
اشتغالها بنحو مجلس النساء بنية تأخير الظهر إلى وقت العصر.
[تنبيه]: قد اشترطوا الجماعة في الجمع بالمطر، والمتجه اختصاصها بجزء من
أول الثانية، وإن انفرد في باقيها ولو قبل تمام ركعة لا في الأولى إذ هي واقعة في
وقتها على كل حال، ولا بد من نية الإمام الإمامة، وإلا لم تنعقد صلاته كمأموم علم
به، وأن لا يتباطأ المأمومون عن الإمام بحيث لم يدركوا معه ما يسع الفاتحة قبل
ركوعه كما نقله سم عن (م ر) قاله باجوري.
صلاة المريض
[فائدة]: جوز القاضي حسين والخطابي الجمع بالمرض والوحل، واستحسنه الروياني
وقواه في المجموع، واختاره فيه وفي غيره في المرض تبعاً للمتولي، ورجحه أبو شكيل،
وهو مذهب مالك وأحمد وقول للشافعي، ونقل في المجموع عن جمع جوازه بهما وبالخوف
والريح والظلمة اهـ قلائد. وفي الأسنى المختار جواز الجمع بالمرض، وعليه يراعى
الأرفق به، فمن يحم وقت الثانية قدمها بشروط جمع التقديم في المطر وإلا أخرها اهـ.
وقوله: بشروط جمع المطر ظاهر إطلاقه يقتضي اشتراط الجماعة كالجمع بالمطر، ولم أر
من نبه على ذلك فتأمل اهـ جمل. ويشترط وجود المرض أول الأولى وآخرها، وأول الثانية
لا فيما عدا ذلك اهـ إمداد.
[فائدة]: يجب على المريض أن يؤدي الصلوات الخمس مع كمال شروطها وأركانها
واجتناب مبطلاتها حسب قدرته وإمكانه، وله الجلوس ثم الاضطجاع ثم الاستلقاء
والإيماء إذا وجد ما تبيحه على ما قرر في المذهب، فإن كثر ضرره واشتد مرضه وخشي
ترك الصلاة رأساً فلا بأس بتقليد أبي حنيفة ومالك، وإن فقدت بعض الشروط عندنا.
وحاصل ما ذكره الشيخ محمد بن خاتم في رسالته في صلاة المريض أن مذهب أبي حنيفة أن
المريض إذا عجز عن الإيماء برأسه جاز له ترك الصلاة، فإن شفي بعد مضي يوم فلا قضاء
عليه، وإذا عجز عن الشروط بنفسه وقدر عليها بغيره فظاهر المذهب وهو قول الصاحبين لزوم
ذلك، إلا إن لحقته مشقة بفعل الغير، أو كانت النجاسة تخرج منه دائماً، وقال أبو
حنيفة: لا يفترض عليه مطلقاً، لأن المكلف عنده لا يعد قادراً بقدرة غيره، وعليه لو
تيمم العاجز عن الوضوء بنفسه، أو صلى بنجاسة أو إلى غير القبلة مع وجود من يستعين
به ولم يأمره صحت، وأما مالك فمقتضى مذهبه وجوب الإيماء بالطرف أو بإجراء الأركان
على القلب، والمعتمد من مذهبه أن طهارة الخبث من الثوب والبدن والمكان سنة، فيعيد
استحباباً من صلى عالماً قادراً على إزالتها، ومقابلة الوجوب مع العلم والقدرة،
وإلا فمستحب ما دام الوقت فقط، وأما طهارة الحدث فإن عجز عن استعمال الماء لخوف
حدوث مرض أو زيادته أو تأخير برء جاز التيمم ولا قضاء عليه، وكذا لو عدم من يناوله
الماء ولو بأجرة، وإن عجز عن الماء والصعيد لعدمهما أو عدم القدرة على استعمالهما
بنفسه وغيره سقطت عنه الصلاة ولا قضاء اهـ. واعلم أن الله مطلع على من ترخص
لضرورة، ومن هو متهاون بأمر ربه، حتى قيل: ينبغي للإنسان أن لا يأتي الرخصة حتى
يغلب على ظنه أن الله تعالى يحب منه أن يأتيها لما يعلم ما لديه من العجز، والله
يعلم المعذور من المغرور، اهـ من خاتمة الرسالة العلوية للشريف عبد الله بن حسين
بن طاهر علوي.
صلاة الجمعة
(مسألة: ج): إقامة الجمعة فرض عين على كل مسلم مكلف إلا أربعة كما في
الحديث، فحينئذ إذا كان في قرية أربعون كاملون وجبت عليهم إقامتها ببلدهم، وحرم
عليهم تعطيلها والسعي لبلد أخرى إلا لعذر شرعي، ويحرم على بعضهم السفر إذا تعطلت
بغيبته إلا لحاجة، ويظهر ضبطها بالغرض الصحيح، ويجب على كل من له قدرة القيام
عليهم بذلك ونهيهم عن تعطيلها وإلا كان شريكاً لهم اهـ. قلت: وفي حاشية الشرقاوي:
إذا سافر يوم الجمعة مع إمكانها في طريقه لم يأثم، وإن لزم تعطيلها على أهلها إذ
لا يلزم الشخص تحصيل الجمعة لغيره، وهل يلزمه فعلها حينئذ أم لا، لأنه صار مسافراً
وهو لا تلزمه، ذكر في الأنوار ما يفيد اللزوم، نعم إن شرع في السفر قصد تركها فلا
إشكال في حرمته اهـ.
(مسألة): يجوز لمن لا تلزمه الجمعة كعبد ومسافر وامرأة أن يصلي الجمعة
بدلاً عن الظهر وتجزئه، بل هي أفضل لأنها فرض أهل الكمال، ولا تجوز إعادتها ظهراً
بعد حيث كملت شروطها، كما مر عن فتاوى ابن حجر، خلافاً لش، وكما يأتي عن ي ج أيضاً.
(مسألة: ب): سافر
سفراً قصيراً فدخل بلداً ولم ينو بها الإقامة لم تلزمه الجمعة فيها إذ حكم السفر
باق عليه.
[فائدة]: في الإحياء حديث: "من سافر ليلة الجمعة دعا عليه
ملكاه". والظاهر أن المراد بالسفر الذي تفوت به الجمعة اهـ ح ل. وقوله: دعا
عليه الخ أي قالا له: لا نجاه الله من سفره ولا أعانه على قضاء حوائجه اهـ شوبري.
[فائدة]: سئل ابن حجر:
هل تلزم المحبوسين إقامة الجمعة في الحبس؟ فأجاب: بأن القياس لزومها إذا وجدت شروط
الوجوب والصحة ولم يخش فتنة، خلافاً للسبكي ومن تبعه، ولا يبعد أن يجوّز عذر الحبس
تعددها فيفعلونها متى شاءوا ولا حرج عليهم اهـ. لكنه رجح في التحفة كلام السبكي
قال: ومثلهم المرضى والعمي للعذر المسقط للجمعة، ونقل بج عن (م ر) جواز التعدد،
ونقله في الإقناع عن الأسنوي.
(مسألة): وقع حرب واختلاف بين جندين في بلدة وتحزب كل، وخاف بعض الرعية من
حضور الجمعة في جامعها الأصلي، فأحدثوا جمعة في محلهم غير الجمعة الأصلية، حرم
عليهم إقامتها والحال ما ذكر فضلاً عن ندبها أو أنها تلزمهم، إذ لم يقل أحد من
أئمة المذهب إن المعذورين بعذر من أعذار الجمعة والجماعة إذا اجتمع منهم أربعون في
جانب من البلدة الواحدة يلزمهم أن يقيموا جمعة، بل ولا من أئمة المذاهب الثلاثة،
إلا ما نقل عن الإمام أحمد من جواز تعددها
للحاجة، وإنما الخلاف فيما إذا كان المعذورون بمحل يجوز فيه تعدد الجمعة، كما يعلم
من عبارة التحفة وغيرها. والحاصل من كلام الأئمة أن أسباب جواز تعددها ثلاثة: ضيق
محل الصلاة بحيث لا يسع المجتمعين لها غالباً، والقتال بين الفئتين بشرطه، وبعد
أطراف البلد بأن كان بمحل لا يسمع منه النداء، أو بمحل لو خرج منه بعد الفجر لم
يدركها، إذ لا يلزمه السعي إليها إلا بعد الفجر اهـ. وخالفه ي فقال: يجوز بل يجب
تعدد الجمعة حينئذ للخوف المذكور، لأن لفظ التقاتل نص فيه بخصوصه، ولأن الخوف داخل
تحت قولهم: إلا لعسر الاجتماع، فالعسر عام لكل عسر نشأ عن المحل أو خارجه؟ وانحصار
التعدد في الثلاث الصور التي استدل بها المجيب المتقدم ليس حقيقة، إذ لم يحصر
العذر في التحفة والنهاية وغيرهما بل ضبطوه بالمشقة، وهذا الحصر إما من الحصر
المجازي لا الحقيقي إذ هو الأكثر في كلامهم، أو من باب حصر الأمثلة، فالضيق لكل
عسر نشأ عن المحل والبعد، ولكل عسر نشأ عن الطريق والتقاتل ولغيرهما، كالخوف على
النفس والمال والحر الشديد والعداوة ونحوها من كل ما فيه مشقة.
(مسألة:): لا يجوز دخول الجمعة إلا مع تيقن بقاء الوقت، فلو شك في ضيقه عن
واجب خطبتين وركعتين صلوا ظهراً.
(مسألة: ك): صرح في التحفة والنهاية بأنه لو أمر الإمام بالمبادرة بالجمعة
أو تأخيرها فالقياس وجوب امتثال أمره، والمراد بالمبادرة أمره بفعلها قبل الزوال
كما هو مذهب أحمد، وبعدمها أمره بإخراج شيء منها عن وقت الظهر كما هو مذهب مالك.
(مسألة: ي): المراد
بالخطة محل معدود من البلد أو القرية بأن لم يجز للمسافر القصر فيه، ولو تعددت
مواضع وتميز كل باسم فلكل حكمه إن مد كل قرية مستقلة عرفاً، بحيث لو خرج المسافر
من أحدهما إلى جهة أخرى عد مسافراً عرفاً بأن فصل بينهما فاصل ولو بنحو ذراعين إن
عده العرف فاصلاً، كالمقابر وملعب الصبيان
ومطرح الرماد والمناخ والنادي ومورد الماء والمزارع، أو لم يفصل ما ذكر، لكن لم
يتصل دورها الاتصال الغالب في دور البلدان، ولهذا لو تفرقت الأبنية بحيث لم تعد
مجتمعة في العرف لم تصح إقامة الجمعة بها، ولو فصلت بيوت الكفار بين بيوت المسلمين
في بلدة واحدة لم تعد بلدين، كما لو كانت المقابر وما بعدها بين الدور، أو كان
الفصل يسيراً ولو بنهر إن عد العرف ما على جانبيه قرية واحدة، لكونها مع فصلها
تسمى بيوتاً مجتمعة اجتماع الدور في غالب القرى، كنهر دجلة الجاري بين شقي بغداد،
لا كالنيل الفاصل بين الروضة ومصر العتيقة، ويحمل قولهم إن النهر لا يعد حائلا وإن
كبر على عرض لم يفحش كما ذكرنا، أو على الطول والعمق ولو بعدت أطراف البلد جداً
بحيث لو خرج منها بعد الفجر لم يدركها جاز التعدد مطلقاً.
(مسألة: ش): لو كان بعض المأمومين خارج الخطبة اشترط تقدم إحرام أربعين ممن
هو داخلها على إحرامهم، بناء على ما رجحه البغوي من اشتراط تقدم إحرام من تنعقد
بهم الجمعة على من لا تنعقد بهم اهـ. قلت: ورجح ابن حجر في كتبه و (م ر) وأبو
مخرمة عدم الاشتراط خلافاً للشيخ زكريا، قال أبو مخرمة: فلا يسن الخروج من هذا
الخلاف لضعفه.
[فائدة]: يشترط في
الجمعة أن تقام بأربعين وإن كان بعضهم قد صلاها في بلدة أخرى على ما بحثه بعضهم،
أو من الجن كما قاله القمولي اهـ تحفة. وقوله: وإن كان قد صلاها الخ اعتمده في
القلائد و (م ر) قال أبو مخرمة: إن القرى التي يتم العدد فيها تارة وينقص أخرى،
إذا حضرها شخص بعد إحرام أهلها فشك هل هم في جمعة أو في ظهر ولم تكن ثم قرينة كجهر
بالقراءة لا يصح إحرامه بالجمعة بل بالظهر، لأن الشك يمنع الإحرام بالجمعة، بخلاف
ما لو أحرم بالجمعة في حالة جواز الإحرام بها ثم تبين فقدان شرط فتنعقد ظهراً اهـ.
(مسألة: ي): ونحوه ج:
متى كملت شروط الجمعة بأن كان كل من الأربعين ذكراً حراً مكلفاً مستوطناً بمحلها
لا ينقص شيئاً من أركان الصلاة وشروطها، ولا يعتقده سنة، ولا يلزمه القضاء، ولا
يبدل حرفاً بآخر ولا يسقطه، ولا يزيد فيها ما يغير المعنى، ولا يلحن بما يغيره وإن
لم يقصر في التعلم كما قاله ابن حجر، خلافاً لـ (م ر) لم تجز إعادتها ظهراً، بخلاف
ما إذا وقع في صحتها خلاف ولو في غير المذهب، فتسنّ إن صحت الظهر عند ذلك المخالف،
ككل صلاة وقع فيها خلاف غير شاذ، ويلزم العالم إذا استفتى في إقامة الجمعة مع نقص
العدد أن يقول: مذهب الشافعي لا يجوز، ثم إن لم يترتب عليه مفسدة ولا تساهل جاز له
أن يرشد من أراد العمل بالقول القديم إليه، ويجوز للإمام إلزام تارك الجمعة كفارة
إن رآه مصلحة ويصرفها للفقراء اهـ. وعبارة ك : وإذا فقدت شروط الجمعة عند الشافعي
لم يجب فعلها بل يحرم حينئذ لأنه تلبس بعبادة فاسدة، فلو كان فيهم أمي تم العدد به
لم تصح وإن لم يقصر في التعلم كما في التحفة، خلافاً لشرح الإرشاد و (م ر) بخلاف
ما لو كانوا كلهم أميين والإمام قارىء فتصح، وإذا قلد الشافعي من يقول بصحتها من
الأئمة مع فقد بعض شروطها تقليداً صحيحاً مستجمعاً لشروطه جاز فعلها بل وجب حينئذ،
ثم يستحب إعادتها ظهراً ولو منفرداً خروجاً من خلاف من منعها، إذ الحق أن المصيب
في الفروع واحد والحق لا يتعدد، فيحتمل أن الذي قلده في الجمعة غير مصيب، وهذا كما
لو تعددت الجمعة للحاجة، فإنه لكل من لم يعلم سبق جمعته أن يعيدها ظهراً، وكذا إن
تعددت لغير حاجة وشك في المعية فتجب إعادتها جمعة، إذ الأصل عدم وقوع جمعة مجزئة،
وتسن إعادتها ظهراً أيضاً احتياطاً بل قال الغزالي بوجوبه هنا، وقد صرح أئمتنا
بندب إعادة كل صلاة وقع خلاف في صحتها ولو منفرداً، ومن قال إن الجمعة لا تعاد
ظهراً مطلقاً، لأن الله تعالى لم يوجب ستة فروض في اليوم والليلة فقد أخطأ، لما
صرح به أئمتنا بأن نحو فاقد الطهورين تلزمه الصلاة في الوقت ثم إعادتها ككل من لم
تغنه صلاته عن القضاء، وأن من نسي إحدى الخمس ولم يعلم عينها تلزمه الخمس اهـ. قلت:
وقوله لو كانوا كلهم أميين الخ عبارة التحفة، وأن يكونوا كلهم قراء أو أميين
متحدين فيهم من يحسن الخطبة اهـ فتأمله. وقوله: وشك في المعية المراد به كما قاله
ابن حجر وقوعها على حالة يمكن فيها المعية، فعلم أن كل جمعة وقعت بمصر الآن مؤداة
مع الشك في معيتها فيجب الظهر على الجميع اهـ ع ش.
(مسألة: ج): المذهب عدم صحة الجمعة بمن لم يكمل فيهم
العدد، واختار بعض الأصحاب جوازها بأقل من أربعين تقليداً للقائل به، والخلاف في
ذلك منتشر، قال ابن حجر العسقلاني: وجملة ما للعلماء في ذلك خمسة عشر قولاً: بواحد
نقله ابن حزم اثنان كالجماعة قاله النخعي وأهل الظاهر ثلاثة قاله أبو يوسف ومحمد
وحكي عن الأوزاعي وأبي نصر أربعة قاله أبو حنيفة وحكي عن الأوزاعي أيضاً وأبي ثور،
واختاره المزني وحكاه عن الثوري والليث وإليه مال أكثر أصحابنا، فإنهم كثيراً
مايقولون بتقليد أبي حنيفة في هذه المسألة، قال السيوطي: وهو اختياري إذ هو قول
الشافعي قام الدليل على ترجيحه على القول الثاني. سبعة حكي عن عكرمة، تسعة عن
ربيعة، اثنا عشر عن المتولي والماوردي والزهري ومحمد بن الحسن، ثلاثة عشر عن
إسحاق، عشرون عن مالك، ثلاثون رواية عن مالك أيضاً، أربعون بالإمام وهو الصحيح من
مذهب الشافعي، أربعون غير الإمام روي عن الشافعي أيضاً وبه قال عمر بن عبد العزيز،
خمسون قاله أحمد ثمانون حكاه الماوردي جمع كثيرون بغير قيد، وهو المشهور من مذهب
مالك أنه لا يشترط عدد معين، بل الشرط جماعة تسكن بهم قرية ويقع بينهم البيع ولا
تنعقد بالثلاثة، ولعل هذا هو أرجح المذاهب من حيث الدليل. واعلم أن السيوطي وغيره
من العلماء قالوا: لم يثبت في الجمعة شيء من الأحاديث بتعيين عدد مخصوص، وإذا كان
الأمر كذلك مع إجماع الأمة على أن الجمعة من فروض الأعيان، فالذي يظهر ونختار أنه
متى اجتمع في قرية عدد ناقص ولم يمكنهم الذهاب إلى محل الكاملة أو أمكنهم بمشقة
وجب عليهم في الأولى وجاز في الثانية أن يقيموا بمحلهم الجمعة، وقد اختار هذا وعمل
به العلامة أحمد بن زيد الحبشي، نعم إن أمكن فعلها آخر الوقت بالأربعين بحيث يسع
الخطبة والصلاة وجب التأخير، لكن يجب على ذي القدرة زجرهم عن تأخيرها إلى هذا
الحد، كما يجب عن تعطيلها وتعزيرهم بنحو حبس وضرب، إذ التأخير المذكور مشعر
بتساهلهم بأمور الدين بل مؤد إلى خروج الوقت اهـ. وفي ك مثله في تعدد الأقوال إلا
الأول فإنه قال: اختلف العلماء في العدد على أربعة عشر قولاً بعد إجماعهم على أنه
لا بد من عدد وهو اثنان إلى آخر ما مر.
(مسألة): إذا اتسع المنبر سن للخطيب أن يقف بجانبه الأيمن، كما صرح به في
الأنوار وأفهمه كلام الشيخين، ويؤخذ منه أنه إذا أراد الالتفات بعد رقيه أن يلتفت
إلى جهة يمينه قاله ابن حجر في فتاويه.
(مسألة): يكفي في
الوصية ما يحث على الطاعة أو يزجر عن المعصية، ويؤخذ منه أنه لا يشترط أن يكون مما
يلابسه السامع، فلو كان السامعون عمياً كفى التحذير عن آفات النظر، ولو خص الخطيب
الدعاء بالغائبين لم يكف كما في التحفة والنهاية، ويفهم منه أنه لا يكفي تخصيص بعض
الأربعين، بل لا بد من التعميم للمؤمنين أو تخصيص الحاضرين، بل في الزبد أنه أولى
كما قال وحسن تخصيصه للسامعين.
(مسألة: ك): لا يشترط فهم أركان الخطبة للمستمعين بل ولا للخطيب نفسه
خلافاً للقاضي، كما لا يشترط فهم أركان الصلاة ولا تمييز فروضها من سننها اهـ.
قلت: بل ولا يشترط معرفة الخطيب أركان
الخطبة من سننها كما في
فتاوى (م ر) كالصلاة، لكن يشترط إسماع الأربعين أركان الخطبة في آن واحد فيما
يظهر، حتى لو سمع بعض الأربعين بعضها وانصرف وجاء غيرهم فأعاد عليهم لم يكف، قاله
ع ش.
(مسألة): لو شك
الحاضرون حال الخطبة هل اجتمع أربعون؟ أو هل خطب الإمام ثنتين أو أخلّ بركن؟ لم
يؤثر، بل لو عرض ذلك في الصلاة لم يؤثر أيضاً، حتى في حق الإمام فضلاً عن غيره،
قاله أبو مخرمة.
[فائدة]: خطب قاعداً
فبانت قدرته على القيام لم يؤثر اهـ إمداد. ومثله لو بان حدثه بل أولى كالصلاة
وقضية كلام الروض أن يكون زائداً على الأربعين اهـ جمل. ولا تعتبر شروط الخطبة إلا
في الأركان فقط، فلو انكشفت عورته في غيرها لم يضر، كما لو أحدث بين الأركان وأتى
مع حدثه بشيء من الوعظ ثم استخلف عن قرب اهـ ع ش.
[فائدة]: قال ب ر: ولا يجب الجلوس بينهما عند الأئمة الثلاثة، وعندنا يضر
تركه ولو سهواً، ولا يكفي عنه الاضطجاع، ويسن أن يكون بقدر سورة الإخلاص، وأن
يقرأها فيه كما في التحفة، وقال في الفتاوى قال القاضي: والدعاء في هذه الجلسة
مستجاب، وعليه يستحب للحاضرين الاشتغال به اهـ.
(مسألة: ب): لا تنبغي
البسملة أول الخطبة، بل هي بدعة مخالفة لما عليه السلف الصالح من أئمتنا ومشايخنا
الذين يقتدى بأفعالهم ويستضاء بأنوارهم، مع أن أصح الروايات خبر: "كل أمر ذي
بال لا يبدأ فيه بحمد الله" فساوت البسملة الحمدلة.
[فائدة]: قال باعشن: ومنه يؤخذ أن الزائد على الآية ليس من الركن، وهو
قاعدة ما يتجزأ كالركوع، أن أقل مجزىء منه يقع واجباً والزائد سنة، وحينئذ ما زاد
على الواجب وطال به الفصل يقطع الموالاة، وبمثله يقال في الدعاء، فما قطع الموالاة
ضر خصوصاً في الدعاء للصحابة وولاة الأمر، لأنه ليس من ركن الدعاء وطول الفصل قدر
ركعتين بأقل مجزىء، كما في الموالاة بين صلاتي السفر، وفي التحفة والنهاية أن
قراءة المرقي آية { إن الله وملائكته يصلون على النبي} الخ، ثم الحديث بدعة حسنة
اهـ.
[فائدة]: أفتى أحمد الذهبي البصال بأن من دخل حالة أذان الخطبة أن الأولى
له أن يصلي التحية، وقال أبو شكيل: لعل الأولى الوقوف وإجابة المؤذن ثم يصلي
التحية ويتجوز ليحصل الجمع بين المقصودين، ورجحه أبو مخرمة قال: ولا يصح القول
بكراهة الإجابة حينئذ اهـ.
(مسألة: ش): أتى حال
الخطبة على محل خارج المسجد لم تجز له التحية ولا غيرها من الصلوات مطلقاً ولو
قضاء سمع الخطبة أم لا؟ بخلاف داخل المسجد فله ركعتان، سواء نوى بهما التحية فقط
أو مع الراتبة أو الراتبة وحدها، لوجود صورة التحية المانعة من هتك حرمة المسجد مع
سقوط الطلب، وإن لم يحصل ثوابها حينئذ، لكن يلزمه التخفيف بأن يقتصر على الواجبات
اهـ. قلت: وقوله وإن لم يحصل ثوابها اعتمده (م ر) ورجح في التحفة حصول الثواب وإن
لم ينوها لكن دون ثواب من نواها، وقوله: بأن يقتصر على الواجبات تبرأ منه في
التحفة، ونظر فيه في النهاية ثم قال: فالأوجه أن المراد به ترك التطويل عرفاً،
وعليه فتكره الزيادة على الواجب اهـ كردي.
[فائدة]: يكره للإمام
وغيره الشرب حال الخطبة إلا لعطش، كالكلام
لمن استقر في موضع إلا لمهم ناجز، كتعليم واجب، وإنكار منكر، وإنذار أعمى وأولى
الإشارة إن كفت، ويجوز شراء ماء الطهر والسترة والقوت، وينبغي أن لا يكره البيع في
بلد يؤخرون كثيراً اهـ قلائد. واعلم أن وقت الخطبة يختلف باختلاف أوقات البلدان بل
في البلدة الواحدة، فالظاهر أن ساعة الإجابة في كل أهل محل من جلوس خطيبه إلى آخر
الصلاة، ويحتمل أنها مبهمة بعد الزوال، فقد يصادفها أهل محل ولا يصادفها آخر متقدم
أو متأخر، اهـ إمداد ونهاية.
سنن الجمعة وفوائد تتعلق
بالصلاة على النبي
[فائدة]: المتجة جواز ترك التعليم يوم الجمعة، لأنه يوم عيد مأمور فيه
بالتبكير والتنظيف وقطع الأوساخ والروائح الكريهة، والدعاء إلى غروب الشمس رجاء
ساعة الإجابة اهـ فتاوى ابن حجر. وفي الإيعاب: أن عمر رضي الله عنه طالت غيبته مدة
حتى اشتاق إليه أهل المدينة، فلما قدم خرجوا للقائه، فأول من سبق إليه الأطفال،
فجعل لهم ترك القرآن من ظهر يوم الخميس إلى يوم السبت، ودعا على من يغير ذلك اهـ ش
ق.
[فائدة]: يسن لمستمع الخطبة تشميت العاطس لأن سببه قهري، ويسن للعاطس الرد
عليه، وورد أن من عطس أو تجشأ فقال: الحمد لله على كل حال رفع الله عنه سبعين داء أهونها الجذام اهـ باعشن. وقال في الدر: من
سبق العاطس بالحمد أمن من الشوص بفتح الشين وجع الضرس، وقيل: البطن واللوص بفتح
اللام وسكون الواو وجع الأذن، وقيل: البخر والعلوص بكسر العين وفتح اللام وجع
البطن، وقيل: التخمة ونظمها بعضهم فقال:
من يبتدىء عاطساً بالحمد يأمن
من >< شوص ولوص وعلوص كذا وردا
عنيت بالشوص داء الضرس ثم بما
>< يليه داء الأذن والبطن اتبع رشدا
اهـ شرح الجامع لعلقمي.
[فائدة]: ينبغي لسامع
الصلاة على النبي أو الترضي عن الصحابة حال الخطبة أن يصلي على النبي ويترضى عنهم،
فهو أفضل من الإنصات، وقد أوجب جمع الصلاة عليه كلما ذكر، اهـ تجريد المزجد.
(مسألة: ي): يكره التخطي كراهة شديدة، وقيل يحرم، والمراد به تخطي الرقاب
حتى تحاذي رجله أعلى منكب الجالس، بخلاف ما لو كانت رجل المار تمر على نحو عضده أو
أسفل منه فلا كراهة، إذ لا يسمى تخطياً بل هو مسنون لتحصيل سنة، كالصف الأول
والقرب من الإمام والجدار ونحوها، فإنكاره والأنفة منه إنكار للسنة، ومن طلب
التأدب معه بترك ذلك فلجهله طلب التأدب بترك سنة الرسول اهـ قلت: وقال في فتح
الباري: كراهته يعني التخطي شاملة ولو بمكة على المعتمد، واغتفر بعض الفقهاء ذلك
للطائفين للضرورة، وعن بعض الحنابلة جواز ذلك في جميع مكة اهـ.
(مسألة: ش): ترك الإمام قراءة الجمعة في الأولى أتى بها مع المنافقين في
الثانية، وإن قرأ المنافقين في الأولى قرأ الجمعة في الثانية، إذ السنة أن لا يخلي
صلاته عنهما، أو قرأهما معاً، في الأولى قرأ المنافقين وفي الثانية أيضاً لئلا
تخلو عن وظيفتها، فلو قرأ الجمعة حينئذ فوّت فضيلة الجمع بين السورتين في
الركعتين، وحصل أصل سنة القراءة إن قلنا بحصولها بتكرير السورة كما هو المعتمد،
ولو اقتدى مسبوق في الثانية وسمع قراءة المنافقين سنّ له إعادتها في ثانيته أيضاً،
وليس كقارىء المنافقين في الأولى حتى تسن له قراءة الجمعة في ثانيته، لأن السنة له
حينئذ الاستماع، نعم لو سنت له السورة حينئذ بأن لم يسمع قراءة الإمام فقرأ
المنافقين فيها فالراجح أنه يقرأ الجمعة في ثانيته كما مر في الإمام.
[فائدة]: ورد أن من قرأ الفاتحة والإخلاص والمعوذتين سبعاً سبعاً عقب سلامه
من الجمعة قبل أن يثني رجليه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأعطي من الأجر
بعدد من آمن بالله ورسوله، وبوعد من السوء إلى الجمعة الأخرى، وفي رواية زيادة
وقبل أن يتكلم حفظ له دينه ودنياه وأهله وولده ويقول بعدها أربع مرات: اللهم يا
غني يا حميد، يا مبدىء يا معيد، يا رحيم يا ودود، أغنني بحلالك عن حرامك، وبطاعتك
عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اهـ باعشن. ونقل عن أبي الصيف أن من قال هذا الدعاء
يوم الجمعة سبعين مرة لم تمض عليه جمعتان حتى يستغني. ونقل عن أبي طالب المكي أن
من واظب على هذا الدعاء من غير عدد أغناه الله تعالى عن خلقه ورزقه من حيث لا
يحتسب، اهـ كردي. ولا تفوت سنة المسبعات والأذكار المأثورة عقب صلاة الجمعة بكلام
أو انتقال، نعم يفوت ثوابها المخصوص ولو بجعل يمينه للقوم، كما نقله الكردي عن ابن
حجر و ق ل. وقال بعضهم: لا يفوت الثواب بل كماله، اهـ فتاوى باسودان.
[فائدة]: نقل عن الإمام الشعراني أن من واظب على هذين البيتين في كل يوم
جمعة توفاه الله على الإسلام من غير شك وهما:
إلهي لست للفردوس أهلاً
>< ولا أقوى على نار الجحيم
فهب لي زلتي واغفر ذنوبي
>< فإنك غافر الذنب العظيم
ونقل عن بعضهم أنهما يقرآن خمس مرات بعد
الجمعة اهـ باجوري.
[فائدة]: يسن الإكثار
من قراءة الكهف والصلاة على النبي يوم الجمعة وليلتها، وأقل الإكثار من الأول ثلاث
ومن الثاني ثلاثمائة، اهـ مغني وكردي وباعشن.
(مسألة: ك): إذا قال
الشخص: اللهم صل وسلم على سيدنا محمد، أو سبحان الله ألف مرة أو عدد خلقه فقد جاء
في الأحاديث ما يفيد حصول ذلك الثواب المرتب على العدد المذكور، كما صرح بذلك ابن
حجر وتردد فيه (م ر) وليس هذا من باب لك الأجر على قدر نصبك، بل هو من باب زيادة
الفضل الواسع والجود العظيم.
[فائدة]: ورد أنه قال: "من صلى عليّ في يوم خمسين مرة صافحته يوم
القيامة" وذكر ابن المظفر أنه لو قال: اللهم صلِّ على محمد خمسين مرة أجزأه
إن شاء الله تعالى، وإن كرر ذلك فهو أحسن اهـ. قال ع ش: ولم يتعرض لصيغة الصلاة
على النبي ، وينبغي أن تحصل بأي صيغة كانت، ومعلوم أن أفضل الصيغ الواردة: اللهم
صل أبداً أفضل صلواتك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك محمد وآله وصحبه وسلم عليه
تسليماً كثيراً، وزده شرفاً وتكريماً، وأنزله المنزل المقرّب عندك يوم القيامة،
اهـ جمل. وقال ابن الهمام: كل ما جاء في كيفيات الصلاة الواردة فهو موجود في هذا
اللفظ المذكور، ولكن التصلية التي استنبطها الشيخ ابن حجر أعم وأفضل كما قاله ب.
[فائدة]: قال الحافظ ابن حجر: وتتأكد الصلاة عليه في مواضع ورد فيها أخبار
خاصة أكثرها بأسانيد جياد عقب إجابة المؤذن، وأوّل الدعاء وأوسطه وآخره، وأوّله
آكد، وآخر القنوت، وفي أثناء تكبيرات العيد، وعند دخول المسجد والخروج منه، وعند
الاجتماع والتفرق، وعند السفر والقدوم، والقيام لصلاة الليل، وختم القرآن، وعند
الكرب والهم والعقوبة، وقراءة الحديث، وتبليغ العلم والذكر، ونسيان الشيء، وورد
أيضاً في أحاديث ضعيفة عند استلام الحجر وطنين الأذن والتلبية وعقب الوضوء، وعند
الذبح والعطاس، وورد المنع منها عندهما أيضاً اهـ مناوي اهـ جمل.
الاستخلاف وحكم المسبوق
أفتى الشهاب الرملي بأن الإمام في الجمعة لو تذكر أنه محدث فخرج واستخلف
مأموماً صح، قال: ولا يخالف ما ذكرته قول المنهاج ولا يستخلف في الجمعة إلا
مقتدياً به قبل حدثه فإنه جرى على الغالب اهـ، ووافقه ابن حجر.
(مسألة): استخلف إمام
الجمعة مسبوقاً لم يدرك معه ركوع الأولى أتم ظهراً لا من اقتدى به فيتم جمعة إن
أدرك الركعة الثانية من صلاة الإمام الأول، وكذا إن أدرك ركعة من بقية صلاة
المستخلف الذي يتم بظهر، أقام ع ش وابن حجر في فتاويه فليتأمل، لكن شرط (م ر) بقاء
العدد إلى سلام الإمام المذكور، بل لو فارقه المقتدون وسلموا وهو في ثانيته امتنع
الاقتداء به حينئذ لفوات العدد.
(مسألة): حاصل مسألة
الاستخلاف كما أوضحها الشيخ
محمد بن صالح الريس في القول الكافي أنه إذا خرج الإمام عن الإمامة بنحو تأخره عن
المأمومين، أو عن الصلاة بنحو حدث ولو عمداً، فاستخلف هو أو المأمومون أو بعضهم
صالحاً للإمامة، أو تقدم الصالح بنفسه جاز تارة بل وجب وامتنع أخرى، ولا يشترط أن
يكون الخليفة محاذياً للإمام، ولا أن يتقدم على المأمومين، بل يندب ذلك، ثم
الاستخلاف إن كان في جمعة فشرطه أن يكون الخليفة مقتدياً به قبل خروجه، وأن لا
ينفرد المأمومون بركن قولي أو فعلي، أو يمضي زمن يسع ركناً، ولا تلزمهم نية
الاقتداء بالخليفة مطلقاً، فإن انفرد كلهم بركن، فإن كان في الركعة الأولى بطلت
لوجوب الاستخلاف فيها أو في الثانية فلا، ولكن لا تجوز لهم حينئذ نية الاقتداء به
بل تبطل بذلك إذ هو كتعداد الجمعة، وإن حصل الانفراد أو نية القدوة من بعضهم، فإن
بقي أربعون صحت الجمعة لهم فقط، وإلا بطلت جمعة الكل فيعدونها جمعة، وأما الخليفة
فإن أدرك ركوع الأولى مع الإمام واستخلفه في اعتدالها تمت جمعته كالمقتدين، وإلا فتتم
لهم دونه ويحرم تقدمه مع علمه بتفويت جمعته وإن صح، واختلفوا فيمن أدرك مع الإمام
ركوع الثانية وسجوديها ثم استخلف في التشهد فقال ابن حجر: يتم ظهراً، وقال الشيخ
زكريا و (م ر) والخطيب وغيرهم: يتم جمعة وإن كان الاستخلاف في غير الجمعة، فإن كان
الخليفة مقتدياً واستخلف عن قرب أو غير مقتد واستخلف في الأولى وثالثة الرباعية
جاز من غير تجديد نية وإن مضى قدر ركن، وإن استخلف غير المقتدي في ثانية مطلقاً أو
ثالثة مغرب أو رابعة غيرها لم يصح إلا بتجديد نية، ويجب على المسبوق المستخلف في
الجمعة أو غيرها مراعاة نظم صلاة إمامه، فيقنت ويتشهد في غير موضعه ويشير إليهم
بما يفهم فراغ صلاتهم، ولهم فراقه بلا كراهة وانتظاره ليسلموا معه وهو أفضل، ويجوز
استخلاف من لم يعرف نظم صلاة الإمام في الأصح وحينئذ يراقب المأمومين، فإن هموا
بالقيام أو القعود تبعهم، ولا ينافي ذلك قولهم إنه لا يرجع لقول غيره وفعله وإن
كثروا، لأن هذا مستثنى للضرورة كما في التحفة، وعلم من قولنا صالحاً للإمامة أنه
لو تقدم غير صالح كأمي وامرأة لم تبطل صلاتهم إن نووا الاقتداء به، ولا يجوز
الاستخلاف قبل خروج الإمام، ومن قدموه أولى ممن قدمه الإمام ما لم يكن راتباً،
ويجوز استخلاف اثنين فأكثر في غير الجمعة، وكذا فيها في الركعة الثانية بقيده
المار، فلو استخلف اثنان في الأولى منها، فإن اقتدى بواحد منهما أربعون وبالآخر
أنقص صحت للأولين، وإن كان كل أربعين أو أنقص لم تصح للكل ويعيدونها جمعة، وإن
استخلف في الخطبة من سمع أو خطب وأمّ من سمعها صح، لكن الاستخلاف خلاف الأولى، بل
الأفضل أن يتطهر الخطيب ويستأنف ما لم يضق الوقت، أما المستخلف بعد الإحرام فلا
يشترط سماعه الخطبة لأنه بإحرامه اندرج مع غيره، ولو استخلف الإمام في أثناء
الفاتحة لزم الخليفة إتمامها ثم الإتيان بفاتحته إن لم يقرأها قبل، كما رجحه ابن
حجر وأبو مخرمة، فإن لم يقرأ الفاتحة لزمه الإتيان بركعة بعد انتهاء صلاة
المستخلف.
(مسألة: ش): أدرك مع الإمام ركوع الثانية ثم فارقه في التشهد أو أحدث
الإمام قال ابن حجر: لا يدرك الجمعة بل لا بد من بقائه إلى السلام، وقال غيره
يدركها وهو جدير بأن يعتمد. فعليه لو خاف خروج الوقت لو لم يفارقه ويأتي بالثانية
وجب فراقه.
(مسألة): المسبوق الذي لم يدرك مع إمام الجمعة ركعة يلزمه الإحرام بالجمعة
ثم يتم ظهراً أربعاً ويسرّ بالقراءة، لو رأى مسبوقاً آخر أدرك مع الإمام ركعة قطع
صلاته وجوباً واقتدى به، لأن من لزمته الجمعة لا تجزئه الظهر ما دام قادراً على
الجمعة، ولا يجوز له الاقتداء به من غير قطع، لاتفاقهم على أنه لا يجوز اقتداء
المسبوقين بعضهم ببعض، وهذا ما اعتمده ابن حجر القائل بإدراك الجمعة خلف المسبوق،
بل قال في فتاويه: لو فارق المقتدون في الركعة الثانية جاز للمسبوق الاقتداء بمن
شاء من الإمام والمأمومين، كما لو قام مسبوقون فاقتدى بكل واحد آخر فتحصل الجمعة
لكل من أدرك ركعة ولا تعدد، لأن الكل في الحقيقة تبع للإمام الأول،واعتمد (م ر)
أنه لا يجوز الاقتداء بالمسبوق بعد سلام إمام الجمعة مطلقاً، ووافق ابن حجر
الخياري وصاحب القلائد لكنهما قالا: ولا يقطعها إلا إن لم يمكنه قلبها نفلاً
ركعتين ثم الاقتداء به وإدراك ركعة، وأفتى محمد بلعفيف بأنه يلزمه الاقتداء
بالمسبوق المذكور من غير قطع وهو مشكل لامتناع اقتداء المسبوق بمثله في الجمعة
فتحصل أن في المسألة أربعة آراء: قطعها، والاقتداء به مطلقاً، وقلبها نفلاً، ثم
الاقتداء والاقتداء به من غير قطع وعدم صحة الاقتداء به، اهـ فتاوى باسودان مع
زيادة.
صلاة الخوف
[فائدة]: لو أخذ له مال كأن خطف نعله أو أخذت الهرة لحماً وهو يصلي جاز له
طلبه، وصلاة شدة الخوف إن خاف ضياعه، وله وطء نجس لا يعفى عنه مع القضاء قاله (م
ر) واعتمد ابن حجر عدم الجواز لأنه طالب لا خائف لكنه جوّز القطع لذلك اهـ باعشن،
وأفتى أحمد الخبيشي بجواز صلاة شدة الخوف لمانع نحو الطير عن زرعه عند ضيق الوقت،
كالدفع عن نفس أو مال أو حريم، وقد جعلوا ذلك من أعذار الجمعة اهـ.
اللباس والتحلية
[فائدة]: لم يلبس ما صبغ منسوجاً ولبس البرد، ولا يكره لبس غير الأبيض، نعم
إدامة لبس السواد ولو في النعال خلاف الأولى اهـ جمل، وكان طول ردائه عليه الصلاة
والسلام أربعة أذرع وعرضه ذراعين وشبراً اهـ نهاية.
(مسألة): يسن لبس
القميص والإزار والعمامة والطيلسان في الصلاة وغيرها إلا في حال النوم ونحوه، نعم
يختص الطيلسان غالباً بأهل الفضل من العلماء والرؤساء وبعض كيفياته تقوم مقام
الرداء، والأكمل أن يكونا فوق القميص، وكيفية الطيلسان المشهورة التي كادوا يجمعون
عليها أن يجعل على الرأس فوق نحو العمامة، ثم يغطي به أكثر الوجه، ثم يدار طرفه
والأولى اليمين من تحت الحنك إلى أن يحيط بالرقبة جميعاً، ثم يلقى طرفاه على
الكتفين حذراً من السدل، فلو لم يحنكه كما ذكر حصل أصل السنة، ولا يغطى الفم
لكراهته في الصلاة، ويطلق الطيلسان مجازاً على الرداء الذي هو حقيقة مختص بثوب
عريض على الكتفين مع عطف طرفيه، وورد الارتداء لبسة العرب والتلفع أي الطيلسان
لبسة الإيمان، وبه يعلم أفضليته على الرداء قاله ابن حجر في درّ الغمامة،. وفي
فتاوى العلامة علوي بن أحمد الحداد قال: وفي فتح الباري باب الأردية جمع رداء بالمد
وهو ما يوضع على العاتق وهو ما بين المنكب إلى أصل العنق أو بين الكتفين من الثياب
على أي صفة كان اهـ، فلم يفرق بين العاتق الأيمن والأيسر فيكفي أحدهما اهـ. وقال
الشيخ عبد الله باسودان: وقع في عبارة التحفة والنهاية وغيرهما ذكر الرداء المدوّر
والمثلث والمربع والطويل الذي يكون على منكب وأنه تحصل به السنة، ولم يتحقق حينئذ
تصوير صفته في الأربع بعد البحث في كتب الحديث والحواشي الموجودة اهـ. وفي درّ
الغمامة أيضاً: ويكره سدل الثوب في الصلاة وغيرها، ويحرم للخيلاء بأن يسبل الثوب
الموضوع على الرأس أو الكتف من غير أن يضم جانبيه بنحو اليد ولا يردهما على
الكتفين، ويحتمل الاكتفاء بضم أحدهما، والأفضل كون القميص كغيره من اللباس من قطن
ويليه الصوف، وتحصل سنة العمامة بقلنسوة وغيرها، وينبغي ضبط طولها وعرضها بعادة
أمثاله، والأفضل كونها بيضاء وبعذبة، وأقلها أربعة أصابع وأكثرها ذراع وأوسطها
شبر، وسنية العمامة عامة، ولا تنخرم بها المروءة مطلقاً، وورد: "صلاة بعمامة
خير من سبعين ركعة بغير عمامة" و "إن لله ملائكة يستغفرون للابسي
العمائم" وورد أنه كان يلبس قلنسوة بيضاء، وفي رواية: كان يلبس كمة بيضاء وهي
القلنسوة، وفي خبر أنه كان له ثلاث قلانس: قلنسوة بيضاء، مضرية، وقلنسوة بردة
حبرة، وقلنسوة ذات آذان يلبسها في السفر، وربما وضعها بين يديه إذا صلى، ويؤخذ من
ذلك أن لبس القلنسوة البيضاء يغني عن العمامة، وبه يتأيد ما اعتاده بعض مدن اليمن
من ترك العمامة من أصلها، وتمييز العلماء بطيلسان على قلنسوة بيضاء لاصقة بالرأس،
لا يقال: محل أصل السنة بذلك ما لم يكن بمحل يعدّ لبس ذلك مزرياً له. لأنا نقول:
شرط خرم المروءة بذلك أن لا يقصد التشبه بالسلف، فأولى قصده التشبه به ، إذ لا
يترك التأسي لعرف طارىء، وكان ابن عبد السلام يلبس قلنسوة من لباد أبيض، فإذا سمع الأذان
خرج بها إلى المسجد اهـ.
[فائدة]: القزّ نوع من الحرير كمد اللون وليس من ثياب الزينة، وهو ما قطعته
الدودة وخرجت منه حية، والحرير ما يحل عنها بعد موتها اهـ زي، ويحل من الحرير
الخالص بأنواعه المعروفة خيط المفتاح والميزان والكوز والمنطقة والقنديل وليقة
الدواة وتكة اللباس وخيط السبحة وشرابتها وخيط الخياطة والأزرار وخيط المصحف وكيسه
لا كيس الدراهم وغطاء العمامة خلافاً لابن حجر. ويحل غطاء الكوز وخيطه وستر الكعبة
وكذا قبور الأنبياء على ما اعتمده ق ل لا قبور غيرهم خلافاً للرحماني. ويجوز
الدخول بين ستر الكعبة وجدارها لنحو دعاء للحاجة كالالتصاق به من خارج كما صرح ابن
قاسم، ويحرم إلباسه الدواب كستر الجدار به اهـ ش ق.
[فائدة]: لو سجف بزائد على عادة أمثاله حرم عليه وعلى غيره، وإن اعتاد
أمثاله مثله لأنه وضع بغير حق، ولو اتخذ سجافاً عادة أمثاله ثم انتقل لمن ليس
عادته جازت استدامته لأنه وضع بحق، ويغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء اهـ
ع ش. وأفتى الزمزمي بأن الهدب المتخذ من الحرير إن كان داخلاً، في أجزاء الثوب فهو
كالمطرز بالإبرة فيعتبر فيه الوزن فلا يحرم إلا إن زاد وزنه، وإن لم يكن كذلك حرم
مطلقاً، وأفتى الشيشي بأن العبرة فيه بالوزن مطلقاً، وفي التحفة: يحرم الجلوس على
جلد سبع كنمر وفهد وإن جعل إلى الأرض لأنه من شأن المتكبرين اهـ.
(مسألة): حاصل كلام القلائد في اللباس أنه يحرم المزعفر وكذا العصفر خلافاً
لبعضهم، لا المصبوغ بالورس على المعتمد كما قاله أبو مخرمة لثبوت فعله عنه ، وكان
تعجبه البرود المخططة، ولا يكره لبس غير تلك الثلاثة بأي صبغ كان، نعم كره بعضهم
لبس الرجل ما صبغ بعد نسجه وفيه نظر، فقد ثبت لبسه جبة حمراء وثوبين أخضرين وعمامة
سوداء، والظاهر إن ذلك بعد النسج اهـ.
[فائدة]: من خط السمهودي قال: من فضل التواضع ما ذكر أن الله تعالى أتحف
آدم عليه السلام بخاتم فقال الإبهام: أنا أحق به منكن لكوني منفرداً، وقالت
السبابة: أنا أحق به لكوني مسبحة، وقالت الوسطى: أنا أحق به لكوني أطولكن، وقالت
البنصر: أنا أحق به لكوني طرفاً، فيئست الخنصر منه لانكسارها وصغرها فخصها الله به
ورفعها بتواضعها لكونها لم تر نفسها مستحقة اهـ.
(مسألة: ش): يجوز
التختم في غير الخنصر على الراجح لكن مع الكراهة، والمعتمد حرمة التعدد في لبس
الخاتم في يد أو يدين اهـ. قلت: واعتمده في التحفة، واعتمد أيضاً حل لبس الحلقة إذ
غايتها خاتم بلا فص، وكره (م ر) التعدد مطلقاً لبساً واتخاذاً، وحيث حرم أو كره
وجبت زكاته، وأفتى أبو قضام بحرمته، وكان نقش خاتمه عليه الصلاة والسلام:
"محمد رسول الله" يقرأ من أسفل. ونقش خاتم الصديق: نعم القادر الله.
والفاروق: كفى بالموت واعظاً يا عمر. وعثمان: آمنت بالله مخلصاً. وعليّ: الملك
لله. وأبي عبيدة: الحمد لله. رضي الله عن الجميع اهـ جمل.
(مسألة: ك): المعتمد حل افتراش المنسوج والمطرز بالذهب والفضة للنساء
كالحرير بلا فرق كما قاله البلقيني و (ع ش) وغيرهما، خلافاً لما رجحه ق ل من حرمة
الافتراش لإطلاق الأدلة المجوّزة لاستعمالهن الحرير والنقد بأي صورة كانت، إلا ما
استثني كالأواني ونحو الكرسي من النقد فيحرم على الفريقين، وكآلة الحرب فتحرم
عليهن، وليس من الأواني وضع قطعة فضة كاللوح على نحو الوسادة بل هي من الزينة فيحل
لها كالمكحلة الفضة، ولا زكاة في ذلك ما لم يكن فيه إسراف، ولا يحل للمكلف شيء من
ذلك، نعم يحل له استعمال الحرير في نحو تسجيف وتطريز خيط سبحة وشرابة برأسها،
وغطاء نحو عمامة وكيس الدراهم والمصحف.
[فائدة]: تحل تحلية المصحف
بالفضة مطلقاً، وبالذهب للمرأة، والتحلية وضع قطع النقد الرقاق مسمرة على شيء
والتمويه إذابته والطلاء به اهـ ش ق. وأفتى ابن زياد بأنه لو حظي نحو العمامة
بالقصب يعني خيط الفضة المغموس فيها حرم، وإن لم يحصل منه شيء بالنار، نعم إن قلد
أبا حنيفة جاز لأنه يجيز قدر أربع أصابع من ذلك اهـ باعشن. ولا تحرم ملاقاة الفم
للمطر النازل من ميزاب الكعبة، وإن مسه الفم على نزاع فيه اهـ تحفة. واعتمد (م ر)
الحرمة إن قرب من الفم كما في سم و ب ر، وتحل حلقة الإناء ورأسه إذا لم يسمّ إناء
وسلسلته من فضة، ويحل جعل ما يلعب به في الشطرنج من نقد إذ لا يسمى إناء ولا
يستعمل في البدن اهـ فتح.
[فرع]: ما جرت به العادة من تحلية رأس مرش ماء الورد بفضة نقل بعضهم
الإجماع على التحريم، والذي يظهر أنه إن اتخذ من فضة عند كيس رأسه فله حكم الضبة
الكبيرة للحاجة فيكون مكروهاً، أو لتكميل رأسه فحرام، كما قال في الإيعاب في رأس
الكوز اهـ كردي.
العيدان
[فائدة]: قال في الإيعاب و زي و ش ق: التهنئة بالعيد سنة، ووقتها للفطر
غروب الشمس، وفي الأضحى فجر عرفة كالتكبير اهـ. زاد ش ق وكذا بالعام والشهر على
المعتمد مع المصافحة عند اتحاد الجنس والخلوّ عن الريبة، كامرأة وأمرد أجنبيين
والبشاشة والدعاء بالمغفرة، وقد جعل الله للمؤمنين ثلاثة أيام: عيد الجمعة والفطر
والأضحى، وكلها بعد إكمال العبادة، وليس العيد لمن لبس الجديد بل طاعاته تزيد، ولا
لمن تجمل بالملبوس والمركوب بل لمن غفرت له الذنوب. واعلم أن اجتماع الناس بعد عصر
يوم عرفة للدعاء كما يفعل أهل عرفة ويسمى التعريف قال الإمام: لا بأس به، وكرهه
الإمام مالك، وفعله الحسن، وسبقه ابن عباس رضي الله عنهم، ومن جعله بدعة فمراده
حسنة، ونقل عن الطوخي حرمته لما فيه من اختلاط النساء بالرجال وهو وجيه حينئذ اهـ.
[فائدة]: التطيب والتزين في العيد أفضل منه في الجمعة، بدليل أنه طلب هنا
أغلى قيمة وأحسنها منظراً ولم يختص بمريد الحضور، وينبغي أن يكون غير الأبيض أفضل
إذا وافق يوم العيد يوم الجمعة اهـ ع ش.
[فائدة]: قال ش ق: والتكبير أولى ما يشتغل به حتى من قراءة الكهف والصلاة
على النبي لو وافق العيد ليلة الجمعة، وإن توقف فيه الشوبري فيشتغل به وحده، وقال
ع ش: يجمع بين ما ذكر، وتكبير الفطر أفضل من تكبير الأضحى المرسل، أما مقيد الأضحى
فهو أفضل من تكبير الفطر، وكل ما اعتاده الناس وازدادوه فقد ورد حتى لفظة: وأعز
جنده رواها العلقمي. والحاصل أن للعلماء اختلافاً في التكبير المقيد، هل يختص
بالمكتوبات؟ أو يعم النوافل وبالرجال؟ أو يعم النساء وبالجماعة؟ أو يعم المنفرد
وبالمقيم؟ أو يعم المسافر وبالساكن المصر؟ أو يعم القرى؟ فمجموع ذلك اثنا عشر
قولاً، وهل ابتداؤه من صبح عرفة أو ظهره أو صبح النحر أو ظهره أربعة؟ وهل انتهاؤه
إلى ظهر النحر أو ثانيه؟ أو صبح آخر التشريق أو ظهره أو عصره؟ خمسة مضروبة في
أربعة الابتداء بعشرين سقط منها كون ظهر النحر مبتدأ ومنتهى كليهما معاً بقي تسعة
عشر تضرب في الاثني عشر تبلغ مائتين وثمانية وعشرين اهـ.
[فائدة]: يسن تأخير التكبير المطلق عن أذكار الصلاة بخلاف المقيد فيسن
تقديمه كما في الإمداد، قال ع ش: ويوجه بأنه شعار الوقت ولا يتكرر، فكان الاعتناء
به أشد من الأذكار، وفي بج: وخرج بالحاج المعتمر فيكبر إن لم يكن مشتغلاً بذكر
طواف أو سعي على المعتمد اهـ ب ر، ولو أحرم بالحج ليلة عيد الفطر سن له التلبية
اهـ ع ش، ويسن التكبير لرؤية النعم أو سماع صوتها في عشر الحجة، قال في الإيعاب:
مرة واحدة.
[فائدة]: يسن إحياء ليلتيهما بالعبادة ويحصل بمعظم الليل، وبصلاتي الصبح
والعشاء في جماعة أو الصبح وحدها، نعم الحاج لا يسن له من الصلاة غير الرواتي، بل اختار جمع عدم
سنها له، وأنكر ابن الصلاح سن إحيائها له اهـ باعشن. لكن في الإحياء إيماء إلى ندب
إحيائها.
[فائدة]: حكمة كونه
يوم العيد يذهب في الطريق الأطول ويرجع في عكسه، نظمها محمد بن أبي بكر اليمني
أظنه الأشخر فقال:
كان الرسول في ذهابه إلى
العيدين يختار الطريق الأطولا
لكون الأجر في الذهاب أكثرا
>< وفي الرجوع كان يمشي الأقصرا
أو لينال أهل كل منهما ><
بركته أو ليسأل فيهما
أو ليؤدي فيهما صدقته ><
أو ليزور فيهما قرابته
أحياء أو أموات أو لما يقع
>< غيظ على أهل النفاق والبدع
أو أكثر البقاع كيما تشهدا
>< أو لتفاؤل فخذها عددا
(مسألة): فيما إذا وافق يوم الجمعة يوم العيد ففي الجمعة أربعة مذاهب،
فمذهبنا أنه إذا حضر أهل القرى والبوادي العيد وخرجوا من البلاد قبل الزوال لم
تلزمهم الجمعة وأما أهل البلد فتلزمهم، ومذهب أحمد لا تلزم أهل البلد ولا أهل
القرى فيصلون ظهراً، ومذهب عطاء لا تلزم الجمعة ولا الظهر فيصلون العصر، ومذهب أبي
حنيفة تلزم الكل مطلقاً، اهـ من الميزان الشعراني.
[فائدة]: ذكر العلامة
عبد الله بلحاج أنها تحصل سنة أكل التمر في عيد الفطر بأكل العصيدة المعهودة،
بخلاف ما لو حلف لا يأكل تمراً فلا
يحنث بذلك لأن الأيمان يسلك بها مسلك العرف.
الكسوفان
[فائدة]: قال الشوبري: وهو أي الكسوف للشمس أشهر من عكسه، لأن معنى كسف
تغير، ومعنى خسف ذهب، وقد بين علماء الهيئة أن الكسوف لا حقيقة له، بل الحاصل لها
مجرد تغير، لأن ضوءها من جرمها فيقلّ بحيلولة القمر، بخلاف خسوف القمر فله حقيقة
لأن نوره مستعار من نور الشمس، فإذا حالت الأرض بينهما منعت وصول ضوء الشمس إلى
القمر فيصير لا نور له اهـ ح ل. وقال ابن العماد في كشف الأسرار: وأما ما يقوله
المنجمون وأهل الهيئة في الكسوفين فباطل، وسبب كسوفيهما تخويف العباد بحبس ضوئهما فيرجعون
إلى الطاعة، لأن هذه النعمة إذا حبست لم ينبت زرع ولم يجفّ ثمر ولم يحصل له نضج،
وقيل:سببه تجلي الحق سبحانه وتعالى عليهما، فإنه ما تجلى لشيء إلا خضع، فقد تجلى
للجبل فجعله دكاً، وقيل: إن الملائكة تجرها، وفي السماء بحر فإذا وقعت فيه استتر
ضوؤها. ومن خواصّ الشمس أنها ترطب بدن الإنسان إذا نام فيها، وتسخن الماء البارد،
وتبرد البطيخ الحارّ. ومن خواص القمر أنه يصفر لون من نام فيه، ويثقل رأسه، ويسوّس
العظام، ويبلي ثياب الكتان، وقال علي كرم الله وجهه: إن السواد الذي فيه أثر مسح
جناح جبريل، لأن الله خلق نور القمر سبعين جزءاً كالشمس، ثم أمر جبريل عليه السلام
فمسحه بجناحه، فمحا ستة وستين فحوَّلها للشمس، فأذهب عنه الضوء وأبقى فيه النور،
وإذا نظرت إلى السواد في القمر وجدته حروفاً أولها جيم ثم ميم ثم ياء ثم لام وألف
آخره أي جميلاً، وقد شاهدت ذلك وقرأته مراراً اهـ شوبري. قال (م ر): ولكل شهر قمر
بخلاف الشمس فإنها واحدة اهـ بج.
[فائدة]: أقل صلاة الكسوف ركعتان كسنة الظهر، قال ابن حجر: ومحلها إن نواها
كالعادة أو أطلق أي فيقتصر على ذلك على الكيفية التي فيها ركوعان إلا إن قصدها مع
النية. وقال (م ر): يتخير عند الإطلاق بين الكيفيتين، قال ح ل: هذا في حق غير
المأموم، أما هو إذا أطلق فتحمل نيته على ما نواه إمامه اهـ. فلو اختلفت نيتهما في
الكيفيتين لم تصح لعدم تمكنه من المتابعة اهـ كردي وباعشن.
[فرع]: تسنّ الصلاة فرادى لا بالهيئة السابقة لكسوف بقية الكواكب والآيات
السماوية والزلازل والصواعق والريح الشديد اهـ نهاية. قال ع ش: وينوي بها أسبابها،
ولا تجوز لها خطبة ولا جماعة، ويدخل وقتها بوجودها، ويخرج بزوالها كالكسوف، وتصح
في وقت الكراهة اهـ ب ر، اهـ جمل.
الاستسقاء
(مسألة: ك): يجب امتثال أمر الإمام في كل ما له فيه ولاية كدفع زكاة المال
الظاهر، فإن لم تكن له فيه ولاية وهو من الحقوق الواجبة أو المندوبة جاز الدفع
إليه والاستقلال بصرفه في مصارفه، وإن كان المأمور به مباحاً أو مكروهاً أو حراماً
لم يجب امتثال أمره فيه كما قاله (م ر) وتردد فيه في التحفة، ثم مال إلى الوجوب في
كل ما أمر به الإمام ولو محرماً لكن ظاهراً فقط، وما عداه إن كان فيه مصلحة عامة
وجب ظاهراً وباطناً وإلا فظاهراً فقط أيضاً، والعبرة في المندوب والمباح بعقيدة
المأمور، ومعنى قولهم ظاهراً أنه لا يأثم بعدم الامتثال، ومعنى باطناً أنه يأثم
اهـ. قلت: وقال ش ق: والحاصل أنه تجب طاعة الإمام فيما أمر به ظاهراً وباطناً مما
ليس بحرام أو مكروه، فالواجب يتأكد، والمندوب يجب، وكذا المباح إن كان فيه مصلحة
كترك شرب التنباك إذا قلنا بكراهته لأن فيه خسة بذوي الهيئات، وقد وقع أن السلطان
أمر نائبه بأن ينادي بعدم شرب الناس له في الأسواق والقهاوي، فخالفوه وشربوا فهم
العصاة، ويحرم شربه الآن امتثالاً لأمره، ولو أمر الإمام بشيء ثم رجع ولو قبل
التلبس به لم يسقط الوجوب اهـ.
[فائدة]: كان السلف يكرهون الإشارة إلى الرعد والبرق ويقولون عند ذلك: لا
إله إلا الله وحده لا شريك له سبوح قدوس
فيختار الاقتداء بهم اهـ تحفة. وعن ابن عباس قال: من قال عند الرعد: سبحان الذي
يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير فأصابته صاعقة فعليّ
ديته، اهـ فتح الرحمن شرح الزيد.
حكم تارك الصلاة
(مسألة: ي): الأصح أن من لزمته الجمعة يقتل بتركها إذا ضاق الوقت عن واجب
الخطبتين والصلاة وإن قال أصليها ظهراً.
(مسألة): تارك الصلاة
بالكلية والمخلّ ببعضها فاسق بالإجماع كتارك الزكاة، ويجب قتله بالسيف بعد
الاستتابة ولو بترك صلاة واحدة، ويخاف عليه سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى، ولا
يجوز لمن معه ماء إعطاؤه إياه والتيمم بل يتوضأ به ويترك عطشان لأنه غير محترم
كالكلب العقور، وينبغي للمتدين أن لا يحضر مجالسه وضيافته، وجنازته، وأن لا يصلي
عليه ظاهراً ليرتدع غيره، بل ينبغي كما قاله القطب سيد أحمد بن سميط أن يقبر بمحل
بعيد عن المسلمين وتسمى مقبرة الفساق.
الجنائز
[فائدة]: الموت مفارقة الروح الجسد، والروح جسم لطيف لا يفنى أبداً، وصبيان
الكفار كفار في أحكام الدنيا، مسلمون في أحكام الآخرة اهـ عباب.
[فائدة]: سئل أبو بكر
عن موت الأهل فقال: موت الأب قصم الظهر، وموت الولد صدع الفؤاد، وموت الأخ قص الجناح، وموت
الزوجة حزن ساعة اهـ مغني. ويستحب الاستعداد للموت بالتوبة بشروطها، ولا يحرم
التبرم من المقضي كالمرض والفرق دون القضاء اهـ باعشن.
[فائدة]: ورد أن جبريل
عليه السلام يحضر من مات على طهارة من الأمة، فليحرص المريض ومن حضره الموت على
طهارته، ويسن أن يقرأ عنده يس لما ورد أنه يموت رياناً ويدخل قبره رياناً اهـ.
باعشن. والحكمة قراءة يس على المحتضر اشتمالها على أحوال القيامة وأهواله، وتغير
الدنيا وزوالها، ونعيم الجنة وعذاب النار، فيتذكر تلك الأحوال الموجبة للثبات،
قيل: والرعد لأنها تسهل خروج الروح، ويجرع الماء ندباً بل وجوباً إن ظهرت أمارات
تدل على احتياجه، كأن يهشّ إذا فعل به ذلك، لأن العطش يغلب لشدّة النزع، ولذلك
يأتي الشيطان بماء زلال ويقول: قل لا إله غيري حتى أسقيك اهـ تحفة.
[فائدة]: الأنين خلاف الأولى إن لم يغلبه، أو تحصل به استراحة من الألم،
وإلا فمباح وإبداله بنحو تسبيح أولى اهـ باعشن. وقال الحبيشي: وورد أن أنين المريض
تسبيح، وصياحه تهليل، ونفسه صدقة، ونومه عبادة، وتقلبه من جانب إلى جانب جهاد في
سبيل الله تعالى، ومحل الأنين والصياح مع الغلبة إذ اختيار الأنين مكروه اهـ.
[فائدة]: أقل الثقيل
الذي يوضع على بطن الميت عشرون درهماً، وتجوز الزيادة عليه ما لم تؤذه بحيث لو وضع
على الحي لآذاه اهـ شوبري.
(مسألة:ب): يجب تجهيز
كل مسلم محكوم بإسلامه، وإن فحشت ذنوبه، وكان تاركاً للصلاة وغيرها من غير جحود،
ويأثم كل من علم به أو قصر في ذلك، لأن لا إله إلا الله وقاية له من الخلود في
النار، هذا من حيث الظاهر، وأما باطناً فمحل ذلك حيث حسنت الخاتمة بالموت على
اليقين والثبات على الدين فالأعمال عنوان.
(مسألة): المعتمد
عندنا أنه لا يحكم بإسلام الصبي إلا تبعاً لأحد أبويه وإن علا، بشرط معرفة نسبته
إليه، أو إذا وجد لقيطاً في بلد بها مسلم أو تبعاً لسابيه المسلم، وكذا إن جعل
سابيه ووجد بيد مسلم خصوصاً إن وصف الإسلام كما قاله أبو مخرمة، فحينئذ يجهز إذا
مات وجوباً كالمسلم، بل صحح أبو حنيفة وجمع من السلف إسلام المميز مطلقاً، ونقل
الإمام إجماع الصحابة عليه، وانتصر إليه جمع، وأفتى محمد باسودان بأنه لو مات شخص
بطريق وخاف لو وقف لتجهيزه من عدوّ فعل ما أمكنه ولو البعض إن لم يمكن نقله لمحل
الأمن.
الغسل والتكفين
(مسألة: ي): تجب إزالة النجاسة الغير المعفوّ عنها عن الميت، سواء الأجنبية
والخارجة منه، قبل إدراجه في الكفن اتفاقاً ولو من غير السبيلين، وكذا بعده في
الأصح كغسل الكفن الملوث بها، ولا تصح الصلاة عليه حينئذ مع وجود الماء المزيل
لها، وقال البغوي: لا تجب الإزالة بعد الإدراج مطلقاً، وإن تضمخ الكفن اهـ. قلت:
ورجحه في الإمداد، وقال باعشن: ولو لم يمكن قطع الخارج من الميت صح غسله والصلاة
عليه، لكن يجب فيه الحشو والعصب على محل النجاسة والمبادرة بالصلاة عليه كالسلس
اهـ. وفي التحفة: وبه يعلم وجوب غسل ما يظهر من فرج الثيب عند جلوسها على قدميها
نظير ما مر في الحي اهـ.
[فائدة]: ينبغي أن يأتي
الغاسل بعد وضوء الميت وغسله بذكر الوضوء بعده، وكذا بدعاء الأعضاء ويسن: اجعله من
التوابين، أو اجعلني وإياه اهـ تحفة.
(مسألة: ش): يجوز
لغرماء الميت المفلس منع الزائد عن ساتر كل البدن ما لو أوصى بإسقاطه، بخلاف
الورثة فليس لهم المنع من الثلاثة، وإن اتفقوا على ذلك أو كان فيهم محجور على
المعتمد، نعم لهم المنع من الزائد حتى في حق الأنثى اهـ. قلت: وقال باعشن: كل من
كفن من ماله ولا دين عليه مستغرق يجب له ثلاثة وإن لم يخلف سواها، ومن كفن من مال
غيره لم يجب له إلا واحد يعم جميع بدنه ولو عالماً ولياً، وقال في مبحث القميص
وإطلاقهم يقتضي أنه كقميص الحي بل صرح به الشرقاوي وغيره، فما اعتيد في بعض الجهات
من جعله إلى نصف الساق وبلا أكمام منكر شديد التحريم اهـ.
[فائدة]: حاصل أحكام الكفن أنه أربعة أقسام: حق الله تعالى وهو ساتر
العورة، ويختلف بالذكورة والأنوثة، وهذا لا يجوز لأحد إسقاطه مطلقاً، وحق الميت
وهو ساتر بقية البدن فيجوز للميت إسقاطه كما قاله ابن حجر خلافاً لـ (م ر)، وحق
الغرماء وهو الثاني والثالث فهذا للغرماء عند الاستغراق المنع منه، وحق الورثة وهو
الزائد على الثلاثة فلهم إسقاطه اهـ كردي.
[فائدة]: مؤن التجهيز
في مال الميت إلا زوجة وخادمها المملوك أو المستأجر بالنفقة لا بالأجرة فعلى زوج
غني، قال (م ر): ولو بما يرثه منها خلافاً لابن حجر، لا ناشزة وصغيرة، ولا زوجة
الأب، والمراد بالغني غني الفطرة، ويجب للزوجة ثوب فقط ولا يجب الزائد من مالها،
نعم إن لم يقدر إلا على بعض الثوب تمم باقيه من تركتها، ووجب ثان وثالث لانفتاح
باب الأخذ، وحينئذ ثم من بيت المال كالحنوط والقطن وإن كانت مستحبة، ثم من مياسير
المسلمين كفاية إن لم يسأل شخص بعينه وإلا فعين لئلا يلزم التواكل، وحد الموسر من
يملك كفاية سنة زيادة على ما يكفي ممونه يومه وليلته اهـ ش ق.
[فائدة]: قال ابن عجيل: لو مات شخص وله محجور ولم تمكن مراجعة الحاكم قبل
تغيره جاز لأحد الثقات من المسلمين تجهيزه من تركته للضرورة، اهـ بازرعة وبامخرمة
وسمهودي.
[فائدة]: مال في
التحفة إلى حرمة ستر الجنازة بحرير حتى في المرأة، وخالفه (م ر) وسم فيها بل قال:
يجوز تحليتها بالذهب ودفنه معها برضا الورثة الكاملين وتضييع المال لغرض، وهو هنا
إكرام الميت وتعظيمه جائز اهـ. والوجه خلافه اهـ كردي صغرى.
[فائدة]: قال زي: وقد
عمت البلوى بما يشاهد من اشتغال المشيعين بالحديث الدنيوي وربما أدّاهم إلى نحو
الغيبة، فالمختار إشغال أسماعهم بالذكر المؤدي إلى ترك الكلام أو تقليله ارتكاباً
لأخف المفسدين اهـ.
الصلاة على الميت
[فائدة]: يتأكد استحباب الصلاة على من مات في الأوقات الفاضلة كيوم عرفة
والعيد وعاشوراء والجمعة اهـ (م ر). وقال المزجد البالغ يصلى عليه لتكفير سيئاته
ورفع درجاته، والصبي لرفع درجاته خاصة اهـ.
[فائدة]: تجزي صلاة
الذكر الواحد على الميت، وإن لم يحفظ الفاتحة ولا غيرها، ووقف بقدرها مع وجود من
يحفظها، لأن المقصود وجود صلاة صحيحة من جنس المخاطبين وقد وجدت، قاله في التحفة
اهـ.
[فائدة]: لو نقل الرأس عن الجثة كفت الصلاة على أحدهما إن نوى الجملة، فإن
لم يعلم غسل الباقي علق نيته بغسله اهـ تحفة، أي كأن يقول: أصلي على جملة ما انفصل
منه هذا الجزء إن غسلت البقية، فإن لم تغسل نوى الجزء فقط وإلا بطلت اهـ مدابغي.
[فائدة]: سن الوقوف
عند رأس الذكر وعجيزة غيره عام، وإن كان الميت مستوراً أو في القبر اهـ أحمد
الحبيشي. ويسن أن لا ترفع الجنازة حتى يتم المسبوق ولا يضر رفعها قبل تمامه، وإن
خرجت عن المسجد وبعدت بأكثر من ثلاثمائة ذراع وتحولت عن القبلة لأنه دوام، بخلاف
ما لو أحرم وهي سائرة فيشترط عدم البعد وعدم الحائل كما في التحفة اهـ باعشن.
[فائدة]: في النهاية يسن تطويل الدعاء بعد الرابعة، وحدّه كما بين
التكبيرات أي الأولى والأخيرة كما أفاده الحديث ومنه: اللهم لا تحرمنا أجره ولا
تفتنا بعده، واغفر لنا وله، ويصلي على النبي ويدعو للمؤمنين والمؤمنات، ويقرأ فيها
آية: {الذين يحملون العرش ـ إلى ـ العظيم} وآية {ربنا آتنا في الدنيا حسنة} الآية،
و {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ـ إلى ـ الوهاب} اهـ باعشن. لكن قال ابن حجر:
وينبغي كراهة ربنا اغفر لنا الخ، كما تكره القراءة في غير القيام.
[فائدة]: فرغ المأموم من فاتحته قبل إمامه سن له السورة فهي أولى من السكوت
اهـ إيعاب. وقال ع ش: الأقرب أنه يدعو للميت لأنه المقصود، كما لو فرغ من الصلاة
على النبي فيشتغل بالدعاء أو يكررها لأنها وسيلة لقبوله اهـ بج.
[فائدة]: قال أبو
مخرمة: ولو تقدم غير الأحق في الجنازة حرم أو في غيرها كره اهـ، لكن نقل ع ش عن
ابن حجر الكراهة في الجنازة، ولو زاد الإمام في تكبير الجنازة لم تبطل، فلو تابعه
المأموم المسبوق وأتى بواجبه حسب له، علم ذلك أم لا، إذ الزيادة جائزة للإمام،
وبهذا فارق المسبوق التابع لإمامه في الخامسة حيث فصل فيه بين الجهل فتصح والعلم
فلا اهـ شوبري. ولو تقدم على إمامه بتكبيرة عمداً لم تبطل، لأن غايته أنه كزيادة
تكبيرة وهو لا يضر قاله ابن حجر. وقال (م ر): تبطل ما لم يقصد بهذا الذكراهـ
باعشن.
(مسألة): قال في التحفة: ولو صلى على كل واحدة والإمام واحد قدم من يخاف
فساده ثم الأفضل بما مر، أي من نحو ورع وولاية إن رضوا وإلا أقرع اهـ. ومثلها
الإمداد وشرح الروض. قال سم: هلا قدم بالسبق قبل الإقراع اهـ. ووجدت بخط ب قال:
فائدة ووجدت حاشية على بعض نسخ التحفة في تقديم الجنائز، قال: وقضية عبارته أنه لا
يقدم السابق إلى محل الصلاة، وعمل أهل تريم على تقديمه وإن كان مفضولاً مطلقاً،
ولم نعلم مستندهم في ذلك، ثم رأيت الفقيه العلامة محمد بن عبد الله باعلي أفتى بما
يوافقه ناقلاً له عن شرح العباب ولفظه: قال ابن حجر هذا إن جاءوا معاً وإلا قدم
الأول فالأوَّل اهـ. فأفاد فيه دون بقية كتبه أن الإقراع لا يكون إلا إن جاءوا
معاً، ورأيت ذلك بخط محمد بلعفيف معزوّاً للعلامة محمد بن إسماعيل بافضل، فقيد الإقراع
لشيخه ابن حجر في الشرح المذكور بما إذا جاءوا معاً اهـ.
(مسألة: ج): لا تكره الصلاة على الميت على القبر بل تسن كما في خبر الشيخين
وقال به الجمهور، فتكون حينئذ مستثناة من كراهة الصلاة في المقبرة.
[فائدة]: قال الحلبي: وظاهر كلامهم أنه يكفي في الاصطفاف وجود الاثنين في
كل صف، فاصطفاف الرابع غير مكروه وإن لم تتم الصفوف، بل كان في كل صف إثنان مع
السعة اهـ بج.
(مسألة: ب ش): لا تصح
الصلاة على من أسر أو فقد أو انكسرت به سفينة، وإن تحقق موته أو حكم به حاكم، إلا
إن علم غسله أو علق النية على غسله، إذ الأصح أنه لا يكفي غرقه، ولا يجوّزها تعذر
الغسل، خلافاً للأذرعي وغيره اهـ. قلت: وعبارة الإمداد فعلم أن من مات بنحو هدم
وتعذر إخراجه لا يصلى عليه وهو المعتمد كما في الروضة، وأصلها عن المتولي وأقراه،
وفي المنح لا خلاف فيه، وجزم به في المنهاج، لكن أطال جمع في رده وتبعهم المصنف في
الشرح. وفي فروق الشيخ أبي محمد قال الشافعي: من دفن قبل الغسل والصلاة، فإن كان
قبل أن يهال عليه التراب أخرج وغسل إلا أن يخاف تغيره، وإن أهيل عليه التراب لم
ينبش وصلي عليه في القبر، والقاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور، ومن عجز عن ركن أو شرط
أتى بالمقدور، وهذه أولى بالجواز، إذ مقصودها الدعاء والشفاعة، وهذا حقيق
بالاعتماد، وعليه الأسنوي والأذرعي وابن أبي شريف وغيرهم ورجحه الناشري اهـ حاشية
الفتح.
(مسألة): مذهبنا لا يصلي على القبر والغائب إلا من كان من أهل الصلاة عليه
يوم الموت، ورجح الزمزمي صحة صلاة الصبي على الغائب والقبر، ونقل عن جده ابن حجر
ما يدل على أن الشرط أن يكون من أهل صحتها لا وجوبها يوم الموت، قال: وعدم منع
العلماء من السلف المتقدم والمتأخر لهم منها يؤيد ما ذكر، وسئل أبو زرعة فأجاب
بصحة صلاته مع رجال ولو واحداً، وأجاب أبو حويرث بعدم صحة صلاته على ما ذكر وأطال
في ذلك، اهـ من الدشتة للعلامة عبد الرحمن بن محمد العيدروس. وقال أبو مخرمة:
وضابط الغيبة أن
يكون بمحل لا يسمع منه النداء، وفي التحفة أن يكون فوق حد الغوث، قال: ولا يصلى
على حاضر في البلد وإن عذر بنحو حبس أو مرض اهـ. لكن في الإمداد والنهاية أنها تصح
إن شق عليه الحضور.
(مسألة): ماتت وفي
بطنها جنين، فإن علمت حياته ورجي عيشه بقول أهل الخبرة شق بطنها أي بعد أن تجهز
وتوضع في القبر، وإن لم ترج الحياة وقف دفنها وجوباً حتى يموت، ولا يجوز ضربه
حينئذ، وإن لم تعلم حياته دفنت حالاً، قاله في التحفة.
[فائدة]: يعطى السقط
حكم الكبير إن علمت حياته بنحو صياح وتحرك يقتضي الحياة كقبض يد وبسطها، بل لو صاح
في بطن أمه كما في سم لأن المدار على وجود الحياة، وكذا لو انفصل بعد ستة أشهر
ولحظتين ميتاً، وإن لم يعلم له سبق حياة عند (م ر) خلافاً لابن حجر، وإن ظهر خلقه
وجب غير الصلاة، وإن لم يظهر فلا شيء، ويجوز رميه ولو للكلاب، لكن يسن ستره ودفنه
اهـ شوبري.
الدفن
[فائدة]: استوجه ع ش أن نحو الشعر لا يشترط في دفنه ما ذكروا، بل يكفي ما
يصونه عن الامتهان اهـ. وقال ابن زياد: الأولى أن توضع يد الميت على الأرض مبسوطة
وبطن كفها إلى السماء كما عند التكفين، ولا تترك على صدره إذ يخاف سقوطها حينئذ
بخلاف اليسرى فتبقى كذلك اهـ.
[فائدة]: يسن أن يقول الدافن: بسم الله الرحمن الرحيم وعلى ملة رسول الله ،
قال ابن منبه: إنها ترفع العذاب عن صاحب القبر أربعين سنة اهـ ب ر، وأن يزيد من
الدعاء ما يليق بالحال، كاللهم افتح أبواب السماء لروحه، وأكرم نزله، ووسع مدخله،
ووسع له في قبره، فقد ورد أن من قيل ذلك عند دفنه رفع الله عنه العذاب أربعين سنة
اهـ بج. وورد أن من أخذ من تراب القبر حال دفنه وقرأ {إنا أنزلناه} سبع مرات،
وجعله مع الميت في كفنه أو قبره لم يعذب ذلك الميت في القبر اهـ (ع ش).
[فائدة]: يسن أن يحثو
ثلاث حثوات ويقول في الأولى: {منها خلقناكم} اللهم افتح أبواب السماء لروحه، وفي
الثانية {وفيها نعيدكم} اللهم جاف الأرض عن جنبيه، وفي الثالثة: {ومنها نخرجكم
تارة أخرى} اللهم لقنه حجته اهـ إمداد.
(مسألة: ج): الظاهر فوات سن الحثيات بالفراغ من الدفن، ويكره الوقوف على
القبر كراهة شديدة.
[فائدة]: قال أبو
مخرمة: الظاهر أنه لا يجب سد اللحد، بل تجوز إهالة التراب من غير سد، خلافاً
للمزجد والرداد اهـ. ووافقهما ابن حجر قال: ومثل فتح اللحد تسقيف الشق، لكن لو
انهدم القبر بعد لم يجب إصلاحه، إذ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء اهـ.
[فائدة]: أفتى أبو
زرعة بأن الميت في البحر الذي أريد رميه فيه عند تعذر البر يلقن قبل رميه، لأنه
جرى لنا قول باستحبابه قبل الدفن فعند تعذره أولى اهـ. وأفتى أحمد بجير بأنه يؤخر
إلى بعد الإلقاء، ولا يقال: إن جري السفينة وغيبوبته في البحر مانعان لسماعه، كما
يقال: إن حيلولة التراب والأحجار وكونه عند غير رأس القبر مانعان وإن كان القعود
عند رأسه أولى، لأن المدرك للسماع معنى لطيف لا يمنعه المحسوس الكثيف، والمقصود
امتثال أمر الشارع ومراعاته وجوباً وندباً اهـ، ووافقه أبو حويرث. ويندب تكرير
التلقين ثلاثاً، والأولى للحاضرين الوقوف وللملقن القعود اهـ فتح المعين.
(مسألة: ب): سؤال منكر ونكير يقع بعد الدفن عند انصراف الناس فوراً، ففي
الصحيح: "إنه ليسمع قرع نعالهم" ولهذا يسن أن يقف جماعة عند قبره بقدر
ما تنحر جزور ويفرق لحمها، يسألون له التثبيت لأنه وقت السؤال اهـ. قلت: قال
العمودي في حسن النجوى: وذلك الزمان قدر ساعة وربع أو وثلث فلكية تقريباً، وقدر
الساعة خمس عشرة درجة، كل درجة ستون دقيقة، والدقيقة مقدار قولك: سبحان الله
مستعجلاً من غير مهملة، قاله عبد الله بلحاج، فمقدار الساعة تسعمائة تسبيحة،
ومقدار ما يمكث على
القبر ألف ومائتا تسبيحة على الأحوط اهـ.
[فائدة]: سؤال الملكين
عام لكل أحد، وإن لم يقبر كالحريق والغريق، وإن سحق وذرّي في الهواء أو أكلته
السباع، إلا الأنبياء وشهداء المعركة والأطفال وما ورد من أن من واظب على قراءة
تبارك الملك كلّ ليلة لا يسأل، ونحوه يحمل على أنه يخفف عنه في السؤال بحيث لا
يفتن في الجواب، ويسألان كل أحد بلغته على الصحيح، وقيل بالسرياني، ولذلك قال
السيوطي:
ومن عجيب ما ترى العينان
>< أن سؤال القبر بالسرياني
أفتى بذاك شيخنا البلقيني
>< ولم أره لغيره بعيني
والسؤال على القول بأنه بالسرياني أربع كلمات وهي: أتره أترح كاره سالحين،
فمعنى الأولى قم يا عبد الله. والثانية فيمن كنت. والثالثة من ربك وما دينك.
والرابعة ما تقول في الرجل الذي بعث فيكم وفي الناس أجمعين. وقد ورد أن حفظ هذه
الكلمات دليل على حسن الخاتمة كما بخط الميداني اهـ باجوري. وقد جمع بعضهم الذين
لا يفتنون في قبورهم فقال:
جمع كرام أتى في النقل أنهم
>< لا يسألون من الملكين في القبر
الأنبياء ومطعون كذا الشهدا
>< من البطون كذا الصديق في الخبر
ومن منيته في يوم جمعة أو
>< في ليلة مات والأطفال في الأثر
ومن تلاوته في كلّ ليلته
>< لسورة الملك فافقه ذاك واعتبر
التعزية وزيارة القبور
[فائدة]: نقل الزركشي عن الإمام أحمد أن المعزى يردّ على المعزي بقوله:
استجاب الله دعاءك ورحمنا وإياك اهـ. وقد ورد في الأثر عن سيد البشر أنه قال:
"من ورخ مؤمناً فكأنما أحياه، ومن قرأ تاريخه فكأنما زاره، ومن زاره فقد
استوجب رضوان الله تعالى في حرور الجنة" وحق على المرء أن يكرم زائره. اهـ
مشرع. وفي شرح السحيمي على الجوهرة حديث: "ما من عبد يقول ثلاث مرات عند قبر
ميت: اللهم بحق سيدنا محمد وآل محمد لا تعذب هذا الميت إلا رفع عنه العذاب إلى يوم
ينفخ في الصور" اهـ.
[فائدة]: زيارة القبور إما لمجرد تذكر الموت والآخرة فتكون برؤية القبور من
غير معرفة أصحابها، أو لنحو دعاء فتسن لكل مسلم، أو للتبرك فتسن لأهل الخير، لأن
لهم في برازخهم تصرفات وبركات لا يحصى مددها، أو لأداء حق كصديق ووالد لخبر:
"من زار قبر والديه أو أحدهما يوم الجمعة كان كحجة" وفي رواية "غفر
له وكتب له براءة من النار" أو رحمة وتأنيساً لما روي: آنس ما يكون الميت في
قبره إذا زاره من كان أحبه في الدنيا اهـ إيعاب.
[فائدة]: رجل مرّ
بمقبرة فقرأ الفاتحة وأهدى ثوابها لأهلها فهم يقسم أو يصل لكل منهم مثل ثوابها كاملاً، أجاب ابن حجر بقوله:
أفتى جمع بالثاني وهو اللائق بسعة رحمة الله تعالى اهـ.
(مسألة: ب): الأولى
بمن يقرأ الفاتحة لشخص أن يقول: إلى روح فلان ابن فلان كما عليه العمل، ولعل
اختيارهم ذلك لما أن في ذكر العلم من الاشتراك بين الاسم والمسمى، والمقصود هنا
المسمى فقط لبقاء الأرواح وفناء الأجسام، وإن كان لها بعض مشاركة في النعيم، وضدّه
البرزخ إذ الروح الأصل، وسر ذلك أن حقيقة المعرفة والتوحيد وسائر الطاعات الباطنة
إنما تنشأ عن الروح، فاستحقت أكمل الثواب وأفضله، والطاعات الظاهرة كالتبع والقائم
بها البدن، فاستحق أدنى الثواب وليس
كالجماد من كل وجه بل له إدراك، لأن الروح وإن كانت بعيدة عنه في عليين وهي روح
المؤمن أو سجين وهي روح الكافر فلها اتصال بالبدن، كالشمس في السماء الرابعة ولها
اتصال وشعاع ونفع عام بالأرض، فلذا كان له نوع إحساس بالنعيم وضدّه.
(مسأة: ش): ورد أن
الأموات يتعارفون ويتزاورون في قبورهم وفي أكفانهم، ولهذا ندب تحسين الكفن،
ويعرفون من زارهم ويستأنسون به ويردّون على من سلم عليهم، ولا يختص بيوم الجمعة،
ولا بميت دون آخر، ولا يبعد رؤيتهم للزائر، ولا تكون الأرض حائلة إذ ذاك من أمور
الغيب الواجب الإيمان بها، وليست
جارية على العادة، وهذا في حق المؤمن الناجي من العذاب، بل من توجه إليه النعيم
جسماً وروحاً، وفتح له إلى الجنة باب بلا بواب من أهل لا إله إلا الله، فلا
يحتاجون إلى الإيناس في قبورهم وليس عليهم فيها وحشة، نعم من شابها بالمخالفات
ومات على التوحيد فهو وإن توجب عليه العذاب لا يكون أبديّ التأبيد، بل هو بصدد
الانقطاع، إما بشفاعة أو برحمة الله تعالى، كما ليس على من مات صبياً وحشة في قبره
أصلاً، إذ سببها المخالفة وهي مفقودة في حقه، إذ ورد أن الصبيانَ في الجنة يكفِلهم
إبراهيم عليه السلام وسارة، وأن الصبي شبعان ريان ويرتضع من شجرة طوبى هذا حكم
الروح، وما كالروح تنعماً وضدّه وصل إلى الجثة، وأما من وضع عليه النكال فهو مشغول
عن الزوّار بما هو فيه ولم تغنه زيارة الأشكال.
[فائدة]: طرح الشجر الأخضر على القبر استحسنه بعض العلماء وأنكره الخطابي،
وأما غرس الشجر على القبر وسقيها فإن أدى وصول النداوة أو عروق الشجر إلى الميت
حرم، وإلا كره كراهة شديدة، وقد يقال يحرم، والجلوس على القبرمكروه كما في الروضة
والمجموع خلافاً لقول شرح مسلم إنه حرام اهـ بامخرمة.
(مسألة: ش): إدخال
الدوابّ التربة وإيطاؤها القبور
مكروه كراهة شديدة أشد من وطء الآدمي بنفسه، وقد قال غير واحد بحرمة الجلوس على
القبر لحديث مسلم، لكن حمله الجمهور على الجلوس لقضاء الحاجة، ولا شك أن من رأى
دابة تبول على قبر يجب عليه زجرها وإن كانت غير مكلفة فهو المكلف، وتشتدّ الكراهة
في قبر مشهور بالولاية أو العلم، فكيف بالمشهور بهما كسيدي إسماعيل الحضرمي، بل
يخاف على فاعل ذلك أن يكون من معاديهم المأذون بالحرب في الحديث القدسي، لأن الميت
يتأذى مما يتأذى منه الحي، وأما جعل العجور يعني علف المواشي والطعام في المقبرة
وشغل شيء منها فحرام مطلقاً إذ هي موقوفة للدفن، فتجب على فاعل ذلك أجرة المحل
الذي شغله من أرضها قياساً على إشغال بقعة من المسجد، نعم إن كانت ملكاً استأذن
مالكها.
(مسألة: ك): التمسح بالقبور، قال الإمام أحمد: لا بأس به، وقال الطبري:
يجوز وعليه عمل العلماء والصالحين، وقال النووي: يكره إلصاق الظهر والبطن بجدار
القبر ومسحه باليد وتقبيله، قال ابن حجر: إلا إن غلبه أدب وحال. وروي أن بلالاً
رضي الله عنه لما زار المصطفى جعل يبكي ويمرغ وجهه على القبر الشريف.
كتاب الزكاة
(مسألة: ش): قال الترمذي الحكيم وغيره من الصوفية: لا زكاة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إذ لا ملك لهم مع
الله تعالى، لكن الذي نقله الجهابذة عن النص أنهم يملكون كغيرهم، بل الظاهر أن
ملكهم أتمّ وأعظم لتمام كمالاتهم في سائر الأحوال، ألا ترى أنه يلزم المالك المضطر
بذل ماله له ، وأنه يفدي مهجته بمهجته، فإذا كان أولى بملك كل مالك من مالكه إذ هو
أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فكيف لا يملك ما لا ملك لغيره عليه إذا تقرر ذلك؟ فحكم
الأنبياء في وجوب الزكاة حكم غيرهم، واستنباط ذلك من قول عيسى عليه السلام كما
حكاه الله عنه في قوله تعالى: {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً} ويؤخذ منه
أنه أوان نزوله يصلي الصلوات ويملك الأموال ويزكيها، وأما عدم ورود كونه أدى
الزكاة فلا يلزم منه عدم الوقوع، فإن فرض أنه لم يقع فلعدم استجماع شرائط الوجوب
التي منها مضيّ حول على عين النصاب، مع أنه ورد أنه كان له عشرون لقحة من النوق
ومائة من الغنم فإذا زادت واحدة ذبحها.
شروط ما تجب فيه الزكاة
تجب الزكاة في جميع ما يملكه المسلم الحر مما وجبت زكاته ولو مديناً، وحتى
في الدين الذي على غيره على المعتمد إن كان نقداً ذهباً أو فضة لا نحو ماشية وحب،
نعم لو كان له منائح عند غيره عارية وجبت زكاتها بشرطها، لأنها لم تخرج عن ملكه،
بخلاف ما لو أقرضه إياها، ثم إن تمكن من الإخراج في الدين بأركان على مليء مقرّ أو
له عليه حجة أخرج حالاً، وإلا فحتى يقبضه فيخرج زكاة ما مضى فقد تستغرق كله أو
جله، ولو أبرأه عن الدين لم يبرأ عن قدر الزكاة، ولا يصح أن يبرئه عن قدرها كل عام
وينوي به الزكاة لعدم القبض.
(مسألة: ب): له دين على مليء حاضر مقرّ أو عليه بينة أو يعلمه الحاكم لزمه
إخراج زكاته حالاً، كغائب سهل الوصول إليه ومضى زمن يمكنه ذلك، وإلا فحتى يقبضه أو
يحضر.
(مسألة: ج): أوصى له
بنصاب من الدراهم معين أو شائع فتأخر قبوله أحوالاً لم تلزم زكاته، لا على الموصى
له لعدم استقرار ملكه، ولا الورثة لخروجها عن ملكهم، وفاقاً لمحمد باسودان وخلافاً
للسيد عمر بن عبد الله بن يحيى في المشاع، فرجح فيه وجوبها على الورثة اهـ. وأطلق
في الإيعاب كأبي مخرمة عدم الوجوب في ذلك على كل، ولم يقيده بالمطلق ولا المعين.
[فائدة]: قال في الإحياء: لو كان عليه دين مستغرق ماله فلا زكاة عليه لأنه
ليس غنياً، إذ الغني ما يفضل عن الحاجة اهـ.
الخلطة
[فائدة]: صورة مكان الحفظ في الخلطة أن يكون لكل واحد منهما نخيل أو زرع في
حائط واحد، أو دراهم في صندوق، أو أمتعة تجارة في دكان، ولا تمييز لأحدهما بشيء
مما مرّ اهـ ب ر. ومثل ذلك ما لو أودعه جماعة دراهم لكل واحد منهم دون نصاب ووضع
الجميع في صندوق مع تمييز كل، فإذا بلغ المجموع نصاباً فأكثر ومضى حول وهي كذلك
لزمت زكاتها اهـ ع ش. وعبارة الفتح أنها أي الخلطة تجعل ملك الخليطين وخليطيهما
كمال، فلو خالط ببعض ماله واحد أو ببعض آخر ولم يخالط أحد خليطيه الآخر، كأن كان
له أربعون شاة فخلط كل عشرين منها بعشرين لآخر ولا يملكون غيرها لزمه هو نصف شاة،
وعلى كل واحد من الآخرين ربعها إذ الجملة ثمانون اهـ. وفي فتاوى عبد الله بن أحمد
مخرمة: لزيد نخل بدوعن يحصل منه نصاب، وله شرك مع عمرو في نخلة منفردة عن هذا
النخل لا يجيء منها نصاب، ولعمرو أيضاً نخلة بالهجرين مشتركة بينه وبين بكر، ولبكر
نخلة بعمان خالصة، وجب على عمرو بشركة زيد، وعلى بكر أيضاً بشركة شريك زيد في
نخلته المشتركة مع عمرو، وكذا الخالصة التي بعمان وإن لم يبلغ نخله نصاباً اهـ.
النعم
(مسألة: ش): سأل عامي آخر عن زكاة الغنم فأفتاه في أربعين شاة بشاتين
فأخرجهما، ثم علم أن الواجب واحدة، فإن صدقه الآخذ أو توفرت القرائن على صدقه، كأن
علم الآخذ ما أفتى به وكان ممن يخفى عليه وحلف في الثانية استرد أيهما شاء إن
بقيتا، أو إحداهما إن بقيت واحدة، أو قيمة إحداهما إن تلفتا، هذا إن كانتا بصفة
الإجزاء، وإلا تعين استرداد غير المجزئة، ويجري ذلك فيما لو دفع بنت لبون مثلاً عن
خمس وعشرين، لكن يستردّها كلها ويدفع بنت مخاض لعدم إمكان معرفة قدر الواجب.
(مسألة): له غنم ثلاثون كبار وعشرون صغار، فإن مضت لأربعين منها سنة لزمه
شاة كبيرة، وإلا ابتدأ الحول من تمام النصاب لا من ملك الكبار، إذ لا يعطى النتاج
حول الأصل إلا بعد انعقاد حوله وهو تمام النصاب، كأن تكون له مائة شاة فنتجت إحدى
وعشرين أخر حولها فيلزمه
شاتان.
[فائدة]: يقال لما طعن
في السنة السادسة من الإبل ثنية، وفي السابعة رباع، والثامنة سدس وسديس للذكر
والأنثى، والتاسعة بازل لأنه بزل نابه أي طلع، وفي العاشرة مخلب، وفيما بعدها بازل
عام أو عامين إلى خمس ثم بعده، يقال للذكر عود وللأنثى عودة، ثم بعده إذا كبر يقال
للذكر فخم وللأنثى فخمة، ثم بعده يقال ناب وشارف اهـ شوبري.
النقدين والتجارة
(مسألة): يجوز إخراج العدي الفضة عن القروش إذا ساوتها في القيمة، سواء في
ذلك النقد الخالص والمغشوش، بخلاف ما إذا نفعت قيمة الكسر اهـ، قاله ابن حجر في
الإيعاب والفتاوى.
(مسألة: ي): لا يجزي إخراج الفلوس المضروبة من النحاس عن زكاة النقد، كما
لا يجزي أحد النقدين عن الآخر، ولا نوع أردأ أو ناقص القيمة عن أجود، نعم إن عسر
الإخراج من كل أخرج أحد النقدين عن الآخر، ولا نوع أردأ كمختلفي صفة، بتعدد
الضريبة أو قلة الغش مع استواء القيمة مطلقاً، ومغشوش عن خالص إن ساوى الغش مؤنة
السبك، أو رضي المستحقون بتحمل المؤنة، ولا يحسب الغش حينئذ اهـ. قلت: وفي تشييد
البنيان لبارجا، وأفتى البلقيني بجواز إخراج الزكاة فلوساً عند تعذر الفضة أو كانت
معاملتهم بالفلوس، لأنها أنفع للمسلمين وأسهل، وليس فيها غش كما في الفضة
المغشوشة، فعند ذلك يتضرر المستحق إذا ردت ولا يجد غيرها ولا بدلاً اهـ. وقال ق ل:
أما إخراج الفلوس فإني أعتقد جوازه ولكنه مخالف لمذهب الشافعي اهـ.
[فائدة]: قال أبو مخرمة: والقفلة المعروفة المتعامل بها الآن بعدن وغالب
اليمن ستة عشر قيراطاً مصرية، والأوقية اليمانية عشر فقال اهـ.
(مسألة: ي): كل ما حرم
أو كره من النقد لأدنى سرف أو للخلاف في حله كتحلية آلة الحرب لغير المجاهد، وتحلية
المرأة أو آلة الحرب مطلقاً بدراهم مثقوبة غير معراة، وكالذي قصد كنزه أو انكسر
واحتاج في إصلاحه لصوغ جديد من حلي
المرأة وآلة الحرب والخاتم وجبت زكاته وما لا فلا.
[فائدة]: العرض بفتح
العين وإسكان الراء اسم لكل ما قابل النقدين من صنوف المال، ويطلق أيضاً على ما
قابل الطول، وبضم العين على ما قابل النصل في السهام، وبكسر العين محل المدح والذم
من الإنسان، وبفتح العين والراء ما قابل الجوهر اهـ ش ق.
[فائدة]: اشترى
للتجارة صبغاً أو دباغاً ليصبغ أو يدبغ به للناس، أو شحماً ليدهن به الجلود مثلاً،
وبقي عنده حولاً صار مال تجارة تلزمه زكاته، وإن اشترى لها سمسماً وعصره وباع
الشيرج، أو حنطة فخبزها وباع الخبز لم ينقطع الحول في أظهر الوجهين، لأن ذلك يقصد
به زيادة الربح اهـ إيعاب.
[فائدة]: لو مات مورثه عن مال تجارة انقطع حوله حتى يتجر فيه بنيتها اهـ (م
ر) . وظاهره أنه لا ينعقد الحول إلا فيما تصرف فيه بالفعل فقط لا في الباقي وهو
ظاهر اهـ رشيدي.
[فائدة]: قال ابن
الأستاذ: تنبغي المبادرة إلى تقويم المال بعدلين، ولا يكفي واحد كجزاء الصيد، ولا
يجوز تصرفه قبل ذلك، إذ قد يحصل نقص فلا يدري ما يخرجه قبل اهـ. لكن قال ابن حجر:
ويظهر الاكتفاء بتقويم المالك الثقة العارف، وللساعي تصديقه نظير عدّ الماشية اهـ،
ثم المعتبر في التقويم النظر إلى ما يرغب في الأخذ به في مثل ذلك العرض حالاً،
فإذا فرض أنه ألف وكان التاجر إذا باعه على ما جرت به عادته مفرقاً في أوقات بلغ
ألفين مثلاً اعتبر ما يرغب به في الحال، اهـ ع ش اهـ جمل.
(مسألة: ب ي): يفرد الربح عن رأس المال بحول فيما إذا نض مال التجارة أي
باعه بالنقد الذي يقوّم به وهو ما اشتراه به، أو نقد البلد فيما إذا اشتراه بعرض،
فحينئذ يبتدأ حول الربح من حين البيع، فلو أخرج زكاته مع أصله كان له حكم المعجلة،
أما لو نض بغير النقد الذي يقوّم به أو بعرض فزكاته كأصله، زاد ب: وتقوّم جميع عروض التجارة ولا يترك للمالك
شيء اهـ. قلت: وقوله إن نض الخ قال بج وجمل: أي جميع مال التجارة أصلاً وربحاً،
وإلا فلا يفرد الربح بحول، كما لا ينقطع حولها فيما إذا نضّ ناقصاً أثناء الحول
إلا إن نض جميعه أيضاً اهـ.
المعشرات
[فائدة]: مذهب أبي حنيفة وجوب الزكاة في كل ما يخرج من الأرض إلا الحطب
والقصب والحشيش، ولا يعتبر عنده النصاب، ومذهب أحمد تجب فيما يكال أو يوزن ويدخر
من القوت ولا بد من النصاب، ومذهب مالك كالشافعي اهـ قلائد.
[فائدة]: يجوز أكل
الفريك أي الجهوش ما لم يتحقق أنه مال زكوي فيحرم حينئذ، وإن أطال جمع في
الاستدلال للجواز بما في خبر الباكورة اهـ فتاوي ابن حجر. وقال ش ق: وقبل الخرص
يمتنع على مالكه التصرف ولو بصدقة وأجرة حصاد وأكل فريك أو فول أخضر فيحرم، بل
يعزر العالم لكن ينفذ تصرفه فيما عدا قدر الزكاة، فما اعتيد من إعطاء شيء عند
الحصاد ولو للفقراء حرام، وإن نوى به الزكاة لأنه أخذ قبل التصفية، وإن كان خلاف
الإجماع الفعلي في الأعصار والأمصار، وما ورد مما يخالف ما قلنا يحمل على ما لا
زكاة فيه، ولا يمتنع رعيه وقطعه قبل اشتداد حبه، نعم إن تضرر وزادت المشقة فلا حرج
في تقليد أحمد في جواز التصرف بالأكل والإهداء ولا يحسب عليه، وقال الرحماني: إذا
ضبط قدراً وزكاة أو ليخرج زكاته بعد فله ذلك ولا حرمة اهـ ونحوه في التحفة.
[فائدة]: سئل القاضي القطب سقاف بن محمد الصافي: هل يجوز إخراج زكاة التمر
رطباً؟ فأجاب: المذهب لا يجوز إلا جافاً منقى، لكن إذا اضطر الفقراء جازت رطباً
دفعاً لضررهم، لأن مدارها على نفع المستحقين والخروج من رذيلة البخل اهـ. وقال في
القرطاس في مناقب القطب عمر العطاس: وبلغنا عنه أي صاحب المناقب المذكور أنه أمر
بإخراج زكاة الخريف قبل أن يجفّ، فقيل له: إن أهل العلم يقولون إنه لا يصح حتى
يجف، فقال: هم رجال ونحن رجال، اسألوا الفقراء أيما أحب إليهم الرطب أم الجاف؟
فقبل منه وعمل به أهل الجهة الجميع اهـ.
[فائدة]: حاصل كلامهم في انضمام الزروع بعضها إلى بعض، أنه إذا زرع صيفاً
ثم شتاء وكمل الأول بالثاني وكان حصادهما في عام واحد زكاهما بالاتفاق، فلو زرع
صيفاً آخر وكان حصاده مع الثاني في عام ومجموعهما نصاباً لم يضم الثالث إلى الثاني
عند عبد الله بلحاج وابنه أحمد وعبد الله بن عمر مخرمة، ويضم إليه عند عبد الله بن
أحمد مخرمة وصاحب القلائد وعلي بايزيد وهو الصواب ومقتضى كلام الأصحاب، اهـ منتخب
اهـ من خط بعضهم. واشترط في التحفة والفتح في التمر كون القطع في عام واحد أيضاً
كالزرع، وخالفه في الإمداد والنهاية والمغني والإرشاد، فاشترطوا كون الإطلاع في
عام لا القطع.
[فائدة]: الحمص وهو الصنبرة والباقلاء الفول واللوبيا بالمد والقصر الدجر
الأبيض والماش هو الأسود والهرطمان هو الجلبان وهو الحنبص والكمأ هو الأدنون
والسماق ورق العثرب اهـ باسودان. وفي الإيعاب: لا يضم جنس لغيره لإكمال النصاب
كالحنطة والشعير والحمص والعدس والباقلاء والهرطمان واللوبيا والماش لانفراد كل
باسم وطبع كالتمر والزبيب اهـ. وفي التحفة: ومر أن الماش نوع من الجلبان فيضم
إليه، وأن الدخن نوع من الذرة وهو صريح في أنه يضم إليها، لكنه مشكل لاختلافهما
صورة ولوناً وطبعاً وطعماً، ومع اختلافها تتعذر النوعية اتفاقاً، فليحمل كلامهم
على نوع منها يساويه في أكثر الأوصاف اهـ.
[فائدة]: نقل ب ر أن حبة البرّ نزلت من الجنة قدر بيضة النعامة ألين من
الزبد وأطيب رائحة من المسك، واستمرت هكذا إلى وجود فرعون فصغرت وصارت كبيضة
الدجاجة، إلى أن ذبح يحيى فصارت كبيضة الحمامة، ثم صغرت حتى صارت كالبندقة، ثم
كالحمصة، ثم صغرت حتى صارت على ما هي عليه الآن، فنسأل الله أن لا تصغر عن ذلك اهـ
شوبري. و ش ق. ثم قال: وفي الأرز سبع لغات أفصحها فتح الهمزة وضم الراي وتشديد
الزاي، ويسن الإكثار من الصلاة على النبي عند أكله لأنه خلق من نوره، قاله البويطي
وقرره حف وإن لم يصح حديثاً اهـ.
الفطرة
[فائدة]: لو كان له مال دون مرحلتين وجبت عليه الفطرة ولا يلزمه الاقتراض،
أو مرحلتين لم تجب كما اعتمده (م) وقال ابن حجر: تلزمه إن وجد من يقرضه اهـ كشف
النقاب.
(مسألة: ب): لا يلزم
الشخص بيع آلة الحرفة وحلي المرأة اللائق ككتب الفقه والمسكن غير النفيس في الفطرة
ابتداء بخلاف ما لو لزمت ذمته فيباع الكل فيها اهـ. قلت: قال ع ش: وليس من الفاضل
ما جرت به العادة من تهيئة ما اعتيد للعيد من الكعك والنقل المخلوط من لوز وزبيب
وغيرهما، فوجود ما ذكر لا يقتضي وجوبها عليه اهـ. قال ق ل: ولا يتقيد بيوم فيقدم
ذلك على الفطرة اهـ.
(مسألة: ج): يلغز فيقال: رجل مسلم تلزمه فطرة قريبه لا نفسه وهو المبعض
الذي بينه وبين سيده مهايأة ووقع الوجوب في نوبة السيد، ويقال أيضاً: تلزمه فطرة
قريبه الموسر، أي إن أعسر القريب وقت الوجوب ثم أيسر بعده فتلزم قريبه اهـ. قلت:
والمعتمد وجوب فطرة كاملة على المبعض عن ممونه كما قاله ابن حجر و (م ر): خلافاً
للشيخ زكريا والخطيب القائلين بوجوب القسط اهـ زي.
(مسألة): تجب فطرة كل عبد محكوم بإسلامه وإن أخذ للتجارة أو آجره السيد
لآخر، وتجب أيضاً زكاة التجارة في العبد الذي أخذ لها، فيقوِّم آخر الحول ويخرج
ربع عشر قيمته، وتجب فطرة خادمة الزوجة، سواء كانت أمتها أو أجنبية أخدمها إياها
بالنفقة بخلاف المؤجرة لخدمتها كما لا تجب نفقتها، قال في النهاية: قال ع ش:: قوله
المؤجرة أي ولو إجارة فاسدة، ومثلها من استأجره لنحو رعي بشيء معين، بخلاف ما لو
استخدمه بالنفقة فتجب فطرته كخادم الزوج ويحتمل الفرق اهـ.
(مسألة): لا يجزىء في الزكاة والفطرة التمر المنزوع النوى المسمى بالمقلف،
بخلاف الكبيس أي المرزوم بنواه كما في التحفة، لكن أفتى أبو زرعة بأنه إن كان غالب
قوت البلد أجزأ لأنه أكثر قيمة، ونقل في تشييد البنيان عن العلامة عبد الرحمن بن
شهاب الدين الإجزاء أيضاً إذا لم يتغير طعمه ولونه أو ريحه، وأفتى به شيخنا ب،
والواجب من ذلك ستة أرطال حضرمية، اهـ من فتاوى العلامة أحمد بن علي بلفقيه. وفي
باعشن: والمدار على الكيل بل الأكثر أن الخمسة الأرطال والثلث لا يجيء منها صاع حب
ولا تمر كما جربناه مراراً، وهو بأرطال دوعن سبعة أرطال أو سبعة ونصف على جودة
الحب والتمر وعدمها، فمن أخرج من التمر المرزوم فليتنبه فإنهم يقولون إنه ستة
أرطال وهو لا يجيء منه صاع اهـ.
(مسألة): لو كان بين اثنين ثمانية أمداد فنوياها فطرة وفرقاها بلا إفراز
كفاهما، قاله ابن حجر، ويؤخذ منه أنه لو جمع وليّ فطراً من جنس ونواها عنه وعن
ممونه أجزأ أيضاً، ويجزىء صاع من نوعين عن واحد لا من جنسين، فلو كانوا يقتاتون
البر المخلوط بالشعير لم يجزه إلا إخراج خالص من أحدهما قاله في النهاية، قال (ع
ش): فلو خالف وأخرج المخلوط وجب دفع ما يكمل البر إن كان هو الغالب وإلا تخير اهـ.
(مسألة): ليس اختلاف الأنواع في الفطرة كاختلاف الأجناس، فحينئذ يجزىء نوع
عن نوع، وإن غلب اقتيات أحدهما كالذرة الحمراء عن البيضاء، وكذا يقال في أنواع
التمر، وخرج بالفطرة المعشر ففيها تفصيل في محله، ويجزىء هنا نوع أعلى من قوت
البلد لا أدون منه، وإن كان أعلى قيمة، فلا يجزىء الأرز عن الذرة أو التمر كما في
التحفة والفتح، والمراد بالدخن المسيبلي بلغتنا اهـ. قلت: وقد رمز بعضهم لما تجب
فيه زكاة الفطر مرتباً الأعلى فالأعلى فقال:
بالله سل شيخ ذي رمز حكى مثلاً
>< عن فور ترك زكاة الفطر لو جهلا
وهذا الترتيب هو المعتمد، وإن قدم بعض المتأخر في التحفة، وما نصوا على أنه
خير لا يختلف باختلاف البلدان اهـ كردي وباعشن.
(مسألة: ي): يجوز
التوكيل في إخراج الفطرة له ولممونه بعد دخول رمضان وكذا قبله إن نجز الوكالة،
كوكلتك في إخراجها، ولا تخرجها إلا في رمضان، لا إن علقها، كإذا جاء رمضان فقد
وكلتك، قاله ابن حجر وأبو مخرمة، ومنع الشيخ زكريا و (م ر) التوكيل قبل رمضان
مطلقاً، لكن لو أخرجها الوكيل فيه أجزأت اتفاقاً علق أو نجز لعموم الإذن، وظاهر
كلام ع ش أنه لا يجب على المؤدي التوكيل قبل وقت الوجوب، بحيث يصل الخبر إلى الوكيل قبل خروج وقت
الفطرة.
(مسألة: ي): يجوز
للمؤدى عنه إخراج فطرته من ماله بغير إذن المؤدي، وتسقط عن المؤدي لا من مال
المؤدي بل يضمنها، ولا تجزئه إلا بإذنه اهـ، ونحوه ك وزاد: وكإذنه ظن رضاه، وليس
له مطالبة المؤدي بالإخراج ولو موسراً، فلو غاب المؤدي جاز اقتراض النفقة للضرورة
لا الفطرة، ولا يجوز إخراجها إلا من غالب قوت البلد المؤدى عنه، فيدفعها المخرج
إلى الحاكم أو لمن يخرجها، ثم فإن عجز عنهما عذر في التأخير فيخرجها قضاء هناك
اهـ. وعبارة ي: لا يجوز إخراج الفطرة إلا من غالب قوت بلد المؤدى عنه، وعلى
مستحقيه مطلقاً كما في التحفة و (م ر) وغيرهما، لكن ظاهر عبارة الفتح والإمداد أنه
يلزم في غير المكلف أن تكون من غالب قوت بلد المؤدي وعلى مستحقيه.
[فائدة]: ليس للجد إخراج فطرة أولاد ابنه الغائب من غير وكالة، بل يخرجها
القاضي وجوباً من مالهم إن كان وإلا فمال أبيهم، ولا يجزىء عندنا أخذ القيمة عن
واجب الفطرة إن وجد دون مسافة القصر وإلا وجبت من نقد البلد ولا يؤخر لوجوده اهـ
فتاوى بامخرمة ووافقه جده عبد الله بن أحمد وعبد الله بلحاج وابن ظهيرة في قيام
الحاكم مقام الأب قاله في القلائد.
(مسألة: ش): قطع
الجمهور ونص عليه الشافعي بعدم إجزاء اللحم في الفطرة، لكن وقع في الأنوار الإجزاء
إذا لم يقتت في ذلك المحل سواه، فعليه يقدر بمعياره الشرعي وهو الوزن، فيخرج خمسة
أرطال وثلث بلا عظم أو مع عظم معتاد أخذاً من تشبيههم له في السلم بنوى التمر.
[فائدة]: من استهلّ عليه شوّال بمحل خلاء أو بلاد ففطرته لأهل ذلك المحل إن
وجد به مستحق، وإلا نقلها لأقرب محل إليه من البادية أو البلاد لتصرف إلى أربابها،
اهـ ابن سراج، اهـ من خط ابن قاضي.
كيفية أداء الزكاة وحكم تعجيلها
ونقله
[فائدة]: شك في نية الزكاة بعد دفعها لم يضر، ولا يشكل ذلك بالصلاة لأنها
عبادة بدنية، بخلاف هذه إذ قد اتسع فيها بجواز تقديمها وتفويضها لغير المزكي اهـ
شوبري.
(مسألة: ب): يجب أداء الزكاة عند تمام الحول والتمكن فيضمن بتلف المال
بعده، ويحصل التمكن بحضور المال الغائب أو المغصوب أو الضال، ووجود قابضها من نحو
إمام أو مستحق، وحلول دين زكويّ، وفراغ الدافع من مهمّ ديني أو دنيوي، وله التأخير
لطلب الأفضل، كانتظار قريب وجار وأحوج وأفضل، لكنه يضمه إن تلف، وهذا إن لم يتضرر
الحاضرون بالتأخير وإلا حرم.
(مسألة): اجتمع نحو
زكاة ودين آدمي في تركة ميت قدمت عليه، وإن تعلق بالعين قبل الموت كمرهون أو على
حي وضاق ماله، فإن لم يحجر عليه أو تعلقت بالعين قبل الحجر قدمت الزكاة جزماً،
سواء زكاة سنة أو أكثر، وإن حجر عليه فحال الحوْل في الحجر فكمغصوب، فإن عاد له
المال بإبراء أو نحوه أخرج لما مضى وإلا فلا، قاله في النهاية ونحوه التحفة.
(مسألة): صالحه من ألف على نصفه وقد تعلق به زكاة، فالظاهر أن زكاة
المقبوضة لازمة بالقبض لما مضى، وأما المبرأ منها أعني الخمسمائة فيبرأ المدين من
غير قدر الزكاة، فيلزمه رده للدائن ليؤديه لمستحقيه، أو يوكله الدائن في نيتها وإخراجها، كما صرحوا به في الخلع، فيما إذا
أبرأته من صداقها وقد تعلقت به زكاة أنه لا يبرأ من قدرها، وقال في القلائد: وإذا
لزمت الزكاة في الدين فأبرأه منه بقي قدرها بناء على أنها تركة.
[فائدة]: لا يصح بيع
ما وجبت زكاته غير مال التجارة، سواء باعه كله أو بعضه، فحينئذ يبطل في قدرها
فيرده المشتري، ويسترد قدره من الثمن ويصح في الباقي، نعم إن أفرزها ونواه أو قال:
بعتكه إلا قدرها صح في الأولى في الجميع، وفي الثانية فيما عدا قدرها لكن بكل
الثمن اهـ بج وجمل.
(مسألة: ب): ما يعطيه
التجار بعض الولاة وأعوانهم الظلمة
بقية الزكاة لا يحل ولا يجزيهم عنها، بل هي باقية بعين أموالهم، لأن من لا يقدر أن
يستولي على أخيه ويردّ ضرره ويمنعه من ظلمه، بل لا يقدر على مملوكه فضلاً عن
غيرهما، كيف يوصف بكونه ذا شوكة فضلاً عن الإمامة، مع أن كل واحد من أولئك وعبيدهم
وأعوانهم مستقل بنفسه وبظلمه لمن قدر عليه غالباً، فيجوز دفع حق الفقراء والمساكين
والمصالح لمثل هؤلاء.
(مسألة: ب ج ك): يجوز
دفع الزكاة للسلطان وإن كان جائراً، أو يصرفها في غير مصارفها إذا أخذها بنية
الزكاة، وقد صحت ولايته، وقويت شوكته، وانعقدت إمامته باستخلاف أو بيعة أو تغلب،
لكن التفريق بنفسه أو بوكيله أولى، ما لم يطلبها الإمام من الأموال الظاهرة وهي
النعم والمعشرات والمعدن، وإلا وجب الدفع إليه فضلاً عن الجواز وإن صرح بصرفها في
الفسق، وأما الذي يلزمه التجار كل سنة من الخرس، فإن أعطوه إياه عن طيب نفس لا نحو
خوف جاز له أخذه، وإلا فلا يملكه ولا التصرف فيه ولا تبرأ به ذمتهم عن الزكاة وإن
نووها به.
[فائدة]: لا بد من شروط الإجزاء وقت وجوب الزكاة فيما عجل من زكاة المال،
نعم لا تضر غيبة الفقير وقت الوجوب، فقولهم: تجب الزكاة لفقراء بلد المال محله في
غير المعجل، كما لا تضر غيبة المال عن بلد القابض، بل ولا يشترط تحقق استحقاق
القابض، قاله في النهاية. قال ع ش: وكالزكاة الفطرة في ذلك اهـ. وقال ابن حجر: تضر
غيبة المستحق عن البلد، وفي القلائد وحيث منعنا نقل الزكاة لم يكف توكيل مستحق
غائب من يقبضها له في بلدها على الأرجح وله احتمال بالجواز اهـ. واعتمد الجواز ابن
زياد، والظاهر من كلام أبي مخرمة ورجح عدم الصحة ابن حجر في فتاويه.
(مسألة: ج): وجدت الأصناف أو بعضهم بمحلّ وجب الدفع إليهم، كبرت البلدة أو
صغرت وحرم النقل، ولم يجزه عن الزكاة إلا على مذهب أبي حنيفة القائل بجوازه،
واختاره كثيرون من الأصحاب، خصوصاً إن كان لقريب أو صديق أو ذي فضل وقالوا: يسقط
به الفرض، فإذا نقل مع التقليد جاز وعليه عملنا وغيرنا ولذلك أدلة اهـ. وعبارة ب
الراجح في المذهب عدم جواز نقل الزكاة، واختار جمع الجواز كابن عجيل وابن الصلاح
وغيرهما، قال أبو مخرمة: وهو المختار إذا كان لنحو قريب، واختاره الروياني ونقله
الخطابي عن أكثر العلماء، وبه قال ابن عتيق، فيجوز تقليد هؤلاء في عمل النفس.
(مسألة: ي ك): لا يجوز نقل الزكاة والفطرة على الأظهر من أقوال الشافعي،
نعم استثنى في التحفة والنهاية ما يقرب من الموضع ويعد معه بلداً واحداً وإن خرج عن السور، زاد ك و
ح: فالموضع الذي حال الحول والمال فيه هو محل إخراج زكاته هذا إن كان قارًّا ببلد،
فإن كان سائراً ولم يكن نحو المالك معه جاز تأخيرها حتى يصل إليها، والموضع الذي
غربت الشمس والشخص به هو محل إخراج فطرته.
قسم الصدقات
(مسألة: ي): تجب معرفة أصناف الزكاة الثمانية على كل من له مال وجبت زكاته،
والموجودون الآن في غالب البلاد خمسة. الفقراء: وهم من يحتاج له ولمن وجبت عليه
مؤنته لعشرة مثلاً، ولا يحصل له من ماله أو كسبه اللائق به إلا أربعة فأقل.
والمساكين: وهم من يحصل له فوق نصف المحتاج إليه له ولممونه، ولا يمنع الفقر
والمسكنة داره وثيابه ولو للتجمل وأثاثه اللائقات، وحلي المرأة اللائق أيضاً، وعبد
يخدمه لنحو مرض أو إخلال مروءة بخدمة نفسه، وكتب عالم أو متعلم يحتاج إلها ولو مرة
في السنة، وماله الغائب مرحلتين والمؤجل إن لم يجد من يقرضه، وكسب لا يليق به بأن
تختلّ به مروءته أو يليق وهو من قوم لا يعتادون الكسب، أو مشتغل بتعلم القرآن أو
العلم أو تعليمهما، ويصدق مدّعي نحو الفقر وإن جهل ماله لا من عرف له مال أو كسب
إلا ببينة بتلف المال أو العجز ولو عدل رواية وقع في القلب صدقه. والغارمون: وهم
من استدان لغير معصية أو لها كأجرة بغي أو ضيافة وصدقة وإسراف في النفقة من غير أن
يرجو له وفاء، إن تاب وظن صدقه فيعطى كل الدين بحيث لو قضاه من ماله صار مسكيناً،
وإلا فالفاضل عما لا يخرجه إلى المسكنة، أو استدان لإصلاح بين اثنين أو قبيلتين في
مال أو دم وإن عرف من هو عليه فيعطى مع الغني، لكن بعد الاستدانة ومع بقاء الدين
لا إن قضاه من ماله، ويصدق الغارم ولو بإخبار الدائن أو عدل رواية لا مطلقاً.
والمؤلفة: وهم من أسلم ونيته ضعيفة في الإسلام أو أهله، ولا يعطى مع الغنى ويصدق
بلا يمين. وابن السبيل: العازم على سفر مباح من بلد الزكاة أو المارّ بها، ويعطى
ما يحتاجه من نفقة سفره وممونه، وإن كان له مال غائب وقدر على الاقتراض ويصدق
مطلقاً.
(مسألة: ي ش): لا خفاء أن مذهب الشافعي وجوب استيعاب الموجودين من الأصناف
في الزكاة والفطرة، ومذهب الثلاثة جواز الاقتصار على صنف واحد، وأفتى به ابن عجيل
والأصبعي، وذهب إليه أكثر المتأخرين لعسر الأمر، ويجوز تقليد هؤلاء في نقلها
ودفعها إلى شخص واحد، كما أفتى به ابن عجيل وغيره، ويجوز دفع الزكاة إلى من تلزمه
نفقته من سهم الغارمين، بل هم أفضل من غيرهم، لا من سهم الفقراء أو المساكين، إلا
أن لا يكفيهم ما يعطيهم إياه، ولو دفع نحو الأب لأولاده زكاته أو فطرته بشرطه
فردها الولد له عنها بشرطه أيضاً جاز مع الكراهة، كما لو ردها له بمعاوضة أو هبة
وبرىء الجميع.
(مسألة: ب ك): يجوز دفع زكاته لولده المكلف بشرطه إذ لا تلزمه نفقته
ولإتمامها على الراجح، وإن كان فقيراً ذا عيلة، وكان ينفق عليه تبرعاً، بخلاف من
لا يستقل بنفسه كصبي وعاجز عن الكسب بمرض أو زمانة أو عمى لوجوب نفقته على الوالد،
فلا يعطيه المنفق قطعاً ولا غيره على الراجح، حيث كفته نفقة المنفق، وإلا كأكول لم
يكفه ما يعطاه فيجوز أخذ ما يحتاج إليه، ومثله في ذلك الزوجة، وكالزكاة كل واجب
كالكفارة، زاد ب : نعم إن تعذر أخذها من المنفق بمنع أو إعسار أو غيبة ولم يترك
منفقاً ولا مالاً يمكن التوصل إليه، وعجزت الزوجة عن الاقتراض أعطي كفايته أو تمامها،
أما إذا لم تطالبه الزوجة بها مع قدرتها على التوصل منه كأن سامحته بلا موجب فلا
تعطى لاستغنائها بها حينئذ ككسوب ترك اللائق به من غير عذر، وكناشزة لقدرتها عليها
حالاً بالطاعة، وللزوجة إعطاء زوجها من زكاتها وعكسه بشرطه، ويجوز تخصيص نحو قريب
بل يسن، إذ لا تجب التسوية بين آحاد الصنف بخلافها بين الأصناف.
[فائدة]: يجوز للزوجة المسكينة التي ليس لها كسب، أو لا يكفيها الأخذ من
الزكاة حيث كان زوجها لا يملك إلا كفاية سنة، ولا نظر لغناها الآن لأن ملكها لما
لا يكفيها العمر الغالب لا يخرجها عن الفقر والمسكنة، ككسوب عرف بكساد كسبه
وانقطاعه أثناء السنة أو بعدها، فله أخذ تمام كفايته إلى وقت تأتي الكسب، والمراد
بكفاية العمر الغالب أن تكون له غلة أو ربح تجارة أو كسب أو مال لو بذل في تحصيل
عقار ونحوه كفاه اهـ فتاوي بامخرمة.
(مسألة: ي): استأجر شخصاً بالنفقة جاز إعطاؤه من زكاته إن كان من أهلها، إذ
ليس هذا ممن تجب نفقته كالأصول
والفروع والزوجة، نعم إن أعطاه بقصد التودد أو صلته بها لخدمته أحبط ثوابه وإن
أجزأت ظاهراً اهـ. قلت: وقال ابن زياد: ولا يجوز إعطاء من يخدمه بالنفقة والكسوة،
وإن لم يجر عقد إجارة لأنهم مكفيون حينئذ، نعم له إعطاؤه من سهم الغارمين بشرطه
اهـ، فليحمل كلام ي على ذلك.
(مسألة): قال الإمام
النووي: من بلغ تاركاً للصلاة واستمرّ عليه لم يجز عطاؤه الزكاة إذ هو سفيه، بل
يعطى وليه له، بخلاف ما لو بلغ مصلياً رشيداً ثم طرأ ترك الصلاة ولم يحجر عليه
فيصح قبضه بنفسه كما تصح تصرفاته اهـ. وهذا على أصل المذهب من أن الرشد صلاح الدين
والمال أما على المختار المرجح كما يأتي في الحجر من أنه صلاح المال فقط فيعطى
مطلقاً إذا كان مصلحاً لماله، وينبغي أن يقال له إن أردت الزكاة تب وصلّ فيكون سبب
هدايته، ويعطى المكاتب وإن كان لهاشمي أو كافر كما في العباب.
(مسألة): لا يستحق المسجد شيئاً من الزكاة مطلقاً، إذ لا يجوز صرفها إلا
لحرّ مسلم، وليست الزكاة كالوصية، فيما لو أوصى لجيرانه من أنه يعطي المسجد كما نص
عليه ابن حجر في فتاويه خلافاً لـ: (بج) ، لأن الوصية تصح لنحو البهيمة كالوقف
بخلاف الزكاة.
(مسألة: ب): اتفق
جمهور الشافعية على منع إعطاء أهل البيت النبوي من الزكاة ككل واجب كنذر وكفارة،
وإن منعوا حقهم من خمس الخمس، وكذا مواليهم على الأصح، واختار كثيرون متقدمون
ومتأخرون الجواز، حيث انقطع عنهم خمس الخمس، منهم الاصطخري والهروي وابن يحيى وابن
أبي هريرة، وعمل به وأفتى به الفخر الرازي والقاضي حسين وابن شكيل وابن زياد
والناشري وابن مطير، قال الأشخر: فهؤلاء أئمة كبار وفي كلامهم قوة، ويجوز تقليدهم
تقليداً صحيحاً بشرطه للضرورة وتبرأ به الذمة حينئذ، لكن في عمل النفس لا الإفتاء
والحكم به اهـ. وخالفه ي فقال: لا يجوز إعطاؤهم مطلقاً، ومن أفتى بجوازها لهم فقد
خرج عن المذاهب الأربعة، فلا يجوز اعتماده لإجماعهم على منعها لهم.
[فائدة]: قال الكردي: وكالزكاة في عدم صرفها لذوي القربى كل واجب كالنذر
والكفارة ودماء النسك والأضحية الواجبة والجزء الواجب في المندوبة اهـ، وقوله:
كالنذر أي المطلق أو المقيد بالفقراء من المسلمين مثلاً، أما المتعين لشخص أو
قبيلة منهم فيصح كما يأتي تفصيله في باب النذر.
صدقة التطوع
[فائدة]: صدقة التطوع سنة مؤكدة للأحاديث الشهيرة وقد تحرم، كأن ظن آخذها
يصرفه في معصية، وقد تجب كأن وجد مضطراً ومعه ما يطعمه لكن ببدله، قال في التحفة: والحاصل أنه يجب البذل هنا
أي للمحتاجين من غير اضطرار بلا بدل لا مطلقاً بل مما زاد على كفاية سنة، وثم أي
في المضطر يجب البذل هنا ما لم يحتجه حالاً ولو على غير فقير لكن بالبذل اهـ باعشن.
[فائدة]: ذكر السيوطي
في خماسيه أن ثواب الصدقة خمسة أنواع: واحدة بعشرة وهي على صحيح الجسم، وواحدة
بتسعين وهي على الأعمى والمبتلي، وواحدة بتسعمائة وهي على ذي قرابة محتاج، وواحدة
بمائة ألف وهي على الأبوين، وواحدة بتسعمائة ألف وهي على عالم أو فقيه اهـ.
[فائدة]: هل الأفضل
كسب المال وصرفه للمستحقين أو الانقطاع للعبادة؟ فيه خلاف، وينبغي أن يجتهد ويزن
الخير بالشر، ويفعل ما يدل عليه نور العلم دون طبعه، وما يجده أخفّ على نفسه، فهو
في الغائب أضر عليه اهـ إيعاب، ومنه (فرع) الغني الشاكر وهو كما قال الغزالي: الذي
نفسه كنفس الفقير، ولا يصرف لها إلا قدر الضرورة، والباقي في وجوه الخيرات أو
يمسكه، معتقداً أنه بإمساكه خازن للمجتاحين لينظر حاجة يصرفه فيها لله تعالى أفضل
من الفقير الصابر كما عليه الأكثرون، ورجحه الغزالي في موضع واختاره ابن عبد
السلام وتلميذه ابن دقيق العيد وقال: إنه الظاهر القريب من النص، وأطال الغزالي في
الاستدلال له، ورجح في موضع آخر ما عليه أكثر الصوفية أن الفقير الصابر أفضل اهـ.
باب الصيام
[فائدة]: ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "رجب شهر الله، وشعبان
شهري، ورمضان شهر أمتي" ومعناه أن الله تعالى يتجلى على عباده بالعفو
والغفران في رجب من غير توسط شفاعة أحد، وفي شعبان بتوسط شفاعته، وفي رمضان بواسطة
شفاعة الأمة اهـ حف. قال في التحفة: وما قيل إن التبعات لا تتعلق به أي الصوم يرده
خبر مسلم أنه يؤخذ مع جملة الأعمال فيها، وبقي فيه سبعة وأربعون قولاً لا تخلو عن
خفاء وتعسف، نعم قيل: إن التضعيف في الصوم وغيره لا يؤخذ لأنه محض فضل الله تعالى،
وإنما يؤخذ الأصل وهو الحسنة الأولى، وإنما يتجه إن صح عن الصادق عليه الصلاة
والسلام، وإلا وجب الأخذ بعموم الخبر من أخذ حسنات الظالم ووضع سيئات المظلوم عليه
اهـ.
[فائدة]: ترائي هلال رمضان كغيره من الشهور فرض كفاية لما يترتب عليها من
الفوائد الكثيرة اهـ شوبري، ولا أثر لرؤيته نهاراً، فلا يكون لليلة الماضية فيفطر،
ولا للمستقبلة فيثبت رمضان، ومن اعتبر أنه للمستقبلة فصحيح في رؤيته يوم الثلاثين
لكن لا أثر له لكمال العدة، بخلاف اليوم التاسع والعشرين فلا يغني عن رؤيته بعد
الغروب للمستقبلة كما توهمه بعضهم اهـ ب ر. وهل يقاس عليه لو رؤي ليلة التاسع
والعشرين فلا يثبت عليها حكم أو تثبت الرؤية بذلك، ويجب قضاء يوم لم أر من تعرض
لذلك، وقال المدابغي: والمعنى في ثبوت رمضان بالواحد الاحتياط للصوم، ومثله سائر
العبادات كالوقوف بالنسبة لهلال ذي الحجة اهـ، ورجح ابن حجر اختصاص ذلك برمضان فقط
قال: ولا بد أن يقول الحاكم: ثبت عندي هلال رمضان أو حكمت بثبوته وإلا لم يجب
الصوم اهـ.
(مسألة: ك): لا يثبت رمضان كغيره من الشهور إلا برؤية الهلال أو إكمال
العدة ثلاثين بلا فارق، إلا في كون دخوله بعدل واحد، وأما ما يعتمدونه في بعض
البلدان من أنهم يجعلون ما عدا رمضان من الشهور بالحساب، ويبنون على ذلك حل الديون
والتعاليق، ويقولون اعتماد الرؤية خاص برمضان فخطأ ظاهر، وليس الأمر كما زعموا وما
أدري ما مستندهم في ذلك.
(مسألة: ي): إذا ثبت الهلال ببلد عم الحكم جميع البلدان التي تحت حكم حاكم
بلد الرؤية وإن تباعدت إن اتحدت المطالع، وإلا لم يجب صوم ولا فطر مطلقاً، وإن
اتحد الحاكم ولو اتفق المطلع ولم يكن للحاكم ولاية لم يجب إلا على من وقع في قلبه
صدق الحاكم، ويجب أيضاً ببلوغ الخبر بالرؤية في حق من بلغه متواتراً أو مستفيضاً،
والتواتر ما أخبر به جمع يمتنع تواطؤهم على الكذب عن أمر محسوس، ولا يشترط إسلامهم
ولا عدالتهم، والمستفيض ما شاع بين الناس مستنداً لأصل.
(مسألة: ب): شهد اثنان برؤية الهلال، فلم ير الليلة القابلة بأن كذبهما
قطعاً كما قاله في التحفة فيما لو ذكرا محله فبان الليلة الثانية بخلافه ولم يمكن
عادة انتقاله فيجب قضاء ما أفطروه، فإذا كان هذا في صفة الهلال مع الاتفاق عليه في
منزلته ودرجتها فلأن نجزم بكذبه، ووجوب القضاء إذا لم ير الليلة الثانية أصلاً
أولى، إذ لا يمكن شرعاً ولا عقلاً ولا عادة أن يراه أول ليلة اثنان، ثم لا يراه
جميع أهل الجهة ممن تعرض له في الليلة الثانية، وفي التحفة كالإمداد، ووقع تردد
فيما لو دل الحساب على كذب الشاهد بالرؤية، والذي يتجه منه أن الحساب إن اتفق أهله
أن مقدماته قطعية وكان المخبرون منهم عدد التواتر ردت الشهادة وإلا فلا اهـ. ومن
المعلوم لدى كل أهل هذا الفن اتفاق أهل الحساب قاطبة على أن مقدماته قطعية، وعلى
عدم إمكان الرؤية في مسألتنا، والمخبرون هم ومن تلقى عنهم بإجماع فضلاً عن عدد
التواتر وكتبهم مصرحة بذلك، ومن أثناء جواب لعبد العزيز الزمزمي إذا أخبر عدد
التواتر برؤيته القابلة في الجانب البحري ولم يمكن عادة انتقاله لذلك المحل تبين
خطأ من شهد به الليلة الماضية في الجانب النجدي وحكم ببطلان ما بني على شهادتهم،
إذ شرط المشهود به إمكانه شرعاً وعقلاً وعادة، لكن لا بد من إخبار عدد التواتر من
الحساب بعدم إمكان الانتقال، ومثل ذلك لو حكم برؤيته ليلة الثلاثين بشهادة الشهود،
ثم أخبر برؤيته يوم التاسع والعشرين عدد التواتر، فيجب على القاضي الرجوع عن حكمه
حينئذ لتحقق بطلانه اهـ. فظهر أن معتمد ابن حجر والزمزمي رد الشهادة وما ترتب
عليها، وإن كان الشهود عدولاً فضلاً عن الأماثل، وفي إيضاح الناشري وتحرير أبي
زرعة: إذا أجمع أهل الميقات على عدم الرؤية لم يصح حكم بخلافهم، وقد أجمعوا على
عدم انخساف القمر ليلة ست عشرة، وكذا مغيب الهلال ليلة الثالثة قبل الشفق الأحمر
فيتبين بطلان الشهادة.
(مسألة): ومن أثناء كلام للعلامة علوي بن أحمد الحداد في رؤية الهلال قال:
وأفتى الزمزمي ونقله أحمد مؤذن باجمال عن ابن علان بردّ الشهادة إذا شهد بطلوع
الشهر صباحاً قبل الشمس عدد التواتر قالوا: لاستحالة الرؤية حينئذ، نعم قد تمكن
رؤيته في طرفي النهار كما قاله العلامة القريعي، وذلك في غاية طول النهار، وهو من
نصف الجوزاء إلى نصف السرطان، يعني من ثاني أيام القلب إلى ثمان في النعائم إلى
آخر ما قال.
(مسألة: ش): إذا لم يستند القاضي في ثبوت رمضان إلى حجة شرعية، بل بمجرد
تهوّر وعدم ضبط، كان يوم شك وقضاؤه واجب إذا بان من رمضان حتى على من صامه، إلا إن
كان عامياً ظن حكم الحاكم يجوز، بل يوجب الصوم فيجزيه فيما يظهر اهـ. قلت: وقال
ابن حجر في تقريظه على تحرير المقال: وأفتى شيخنا وأئمة عصره تبعاً لجماعة أنه لو
ثبت الصوم أو الفطر عند الحاكم لم يلزم الصوم ولم يجز الفطر لمن يشك في صحة الحكم،
لتهوّر القاضي أو لمعرفة ما يقدح في الشهود، فأداروا الحكم على ما فيه ظنه ولم
ينظروا لحكم الحاكم، إذ المدار إنما هو على الاعتقاد الجازم اهـ.
(مسألة: ب): مجرد وصول الكتاب من الحاكم إلى حاكم آخر لا يلزم به ثبوت
للشهر إلا على من صدقه فقط، ثم إن العمل جار على أن الحاكم الذي لا يعرف تهوّره في
قبول الفاسق هو الذي انشرح به الصدر بالمصادقة، فإذا جاء كتاب حاكم إلى حاكم آخر
أخبر الناس به وصدقوه مرة واحدة، أما من عرف تهوّره فلا يجوز لنائب آخر وصل إليه
خطه أن يعلم الناس، لأن المصادقة اختل شرطها شرعاً حينئذ حتى يثبت الشهر بموجبها،
وعند تساهل الحكام يناقش على صحة الثبوت وإظهار عين الشهود، قاله أحمد مؤذن
باجمال.
(مسألة: ب): مطلع تريم ودوعن واحد بالنسبة للأهلة والقبلة إلا بتفاوت يسير
لا بأس به، وقال أبو مخرمة: إذا كان بين غروبي الشمس بمحلين قدر ثمان درج فأقل
فمطلعهما متفق بالنسبة لرؤية الأهلة، وإن كان أكثر ولو في بعض الفصول فمختلف أو
مشكوك فيه فهو كالمختلف، كما نص عليه النووي، فعدن وزيلع وبربرة وميط وما قاربها
مطلع، وعدن وتعز وصنعاء وزبيد إلى أبيات حسين وإلى حلى مطلع وزيلع وواسة وهرورة
وبر سعد الدين وغالب بر السومال فيما أظن إلى بربرة وما هناك مطلع، ومكة والمدينة
وجدة والطائف وما والاها مطلع، وصنعاء وتعز وعدن وأحور وحبان وجردان والشحر
وحضرموت إلى المشقاص مطلع، ولا يتوهم من قولنا الشحر وعدن مطلع مع قولنا عدن وزيلع
مطلع أن تكون الشحر وزيلع مطلعاً، بل إن عدن وسط، فإذا رؤي فيها لزم أهل البلدين،
أو في أحدهما لزم أهل عدن، وقول السبكي: يلزم من الرؤية في البلدة الشرقية الرؤية
في الغربية منتقد لا يوافق عليه اهـ. وواعجباً من تقصير الحكام وتساهلهم وتهوّرهم،
فإنهم يقبلون من لا يقبل بحال، ويلزمون الناس بشهادته الفطر والصيام مع عدم وجود
الهلال بعد الغروب فضلاً عن إمكان رؤيته اهـ. قلت: وذكر العلامة طاهر بن هاشم أن
مطلع تريم ومكة واحد، لأن غاية البعد بينهما في الميل الجنوبي سبع درج الخ اهـ.
واعتمد كلام السبكي ابن حجر في الفتاوى ورده في التحفة.
(مسألة: ي ك): يجوز للمنجم وهو من يرى أن أوّل الشهر طلوع النجم الفلاني،
والحاسب وهو من يعتمد منازل القمر وتقدير سيره العمل بمقتضى ذلك، لكن لا يجزيهما
عن رمضان لو ثبت كونه منه، بل يجوز لهما الإقدام فقط، قاله في التحفة والفتح، وصحح
ابن الرفعة في الكفاية الإجزاء وصوبه الزركشي والسبكي، واعتمده في الإيعاب
والخطيب، بل اعتمده (م ر) تبعاً لوالده الوجوب عليهما وعلى من اعتقد صدقهما، وعلى
هذا يثبت الهلال بالحساب كالرؤية للحاسب ومن صدقه، فهذه الآراء قريبة التكافؤ
فيجوز تقليد كل منها، والذي يظهر أوسطها وهو الجواز والإجزاء، نعم إن عارض الحساب
الرؤية فالعمل عليها لا عليه على كل قول.
(مسألة: ي ش): يلزم العبد كالمرأة والفاسق العمل برؤية نفسه، كما يلزم من
أخبره برؤيته أو برؤية من رآه، أو ثبوته في بلد متحد المطلع إن غلب على ظنه صدقه،
وهو المراد بقولهم الاعتقاد الجازم، فإن ظن صدقه من غير غلبة جاز الصوم، وإن شك حرم،
وسواء أخبر من ذكر عن دخول رمضان أو خروجه، زاد ي: أو غيره من الشهور كشعبان فيجب
صوم رمضان بتمامه بخبر من ذكر بالقيد المذكور، وإن كان شعبان كشوال لا يثبت إلا
بشاهدين، لأن هذا من باب الرؤية وهي أوسع من باب الشهادة اهـ. وزاد ش: كما يلزمه
اعتماد العلامات بدخول شوّال إذا حصل اعتقاد جازم بصدقها، ومتى بان أن ذلك من
رمضان أجزأهم ولا قضاء، إذ وجوبه ينافي وجوب الصوم، وإذا كان من صام يوم الشك لظنه
صدق مخبره يجزيه عن رمضان لو بان منه، ويحكم بأنه كان يوم الشك باعتبار الظاهر
فأولى مسألتنا، وهل يسوغ الإفطار بعد الثلاثين للمعتقد المذكور وإن لم ير الهلال؟
إن كان ثم ريبة بأن لم ير مع الصحو فلا، وإلا وجب اهـ. قلت: وقوله وهل يسوغ
الإفطار الخ اعتمد في التحفة عدم جواز الفطر احتياطاً، وخالفه (م ر) فقال: يفطر في
أوجه احتمالين.
[فائدة]: الحاصل أن صوم رمضان يجب بأحد تسعة أمور: إكمال شعبان، ورؤية
الهلال، والخبر المتواتر برؤيته ولو من كفار، وثبوته بعدل الشهادة، وبحكم القاضي
المجتهد إن بين مستنده، وتصديق من رآه ولو صبياً وفاسقاً، وظن بالاجتهاد لنحو أسير
لا مطلقاً، وإخبار الحاسب والمنجم، فيجب عليهما وعلى من صدّقهما عند (م ر): والإمارت
الدالة على ثبوته في الأمصار كرؤية القناديل المعلقة بالمناير اهـ كشف النقاب.
[فائدة]: يجب إمساك يوم الشك إذا تبين كونه من رمضان في الأظهر، والثاني لا
يجب للعذر كمسافر قدم مفطراً، قاله في المهذب والتنبيه اهـ.
(مسألة: ش): قول
العباب: إذا صمنا بشهادة عدل أو عيدنا بعدلين ولم نر الهلال بعد الثلاثين أفطرنا
في الأولى ولم نقض في الثانية ولو مع الصحو، المراد بعدم رؤية الهلال أي هلال شوال
في الأولى والقعدة في الثانية، كما أن قوله بعد ثلاثين يعني من رمضان من الأولى
ومن شوال في الثانية، وقوله: أفطرنا أي على الأصح لكمال العدد، ولا نظر لكون شوال
لم يثبت حينئذ بعدلين، إذ الشيء يثبت ضمناً ما لا يثبت أصلاً، كثبوت النسب والإرث
بثبوت الولادة بشهادة النساء، وقوله: ولم نقض في الثانية أي على المذهب، وقوله:
ولو مع الصحو إشارة إلى وجه قال به ابن الحداد ونقل عن شريح: أنا لا نفطر مع الصحو
في الأولى.
(مسألة: ش): رأى هلال شوّال وحده لزمه الفطر، ويسن له إخفاؤه للتهمة، وتندب
له صلاة العيد، وهل يعدها مع الناس الأقرب؟ نعم، ولا يصلي معه ما لم ير الهلال، بل
لا تصح إن علم وتعمد، وإلا وقعت نفلاً مطلقاً، وحرم على غيره الفطر وإن وقع في
قلبه صدق رائيه، وأول شوال يكون يوم عيد الناس في جميع الأحكام، فإن ثبت هلاله قبل
الزوال فظاهر أو بعده وجب الفطر وفاتت صلاة العيد، وندب قضاؤها بقية اليوم حيث
أمكن، وإلا فمن الغد أو بعد الغروب من قابل ثبت كون اليوم الماضي من شوال بالنسبة
لغير الصلاة وتوابعها كالفطرة والتكبير فتصلى من الغد أداء اهـ. قلت: وقوله وحرم
على غيره الفطر الخ تقدم في مسألة نحو العيد أنه يلزمه ومن صدقه الفطر فضلاً عن
الجواز فتأمله.
(فرع): يسنّ أن يقول عند رؤية الهلال: الله أكبر، اللهم أهله علينا بالأمن
والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى، ربنا وربك الله، الله أكبر،
ولا حول ولا قوّة إلا بالله، اللهم إني أسألك خير هذا الشهر، وأعوذ بك من شر
القدر، ومن شرّ المحشر، هلال خير ورشد مرتين، آمنت بالذي خلقك ثلاثاً، الحمد لله
الذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا للاتباع اهـ إمداد. قال في العباب: ويقول عند
رؤية القمر: أعوذ بالله من شرّ هذا الغاسق اهـ.
شروط الصوم
(مسألة: ش): لا يكفي في رمضان أن يقول: نويت صوم غد فقط، بل لا بد من
التعرض لرمضان لأنه عبادة مضافة إلى وقت فوجب التعيين، والمعتمد عدم وجوب نية
الفرضية، لأن صوم رمضان من المكلف لا يكون إلا فرضاً بخلاف الصلاة فإن المعادة
نفل.
[فائدة]: ابتلى بوجع في أذنه لا يحتمل معه السكون إلا بوضع دواء يستعمل في
دهن أو قطن وتحقق التخفيف أو زوال الألم به، بأن عرف من نفسه أو أخبره طبيب جاز
ذلك وصح صومه للضرورة، اهـ فتاوي باحويرث.
(مسألة: ب): اقتلع سنه
الوجعة وهو صائم لم يعف عن الدم ولا الريق المختلط به وإن صفا، بل لا بد من غسل
فمه، نعم إن عمت البلوى بالدم ولم يمكنه التحرز عنه عفي عنه، كَدَمِ اللثة الذي
يجري دائماً يتسامح بما يشق الاحتراز عنه بأن يبصق حتى يبيض ريقه، إذ لو كلف غسل
فمه في أكثر نهاره لشق، بل ربما زاد جريانه بذلك، وكالصوم الصلاة، نعم يعفى فيها
عن القليل في الفم إذا لم يبتلعه كما رجحه ابن حجر اهـ. قلت: واعتمد (م ر) عدم
العفو عن ذلك في الصلاة مطلقاً كبقية دم المنافذ، أما في الصوم فلا يضر إبقاؤه في
الفم مطلقاً اتفاقاً حتى يبتلعه بشرطه، وفي التحفة، وباعشن: ولنا وجه بالعفو عنه
أي الريق المختلط بدم اللثة مطلقاً إذا كان صافياً، زاد باعشن: وفي تنجس الريق به
إشكال لأنه نجس عم اختلاطه بمائع، وما كان كذلك لا ينجس ملاقيه، كما في الدم على
اللحم إذا وضع في الماء للطبخ فإن الدم لا ينجس الماء اهـ.
(مسألة: ك): يعفى عن
دم اللثة الذي يجري دائماً أو غالباً، ولا يكلف غسل فيه للمشقة، بخلاف ما لو احتاج
للقيء بقول طبيب فالذي يظهر الفطر بذلك نظير إخراج الذبابة، ولو ابتلي بدود في
باطنه فأخرجه بنحو أصبعه لم يفطر إن تعين طريقاً قياساً على إدخاله الباسور به.
(مسألة): حاصل ما ذكره
في التحفة في مقعدة المبسور أنه لا يفطر بعودها، وإن أعادها بنحو أصبعه اضطراراً،
ولا يجب غسل ما عليها من القذر على المعتمد، وأفتى محمد صاح بأنه لو تغوّط فخرج
شيء إلى حد الظاهر ثم عاد من غير اختيار لنحو يبوسة الخارج ولم يمكنه قطعه لم يفطر
قياساً على ما ذكر.
[فائدة]: لا يضر وصول الريح بالشم، وكذا من الفم كرائحة البخور أو غيره إلى
الجوف وإن تعمده لأنه ليس عيناً، وخرج به ما فيه عين كرائحة النتن، يعني التنباك
لعن الله من أحدثه لأنه من البدع القبيحة فيفطر به، وقد أفتى به زي بعد أن أفتى
أوّلاً بعدم الفطر قبل أن يراه اهـ ش ق. وقال بخ: لو وصل ماء الغسل إلى الصماخين
بسبب الانغماس، فإن كان من عادته المتكررة وصول الماء إلى باطن الأذن بذلك أفطر
وإلا فلا، ولا فرق بين الغسل الواجب والمندوب لاشتراكهما في الطلب بخلافه من غسل تبرد
وتنظيف لتولده من غير
مأمور به اهـ.
[فائدة]: قال الشوبري:
محل الإفطار بوصول العين إذا كانت من غير ثمار الجنة جعلنا الله من أهلها، أما هي
فلا يفطر بها اهـ. ولو رأى صائماً أراد أن يشرب مثلاً، فإن كان حاله التقوى وعدم
مباشرة المحرمات فالأولى تنبيهه، وإن كان غالب حاله ضد ذلك وجب نهيه قاله الحباني،
اهـ مجموعة بازرعة اختصار فتاوى ابن حجر.
(مسألة: ج): شرب شخص
بعد أذان المؤذن الصبح ظاناً غلط المؤذن لم يحكم ببطلان صومه، إذ الأصل بقاء الليل
غاية الأمر أن المؤذن المذكور مجتهد ولا يجب الأخذ بقوله، نعم إن أخبره عدل بطلوعه
بمشاهدة لزمه الأخذ بقوله إن لم يعارضه ظن قوي أو أقوى.
(مسألة: ب): المرض الذي لا يرجى برؤه المبيح لنحو الفطر عام في جميع
الأمراض مطلقاً، نعم قد تفترق أنواع المرض بالنسبة للأحكام كمن به فالج وأمكنه
الصوم دون القيام في الصلاة، أو مرض لا يمكنه معه الصوم ويمكنه الصلاة قائماً
فيلزمه الممكن منهما، ولا يثبت المرض المذكور إلا بقول طبيب، نعم إن قطعت العادة
بأن هذا لا يرجى برؤه بالتواتر والتجربة كالسل والدق والفالج عمل بمقتضاه وإن برىء
بعد، وقد يكون المرض مخوفاً ويرجى برؤه كالحمى المطبقة والغب، وقد يعكس كالسل، وقد يجتمعان كالدق فلا تلازم حينئذ، وإذا وجب
المد لم تلزم الفورية في إخراجه، كما صرح به ابن حجر في الإتحاف، قال: ولا يستقر
بذمة العاجز حالاً، وقال (م ر) والخطيب: يستقر ولو قدر على الصوم بعد لم يلزمه،
وتجب النية في إخراج المدّ على المخرج ولو عن الميت.
(مسألة): المرض المبيح
للفطر في رمضان نوعان، ما يرجى برؤه فواجبه القضاء إن تمكن منه كالمسافر ونحو
الحامل، فإن لم يتمكن فلا قضاء ولا فدية، وما يرجى برؤه وهو كما في النهاية كل
عاجز عن صوم واجب، سواء رمضان وغيره لكبر أو زمانة، أو مرض لا يرجى برؤه أو مشقة
شديدة تلحقه، قال (ع ش): ولم يبين هنا المشقة المبيحة للفدية، وقياس ما مر في
المرض أنها المبيحة للتيمم اهـ. فهذا في حقه الفدية واجبة ابتداء لا الصوم، فلو
قدر عليه بعد لم يلزمه بل لا يجزئه كما قاله أبو مخرمة، نعم لو تكلفه حال أدائه
أجزأه، وفي ع ش عند قول (م ر): من فاته شيء من رمضان أو غيره فمات قبل التمكن فلا
تدارك ولا قضاء، هذا يخالف ما يأتي من أنه من أفطر لمرض لا يرجى يرؤه، أو زمانة
وجب عليه قدّ، وقد يجاب بأن ما يأتي فيمن لا يرجو البرء وههنا خلافه، وفي بج على
الإقناع قوله بأن استمر مرضه أي المرجو برؤه حتى مات فلا فدية، وحينئذ فلا منافاة
بين ما هنا وما يأتي أن المريض يفطر ويطعم عن كل يوم مداً إذ ذاك في المريض غير
المرجو برؤه، فهو مخاطب بالفدية ابتداء، وأما المريض المذكور هنا فهو مخاطب بالصوم
ابتداء، وإنما جاز له الفطر لعجزه، فإذا مات قبل التمكن فلا تدارك عنه اهـ. إذا
تأملت ذلك علمت أنه لو مرض شخص في رمضان مرضاً خفيفاً ثم اشتد به المرض حتى لا
يرجى برؤه ثم مات في رمضان أو بعده قبل التمكن من القضاء لزم في تركته الفدية
لأيام المرض الذي لا يرجى برؤه لا فيما يرجى برؤه لعدم تمكنه.
(مسألة): لا يجوز الفطر لنحو الحصاد وجذاذ النخل والحراث إلا إن اجتمعت فيه
الشروط. وحاصلها كما يعلم من كلامهم ستة: أن لا يمكن تأخير العمل إلى شوّال، وأن
يتعذر العمل ليلاً، أو لم يغنه ذلك فيؤدي إلى تلفه أو نقصه نقصاً لا يتغابن به،
وأن يشق عليه الصوم مشقة لا تحتمل عادة بأن تبيح التيمم أو الجلوس في الفرض خلافاً
لابن حجر، وأن ينوي ليلاً ويصحب صائماً فلا يفطر إلا عند وجود العذر، وأن ينوي
الترخص بالفطر ليمتاز الفطر المباح عن غيره، كمريض أراد الفطر للمرض فلا بد أن
ينوي بفطره الرخصة أيضاً، وأن لا يقصد ذلك العمل وتكليف نفسه لمحض الترخص بالفطر
وإلا امتنع، كمسافر قصد بسفره مجرد الرخصة، فحيث وجدت هذه الشروط أبيح الفطر، سواء
كان لنفسه أو لغيره وإن لم يتعين ووجد غيره، وإن فقد شرط أثم إثماً عظيماً ووجب
نهيه وتعزيره لما ورد أن: "من أفطر يوماً من رمضان بغير عذر لم يغنه عنه صوم
الدهر".
[فائدة]: يسنّ لمن لم يفطر على تمر أن يفطر على الماء، وكونه ماء زمزم
أولى، وبعده الحلو وهو ما لم تمسه النار كالزبيب والعسل واللبن وهو أفضل من العسل،
واللحم أفضل منهما، ثم الحلوى المعمولة بالنار، ولذلك قال بعضهم:
فمن رطب فالبسر فالتمر زمزم
>< فماء فحلو ثم حلوى لك الفطر
اهـ باجوري. وقال عبد الرحمن الخياري في
حديث: "من فطر صائماً فله مثل أجره" هل المراد إن كان له أجر أو مطلقاً
حتى لو بطل أجر الصائم لغارض وقع للمفطر بتقدير أن للصائم أجراً، تردد فيه ابن حجر
والظاهر الثاني اهـ.
[فائدة]: ذكر بعضهم ضابطاً لليلة القدر على القول بأنها تنتقل، ونظمها عبد
المعطي أو ق ل فقال:
يا سائلي عن ليلة القدر
التي >< في عشر رمضان الأخير حلت
فإنها في مفردات العشر >< تعرف من يوم ابتداء الشهر
فبالأحد والأربعا فالتاسعة >< وجمعة مع الثلاثا السابعه
وإن بدا الخميس فهي
الخامسة >< وإن بدا بالسبت فهي
الثالثة
وإن بدا الاثنين فهي
الحادي >< هذا عن الصوفية الزهاد
وظاهر كلام الباجوري على هذا القول أنها تكون ليلة الجمعة الكائنة في أوتار
الشهر بعد النصف.
صوم التطوّع
(مسألة): يسن صوم عرفة لغير حاج ومسافر، نعم إن أخر الوقوف إلى الليل سنّ
صومه كما في التحفة، ومحل ندبه حيث لم يحصل شك في كونه تاسعاً أو عاشراً، وإلا حرم
صومه ولو عن قضاء وكفارة كما اعتمده (م ر) واعتمد الجوجري جواز صومه حينئذ قاله
الباجوري، وفي فتاوى أبي مخرمة مسألة: تحدّث الناس برؤية ذي الحجة أو شهد به من لا
يقبل سنّ صوم التاسع ولا نظر لاحتمال
أنه عاشراهـ.
(مسألة: ك): ظاهر
حديث: "وأتبعه ستاً من شوّال" وغيره من الأحاديث عدم حصول الست إذا
نواها مع قضاء رمضان، لكن صرح ابن حجر بحصول أصل الثواب لإكماله إذا نواها كغيرها
من عرفة وعاشوراء، بل رجح (م ر) حصول أصل ثواب سائر التطوعات مع الفرض وإن لم
ينوها، ما لم يصرفه عنها صارف، كأن قضى رمضان في شوّال، وقصد قضاء الست من ذي
القعدة، ويسنّ صوم الست وإن أفطر رمضان اهـ. قلت: واعتمد أبو مخرمة تبعاً للسمهودي
عدم حصول واحد منهما إذا نواهما معاً، كما لو نوى الظهر وسنتها، بل رجح أبو مخرمة
عدم صحة صوم الست لمن عليه قضاء رمضان مطلقاً.
[فائدة]: رجح في التحفة كالقلائد وأبي مخرمة ندب قضاء عاشوراء وغيره من
الصوم الراتب إذا فاته تبعاً لجماعة وخلافاً لآخرين، وفي التحفة أيضاً ظاهر كلامهم
أنه لو وافق يوماً يسنّ صومه كالاثنين والخميس لمن اعتاد صوم يوم وفطر يوم يكون
فطره فيه أفضل ليتم له صوم يوم وفطره الذي هو أفضل من صوم الدهر، لكن بحث بعضهم أن
صومه لهما أفضل اهـ.
(فرع): لو وافق أيام
الزفاف صوم تطوع معتاد ندب الفطر لأنها أيام بطالة كأيام التشريق اهـ سم وب ر.
[فائدة]: نظم بعضهم ما
يطلب يوم عاشوراء فقال:
بعاشورا عليك بالاكتحال
>< وصوم والصلاة والاغتسال
زيارة صالح وسؤال ربّ ><
وعد مرضى ووسع للعيال
تصدق واقرأ الإخلاص ألفاً
>< على رأس اليتيم المسح تالي
وأعظم آية فاقرأ مئينا ><
ثلاثاً بعد ستين توالي
وإحياء لليلته وشيع ><
لميت فالتزم فعل الخصال
[فائدة]: يكره إفراد الجمعة والسبت والأحد بصوم، وخرج به جمع اثنين منها
ولو الجمعة مع الأحد كجمع أحدهما مع آخر اهـ ش ق.
(مسألة): نذر الاعتكاف
وأطلق كفاه زيادة على الطمأنينة، فلو أطاله كان الكل فرضاً، يعني يثاب عليه ثواب
الفرض، قاله ع ش فارقاً بينه وبين إطالة نحو الركوع ومسح جميع الرأس، بأن هذين خوطب
فيهما بقدر معلوم وهو الطمأنينة وبعض شعره، فما زاد عليهما متميز يثاب عليه ثواب
المندوب، وما هنا خوطب فيه بالاعتكاف المطلق، وهو كما يتحقق في اليسير يتحقق فيما
زاد، ونظر باعشن في ذلك ورجح هو والشبشيري وغيرهما أن الثلاثة المذكورة ونظائرها
من كل ما يتجزأ على حد سواء يثاب على الأقل ثواب الواجب، وما زاد ثواب المندوب،
كما نص عليه في مسح الرأس وغيره، ولم يستثن إلا بغير الزكاة عن دون خمس وعشرين،
وعلى مرجح ع ش لو خرج من المسجد بنية العود وعاد أثيب بعوده ثواب الواجب أيضاً، إذ
النية الأولى لم تنقطع.
[فائدة]: نذر اعتكاف يوم لم يجز تفريق ساعاته من أيام، بل يلزمه الدخول فيه
قبل الفجر، بحيث تقارن نيته أوّل الفجر ويخرج منه بعد الغروب، فلو دخل الظهر ومكث
إلى الظهر ولم يخرج ليلاً لم يجزه كما رجحاه وإن نوزعا فيه اهـ إمداد وتحفة. واعتمد
الخطيب و (م ر): الإجزاء، ولو نذر يوماً معيناً ففاته أجزأ عنه ليلة، كما قاله في
شرح المنهج والتحفة والنهاية والمغني والإمداد.
باب الحج
[فائدة]: الحج يكفر الصغائر والكبائر حتى التبعات على المعتمد إذا مات فيه أو بعده وقبل تمكنه من أدائه
اهـ.
[فائدة]: قال الخوّاص
رحمه الله: من علامات قبول حج العبد وأنه خلع عليه خلعة الرضا عنه أنه يرجع من
الحج وهو متخلق بالأخلاق المحمدية، لا يكاد يقع في ذنب، ولا يرى نفسه على أحد من
خلق الله، ولا يزاحم على شيء من أمور الدنيا حتى يموت، وعلامة عدم قبول حجه أن
يرجع على ما كان عليه قبل الحج، كما أن من علامات مقته أن يرجع وهو يرى أن مثل حجه
أولى بالقبول من حج غيره، لما وقع فيه من الكمال في تأديه المناسك وخروجه فيها من
خلاف العلماء، لكن لا يدرك هذا المقت إلا أهل الكشف اهـ من خاتمة الميزان للشعراني.
(مسألة: ج): ظاهر قوله
عليه الصلاة والسلام: "اللهم اغفر للحاج" الخ، أنه المتلبس بالحج لا من
انقضى حجه. لكن ورد أيضاً أنه يغفر له ولمن استغفر له بقية ذي الحجة والمحرم وصفر
وعشراً من ربيع الأول، وفي رواية: يستجاب له من دخول مكة إلى رجوعه إلى أهله وفضل
أربعين يوماً، فالمختار طلب الدعاء منه كما عليه السلف إلى الأربعين، وأولى منه أن
يكون قبل دخول داره، فلو لم يدخل إلا بعد سنين استمر الحكم، والسر في ذلك وقوفه في
تلك المشاعر العظام، وما يلقاه من المتاعب والمشاقّ الحاصلة له بسبب هجران الوطن
مدة السفر، وعدم تغير حاله قبل الأربعين غالباً.
[فائدة]: يختص بحرم مكة اثنا عشر حكماً: تحريم الاصطياد فيه، وقطع شجره،
ونحر الهدي، وتفرقة لحمه، والطعام اللازم في المنسك به إلا في حق المحصر، ولزوم
المشي إليه بنذر، وكونه لا يدخل إلا بإحرام ولا يتحلل إلا فيه إلا المحصر فيتحلل
حيث أحصر، وتغلظ الدية بالقتل فيه، ولا تملك لقطته، ولا يدخله مشرك أي كافر ولو
كتابياً، ولا يدفن فيه، ولا يحرم فيه بالعمرة وهو عازم على أن لا يخرج إلى أدنى
الحل، ولا يجب على حاضريه دم التمتع والقران اهـ شرح التحرير.
[فائدة]: نظم بعضهم حد
حرم مكة المشرفة فقال:
وللحرم التحديد من أرض طيبة
>< ثلاثة أميال إذا رمت إتقانه
وسبعة أميال عراق وطائف
>< وجدة عشر ثم تسع جعرّانه
ومن يمن سبع بتقديم سينه
>< وقد كملت فاشكر لربك إحسانه
وطول المسجد الحرام
400 ذراع، وعرضه 300، ودعائمه أي سواريه 400، أبوابه 43، ارتفاع الكعبة المشرفة 28
ذراعاً اهـ كما وجدته. وقال الكردي: وبين باب العمرة إلى أدنى الحل اثنا عشر ألفاً
وأربعمائة وعشرون ذراعاً.
[فائدة]: ورد في
الحديث: "ينزل ربنا تبارك وتعالى على بيته الحرام كل يوم مائة وعشرين رحمة:
ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين". وحكمة التفاضل أن الطائف يجمع بين طواف
وصلاة ونظر، والمصلي فاته الطواف، والناظر فاته كلاهما اهـ فتاوى البلقيني، وقال
في التحفة: والاشتغال بالعمرة أفضل منه بالطواف على المعتمد إذا استوى زمانهما اهـ.
[فائدة]: حديث:
"من استطاع الحج ولم يحج مات إن شاء يهودياً أو نصرانياً" صحيح عن ابن
عمر في حكم المرفوع، وهو محمول على المستحل، وعامّ في جميع المسلمين بشرط
الاستطاعة اهـ فتاوى ابن حجر.
(مسألة: ب): يجب الحج
على التراخي إن لم يخف العضب أو الموت أو تلف المال،فمتى أخره مع الاستطاعة حتى
عضب أو مات تبين فسقه من وقت خروج قافلة بلده من آخر سني الإمكان، وتبين بطلان
سائر تصرفاته مما تتوقف صحته على العدالة، كذا أطلقه ابن حجر و (م ر) وقيده ابن
زياد بالعالم بالعصيان بالتأخير، وحينئذ يجب على المعضوب كورّاث الميت الاستنابة
فوراً فيأثم بالتأخير.
(مسألة: ك): من شروط وجوب الحج الاستطاعة، فمن لم يستطع لم يجب عليه الحج
ولا الإحجاج عنه، نعم يجوز ولو لأجنبي الإحجاج عنه لا من ماله ولو من الثلث إلا
بإذن جميع الورثة المطلقي التصرف ما لم يوص به، ومن شروط الاستطاعة ظن الأمن
اللائق بالسفر على نفسه وما يحتاج لاستصحابه، لا الزائد على ما يحتاجه في طريقه إن
أمن عليه في محله، ولو اختص الخوف به لم يستقر في ذمته كما في التحفة، فلو خاف من
رصدي يرقبه في الطريق أو البلد لأخذ شيء منه وإن قل ظلماً لم يلزمه كما أطلقه
الجمهور، وكل مانع من أداء النسك مجوّز للخروج منه لأن فيه إعانة على الظلم، ولا
يجب احتمال الظلم في أداء النسك، نعم في المغني أن نحو الدرهمين لا يتحلل لأجلهما،
وأوجب المالكية والحنابلة بذل قليل لا يجحف، واختلف الحنفية في ذلك، وهذا أعني عدم
لزوم الحج حينئذ حيث لا طريق آخر خال عن المكس، وإلا وجب سلوكه وإن بعد عن الأول
جداً كعشر سنين من مكة مثلاً، كما لو أمكنه مع المحمل الكبسي أو الشامي فيعرج له،
نعم لو فرض أن جميع الطرق لا تخلو عن المكس أو غلب الهلاك أو استوى الأمران فلا
وجوب.
[فائدة]: من شروط الاستطاعة كون المال فاضلاً عن مؤنة من عليه مؤنتهم، وشمل
ذلك أهل الضرورات من المسلمين ولو من غير أقاربه، لما ذكروه في السير أن دفع
ضرورات المسلمين بإطعام جائع وكسوة عار ونحوهما فرض على من ملك أكثر من كفاية سنة،
وقد أهمل هذا غالب الناس حتى من ينتمي إلى الصلاح، ويحرم عليه السفر حتى يترك
لممونه قوته مدة ذهابه وإيابه، نعم يخير بين طلاق زوجته وترك مؤنتها، قاله ابن حجر
اهـ باعشن.
(مسألة: ب): يلزم الشخص صرف مال تجارته وبيع عقاره في الحج، إذ يصير بذينك
مستطيعاً، بخلاف كتب الفقيه، وخيل الجندي، وثياب التجمل، وآلة المحترف، وحلي
المرأة اللائق بها المحتاجة للتزين به عادة، فلا يعدّ صاحبها مستطيعاً، ولا يلزمه
بيعها في الفطرة ابتداء كالكفارة وثمن ما ذكر كهي، نعم يختلف الحكم في النفيس
والمكرر، فإذا كان يمكنه الإبدال بلائق وإخراج التفاوت لزمه ذلك في الحج والفطرة
لا الكفارة، ومتى صارت المرأة عجوزاً، لا تحتاج للحلي، ووجدت شروط الاستطاعة ببيعه
لزمها بيعه والإحجاج بنفسها أو الاستنابة على ما فصل، ولو كان معه ما يكفيه للحج
بنفسه لكنه أعمى أو امرأة يحتاج إلى قائد أو محرم ولم يفضل لهما شيء فعضب والمال
بحاله لزمه استنابة غيره من الميقات بذلك المال، كما لو كان مع المعضوب مال يكفي
أجيراً من مكة كستة قروش لزمه أن يوكل من يستأجر حاجاً من الميقات أيضاً فوراً،
وإن عضب بعد التمكن وإلا فعلى التراخي، لأن الاستطاعة بالغير كهي بالنفس.
[فائدة]: امرأة لا تستطيع الركوب أو المشي في العقاب أو تستطيعه لكن بمشقة
شديدة لكبر أو زمانة بأن لا تحتمل عادة جاز لها أن تستأجر من يحج عنها، كما نقله
باسودان عن ابن حجر و (م ر) وقال الكردي: حد المشقة ما لا يذاق الصبر عليه اهـ.
(مسألة: ش): لا يضر الشك في نية النسك بعد الفراغ منه كالصوم بالأولى،
والفرق بينهما وبين الصلاة والوضوء حيث أثر الشك فيهما على المعتمد، أن أحكام
النية في نحو الصلاة أغلظ منها في النسك والصوم، وعظم المشقة في هذين، ورجح
السمهودي وغيره عدم تأثير الشك بعد فراغ العبادة مطلقاً.
[فائدة]: استؤجر للحج
عن غيره فقال عند تلفظه بالنية: نويت الحج وأحرمت به عن فلان، فإن كان قلبه
موافقاً للسانه وقع له، وإلا فالعبرة بما في قلبه، وأصل الصيغة الصحيحة أن يقول:
نويت الحج عن فلان وأحرمت به لله تعالى، اهـ فتاوى باسودان.
[فائدة]: أفتى ابن حجر بأنه لو أحرم شخص بالحج عند مجاوزة الميقات وشرط
التحلل لكل عذر يعرض له دينياً أو دنيوياً أو شرطه إن وجد من يستأجره قبل التروية
صح شرطه ذلك، ثم إن شرطه بلا هدي كان تحلله بالنية فقط أو بهدي لزمه اهـ.
[فائدة]: الظاهر في
وضع الحجر الموجود الآن أنه على الوضع القديم فتجب مراعاته، ولا نظر لاحتمال زيادة
أو نقص، نعم في كل من فتحتيه فجوة نحو من ثلاثة أرباع ذراع بالحديد خارجة عن سمت
ركن البيت بشاذروانه، وداخلة في سمت حائط الحجر فهل تغلب الأولى فيجوز الطواف فيها
أو الثانية فلا؟ كل محتمل والاحتياط الثاني، ويتردد النظر في الرفرف الذي بحائط
الحجر هل هو منه أو لا؟ ثم رأيت ابن جماعة حرر عرض الحجر بما لا يطابق الخارج الآن
إلا بدخول ذلك الرفرف، فلا يصح طواف من جعل أصبعه عليه، ولا من مس جدار الحجر الذي
تحت ذلك الرفرف اهـ تحفة، ومنها ويسنّ أن يصلي بعده أي الطواف ركعتين خلف المقام
الذي أنزل من الجنة ليقوم عليه إبراهيم عليه السلام، والمراد بخلفه كل ما يصدق
عليه ذلك عرفاً، وحدث الآن في السقف خلفه زينة عظيمة بذهب وغيره فينبغي عدم الصلاة
تحتها، ويليه في الفضل داخل الكعبة فتحة الميزاب فبقية الحجر فالحطيم فوجه الكعبة
فبين اليمانيين فبقية المسجد فدار خديجة فمكة فالحرم اهـ.
[فائدة]: تكره إعادة السعي لحاج ومعتمر، اختلفوا في القارن فرجح ابن حجر في
كتبه، و (م ر) في شرح الدلجية تبعاً للبلقيني عدم ندبه، وذهب الخطيب في المغني، و
(م ر) في شرح الإيضاح، (وسم) وابن علان وغيرهم إلى ندبه له، ومقتضى كلامهم امتناع
موالاة الطوافين والساعين، فيطوف ويسعى ثم يطوف ويسعى، وقد تجب إعادة السعي كأن
بلغ أو أفاق أو أعتق بعده وأدرك الوقوف كاملاً فيعيده حينئذ قاله الكردي، قال:
وذرع ما بين الصفا والمروة سبعمائة وسبعون ذراعاً بذراع اليد المعتدلة قاله ق ل
اهـ.
[فائدة]: روى البيهقي أنه قال: "ما من مسلم يقف عشية عرفة فيستقبل
القبلة بوجهه ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو
على كل شيء قدير، مائة مرة، ثم يقول: اللهم صلّ على محمد وآل محمد كما صليت على
إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، مائة مرة، ثم سورة الإخلاص مائة مرة، إلا
قال الله تعالى: يا ملائكتي ما جزاء عبدي هذا؟ أشهدكم أني قد غفرت له وشفعته، ولو
سألني لشفعته في أهل الموقف" اهـ.
وقال الكردي: قوله عليه الصلاة والسلام:
"أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت لا إله إلا الله وحده" الخ، أي
بعرفة وغيرها كما يدل عليه حذف الظرف، ويحتمل أنه قيد فيه لأن الأصل تشارك
المتعاطفات في القيد، والأول أقرب اهـ شرح الإيضاح اهـ.
[فائدة]: يسنّ في رمي جمرة
العقبة أن يجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه ويستقبلها حالة الرمي للاتباع، ويختص
هذا بيوم النحر لتميزها فيه، بخلاف بقية أيام التشريق، فإن السنة استقباله القبلة
في رمي الكل اهـ تحفة.
[فائدة]: من شروط
النفر الأول أن يكون بعد جميع الرمي، فلا بد لمن رمى جمرة العقبة حينئذ أن يعود
إلى منى ليكون نفره منها بعد جميع الرمي لأنها خارج منى وإلا لم يصح نفره الأول،
وأن ينوي النفر مع الخروج من منى، وأن ينفر في اليوم الثاني وبعد الزوال، وأن يكون
قد بات الليلتين قبله، وأن ينفر قبل الغروب، فلو غربت وهو في شغل الارتحال أو عاد
بعد الغروب إلى منى لحاجة لزمه المبيت ورمى غده قاله (م ر) . وقال ابن حجر: لا.
اهـ. كردي. وقال السيوطي: وسميت جماراً لأن آدم كان يرمي إبليس فيجمر من بين يديه
أي يسرع اهـ.
محرمات الإحرام وأحكام الدماء
[فائدة]: محرمات الإحرام على أربعة أقسام أولها ما أبيح للحاجة ولا دم فيه
ولا إثم وهو سبعة عشر: لبس السراويل لفقد الإزار، ونحو الخف المقطوع لفقد النعل،
وعقد الخرقة على ذكر سلس لم يستمسك إلا بذلك، واستدامة ما لبد به شعره قبل الإحرام
حيث كان ساتراً، أو ما تطيب به قبل الإحرام، وحمل مسك بيده بقصد نقله إن قصر
الزمن، وتأخير إزالة الطيب بعد تذكر الناسي لحاجة كأن كان لغيره وخاف فوته، وإزالة
الشعر مع جلده، والنابت في العين والمغطي لها، والظفر بعضوه أو المؤذي بنحو
انكساره، وقتل صائل ولو على نحو اختصاص، ووطء جراد عم المسالك ولم يكن بدّ من
وطئه، والتعرض لبيض الصيد وفرخه إذا وضعهما في فرشه ولم يمكن دفعه إلا بالتعرض أو
انقلب عليهما نائماً ولم يعلم بهما، أو خلصه من سبع ليداويه فمات، أو تطيب، أو
دهن، أو لبس، أو جامع سهواً أو جهلاً بشرطه أو مكرهاً، أو لم يعلم أن مماسه طيب أو
أنه يعلق، أو حلق أو قلم، أو قتل صيداً صبي أو مجنون أو مغمى عليه ولا تمييز لكل.
ثانيها: ما فيه إثم ولا فدية وهو خمسة عشر: عقد النكاح للمحرم، وإذنه فيه لعبده أو
موليه، وتوكيله فيه، ولا ينعقد في الكل، والمباشرة، والنظر بشهوة، والإعانة على
قتل الصيد والدلالة عليه، وإعارة آلة الاصطياد، وأكل ما صيد له أو تسبب فيه، وتملك
الصيد بنحو شراء أو هبة مع القبض ولم يتلف، واصطياده إذا لم يتلف أيضاً، وتنفيره
إذا لم يمت، أو مات بآفة سماوية، وإمساكه صيد المحرم، وفعل شيء من محرمات الإحرام
بميت محرم. ثالثها: ما فيه الفدية ولا إثم وهو عشرة: احتياج الرجل إلى ستر رأسه،
أو لبس المحيط في بدنه لحر أو برد أو مرض أو مداواة، أو فجأة حرب ولم يجد ما يدفع
به العدوّ ونحو ذلك، واحتياج المرأة إلى ستر وجهها ولو لنظر أجنبي، أو احتياج إلى
إزالة الشعر لنحو قمل وحرّ ومرض، أو لبد رأسه ولزمه غسل ولم يمكنه بلا حلق، أو
أزال المميز شعره أو ظفره جاهلاً أو ناسياً للإحرام، أو نفر صيداً بلا قصد وتلف
بلا آفة سماوية قبل أن يرجع إلى محله سالماً، أو يسكن غيره ويألفه، أو ركب شخص
صيداً وصال على محرم ولم يمكن للمحرم دفعه إلا بقتل الصيد ويرجع المحرم في هذه بما
غرمه على الصائل، أو اضطر المحرم إلى ذبحه لشدّة الجوع، أو ركب دابة أو قادها أو
ساقها فرفست صيداً أو عضته من غير تقصير، أو بالت في الطريق فزلق ببولها صيد فهلك،
كما اعتمده ابن حجر وغيره، واعتمد (م ر) عدم الضمان في هذه. والحاصل في هذا القسم
أن كل ما فعله للحاجة المبيحة لفعله وهي المشقة الشديدة، وإن لم تبح التيمم ففيه
الفدية ولا إثم. رابعها: سائر المحرمات غير ما مر اهـ كردي.
(فرع): الحاصل أن ما كان من الإتلاف من هذه المحرمات كقتل الصيد أو أخذ طرف
من الإتلاف وطرف من الترفه كإزالة الشعر والظفر فيضمن مطلقاً، لا فرق فيه بين
الناسي والجاهل وغيرهما، وما كان من الترفه المحض كالطيب فيعتبر في ضمانه العقل
والاختيار والعلم اهـ شرح الروض. واعلم أن قتل الصيد والجماع كبيرة، وفعل غيرهما
من المحرمات صغيرة اهـ باعشن.
(فرع): مما يغفل عنه
كثيراً تلويث الشارب والعنفقة بالدهن عند أكل اللحم فإنه مع العلم والتعمد حرام
فيه الفدية اهـ نهاية، ولا يحرم دخوله في كيس النوم إن لم يستر رأسه إذ لا يستمسك
عند قيامه اهـ باعشن. وينبغي أن من أحرم وفي ملكه بيض نعام مذر أو جلدة فرو أنه لا
يخرج عن ملكه لأنه جماد، كما يحل للمحرم لحم صيد لم يصد له ولا دل عليه اهـ كشف
الحجاب.
(مسألة): حلق رأس محرم لم يدخل وقت تحلله بغير اختياره ولم يقدر المحرم على
دفعه أثم ولزمته الفدية وللمحرم مطالبته بإخراجها، فإن أخرجها المحرم بإذن الحالق
جازت وإلا فلا، قاله في التحفة والنهاية. أما من دخل وقت تحالمه فالإثم على الحالق
بغير إذنه ولا فدية، إذ لا تجب
الفدية إلا حيث لزمت المحرم لو فعل بنفسه قاله في حاشية الإيضاح، وهل يجزىء
المحلوق حينئذ عن إزالة الشعر الواجب الظاهر لا لعدم الإذن والفعل كما في الوضوء.
[فائدة]: نظم ابن
المقري دماء النسك فقال:
أربعة دماء حج تحصر ><
فالأول المرتب المقدر
تمنع فوت وحج قرناً >< وترك
رمي والمبيت بمنى
وتركه الميقات والمزدلفة
>< أو لم يودع أو كمشي أخلفه
ناذره يصوم إن دماً فقد
>< ثلاثة فيه وسبعاً في البلد
والثاني ترتيب وتعديل ورد
>< في محصر ووطء حج إن فسد
إن لم يجد قوّمه ثم اشترى
>< به طعاماً طعمة للفقرا
ثم لعجز عدل ذاك صوما ><
أعني به عن كل مدّ يوما
والثالث التخيير والتعديل في
>< صيد وأشجار بلا تكلف
إن شئت فاذبح أو فعدل مثل ما
>< عدّلت في صورة ما تقدما
وخيرن وقدرن في الرابع ><
فاذبحه أو جد بثلاث آضع
لشخص نصف أو فصم ثلاثاً
>< تجتثّ ما اجتثثته اجتثاثا
في الحلق والقلم ولبس دهن
>< طيب وتقبيل ووطء ثني
أو بين تحللي ذوي إحرام >< هذي دماء الحج بالتمام
وحاصل ما ذكره أن دماء الحج إما على الترتيب أو على التخيير،وكل منهما إما
مقدر أو معدل، ومعنى المرتب ما لا يجوز العدول عنه إلى غيره مع القدرة عليه، والمخير ما يجوز، والمقدر ما قدر
الشارع بدله بشيء محدود، والمعدول ما أمر فيه بالتقدير والعدول إلى غيره، فالترتيب
والتخيير لا يجتمعان، وكذا التقدير والتعديل اهـ.
(مسألة: ش): آفاقي
اعتمر في غير أشهر الحج، ثم اعتمر فيها أيضاً، ثم حج من عامه لزمه دم التمتع، سواء
كان الإحرام بالعمرة بقرب مكة أم لا، جاوز الميقات مريداً للنسك أم لا على
المعتمد، إذ شرط عدمه الاستيطان بالفعل لا بالنية حال الإحرام، ولو أحرم آفاقي
بعمرة في أشهره ثم قرن من عامه لزمه دمان خلافاً للسبكي اهـ. قلت: وهل يتكرر الدم بتكرر العمرة في أشهر
الحج أم لا؟ واعتمد في التحفة وحاشية الإيضاح عدم التكرر، وقال في النهاية: ولو
كرر المتمتع لعمرة في أشهر الحج أفتى الريمي صاحب التفقيه شرح التنبيه بالتكرر،
وأفتى بعض مشايخ الناشري بعدمه، قال أي الناشري: وهو الظاهر اهـ. قال ع ش: قوله
وهو الظاهر هو المعتمد.
(مسألة: ب) يلزم من فاته الوقوف أن يتحلل بأعمال عمرة فيأتي بأركانها مع
نية التحلل بها ما عدا السعي إن قدمه بعد طواف القدوم، ولا ينقلب عمرة بنفس
الفوات، ولا تجزيه عن عمرة الإسلام، ويلزمه القضاء فوراً مع الهدي، وإن كان حجه
تطوعاً ما لم ينشىء الفوات عن حصر بأن أحصر فسلك طريقاً أخرى ففاته الحج وتحلل بعمرة
فلا قضاء حينئذ لأنه بذل وسعه، ولو ترك ركناً غير الوقوف لم يتحلل إلا بالإتيان به
ولو بعد مدة طويلة، سواء أمكنه فعله أم لا، كحائض لم يمكنها الطواف ولا تلزم
الجاهل الواطىء قبل التحلل كفارة ولا فساد لعذره اهـ. وعبارة التحفة من فاته
الوقوف بعذر أو غيره تحلل فوراً وجوباً لئلا يصير محرماً بالحج قبل أشهره، فلو
استمر على إحرامه إلى قابل لم يجزه الإحرام للحج القابل، ثم إن لم يمكن عمل عمرة
تحلل بحلق ثم ذبح كالمحصر، وإن أمكنه فله تحللان: أولهما بواحد من الحلق أو الطواف
المتبوع بالسعي إن لم يقدمه وفات بفوات الوقوف. وثانيهما بطواف وسعي وحلق مع نية
التحلل، وأفهم المتن والأثر أنه لا يلزمه مبيت منى ولا رمي اهـ ومثله النهاية.
[فائدة]: تعتبر قيمة المثلى والطعام في الزمان بحالة الإخراج على الأصح،
وفي المكان بجميع الحرم لأنه محل الذبح لا بمحل الإتلاف على الذهب، وغير المثلى
تعتبر قيمته في الزمان بحالة الإتلاف لا الإخراج على الأصح، وفي المكان بمحل
الإتلاف لا بالحرم على المذهب أيضاً اهـ إقناع.
[فائدة]: يجب صرف الدم
الواجب إلى مساكين الحرم حتى نحو جلده، وتجب النية عند التفرقة، وتجزي قبلها
بقيدها السابق في الزكاة، وظاهر كلامهم أن الذبح لا تجب له نية وهو مشكل بالأضحية،
إلا أن يفرق بأن القصد هنا إعظام الحرم بتفرقة اللحم فيه، فوجب اقترانها بالمقصود
دون وسيلته، وثم إراقة الدم لكنها فداء عن النفس، ولا تكون كذلك إلا إن قارنت نية
القربة ذبحها فتأمله اهـ تحفة.
أحكام التأجير في النسك والوصية
به
[فائدة]: قال في شرح مناسك النووي: قولهم يحرم نقل تراب الحرم وحجره إلى
الحل محله لغير التداوي كتراب حمزة للصداع، وكذا للحاجة كالشجر اهـ.
(مسألة: ب): استأجر من
يحج عن الميت من تركته وليس نحو وصي ولا وارث، فإن علم الأجير فلا أجرة، وإن جهل
لزمت المؤجر ولا يرجع بها على التركة، وفي الحالين يقع الحج للميت ويبرأ عن حجة
الإسلام.
(مسألة): استأجر الوصي شخصاً للحج عن الميت زيد بن سالم إجارة ذمية بأجرة
معلومة، فاستأجر الأجير آخر أن يحج عن عمرو بن سالم غلطاً، فنوى الأجير عند
الإحرام عمراً المستأجر عنه لم يقع عن زيد بل يقع للأجير، إلا إن كان هناك شخص
اسمه عمرو بن سالم وقصده الأجير، والحال أنه ميت عليه حج، أو معضوب أذن لمن يحج
عنه فيقع له ولا أجرة عليه ولا على تركته، نعم إن قصد الأجير الأول عند استئجار
الثاني عن عمرو بن سالم أي الذي استؤجرت منه، وقصده الأجير الثاني أيضاً عند النية
صح ووقع لزيد، وهذا كما لو نسي اسم المستأجر له فنوى الحج عمن استؤجر عنه، ولا يضر
الغلط في الاسم إذا كان ثم قرينة تصرفه، كما لو قال: أصلي خلف زيد هذا أو الذي في
المحراب عمراً فبان، وحيث قلنا يقع الحج لزيد فبالمسمى إن صحت الإجارة وإلا فبأجرة
المثل، وحيث لم يقع له فبأجرة المثل على الأجير الأول لتغريره الأجير الثاني، ولا
يلزم الوصي شيء لعدم تقصيره، بل تبقى الحجة معلقة بذمة الأجير الأول، فيلزمه
الإحجاج ثانية عن الميت بنفسه أو بغيره، وهذا كما لو وكل شخصاً يستأجر حاجاً عن ميته
فاستأجره، ثم ادعى الموكل فسخ الوكالة قبل الاستئجار وأقام بينة بذلك، فعليه يعني
الموكل أجرة المثل للحاج لتغريره، فإن لم يقم بينة فبالمسمى ويقع في الصورتين
للميت، كما لو أجر آخر عن حج تطوّع عن ميت لم يوص به فتلزمه أجرة المثل، وكما لو
أجر المعضوب من يحج عنه ثم حضر معه وحج فيقع حج الأجير له، لكن يلزم المعضوب
المسمى لتقصيره بحضوره مع الأجير، بخلاف ما لو برىء المعضوب بعد حج الأجير فيلزمه
الحج بنفسه، ولا أجرة للأجير لعدم تقصير المعضوب حينئذ، وما لو أجر الوصي حاجاً عن
موصيه الميت فأحرم ولد الموصي مثلاً عن أبيه قبل إحرام الأجير فيقع حج الأجير له،
ولا أجرة له على أحد لعدم التقصير منهم ولا شيء للولد أيضاً اهـ. ذكر جلّ ذلك
الكردي في رسالة له في الحج عن الغير عن فتاوى ابن حجر.
(مسألة: ب): أفتى بعض المحققين بأن الأولى للوصي الاستئجار عن الميت دون
المجاعلة، لأن الأول عقد لازم لا يتمكن الأجير من فسخه، بخلاف الجعالة فالأمر فيها
إلى رأي المجاعل، فقد يختار الترك بعد لزوم العقد، وأفتى أبو مخرمة بعدم قبول قول
المجاعل: حججت إلا ببينة، إذ لا يستحق الجعل إلا بتمام العمل، ولا تثبت دعواه
التمام إلا بالبينة، ويقبل قول الأجير: حججت بيمينه، وأما الزيارة فأعمالها
محسوسة، فلا يقبل قول الأجير ولا المجاعل بل لا بد من البينة، ولو جوعل على
النسكين والزيارة فتركها ولو بعذر انحط قسطها باعتبار المسافة والأعمال ويختلف
باختلاف الأماكن، فبالنسبة لنحو الشجر ينحط نحو الثلث وحضرموت الربع تقريباً.
(مسألة: ب): لا تجوز الاستنابة لإتمام أركان الحج ولو بعذر كموت ومرض، بل
لا يجوز البناء على فعل نفس الشخص فيما لو أحصر فتحلل ثم زال العذر فلا يبنى على
فعله، فلو استؤجر للنسكين فأحرم من الميقات ومات يوم النحر قبل طواف الإفاضة استحق
من المسمى بقدر ما عمله مع حسبان السير، فيقسط المسمى من ابتداء السير على أعمال
الحج والعمرة، ففي هذه الصورة يستحق غالبه، لأنه لم يبق إلا طواف الإفاضة والعمرة
وقسطهما من المسمى بالنسبة لما قد فعله مع اعتبار قسط السير قليل، ولعل أن يرشد
المؤجر ووارث الأجير على أن يخرجوا قدر حجة من الميقات عن المحجوج عنه ويفوز
الأجير بالباقي، ولو شرط على الأجير أن لا أجرة إلا إن كمل أعمال الحج فسدت
الإجارة ولزم أجرة المثل، فلو مات في الأثناء استحق القسط كما ذكر لعدم تقصيره.
(مسألة: ب): استطاع ولم يحج حتى مات لزم الإحجاج عنه بأجرة المثل من ميقات
بلده إن خلف تركة أوصى بذلك أم لا؟ فإن أوصى بزائد على أجرة المثل فالزيادة من
الثلث كحجة أوصى بها وهو غير مستطيع، ولا ينفذ تصرف الوارث في شيء من التركة قبل
الإحجاج عنه، كإيفاء جميع الديون المتعلقة بالتركة، وهذا مما يغفل عنه كثيراً
فينبغي التفطن له.
(تتمة): تنقسم الإجارة في النسك إلى عين وذمة ويشتركان في شروط، وينفرد كل
بشروط، وتحصل إجارة العين بنحو: استأجرتك أو اكتريت عينك لتحج عني أو عن مورّثي،
أو فلان بكذا، ولها شروط منها أن يباشر الأجير عمل النسك المستأجر عليه بنفسه، وأن
يعين السنة الأولى من سني إمكان الحج من بلد الإجارة أو يطلق ويحمل عليها، وأن
يعقدها للحج حال خروجه أو مع أسبابه، فلو جد في السير فوصل الميقات قبل أشهره بطلت
إذ شرط العمل التوالي.
أما العمرة فسائر السنة، وأن لا يشترط تأخير العمل، وأن يقدر الأجير على
الشروع في العمل عقب الإجارة بأن لا يقوم به مانع، وأن تتسع المدة لإدراك الحج
بعد، فلو ظن اتساعه فبان خلافه لم تصح، وأن يكون الأجير قد حج عن نفسه، وأن لا
يخالف في كيفية أداء ما استؤجر عليه، فلو أبدل بقران أو تمتع إفراداً أو بإفراد
تمتعاً انفسخت في العمرة، أو بقران تمتعاً انفسخت في الحج، أو بإفراد قراناً
انفسخت فيهما، وأن لا يفسد الأجير نسكه، ولا يؤخر الإحرام عن أوّل سني الإمكان،
ولا يموت قبل إكمال الأركان، ولا يقع عليه حصر يتحلل منه، ولا يفوته الحج، ولا
ينذر النسك قبل الوقوف أو قبل الطواف في العمرة، وتحصل إجارة الذمة بنحو: ألزمت
ذمتك تحصيل حجة لي أو لفلان بكذا، وتختص بشرطين فقط: حلول الأجرة وتسليمها في مجلس
العقد، فلا تنفسخ بإفساده النسك وإحصاره وغيرهما مما مرّ، وله الاستنابة ولو بشيء
قليل وأخذ الزائد، نعم لا تصح الاستنابة إلا من عدل، وأما وكلاء الأوصياء في
الاستئجار فيلزمهم الاستئجار بكل المال المدفوع إليهم وإلا فسقوا وعزروا، وكذا
الوصي إن علم بحالهم كالفقيه العاقد بينهما، ويشترط لكل منهما علم المتعاقدين
أعمال النسك عند العقد أركاناً وواجبات وسنناً على تردد، فيما المراد بالسنن وقصد
النسك عمن استؤجر له، فلا بد من نوع تعيين له عند العقد والإحرام، وكون الأجرة
معلومة كالثمن واستجماع العاقدين ما شرط في البائع والمشتري من التكليف والرشد
الاختيار إلا ما استثني، وفي الأجير لفرض النسك خاصة البلوغ والحرية لا الذكورة،
وكون المحجوج عنه ميتاً أو معضوباً بإذنه، وبيان أنه إفراد أو غيره إن استؤجر لهما
أو لمطلق النسك فإن أبهم بطل، لكن يقع للمستأجر بأجرة المثل،وأن لا يشترط على
الأجير مجاوزة الميقات بلا إحرام، وأن يكون الأجير ظاهر العدالة ما لم يعينه
الموصي أو المعضوب مع العلم بحاله، وأن يكون المستأجر له مما يطلب فعله من المحجوج
عنه، وأن يكون بين المعضوب ومكة مسافة القصر، وأن يوصي الميت بالنسك إن كان
تطوّعاً، وأن لا يتكلف المعضوب الحج ويحضر مع أجيره، وإلا انفسخت ووقع للأجير
واستحق الأجرة، وأن لا يشفى المعضوب من عضبه وإلا بان للأجير ولا أجرة، فتحصل أن
شروط العينية ثمانية وعشرون، والذمية ستة عشر، وأما الجعالة للنسك فتجامع الإجارة
في أكثر الأحكام، وتفارقها في جوازها على عمل مجهول ومع غير معين، وكونها جائزة من
الطرفين، وعدم استحقاق العامل الجعل إلا
بتمام العمل، فلو مات أثناء النسك لم يستحق شيئاً، ولا يقبل قوله إلا ببينة، وإلا
حلف المجاعل إنه لا يعلمه حج، وهي عينية كجاعلتك لتحج، وذمية كألزمت ذمتك تحصيل
حجة، ففي الأولى لا بد أن يعين أوّل سني الإمكان أو يطلق وإلا لم يصح إلى آخر ما
مر، ولا تصح الإجارة على زيارة قبر النبي ما لم تنضبط كأن كتب له بورقة، نعم تصح
على تبليغ السلام عليه ، وتصح الجعالة على الدعاء لا الوقوف عند القبر اهـ. قلت:
وقوله في شروط الإجارة وببيان أنه إفراد الخ، نعم نقل الكردي عن المجموع والعباب
أنه لو قال: أجرتك إفراداً، وإن قرنت أو تمتعت فقد أحسنت جاز وتخير الأجير، وحينئذ
ففيه فسحة للمستأجرين في التخيير، وقوله: وأن يكون بين المعضوب ومكة مسافة القصر، نعم
إن تعذر حجه وعجز عنه بالكلية جازت الاستنابة ولو بمكة، قاله في الفتح ومختصر
الإيضاح و (م ر) وعبد الرؤوف خلافاً للتحفة. وقوله في الجعالة الذمية: ألزمت ذمتك
الخ تقدم في إجارة الذمة أن هذه صيغتها، فليحرر.
(مسألة: ك): أوصى بحجة الإسلام ثم حج لم تبطل وصيته، بخلاف ما لو أوصى بحجة
ولو لمعين فحج عنه غيره تطوّعاً، أو استأجره الوصي بمال نفسه أو بغير جنس الموصى
به أو صفته فتبطل الوصية، وعلى الوصي في الثانية بأقسامها أجرة الأجير من ماله،
كما في التحفة والنهاية. والفرق أنه في الثانية لما مات قبل الحج انصرفت الوصية
لحجة الإسلام، فلما تبرع عنه سقطت وتعذر تنفيذ الوصية، وأما الأولى فإنما تعتبر
الوصية عند الموت وليس عليه حجة الإسلام فانصرفت إلى غيرها وتعتبر من الثلث حينئذ.
(مسألة: ش): أوصى
بحجتين لغير وارث وعينهما في قطعة أرض تعينت إن وسعها الثلث زادت على أجرة المثل
ووجبت الحجتان أم لا، نعم الزائد على أجرة المثل وصية تحتاج إلى قبول، ثم إن قال:
تباع ويصرف ثمنها باعها الوارث، ثم الحاكم إن لم يكن وصي، وإن قال: تكون لمن حج في
مقابل عمله دفعت له، بل للموصى له الاستبداد بقبضها بعد الحجتين إن كانت معينة
معلومة، وإن لم تخرج القطعة من الثلث اعتبرت من رأس المال إن وجبت الحجتان ولم تزد
على أجرة المثل، وإلا اعتبر الزائد وما قابل المندوبة من الثلث فيما لو كانت
إحداها واجبة.
(مسألة: ش): قول الشخص: العقار الفلاني لك يا فلان صريح إقرار إن اقتصر
عليه، فإن زاد من مالي فكناية وصية إذ يحتملها والهبة الناجزة، فإن لم تعلم له نية
لم تثبت، وإن زاد وصية أو بعد موتي متصلاً باللفظ كان صريح وصية، ثم لو زاد على ما
ذكر وتسلم أجرة حجتين منك لي ولابن عمي نظر، فإن قال: أردت أن الوصية في مقابلة
الحجتين، أو ادعى الوارث إرادة الميت ذلك وصدقه الموصى له، أو اطرد العرف
باستعمالهم صيغة الإخبار وهي وتسلم الخ بمعنى على أن تسلم ونحوها من الأدوات
الإلزامية استحق العقار كله بالقبول بعد الموت وتسليم أجرة حجتين إن خرج من الثلث
مطلقاً، وكذا إن زاد وكان أجرة المثل وقد لزمته الحجتان، أما تصوير وجوب حجته
فواضح، وأما حجة ابن عمه كأن لزمته باستئجارها أو بإرثه له وقد خلف تركة وعليه حج،
فإن كانتا مندوبتين حسبتا من الثلث، فلو لم يسلمهما الموصى له ولو بعذر كأن بادر
آخر ولو أجنبياً بأدائهما بطلت الوصية لفوات شرطها، وإن أتى بإحداهما استحق قسطها
من العقار فقط، وإن ترك الآخر بعذر بأن لم يصح الإيصاء كأن كان ابن العم قد حج ولم
يوص بالتطوّع، وإن شك في قوله وتسلم الخ ولا عرف حمل على الوصية فيستحقها وإن لم
يسلم الأجرة، نعم إن قال الموصي: هو لك في مقابلة ما تؤديه من أجرة الحجتين لم
يستحق إلا بذلك.
(مسألة: ب ك): أوصى بحجة ألف درهم، فإن زادت على أجرة المثل وخرجت من الثلث
وجب الاستئجار بجميعها، ولا يجوز نقص الأجير عنها، سواء عينه الموصي أو عين القدر
فقط، بل لو استأجر بدون المعين وجب دفع الزائد، هذا إن لم يكن الأجير وارثاً، وإلا
توقف الزائد على أجرة المثل على الإجازة، وإن كانت الألف أجرة المثل فما دونها جاز
الاستئجار ببعضها إذا استجمع الأجير شروط الحج عن الغير ويكون الباقي تركة. زاد ب:
ثم إن وجد عدل أو أمثل فيما إذا عم الفسق كما هو الغالب يحج من بلد المحجوج عنه
بتلك الأجرة تعين رعاية لمصلحة الميت، إذ ثواب السير من البلد محسوب للمحجوج عنه
بدليل توزيع الأجرة عليه وعلى الأعمال، وإن لم يجد نحو الوصي حاجاً بتلك الصفة إلا
من اليمن أو الميقات بل أو نحو مكة، الظاهر جواز الاستئجار بل وجوبه نظراً لمصلحة
الميت.
كتاب البيع
[فائدة]: تنقسم العقود ثلاثة أقسام: جائزة من الطرفين، ولازمة منهما،
وجائزة من طرف لازمة من الآخر. وقد نظم الكل بعضهم فقال:
من العقود جائز ثمانيه ><
وكالة وديعة وعاريه
وهبة من قبل قبض وكذا ><
ك شركة جمالة قراضيه
ثم السباق ختمها ولازم ><
من العقود مثلها وهاهيه
إجارة خلع مساقاة كذا ><
وصية بيع نكاح الغانيه
والصلح أيضاً والحوالة التي
>< تنقل ما في ذمة لثانيه
وخمسة لازمة من جهة ><
وهي ضمان جزية أمانيه
كتابة وهي الختام يا فتى
>< فاسمع بأذن للصواب واعيه
وذكر ذلك أحمد الرملي في شرح الزبد، وزاد على الأوّل الوصاية والقضاء، وعلى
الثاني الهبة بعد القبض لغير الفرع والمزارعة والسلم والمأخوذ بالشفعة والوقف
والصداق والعتق على العوض، وعلى الثالث هبة الأصل لفرعه والهدنة والإمامة اهـ.
[فائدة]: قال في
القلائد: نقل أبو فضل في شرح القواعد عن الجوري الإجماع على جواز إرسال الصبي
لقضاء الحوائج الحقيرة وشرائها، وعليه عمل الناس بغير نكير، ونقل في المجموع صحة
بيعه وشرائه الشيء اليسير عن أحمد وإسحاق بغير إذن وليه وبإذنه حتى في الكثير
عنهما، وعن الثوري وأبي حنيفة، وعنه رواية ولو بغير إذنه، ويوقف على إجازته،
وذاكرت بذلك بعض المفتين فقال: إنما هو في أحكام الدنيا، أما الآخرة إذا اتصل بقدر
حقه بلا غبن فلا مطالبة اهـ.
(مسألة: ج): اشترى طعاماً كثيراً وأمتعة من غير صيغة بيع لا صريح ولا كناية
جاز ذلك عند من جوّز بيع المعاطاة ولا إثم، وعلى المذهب يحرم ويطالب به في الدنيا لا في الآخرة على الأصح.
[فائدة]: الاستجرار
وهو أخذ الشيء شيئاً فشيئاً في أوقات، إن كان مع تقدير الثمن كل مرة ففيه خلاف
المعاطاة، وإلا فباطل قطعاً على ما قاله النووي، اهـ إتحاف شرح المنهاج.
(مسألة: ك): قال
البائع: بعتك لموكلك، فقال: اشتريت لنفسي لم يصح، كما لو قال: بعتك أو وهبتك،
وأراد البيع أو الهبة لنفسه فقال: قبلت لموكلي لعدم المطابقة خلافاً لشرح الروض،
بخلاف ما لو قال: بعتك ونوى الموكل، فقال: قبلت لموكلي أو لفلان فلا يضر إن كان
وكيلاً عنه وإلا لم يصح وإن أجازه فلان لأنه عقد فضولي.
(مسألة: ي): لا يصح
بيع نحو الكتب والثياب والأواني المكتوب فيها قرآن أو اسم معظم أو علم شرعي ولو
معلقاً في تميمة لكافر، وإن تحقق احترامه له اتفاقاً، وكالبيع نحو النذر والهبة من
كل تملك اختياراً، نعم تجوز معاملته بالدراهم المكتوب عليها ذلك، وكذا بيع البيوت
المكتوب على سقفها شيء من ذلك، قال في الإمداد و (م ر) خلافاً للتحفة: أما بيعها
للمسلم فيحل مطلقاً، نعم إن ظن أنه لا يصونها عن النجاسة حرم لإعانته على معصية أو
لا يحترمها كإدخالها الخلاء كره.
[فائدة]: يستثنى من
شرط الرؤية في المبيع فقاع الكوز فيصح بيعه وإن لم يره لأنه من مصالحه كما في
التحفة، قال بج هو بضم الفاء يباع في قناني القزاز ويسد فمها خوفاً من حموضته،
وسمي بذلك لأن الرغوة التي تخرج من فم الكوز تسمى فقاعاً، وفي القاموس: الفقاع
كرمان هو الذي يشرب وهو ما يتخذ من الزبيب، فيكون من تسمية الكل باسم جزئه، وذلك
الزبيب يسمى بالفقاع اهـ ع ش.
(مسألة: ب): لا يصح بيع غائب لم يره المتعاقدان أو أحدهما كبيع حصته في
مشترك لم يعلم كم هو، فطريقه أن يبيعه الكل، أي إن كان معلوماً بكل الثمن فيصح في
حصته بحصتها من الثمن، وطريق تمليك المجهول المناذرة ونحوها، وفي قول يصح بيع
المجهول، وبه قال الأئمة الثلاثة، وحيث قلنا بالبطلان فالمقبوض به كالمغصوب، ولا يخفى
ما يترتب عليه من التفريع والحرج، فالأولى بالعالم إذا أتاه العوام في مثل ذلك أن
يشدّ النكير فيما أقبل ويرشدهم إلى التقليد في الماضي، إذ العاميّ لا مذهب له، بل
إذا وافق قولاً صحيحاً صحت عبادته ومعاملته، وإن لم يعلم عين قائله كما مر في
المقدّمة، بل هو المتعين في هذا الزمان كما لا يخفى اهـ. قلت: وقوله فطريقه أن
يبيعه الخ اعتمد صحة ذلك في الإمداد و (م ر) وابن زياد تبعاً للقفال والروياني،
وخالفهم في التحفة وابن مخرمة قالا لعدم العلم بالحصة حينئذ.
[فائدة]: باع أرضاً بحقها من السقي جاز، وكذا لو باع بعضها بحقه فيصح
أيضاً، كما لو باعها معه لاثنين ويملك المشتريان كله كما لو كان للبائع، ومثله
الممرّ ونحوه، ويغتفر الجهل بالحقوق حالة البيع، قاله الردّاد عن الرافعي اهـ
قلائد. وصيغة دخول الأنموذج في المبيع أن يقول: بعتك البر الذي عندي مع الأنموذج
اهـ بج. وقال زي: وقولهم وفي السفينة رؤية جميعها أي حتى ما في الماء منها كما
شمله كلامهم، لأن بقاءها فيه ليس من مصلحتها، وهذا ما تعم به البلوى، فتباع
السفينة وبعضها مستور بالمياه اهـ.
(مسألة: ب ك): لا يصح
بيع الماء وحده من نحو بئر ونهر، فإن وقع البيع على قراره أو بعضه شائعاً صحّ، ولا
تشترط رؤية ما تحت الأرض من المنبع والقرار لتعذره كأساس الدار، لكن لا بد من
اشتراط دخول الماء الموجود حال العقد، إذ لا يدخل في مطلق البيع مع اختلاطه
بالحادث فيؤدي إلى الجهالة والنزاع، وحكم ما إذا باعه ساعة أو ساعتين مثلاً من
قرار العين أنهما إن أرادا مدلوله الحقيقي مع تقدير ما بطل أو جزءاً معيناً في محل
البيع أو المجرى المملوك صح، كما لو لم يريدا شيئاً، واطرد في عرفهما التعبير
بالساعة في مثل هذا التركيب عن الجزء المعين من القرار المملوك، وكذا إن لم يطرد
على الراجح كما قاله ابن حجر قال: والحاصل أنه لا يصح بيع الماء من نحو بئر أو نهر
وحده مطلقاً للجهل به، وأن محل نبع الماء إن ملك ووقع البيع على قراره أو بعض منه
معين صحّ ودخل كل الماء أو ما يخص ذلك المعين، وإن لم يملك المحل بل ما يصل إليه
لم يصح بيع الماء لأنه غير مملوك لصاحب الأرض، ولهذا إذا خرج من أرضه كان على
إباحته، وإذا باع القرار لم يدخل الماء الذي هو مملوك له، وإنما يدخل استحقاق
الأرض المسمى بالشرب.
(مسألة: ش): اشترى أثواباً وأجل ثمنها إلى جزير الحوير ثم خلطها بما لا يتميز، فإن جرى ذكر
الأجل في صلب العقد أبطله، وحينئذ يلزم المشتري أقصى قيم الأثواب من القبض إلى
الخلط إذ المقبوض ببيع فاسد كمغصوب، وإن لم يجر في صلبه لم يؤثر ولزمه الثمن
المعقود عليه أي حالاً.
(مسألة: ك): حيث كانت
الفلوس رائجة مضبوطة لم يشترط إلا ذكر العدد لا غير، فلو قال: بعتك هذه الدراهم
بعشرين غازية محمدية صح، ولا فرق بين أن تكون ثمناً أو مثمناً، فإن كانت الغوازي
فضة تعينت أن تكون هي الثمن هنا لدخول الباء عليها، كما لو قلنا بالمعنى المجازي
وهو دخول الفلوس في مطلق النقد.
(مسألة: ش): اشترى
بفلوس ثم قبل قبضها زاد السلطان في حسابها أو نقص لم يلزمه إلا عدد الفلوس المعقود
عليها ولا عبرة بما حدث، بل وإن نقصت قيمتها إلى الغاية ما لم تصر إلى حدّ لا تعدّ
عرفاً أنها من تلك الفلوس التي كان يتعامل بها فلا يجب قبولها حينئذ، ولو فقدت
الفلوس فقيمتها يوم الطلب إن كان لها قيمة حينئذ أيضاً وإلا فقبله، والقول قول
الغارم حيث لا بينة أو تعارضتا وكالبيع نحو القرض.
(مسألة: ي): باع ماله
ومال أولاد أخيه، فإن أقام هو أو وارثه أو المشتري بينة برشادة البائع عليهم
واحتياجهم لبيع المال وأنه بثمن مثله يوم البيع صح في الكل، وإلا حلف كل من أولاد
الأخ على نفي العلم بذلك، وردت الحصة إليهم ورجع المشتري على بائعه بالثمن.
(مسألة): باع المشترك بينه وبين أخيه المحجور، ثم تناذر هو والمشتري في حصة
البائع فقط بحصته من الثمن المنذور به، وإن حضر المحجور وأجاز لإلغاء عبارته، بل
لو كان كاملاً وحضر ولم يصدر منه رضا لم يصح في حصته إذ لا ينسب لساكت كلام، نعم
إن كان له ولاية على المحجور وباعه لحاجته بثمن المثل صح في الكل.
(مسألة): باع حصناً
مشتركاً بينه وبين ابنه المتوفي، فإن كان وارثاً حائزاً لتركة ابنه صح في الكل بكل الثمن، سواء قال: بعتك كل الحصن
أو أطلق، وإن لم يكن حائزاً صح في حصته مع ما ورثه بحصة ذلك من الثمن، نعم لو كان
على الابن دين ولم يملك المشتري الحصة المذكورة من الوصي أو الوارث ثم الحاكم لم
يصح إلا في حصة الأب فقط، فإن ملكها كذلك صح في الجميع إن بيعت لقضاء الدين.
(مسألة: ي): عامل غيره
بنحو بيع بشرط أن لا تتوجه عليه دعوى بمعنى أنه إن ثبت لأحد حق فيما عامله به لا
يرجع عليه فيما أخذ منه بطلت المعاملة إن وقع الشرط في صلب العقد أو زمن الخيار،
لا إن وقع خارجها عنهما فتصحّ ويلغى الشرط فللمشتري الرجوع إذا بان مستحقاً.
ما يحرم من المعاملات وما يكره
(مسألة: ي): كل معاملة كبيع وهبة ونذر وصدقة لشيء يستعمل في مباح وغيره،
فإن علم أو ظنّ أن آخذه يستعمله في مباح كأخذ الحرير لمن يحل له، والعنب للأكل،
والعبد للخدمة، والسلاح للجهاد والذب عن النفس، والأفيون والحشيشة للدواء والرفق
حلت هذه المعاملة بلا كراهة، وإن ظن أنه يستعمله في حرام كالحرير للبالغ، ونحو
العنب للسكر، والرقيق للفاحشة، والسلاح لقطع الطريق والظلم، والأفيون والحشيشة
وجوزة الطيب لاستعمال المخذِّر حرمت هذه المعاملة، وإن شكّ ولا قرينة كرهت، وتصحّ
المعاملة في الثلاث، لكن المأخوذ في مسألة الحرمة شبهته قوية، وفي مسألة الكراهة
أخف.
(مسألة: ب): يحرم بيع التنباك ممن يشربه أو يسقيه غيره، ويصح لأنه مال كبيع
السيف، ونحو الرصاص والبارود من قاطع الطريق، والأمرد لمن عرف بالفجور، والعنب ممن
يتخذه خمراً ولو ظناً، فينبغي لكل متدين أن يجتنب الاتجار في ذلك، ويكره ثمنه
كراهة شديدة. أما بيع آلة الحرب من الحربي فباطل، ويجوز خلط الطعام الرديء بالطعام
الجيد إن كان ظاهراً يعلمه المشتري، وليس ذلك من الغشّ المحرم، وإن كان الأولى
اجتنابه، إذ ضابط الغشّ أن يعلم ذو السلعة فيها شيئاً لو اطلع عليه مريدها لم
يأخذها بذلك المقابل فيجب إعلامه حينئذ.
(مسألة): ظاهر كلام ابن حجر و (م ر) حرمة التفريق بين الجارية وولدها قبل
التمييز بغير العتق والوصية من كل تصرف مع البطلان، وقال أبو مخرمة: يحرم النذر
كالوقف بولد الجارية ويصحان، فعلى الأوّل لو نذرت له امرأة ببنت جارية قبل التمييز
فوطئها أثم وعزر إن علم الحال ولزمه مهرها وضمنها ضمان غصب ولا يرجع بنفقتها وإن
جهل الحكم لأنه المورّط لنفسه، وعلى الثاني لا يلزمه شيء، نعم لو ادعى النذر وادعت
الإعطاء ولا بينة صدقت ولزمه ما ذكر على كلا القولين والأَولى في مثل هذه الصلح (مسألة:
ش): لا يحرم التفريق بين الجارية وولدها بعد التمييز بل يكره، أما قبله فلا يصح
البيع، ويأثم كل من البائع والمشتري إن علما الحال. (مسألة: ب ك): مذهب
الشافعي كالجمهور جواز معاملة من أكثر ماله حرام كالمتعاملين بالربا، ومن لا يورّث
البنات من المسلمين مع الكراهة، وتشتدّ مع كثرة الحرام، وتركها من الورع المهم،
زاد ب: قال ابن مطيران: من لم يعرف له مال وإن عهد بالظلم إذا وجد تحت يده مال لا
يقال إنه من الحرام غايته أن يكون أكثر ماله حراماً ومعاملته جائزة ما لم يتيقن أنه من الحرام، ومثل ذلك شراء نحو المطعومات
من الأسواق التي الغالب فيها الحرام بسبب فساد المعاملات وإهمال شروطها، وكثرة
الربا والنهب والظلم، ولا حرمة في ذلك، وقد حقق ذلك الإمام السمهودي في شفاء
الأشواق وغيره من الأئمة، وحكموا على مقالة الحجة الغزالي بالشذوذ، حيث رجح عدم
جواز معاملة من أكثر ماله حرام اهـ. وزاد ك: وفي اجتناب الشبهة أثر عظيم في تنوير
القلب وصلاحه، كما أن تناولها يكسب إظلامه وإليه يشير قوله : "ألا وإن في
الجسد مضغة": الخ، ولهذا كان الأرجح أن لمن بيده مال في بعضه شبهة أن يصرف
لقوته ما لا شبهة فيه، ويجعل الآخر لنحو كسوة إن لم يف الأول بالجميع، وقد نقل
الإمام الشعراني عن الدقاق أنه قال: عطشت يوماً في البادية فاستقبلني جندي بشربة
فعادت قساوتها علي ثلاثين سنة اهـ. قلت: ووافق الإمام الغزالي في حرمة معاملة من
أكثر ماله حرام الإمام النووي في شرح مسلم، والقطب عبد الله الحداد، نقل ذلك جعيدة
علوي بن أحمد عنهما، ومن أثناء جواب للعلامة أحمد حسن الحداد بعد كلام طويل قال: وظهر
من هذه الأصول والدلائل أن ما يأتي به أهل البوادي من سمن وغنم وغير ذلك يحل شراؤه
منهم، ولا يتطرق إليه احتمال الحرمة، لأن اليد دلالة ظاهرة على الملك، والذي يختلط
بأموالهم من النهب ونحوه ليس هو الأكثر بالنسبة إلى بقية أموالهم وطريق الفتوى غير
الورع اهـ.
[فائدة]: يصح بيع المصادرة من جهة ظالم، أي كأن يترهبه سلطان لأخذ ماله
فيبيع ماله لأجله لدفع الأذى الذي ناله إذ لا إكراه فيه، ومقصود من صادره حصول
المال من أي جهة كان اهـ أسنى وقيده في العباب بما إذا كان له طريق سواه.
الربا
(مسألة: ب): هل يختص إثم الربا بالمقرض الجارّ لنفسه نفعاً أو يعم المقترض،
فيه خلاف في فتح المعين، وأما قرض السلطان دراهم إلى أجل ثم يردها للمقرض مع
زيادة، فإن كان رده
للزيادة بلا شرط أو بتمليكه إياها بنحو نذر أو هبة، أو كان الآخذ له حق في بيت
المال فأخذها ظفراً ونحوه فحلال وإلا فلا.
(مسألة: ك): لا تجوز
معاملة الكفار بالربا، ولا تعاطيه منهم مطلقاً كالمسلمين لأنه كما قيل: لم يحلّ في
شريعة قط، وتعاطي الكسب الأدنى أهون من الريا، لأنه كسب محرّم لا يليق تعاطيه بأحد
أبداً.
(مسألة): التمر كله
جنس وإن اختلف أنواعه وبلاده، والبر مثله، والذرة كذلك، ولا عبرة باختلاف الألوان،
فحينئذ لو باع خمسة مكاييل ذرة حمراء بخمسة بيضاء إلى أجل لم يصح، إذ الشرط فيما
إذا اتفق الجنس الحلول
والتقابض والمماثلة كما هو معلوم.
[فائدة]: من المطعوم
ما يؤكل مع غيره كالفلفل والقرفة وسائر التوابل أي الأبازير، أو للتداوي كالزعفران
أو المصطكي واللبان والأهليلج والزنجبيل وبزر الفجل والبصل، وأدهان البنفسج والورد
واللبان والخروع وهو الجار عندنا، والطين الأرمني لا الخراساني ولا المالح،
والخروع نفسه والورد وماؤه والصمغ، وأطراف قضبان العنب وإن أكلت رطبة، ولا مسك وعنبر
وعود، ولا مسوس حب ذهب لبه، ولا قشر لا يؤكل بهيئته كقشر البن، كما أفتى به ابن
حجر الثاني ولا نخالة اهـ قلائد.
(مسألة: ك): الفرق بين
الصحيح والمكسر أن الصحيح هو المضروب، والمكسر قطعة نقر مضروب قطعت بالقراض أجزاء
معلومة، أما نحو الأرباع فهي نقود صحيحة، وأما نحو المقاصيص والذهب المشعور
والمكسر فالعقد بها باطل للجهل بقيمتها.
(مسألة: ك): يشترط في بيع الذهب بالذهب والفضة كذلك الحلول والتقابض
والمماثلة، فلو باع صابوناً بنقد لم يشترط شيء من ذلك، وإن باع مائة قرش ورطل
صابون مثلاً بمائة وعشرين قرشاً مؤجلة كان من الربا المحرم الباطل شرعاً لفقد
الشرط، وإن باعه الصابون وحده بدراهم مؤجلة وأقرضه الدراهم إلى أجل وليس فيه جرّ
منفعة للمقرض ولا وقع شرط عقد في عقد صح الكل، لكن إن تواطآ عليه قبل العقد كره
كسائر الحيل المخرجة عن الربا، وقيل يفسد، كما لو تواطآ على أن يقرضه دراهم وينذر
له بزيادة من نوع المستقرض أو غيره، أو يستأجر منه قطعة بمال يسير يستحق عينها مدة
بقاء الدين المقرض بذمته، أو يردها على المستقرض بأجرة تقابل تلك الزيادة، وكذا لو
اشترى منه بضاعة بثمن غال ثم باعها بثمن رخيص وهو المسمى ببيع العينة فيصح الكل،
حيث توفرت الشروط مع الكراهة خروجاً من خلاف من منعه، والكراهة عندنا تنزيهية،
وعند الحنفية تحريمية، وللمالكية والحنابلة تفصيل في ذلك اهـ. وفي ي بعد نحو ما
تقدم: وهذا في حكم الظاهر، أما حكم من طلب المعاملة للدار الآخرة فمبني على
المقاصد، فإذا قصد معطي نحو الدراهم أو الطعام بالنذر التوصل إلى الزيادة المحرمة
بقوله عليه الصلاة والسلام: "كل قرض جر نفعاً فهو ربا" فقصد فاسد ووقع
في الشبهات، فليس كل حكم يحكم الحاكم بصحته لا مؤاخذة بمباشرته إلا إن وافق الظاهر
الباطن، وأما لو خالفه فإنما هو قطعة نار يقطعها الحاكم لذلك الفاجر، وقد حذر
العلماء من هذه المعاملات وجميع الحيل الربويات، كما في النصائح والدعوة التامة
للقطب الحداد.
(مسألة: ب): أعطاه شخص مائة قرش وشرط عليه أن يعطيه في كل عشرة قروش مائة
رطل تمراً عين كل سنة، وأخذ منه نخلاً صورة عهده واستمر على ذلك ولم يجر بينهما
عقد بيع في النخل لم يصح جميع ذلك، ولا يستحق التمر المذكور والحال ما ذكر، بل
يرجع لصاحبه وليس لمعطي الدراهم إلا دراهمه فقط، ويجب على من له ولاية من ذي شوكة
زجر متعاطي هذه المعاملة قبح الله فاعلها، فكم دنس الدين طغام الناس ودنس في كثير
من الأحكام.
(مسألة: ب): أعطى نحو الحراث طعاماً وتمراً إلى
الجذاذ، فعجز المدين عن الوفاء، فاتفق هو والدائن على أن قيمته كذا وكتباه في
الذمة لم يصح لأنه بيع دين بدين وهو باطل، كما أفتى بذلك أحمد مؤذن باجمال،
والحيلة في ذلك أن يبرىء الدائن المدين براءة صحيحة، ثم ينذر له نذراً صحيحاً بقدر
ما تراضيا عليه، فما يجعله أهل الكيل عند تعذره بفضة باطل، بل وجميع صور الكيل مع
أهل الربا مبنية على جرف هار، خصوصاً في بيع نخل لا يثمر فالحذر منها، وأما
الاستبدال عما في الذمة بعوض حاضر فصحيح بشروطه المعروفة.
[فائدة]: الأردب مكيال معروف بمصر وهو أربعة وستون مناً، وذلك أربعة وعشرون
صاعاً نبوية اهـ توقيف. والمن رطلان اهـ صحاح.
الخيار
[فائدة]: إذا انعقد البيع لم يتطرق إليه الفسخ إلا بأحد سبعة أسباب: خيار
المجلس، أو الشرط، أو العيب، أو خلف الشرط كأن شرطه كاتباً فأخلف، والإقالة، والتحالف،
وتلف العين قبل القبض اهـ مجموعة الحبيب طه ابن عمر.
(مسألة: ش): ضابط خيار العيب هو ما نقص العين أو القيمة نقصاً يفوت به غرض
صحيح، والغالب في جنس ذلك المبيع عدمه، وهو عام في الحيوان وغيره، فمن عيوب
الحيوان عدم أكله علفاً، الغالب في جنس ذلك الحيوان أكله له، وإن كان ذلك الحيوان
من بلد لا يوجد فيها ذلك العلف فيما يظهر لشمول الضابط المذكور، ومن عيوب غير
الحيوان اختصاص الدار بنزول الجند ومجاورة القصارين أو على سطحها مجرى ماء لغيره،
أو بقرب الأرض قرود تأكل زرعها وتنجس ما ينقصه الغسل أو له مؤنة، وظهور رمل تحت
أرض تراد للبناء، أو أحجار تضر الغرس والزرع وحموضة بطيخ.
(مسألة): اشترى دابة لم تجرب للسناوة، فلما علمها لم تحسنها بل بركت في
المقود فلا خيار، إذ العيب المثبت للرد هو ما وجد عند البائع، وكون الدابة تحسن
عمل كذا أو لا تحسنه لا يقتضيه العقد عند الإطلاق، وهذا بخلاف ما لو علم ثوراً
لسناً فلم يحسنها فباعه لجاهل بذلك فله الخيار إن كانت السناوة أظهرالمقاصد منه في
تلك الناحية. قاله أبو مخرمة.
(مسألة: ش): اشترى بذراً فادعى قبل بذره أنه لا ينبت، فإن علم عدم إنباته
بقول خبيرين خير بين الفسخ والإجازة بلا أرش، ولا نقول يبذر قليلاً ليعلم الإنبات
وعدمه، إذ بذلك يتلف بعض المبيع الموجب عدم الرد، فإن عدم الخبيران أو اختلفا صدق
المشتري بيمينه، كما لو رأى عيناً فاشتراها بعد مدة وادعى تغيرها، وإن بذره فلم
ينبت مع صلاحية الأرض للإنبات وتعذر إخراجه، أو صار لا قيمة له، أو حدث به عيب
وادعى عدم إنباته فله أرشه فقط، وهو ما بين قيمته نابتاً وغير نابت، كمن اشترى شاة
على أنها لبون فماتت قبل العلم بذلك وحلف المشتري على أنها غير لبون وإطلاق ابن
الزنبور غرم البائع جميع ما خسره المشتري، والناشري غرم أجرة الباذر في غاية
البعد، ومحل ما ذكر إن وقع الشرط في صلب العقد فلا أثر للمواطأة قبله، كما أن محله
أيضاً إن اتفقا على صلاحية الأرض للإنبات أو ثبت ببينة، وإلا فلو أقام البائع بينة
بصلاحية البذر للإنبات وعدم صلاحية الأرض والمشتري عكسه تعارضتا وصدّق المشتري.
(مسألة: ش): اشترى جارية فقيل له إنها تصرع، فقال للبائع: هل بها صرع؟ فقال
لا ولا شيء من العيوب، وإن حدث بها شيء فدركي، فحدث بها الصرع فالقول قول البائع
بيمينه على وفق جوابه من أنه أقبضها المشتري سالمة من الصرع، أو أنه أقبضه إياها و
ما بها عيب، ولا يكفي الحلف على نفي العلم بل لا بد من القطع، ويجوز له اعتماداً
على ظاهر السلامة ما لم يغلب على ظنه خلافه، وحينئذ يثبت بحلفه عدم الرد فقط لا
حدوث العيب عند المشتري، فلو تقابلا فطلب البائع أرش الصرع حلف المشتري أن الصرع
لم يحدث عنده، وأما تدارك البائع للمشتري بالعيب الحادث بمعنى أنه يرد به فشرط
فاسد، بل لو وجد ذلك قبل لزوم العقد أفسده، فلو اتفقا على شرطه وادعاه أحدهما قبل
اللزوم والآخر بعده صدّق مدعي الصحة أي وهو الثاني.
(مسألة: ي): اشترى جارية ثم ادعى أنها حرة، فإن أثبتها بعدلين، أو أقر له
البائع، أو نكل فحلف هو المردودة بأن بطلان البيع وإلا فلا.
(مسألة: ب): اشترى
جارية فاستبرأها ثم زوجها عبده فظهر بها مخايل الحمل فأعلم البائع به فأنكر قدمه،
ثم بعد ستة أشهر ونصف من الشراء وخمسة ونصف من التزويج ولدت تاماً فترافعا إلى
الحاكم صدق البائع بيمينه على البت كما لو ادعى سرقتها، وما قاله بعض أهل العصر من
أن البائع يصدق في هذه بلا يمين لأن أقل الحمل ستة أشهر، فإذا زاد لحق المشتري
قطعاً. أخذاً مما قالوه في العدة فلا وجه له بل تهوّر منه، إذ من المعلوم أن
العيوب إما أن لا يمكن حدوثها كشجة مندملة والبيع أمس فيصدق المشتري بلا يمين، أو
عكسه كجرح طري والبيع والقبض منذ سنة فيصدق البائع بلا يمين إذ يقطع بما ادعاه، أو
يمكن الحدوث والقدم فيصدق بيمينه، إذا تأملت ذلك علمت قطعاً أن الحمل هنا مما يمكن
قدمه كالبرص والسرقة بل أولى، لأنا إذا نظرنا لغالب الحمل وندور الولادة في الأقل
ظهر لنا قوة صدق دعوى المشتري قدمه، وما استدل به البعض من لحوق الحمل بالفراش
واستحقاق الوصية في مثل هذه الصورة وقاس عليهما هذه فليس بناهض لاختلاف البابين،
إذ لا بد من القطع هنا بخلافه هناك فتأمله.
(مسألة: ش): اشترى حماراً فوجد به ظلعاً فقال البائع كان به فبرىء، فإن
اتفقا على وقوع البيع بعد مدة يغلب على الظن زواله فيها بالكلية بقول عدلين خبيرين
كسنة، فما ظهر عند المشتري عيب حادث لا ردّ به، وإن ادعى البائع عوده بعد مضي
المدة المذكورة والمشتري قبلها قضى لذي البينة، فإن أقاما بينتين فالأظهر تقديم
بينة البائع كما أفتى به العمراني، فيما لو شهدت بينة أن فلانة ولدت سنة ثلاث
عشرة، وأخرى سنة ثنتي عشرة، أنها تقدم الثانية لأن معها زيادة علم بإثباتها
الولادة في وقت تنفيه الأولى، هذا إن لم يكن الاختلاف في وقت عود الظلع، وإلا كأن
شهدت بينة المشتري في رمضان قبل مضي المدة من برئه، وبينة البائع في ذي القعدة
بعدها قدمت الأولى لأنها ناقلة، والأخرى مستصحبة بقاء البرء إلى ذي القعدة، كما لو
لم تكن بينة لأحد، فإن لم يوجد الخبيران صدق المشتري، إذ البائع موافق على وجود
العيب ومدّع براءته في وقت ينفيه المشتري والأصل عدمها، نعم إن اتفقا على برئه في
وقت كذا واختلفا في عوده صدق البائع بيمينه، ولو اختلف أهل الخبرة في المدة عمل
بالأخير ثم الأكثر ثم بمن أثبت العود في المدة.
[فائدة]: اشترى شاة وضرعها حافل باللبن، ثم بان نقصه صدق البائع بيمينه أنه
ما ترك حلبها لأجل الغرر بكثرة اجتماعه، ولا مضت مدة من عادة حلبها فلم تحلب ليدخل
سهوه إذ التصرية تثبت مع السهو أيضاً، ولو اشترى شيئاً فوجده معيباً فله حبسه إلى
استرداد ثمنه، نقله الرافعي عن المتولي وأقره خلافاً لما يوهمه كلام الغربي اهـ
أحمد مؤذن اهـ مجموعة الحبيب طه.
[فائدة]: نظم بعضهم عيوب الرقيق فقال:
ثمانية يعتادها العبد لو يتب
>< بواحدة منها يردّ لبائع
زنا وإباق سرقة ولواطة ><
وتمكينه من نفسه للمضاجع
وردته إتيانه لبهيمة ><
جنايته عمداً فجانب لها وع
اهـ بج.
(مسألة: ش): اشترى
أثواباً فاطلع على عيب فيها بعد بيع بعضها، فإن كان العيب في الباقية فله الأرش
على ما رجحه ابن حجر، خلافاً للعباب ومن تبعه أو في التي باعها، فليس له الأرش حتى
ييأس من الرد أو فيهما فلكل حكمه، وليس له رد بعض المبيع مطلقاً، وإن تعذر رد
الباقي إلا برضا البائع، نعم إن باع البعض من البائع ثم اطلع على عيب في الباقي
فله رده على ما قاله القاضي والأسنوي، ويحصل اليأس من الرد الموجب للأرش بتلف
المبيع كله وكذا بعضه، فيما ينقص بالتبعيض ولم يرض البائع برد الباقي حساً كموته
أو شرعاً كعتقه، ولو وفى بالشرط من البائع أو كان ممن يعتق على المشتري ووقفه
وتزويجه وإيلاد الأمة، وبحدوث عيب عند المشتري ولو بفعل البائع وإن رجى زواله، أو
المشتري منه إن أيس من زواله ولو ظناً كبلّ الثوب، وإنما لم نفصل في العيب الحادث
عند المشتري الأول لأن الرد فوري، فإذا تعذر حالاً استحق أرش القديم، ومن ثم لو
حدث عنده عيب وزال ثم اطلع على العيب فله الرد.
قبض المبيع والاستبدال
(مسألة): المبيع قبل قبضه من ضمان البائع أي المالك، وإنما عقد وكيله أو
وليه فينفسخ العقد بتلفه أو إتلاف البائع له، ويثبت الخيار بتعيينه أو تعييب غير
المشتري، وإن قال للبائع: أودعتك إياه، أو عرضه البائع على المشتري فامتنع من
قبوله ما لم يضعه بين يديه ويعلم به ولا مانع له منه، قاله في التحفة والنهاية،
وقال أبو مخرمة: ولو امتنع المشتري من القبض ولا حاكم فلا سبيل لإسقاط الضمان.
(مسألة: ج): اشترى حماراً بشرط الخيار لهما أو لأحدهما فمات في مدة الخيار،
فإن كان بعد قبض المشتري فمن ضمانه وإلا فمن ضمان البائع.
(مسألة: ش): اشترى
جارية فافتضها قبل قبضها صار قابضاً منها بنسبة ما نقص الافتضاض من قيمتها، وامتنع
بذلك الرد القهري لو وجد بها عيباً قديماً، فلو تلفت قبل القبض لزمه من الثمن ما
نقص من قيمتها وله من أرش العيب القديم مثله، فلو نقص بافتضاضه ربع قيمتها لزمه
ربع الثمن وله ربع أرش القديم، والحكم فيما إذا بقيت وقبضها كالحكم فيما إذا اطلع
المشتري على عيب بعد القبض وقد حدث عنده عيب آخر اتفاقاً واختلافاً وإجابة طالب
الإمساك.
(مسألة: ب): التخلية هي أن يمكن البائع المشتري من العقار المبيع، من نحو
أرض وشجر ودار مع تسليم مفتاحه وفراغه من جميع أمتعة غير المشتري، كأن يقول: خليت
بينك وبينه، ويشترط في الغالب مع الإذن في القبض مضيّ زمن يمكن الوصول إليه عادة،
ومعلوم أن قبض المنقول يحصل بنقله والتخلية كما ذكر في القطع والعهدة بالسوية لا
يفترق الحكم.
(مسألة: ش): اشترى ماء صهريج من ناظر المسجد فباع بعضه وبقي الباقي فحدث
سيل ملأ الصهريج، فإن لم يصح البيع لفقده شرطه فما قبضه من الماء كالمغصوب فيرده
باقياً ومثله تالفاً ويسترد الثمن، وإن صح بأن وجدت شروطه، ومنها أن يعلم العاقدان
عمق الصهريج لتوقف علم الماء عليه، فإما أن يقبض كل الماء بالنقل ثم يرده إلى
الصهريج فيصير حينئذ شريكاً بالباقي ولا خيار، وإما أن لا يقبض إلا ما باعه فله
الخيار فيما لم يقبضه في الأظهر، فإن أجاز صار شريكاً وإلا لزمه من الثمن قسط ما
قبض من الماء.
(مسألة: ك): لا يصح بيع الدين المؤجل بأنقص منه حالاً من جنسه من المدين أو
غيره ربوياً أو غيره، كما لو صالح من عشرة مؤجلة على خمسة حالة لأنه جعل النقص في
مقابلة الحلول وهو لا يحل، نعم يجوز شراء الدين بشروط الاستبدال ولو عجل المؤجل صح
الأداء.
(مسألة: ي ك): الفرق
بين الثمن والمثمن هو أنه حيث كان في أحد الطرفين نقد فهو الثمن والآخر المثمن،
وإن كانا نقدين أو عرضين فالثمن ما دخلته الباء، وفائدة ذلك أن الثمن يجوز
الاستبدال وهو الاعتياض عنه بخلاف المثمن،
زاد ي: وشروط الاستبدال عشرة، كونه عن الثمن وأن لا يكون مسلماً فيه ولا ربوياً
بيع بمثله، وأن يكون بعد لزوم العقد لا في مدة اختيار المجلس أو الشرط، وأن لا
يكون البدل حالاً وبصيغة إيجاب وقبول صريحة كأبدلتك وعوّضتك، إو كناية كخذه، وأن
يعين البدل في المجلس، وأن يقبضه إن اتفق هو والدين في علة الربا لا إن اختلفا
كذهب بأرز، وأن تتحقق المماثلة في ربوي بجنسه كذهب بمثله، قاله (م ر) وهو الأحوط.
وقال ابن حجر: لا يشترط وأن لا يزيد البدل على قيمة الدين يوم المطالبة ببلده إن
وجب إتلاف أو قرض، فلو
أخذ ربية فضة بمائة وستين دويداً مؤجلة، فإن كان بصيغة البيع صح وجاز الاستبدال
عنه بهذه الشروط أو بصيغة القرض فلا.
بيع الأصول والثمار
[فائدة]: يدخل في بيع الأرض البناء والشجر، فلو كانت أرض مشتركة بين اثنين
ولأحدهما فيها نخل خاص أو حصته في النخل أكثر منها في الأرض فباع الأرض مطلقاً دخل
قدر حصة الأرض من النخل لا كل النخل خلافاً لبعضهم، اهـ تحفة وسم وع ش. ووافقهم
أبو مخرمة قال: ولا يدخل شرب الأرض في بيعها إلا إن نص عليه كالوصية بها، وفي
التحفة: ويلحق بالبيع كل ما ينقل الملك كالهبة والوقف، لا نحو الرهن والإجارة
والتوكيل اهـ. وقال ع ش عن سم: إذا باع الوكيل مطلقاً أو ولي اليتيم دخل ما يدخل
لو باع المالك اهـ جمل.
معاملة الرقيق
(مسألة: ش): لا يلزم العبد المأذون له في التجارة الاكتساب لوفاء الدين
كالمفلس خلافاً لابن الرفعة، نعم إن عصى بسببه لزمه ليخرج عن المعصية، وبفرض وجوبه
متى باعه السيد لم يتأتّ الاكتساب، لأن كسبه بعد الحجر لا يتعلق به دين المعاملة.
(مسألة): ما فوته
العبد على غير سيده له ثلاثة أحوال، لأنه إما أن يتعلق برقبته فقط بمعنى أنه يباع
فيه إن لم يفده سيده بالأقل من قيمته والمال وذلك فيما إذا جنى على غيره، أو فوت
مالاً بغير رضاه أو برضاه وهو غير رشيد أو بذمته فقط، بمعنى أنه لا يطالب به حتى
يعتق وهو ما فوّته بإذن مالكه الرشيد من نحو مبيع وقرض وأجرة مقبوضة، كمهر ومؤن
وضمان بلا إذن من السيد في الكل، نعم إن بقي المال أو بعضه رد على مالكه أو بما في
يده من تجارة مأذون له فيها وكسبه ثم ما زاد بذمته، وذلك فيما كان من غير الجناية
بإذن السيد والمالك الرشيد.
اختلاف المتعاقدين
(مسألة: ي): تبايعا أرضاً ثم ادعى أحدهما عدم معرفة حدودها وأنكره الآخر
صدق لأن الأصل صحة البيع، كما لو ادعى أحدهما عدم رؤية البيع وإن اتفقا على
معرفتها، لكن ادعى المشتري أن المبيع أكثر مما حدد له البائع حلف كل يميناً تجمع
نفي قول صاحبه وإثبات قوله، ثم يفسخ العقد أحدهما أو الحاكم، وإن نكل أحدهما عن
اليمين كما ذكر قضى للآخر بما ادعاه.
(مسألة: ش): ونحوه ب: تبايعا أرضاً ثم ادعى أحدهما أنه لا يعرفها منذ ميز
إلى الآن وأقام شاهدين بذلك، فإن أراد معرفة قدرها من نحو ذرع فلا التفات لدعواه،
إذ معرفة قدر المعقود عليه المعين لا يشترط، وإن أراد عدم رؤيتها الرؤية المعتبرة،
فإن صدقه الآخر فواضح، وإن كذبه فاختلاف في صحة العقد وفساده، والأصح المفتى به تصديق مدعي الصحة وهو مثبت
الرؤية، سواء البائع أو المشتري ما لو أقاما بينتين، وأما الشهادة المذكورة فهي
شهادة على نفي غير محصور فلا التفات إليها، نعم إن شهدا بأنه غائب بمحل كذا، أي
ويبعد كونه ببلد الأرض المبيعة من بلوغه خمس سنين إلى الآن، كانت شهادة على نفي
محصور فيترتب عليها أثرها.
(مسألة: ش): اشترى
نخلات معينة بتمر مقدر في الذمة، فإن وصفه بصفات السلم حتى كونه جديداً جف على
الشجرة سقي بماء المطر وضدها صح وإلا فلا، فإن اتفقا على الوصف أو ضده فذاك، وإن
ادعاه أحدهما ولا بينة أو تعارضتا صدق
مدعي الصحة بيمينه، نعم لو طلب أحدهما الإقالة كان إقراراً بصحة البيع، فلا تقبل
دعواه عدم الوصف بعد إلا إن ظن أنه لا يشترط الوصف المذكور وعذر به.
العهدة
(مسألة: ك): لم أر من صرح بكراهة بيع العهدة المعروف ببيع الناس، فإن نص
أحد على الكراهة فلا يبعد أن يكون وجهها إما إخلاف الوعد إن عزم عليه لأنه مكروه،
أو الاستظهار على المشتري نظير ما عللوا به كراهة بيع العينة، وقد صرح في التحفة
بكراهة كل بيع اختلف في حله، كالحيل المخرجة عن الربا، وكبيع دور مكة والمصحف
الشريفين لا شراؤه، ولا تنافي الكراهة لو قلنا بها ثواب وقف المال المعهد والصدقة
به وغيرهما من وجوه البر، لأن الكراهة إنما هي من حيث تعاطي ذلك لا غير، وقد ملك
العين ملكاً تاماً، إلا إن كان ثم خلاف قوي تطلب مراعاته فينافيه حينئذ.
(مسألة: ب): بيع العهدة المعروف صحيح جائز، وتثبت به الحجة شرعاً وعرفاً
على قول القائلين به، وقد جرى عليه العمل في غالب جهات المسلمين من زمن قديم،
وحكمت بمقتضاه الحكام، وأقره من يقول به من علماء الإسلام، مع أنه ليس من مذهب الشافعي،
وإنما اختاره من اختاره، ولفقه من مذاهب للضرورة الماسة إليه، ومع ذلك فالاختلاف
في صحته من أصله وفي التفريع عليه لا يخفى على من له إلمام بالفقه. وصورته أن يتفق
المتبايعان على أن البائع متى أراد رجوع المبيع إليه أتى بمثل الثمن المعقود عليه،
وله أن يقيد الرجوع بمدة، فليس له الفك إلا بعد مضيها، ثم بعد المواطأة يعقدان
عقداً صحيحاً بلا شرط، إذ لو وقع شرط العهدة المذكور في صلب العقد أو بعده في زمن
الخيار أفسده فليتنبه لذلك فإنه مما يغفل عنه، ثم إذا انعقد البيع المذكور
فللمتعهد ووارثه التصرف فيه تصرف الملاك ببيع وغيره ولو بأزيد من الثمن الأوّل،
فإذا أراد المعهد الفك أتى بمثل ما بذله للمتعهد، ويرجع هذا المتعهد على المتعهد
منه، فيبذل له مثل ما وقع عليه العقد بينهما ويفسخ عليه، ثم يفسخ هو على المعهد
الأوّل ووارث كل كمورثه.
(مسألة): وكله آخر في شراء نخلة عهدة من جمع فاشتراها ثم غاب أحدهم وأقام
وكيلاً في تعهد ماله وحفظ غلته، فأراد الوكيل فك النخلة المذكورة من وكيل المتعهد
المذكور، فأتى بالدراهم فقبلها الوكيل وفسخ له النخلة لم يصح، بل النخلة باقية على
ملك المتعهد، إذ الوكيل المذكور إن أخذها لموكله وهو أحد المعهدين فهو عقد فضولي،
إذ لا يتناول التوكيل بالحفظ العقود والفسوخ، وإن أخذها لنفسه فلعدم الإذن من
المتعهد لوكيله في المبيع، بل ولعدم الصيغة أيضاً، إذ الفسخ يكون للمعهد ووارثه لا
للأجنبي، نعم لو وكله أحد المعهدين في الأخذ فأخذها له بمثل الثمن صح.
(مسألة: ب): عهد أرضاً ثم غرسها أو زرعها بغير إذن من المتعهد صار غاصباً
فيلزمه القلع وإعادة الأرض كما كانت، وأرش نقصها إن نقصت، وأجرتها نقداً مدة بقاء
نحو الغرس ولزمه قلعه، فإن تفاوتت الأجرة في المدة ضمن كل مدة بما يقابلها، فإن
بقي الغراس إلى فك المعهد والحال ما ذكر فالأجرة جميعها من حين شغل الأرض إلى
الفكاك للمتعهد لأنها نماء ملكه، وإن استغرقت أضاف قيمة الخلع، إذ المتعهد بالعهدة
ملك الأرض ملكاً تاماً، ولم يبق للمعهد إلا حق الوفاء بالوعد وهو حق مجرد لا يقابل
بالأعواض.
(مسألة: ب): تعهد بيتاً فانهدم بعضه لم تلزمه عمارته، بل لو أعاده كالأول
أو دونه أو زائداً عليه كان ما أنفقه عليه مضموماً إلى الثمن الذي وقع عليه البيع،
هذا إن كانت العمارة مما يدوم وبقيت إلى الفك لا نحو تطيين.
(مسألة): غرس المتعهد
الأرض المعهدة ثم فكت، فهو كما لو فسخت بعيب أو إقالة، فإن كان الودي من نفس
المبيع ولم يكن حادثاً بين الفسخ وأصل البيع تبع الأرض في الفسخ، وإلا فهو ملك
للمتعهد فيبقى وعليه أجرة المثل مدة بقائه في الأرض، شيخنا، والأجرة في حضرموت هي
الطعام المعتاد، وإذا شرط أن لا يفك المعهد إلا بعد مدة معينة اعتبر للزوم الفكاك،
وقد عمل به بعض وكلاء شيخنا، قال إمام الوجود عبد الله بلحاج في شراء عهدة له
فقرره مع علمه بذلك، ومثل ذلك لو شرط أن لا يفكه إلا بعد أن يستغله المتعهد خريفاً
أو موسم غيث في الزرع أو أكثر الخ اهـ قلائد. وقوله: والأجرة في حضرموت الطعام مرّ
في ب أنها دراهم، وسيأتي في الإجارة في ش أيضاً أنها دراهم مطلقاً، وأفتى أبو قضام
كأحمد بلحاج بأن ما تلف من المال المعهد يسقط بقسطه من الثمن، فإذا سلم المعهد قسط
الباقي أجبر الآخر على الفسخ اهـ.
(مسألة): إذا فسخت العهدة فإن كان بعد التأبير فالثمر كله للمتعهد أو قبله
فللمعهد، كما نقله أبو مخرمة عن علي بايزيد وسكت عليه، والمراد بالتأبير تشقيق طلع
النخل ولو واحدة في الحائط كما قال في الإرشاد والصلاح والتأبير والتناثر لا
الظهور في بعض ككل إن اتحد باغ أي بستان وجنس وعقد.
[فائدة]: مات مدين
وليس له إلا أموال معهدة عنده انقطع حق المعهدين وبيعت لوفاء دينه حتى لو أرادوا
الفك قبل بيعها قيل لهم قد تعلق بها حق الغرماء وصارت مرهونة بحقوقهم اهـ فتاوى
بامخرمة. وفيها تعهد مالاً ثم أجره سنين معلومة ثم طولب بالفسخ لزمه حالاً وفاز
بالأجرة المسماة مطلقاً، سواء كان المستأجر البائع أو غيره، وسواء كانت الأجرة
حالة أو منجمة، ولا يلزمه أجرة المثل لما بقي من مدة الإجارة، وكذا في الإقالة
المحضة وفسخ الفلس.
(مسألة: ب): يجوز لقيم
المسجد شراء دار له عهدة بنظر الغبطة والمصلحة، ثم يكريه بعد قبضه من البائع أو
غيره وعند إرادة الفك يفسخ القيم.
(مسألة): اشترى عقاراً
على سبيل العهدة، ثم بعد لزوم العقد استزاد البائع شيئاً من المشتري دراهم أو
غيرها على أن يلحق
ذلك بالثمن لم يلحق مطلقاً، ثم إن ملكه ذلك بنحو قرض وشرط عليه أنه مقدم على فكاك
العهدة، أي أنه لا يكون للمعهد فكاك إلا بعد تسليم ما ذكر كان كذلك، قاله ابن مزروع،
وقال عبد الله بلحاج: لا يجب الوفاء بجميع الشروط المختلفة باختلاف الأغراض
واتفاقهما على تقديم الدين قبل فسخ العهدة لا أثر له، وحينئذ تجب الزكاة في هذه
الدراهم المشروط تقدمها على الفكاك بشرطها على كلا القولين إذ هي كسائر الديون، ثم
إن كانت على مليء باذل وجبت حالاً وإلا فعند قبضها، نعم إن فسخ عقد العهدة وملكه
المتعهد ثانياً بالجميع لزم الفكاك بالكل اتفاقاً ولم تجب فيه زكاة حينئذ.
السلم والقرض
[فائدة]: نظم بعضهم شروط السلم بقوله:
شروط السلم يا صاحبي هي سبعة
>< فخذها لتعرفها بأكمل معرفه
مكاناً وتقديراً ونوعاً مؤجلاً
>< وتعيين رأس المال والقدر والصفه
(مسألة: ش): عليه دين لآخر فطالبه به فقال له: لك به عليّ كذا طعاماً، ثم
طالبه الدائن بالطعام فقال: لا يلزم مني. فأحضره إلى الحاكم وادعى عليه الطعام
وأتى بخط فيه: صدر إليك كذا من الطعام وبقي كذا، فقال القاضي للمدين: هذا إقرار
منك وحكم عليه به، فحكمه هذا حكم بغير ما أنزل الله تعالى يفسق به وينعزل، إذ
السلم لا يثبت بذلك لعدم شروطه، ومنها تسليم رأس المال في المجلس، ولأنه لا يثبت
بالخط إقرار، وإن فرض أنه خطه أو خط قاض موثوق به على الراجح.
(مسألة: ج): اقترض دراهم من آخر، ثم بعد مدة ردّ درهمين زائفين وادعى أنهما
من الدراهم المقترضة صدق بيمينه فيما يظهر لأنه غارم والأصل براءة ذمته، هذا إن لم
يخلطهما بماله وإلا صدق المقرض.
(مسألة: ب): استؤجر
لحمل شيء يوصله في مركبه إلى مكان كذا، وشرط صاحب الحمل أن يقرضه دراهم إلى أن
يبيع حمله، فالظاهر أنه ليس من القرض المحرم إن وقع في صلب العقد، لأن النفع حينئذ
إنما هو للمقترض لأنه الذي شرطه وإن تضمن نفعاً للمقرض، إذ القرض الفاسد المحرم هو
القرض المشروط فيه النفع للمقرض، هذا إن وقع في صلب العقد، فإت تواطآ عليه قبله ولم
يذكر في صلبه أو لم يكن عقد جاز مع الكراهة كسائر حيل الربا الواقعة لغير غرض
شرعي.
(مسألة: ي): أخذ ربية فضة بمائة وستين دويداً مؤجلة، فإن كان بصيغة القرض
أو بلا عقد حرم ولم يصح فكان ربا، إذ لا يجوز في القرض شرط ردّ زائد على المقرض أو
بصيغة البيع صح.
الرهن
(مسألة: ش): ليس لولي الرشيدة أن يرتهن بصداقها بغير إذنها، إذ لا يتمكن
الشخص من إنشاء عقد لغيره بغير إذنه مطلقاً في الجديد، وقياسه على جواز اشتراط
الوكيل الإشهاد والخيار بغير إذن الموكل فاسد إذ هما لمجرد الاحتياط.
(مسألة: ي): ونحوه ب: استعار مصاغاً ليرهنه في معين بإذن مالكه جاز بشرط
تعيين قدر الدين وجنسه ونوعه وأجله، والمرتهن مع بقية شروط الرهن من الصيغة
وغيرها، فحينئذ يصير المعير ضامناً للدين وجنسه ونوعه وأجله، والمرتهن مع بقية
شروط الرهن من الصيغة وغيرها، فحينئذ يصير المعير ضامناً للدين في المصاغ بعد قبض
المرتهن له فيتعلق الدين به، فإذا حل ولم يوفه الراهن بيع المرهون إن لم يوفه مالكه بعد مراجعته، ولو تلف لم يلزم مالكه
شيء لأنه لم يضمن الدين في ذمته، أما لو نقص من شروط الرهن شيء، أو لم يعلم المعير
المرتهن أو قدر الدين، أو زاد الراهن على ما عينه، لم يصح الرهن ولم يتعلق به
الدين، نعم إن أنكر المرتهن العارية أو قال: لا أعلم أنه ملك مدعيه مع إقرار
الراهن به أو بنحو غصبه، حلف المرتهن كذلك وأقر في يده إن صح الرهن وإلا أخذه
مدعيه، وإن أقر المرتهن لمالك المصاغ وادعى إذنه في الارتهان وأنكره المالك حلف وأخذه،
زاد ي: وإن ادعى الراهن أن المصاغ ملكه وأنكر العارية ولا بينة فهو لمن صدقه
المرتهن، ويحلف للآخر يمين الإنكار، وللمكذب تحليفه أيضاً إنه لا يلزمه تسليمه،
فإن نكل حلف المردودة وغرم له المرتهن قيمته، ولو شرط المرتهن أن الرهن مبيع أو
منذور له إن لم يوف الدين وقت حلوله ووافقه الراهن ومالك المصاغ، فإن كان في نفس
العقد فسد الرهن وإلا فالشرط، وحيث فسد الرهن فقيد المرتهن غاصبة فيضمنه ومنافعه
بأقصى قيمته.
(مسألة: ش): رهن عيناً
بإيجاب وقبول ولم يقبضها أو قبضها بغير صيغة بناء على عدم صحة العقود بالمعاطاة
جاز له التصرف فيها بنحو بيع، ولو وهب لطفله عيناً وقبضها له ثم رهنها من آخر
وأجره إياها بأقل من أجرتها، فإن رجع عن الهبة باللفظ قبل التصرف المذكور صح وإلا
فلا لانتفاء شرطه، فلو ادعى الرجوع لم يصدق إلا ببينة، فإن لم تكن حلف الولد بعد
كماله على نفي العلم، وله الرجوع على المرتهن بأقصى الأجرة، وله مطالبة الوالد
أيضاً، أو ادعى الرهن لنفقة الطفل صدق بيمينه، بخلاف وصي ادعى التصرف على وفق
المصلحة فلا يصدق إلا ببينة.
(مسألة: ش): ارتهن أرضاً فوضع يده عليها يستغلها من غير نذر ولا إباحة من
المالك لزمه أقصى أجر منافع ما وضع يده عليه منها، فإن تلفت الأرض حينئذ لزمه أقصى
القيم، لأن فائدة الرهن إنما هو التوثق بالدين ليستوفيه من المرهون عند تعذر
الإيفاء والتقدم به على غيره فقط.
(مسألة: ش): رهن عيناً وأقبضها ثم وهبها أو نذر بها لآخر منجزاً أو معلقاً
بصفة وجدت قبل فكها لم يصح، إذ هو ممنوع من التصرف في الرهن قبل فكه، ثم إن تلفت
في يد نحو المتهب طالب المرتهن ببدلها من مثل أو قيمة من شاء، والقرار على نحو
المتهب إن علم الحال وإلا فعلى الراهن كما لو تلفت في يده، وإذا انفك عاد البدل
لمن غرمه.
(مسألة: ب): رهن
مصاغاً فتلف بيد المرتهن، فإن كان بلا تقصير بأن وضعه في حرزه المغلق ولم يدخل
غيره ممن يستريب فيه لم يضمن، وإلا ضمنه بقيمته يوم التلف، ولا عبرة بقول الراهن
قيمته كذا، ولا يسقط بتلفه شيء من الدين مطلقاً.
(مسألة: ي): يد المرتهن يد أمانة فلو أحضر عيناً فقال الراهن: ليست هذه
المرهونة صدق المرتهن بيمينه أنها التي أقبضه الراهن إياها عن جهة الرهن ولم يقبضه
سواها كالوديع وبرىء ظاهراً وتكون ملكه، إذ من أقر بعين لآخر فكذبه تركت في يد
المقر يتصرف فيها تصرف الملاك.
(مسألة: ش): أمين
كمرتهن ووديع أراد سفراً لزمه إعلام المالك أو وكيله ليعمل بإذنه في السفر به أو
تركه، فإن لم يفعل ضمن حيث تيسر إعلامه ولم يسبق منه إذن في تركه عند إرادة السفر،
فإن تعسر دفعه للقاضي الثقة، وعليه إما قبوله والإشهاد به أو أمره بدفعه لثقة وهو
أولى، فإن عدم الحاكم المذكور دفعه لثقة ولو امرأة، أو أعلمه بمحله المحرز فيه
وأشهد عليه إن كان بحيث يتمكن من أخذه، وحينئذ لو سرق من الحرز كما ذكر لم يضمن،
فإن تعذر الكل أو خاف من الحاكم الجائر لو دفعه للثقة لزمه السفر به إن كان آمناً
أو خوفه أقل من الحضر.
(مسألة: ش): مات عن ورثة وفيهم محجور وغائب وخلف بيتاً مرهوناً بدين، فإن
قضاه الورثة وإلا باعه الحاكم بإذن الحاضر الكامل إن لم يصرّ على امتناع بثمن
المثل أو بأنقص منه مما يتغابن به حالاً من نقد البلد ولو من المرتهن، فإن ثبت أن
البيع بدون ثمن المثل ولو باعتراف المشتري بطل البيع، نعم لو شهدت بينة بأنه ثمن
مثله قدمت على الأخرى إلا إن قطع بكذبها، ولو عجز الراهن عن استئذان المرتهن
والحاكم فله الاستقلال بالبيع على الأصح اهـ. قلت: زاد في التحفة، لكن يحجر عليه
في الثمن إلى الأداء.
(مسألة: ش): ليس للمرتهن طلب دينه من غير الرهن لرضاه بتعلق الدين به كما
نقل عن الإمام، نعم إن بيع في الدين ولم يف به فله كوارثه طلب الزائد من الراهن أو
تركته، فإن ادعى ورثة الراهن
أنه لم يخلف سوى العين المرهونة فله تحليفهم حينئذ على نفي العلم، فلو باع المرتهن
الرهن بإذن بعض الورثة صح في حصته فقط فلغيره الكامل، وولي المحجور طلب رفع يد
المشتري عن حصته وتسليم ما عليه للمرتهن اهـ. قلت: وعبارة التحفة وقضية هذا أنه لا
يلزم الراهن التوفية من غير الرهن وإن طلبه المرتهن وقدر عليه، وبه صرّح الإمام،
واستشكله ابن عبد السلام بوجوب الأداء فوراً، ويحمل كلام الإمام على تأخير يسير،
واختار السبكي وجوب الوفاء فوراً من الرهن أو غيره، فلو كان غيره أسرع وطلبه
المرتهن وجب وهو متجه اهـ.
تعلق الدين بالتركة
[فائدة]: يندب أن يبادر بقضاء دين الميت مسارعة فك نفسه من حبسها عن مقامها
الكريم كما ورد، فإن لم يكن بالتركة جنس الدين أو لم يسهل قضاؤه سأل الولي وكذا
الأجنبي الغرماء أن يحتالوا به عليه، وحينئذ فتبرأ ذمة الميت بمجرد رضاهم بمصيره
في ذمة نحو الولي، وينبغي أن يحللوا الميت تحليلاً صحيحاً ليبرأ بيقين، وخروجاً من
خلاف من زعم أن التحمل المذكور لا يصح كأن يقول للغريم: أسقط حقك منه أو أبرئه
وعليّ عوضه، فإذا فعل ذلك برىء الميت ولزم الملتزم ما التزمه، ولا ينقطع بذلك تعلق
الغرماء بتركه الميت، بل يدوم رهنها إلى
الوفاء، لأن في ذلك مصلحة للميت، إذ قد لا يوفي الملتزم بذلك، ولا ينافيه ما مر من
البراءة لأن ذلك ظني اهـ تحفة.
(مسألة: ش): مات وله
حق شفعة فشفع وارثه كان الشقص المشفوع تركة حتى يتعلق به الدين، لأنه يتعلق بالمال
عيناً وديناً ومنفعة بالحقوق وإن لم تكن مالاً، ويؤدي الوارث الثمن من ماله أو من
التركة بإذن الغرماء لا بدونه، وليس على الوارث مراعاة الغريم في الأخذ، بل متى
أخذ حصل التعلق بالشقص، كوارث موصى له مات قبل القبول فإن حق الموصى له بالموصي به
لا يحصل ما لم يقبل وارثه ولا يلزمه القبول.
(مسألة: ش): ونحوه ي
ك: مات وعليه ديون وله أعيان حيوان وغيره كانت التركة جميعها مرهونة رهناً شرعياً
بالديون، فيبطل تصرف الوارث فيها بغير العتق والاستيلاد من موسر بقدر يساره إلا
بإذن أهل الدين، فإن غاب بعضهم أو حجر عليه أو امتنع ناب عنه الحاكم في الإذن، ولو
عجز الوارث عن استئذان رب الدين والحاكم فله الاستبداد بالبيع في الأصح، ولا بد من
اتفاق جميع الورثة على البيع أو بعضهم برضا المتأهل من البقية وولي المحجور
والغائب، ثم الحاكم عند امتناعهم أو عدم تأهلهم ولم يكن لهم أولياء، وتباع من
أجنبي أو من بعضهم بعضاً، بشرط أن يكون الثمن حالاً والمشتري ملياً، ويحجر عليهم
الحاكم في الثمن حتى يقبض أهل الدين مالهم، فلو غاب بعضهم أو امتنع قبض له الحاكم
ووضعه في بيت المال إن وجد وإلا فعند أمين، ولا يبقيه بيده دفعاً للتهمة، فإن رأى
إبقاء الثمن بذمة المشتري حتى يراجع أهل الدين فلا بأس.
(مسألة: ب): لا يصح تصرف الوارث في شيء من التركة ولا قسمتها قبل أداء
الديون، ومنها حجة الإسلام إن استطاع أوصى بها أولاً وسائر الوصايا، فلو نذر بعض
الورثة بما يخصه قبل ذلك لم يصح النذر، وهذه المسألة ونظائرها مما يغفل عنها وهي
كثيرة الوقوع، وقد غلط فيها كثير
ممن يدعي العلم كقضاة السوء، ولا يكفي إفراز قدر أجرة الحاج من التركة، بل لا يصح
التصرف حتى يكمل الأجير الحج على المعتمد اهـ. قلت: وهذا ما اعتمده ابن حجر و (م
ر) لكن قال في القلائد: وإذا بذل الورثة قدر الدين من التركة أو غيرها لمن إليه
قضاؤه من وصي وحاكم فالظاهر أن لهم التصرف في باقيها كما أفتى به أبو مخرمة، وكذا
إذا سلموا قدر الوصايا المطلقة إليه ومن له دين ومات وورثه واحد بعد واحد فهو في
الآخرة للأوّل، فلو قبضه وارث ولو الأخير برىء المدين إلا من المماطلة اهـ. ومن
سفينة الحبيب أحمد الحداد: من مات وعليه فرض الحج وأراد وارثه التصرف في التركة
فالحيلة في ذلك أن تقرر الأجرة ويقبضها الأجير بعد الاستئجار، أو يقبضها الوصي أو
الحاكم عند عدمه، أفتى بذلك عبد الله بن مخرمة تبعاً لجده وابن كبن ورأيته للشيخ
علي با يزيد اهـ. وفي ج كلام عن أبي مخرمة مذكور في باب القسمة، وعبارة ي حيث تصرف
الوارث قبل أداء الدين والوصايا بطل وضمنه كل من دخل تحت يده، فلو أوصى بشراء عقار
تقسم غلته لوصايا عينها لم تنفك التركة حتى يشتري ذلك العقار، فلا يكفي إفراز المال
فقط، كما لا تنفك بتأجير الوصي الحاج، وإن سلم له الأجرة على المعتمد ولو قاسمهم
الوصي فتلف بعض ما في يده قبل إيصاله مستحقه لزم الورثة توفيته مما بأيديهم، وليس
قبض الوصي مبرئاً لهم بل لا بد من قبض المستحق، كما لو اقتسم الورثة فظهر دين وقد
أعسر بعضهم فيؤخذ كل الدين من الموسر ثم يرجع هو على الآخر بعد يساره، نعم لو أوصى
بعين معينة امتنع التصرف فيها فقط.
(مسألة: ك): مات وعليه دين زائد على تركته ولم ترهن به في الحياة لم تكن
رهناً إلا بقدرها منه فقط، فإذا وفى الوارث ما خصه أوكل الورثة قدرها انفك نصيبه
في الأولى وكلها في الثانية عن الرهنية، ويفرق بين هذا وبين الرهن الجعلي، حيث لا
ينفك إلا بالإبراء عن جميعه بأنه
أقوى، فلو رهن عيناً ثم مات لم ينفك منها شيء إلا بوفاء جميع المرهونة به اهـ.
قلت: فلو طلب الدائن أخذ التركة بجميع الدين وأراد الوارث الفك كما ذكر أجيب الدائن
لتحقق مصلحة الميت وهو سقوط الدين عن ذمته وخلاص نفسه من حبسها، قاله في التحفة
وأبو مخرمة.
(مسألة): مات وعليه
ديون كثيرة أضعاف تركته وخلف صوغة مرهونة عند آخر ببعض الدين قدم المرتهن بدينه،
فإن زاد منها شيء أضيف إلى التركة وقسط الكل على بقية الديون، فلو كانت الصوغة
المذكورة مستعارة من آخر لترهن بشرطها كما مر في الرهن روجع مالكها، إما أن يقضي
الدين ويأخذها، أو يأذن في بيعها فيه، ويأخذ الزائد من قيمتها إن كان، ثم يرجع على
التركة بما أخذه المرتهن في الصورتين يضارب به كسائر الغرماء.
التفليس
[فائدة]: نظم بعضهم أقسام الحجر فقال:
ثمانية لم يشمل الحجر غيرهم
>< تضمنهم بيت وفيه محاسن
صبي ومجنون سفيه ومفلس ><
رقيق ومرتدّ مريض وراهن
(مسألة: ش): لا يكلف من عليه ديون بيع أعيانه بدون ثمن مثلها مرهونة كانت
أم لا، كأن كانت قيمتها مائة ووجد راغب بثمانين بل يكلف الدائن الصبر.
(مسألة): إذا كان
للمدين عرض فإن وجد راغب فيه بثمن مثله وهو ما انتهت إليه الرغبات في ذلك الزمان
والمكان لا ما قوّمه المقوّمون كما قاله ابن زياد وغيره أو أراده الدائن بذلك وجب
بيعه وقضاء الدين وإلا صبر الدائن وجوباً حتى يوجد راغب، ولا يجوز حبس المدين ولا
الترسيم عليه إذا لم يعهد له مال.
(مسألة: ش): أقرّ المفلس لآخر بعين أو دين سابق على الحجر قبل في حقه وحق
الغرماء، قال ابن الصباغ: ولهم تحليف المقر له، ولا يظهر لليمين فائدة إلا إنّ
هيبتها ربما تدعوه إلى تكذيب المقر فلا يزاحمهم حينئذ، إذ لو نكل عنها لم يمكنهم
أن يحلفوا المردودة إلا إن ادعوا أنه واطأه على ذلك ليبطل حقهم، فيحلفوا عند نكوله
على ذلك وحينئذ تكون يمينهم كإقراره.
(مسألة: ش): مدين ادعى الإعسار، فإن لم يعهد له مال ولم يلزمه الدين بنحو
شراء أو قرض صدق بيمينه، ولا يكلف حينئذ بينة ولا يحبس، وإن عهد له أو لزمه بنحو
شراء وقبض حبس حتى يثبت إعساره برجلين فقط فيشهدان بأنه معسر لا بأنه لا يملك
شيئاً لكن لا يضر على المعتمد.
الحجر
(مسألة: ي): المولود أعمى أصم حكمه كالمجنون، فيحكم بإسلامه دنيا وأخرى
تبعاً لأحد أصوله المسلم وإن كان بالغاً وليس هو من أهل الفترة ولا يلحقه بالعقلاء
ميله إلى نحو الدراهم والملابس، نعم إن كان له أدنى تمييز ألحق بالصبي المميز في
صحة العبادة وعدم المؤاخذة بتركها وإيصال نحو الهدية وإذن في دخول وردّ سلام، ومثل
من ذكر أخرس ليس له فهم أصلاً، لكن إن بلغ كذلك وإلا فوليه الحاكم كما في التحفة.
(مسألة): مريض يغمى عليه مرة ويفيق أخرى وصدرت منه تبرعات وطلاق، فما علم
كونه حال إفاقته نفذ أو إغمائه فلا وما شك فيه، فإن أقر هو وكذا وارثه في غير
الطلاق أنه حال الإفاقة نفذ أيضاً، وما ادعى هو أو وارثه أنه حال الإغماء صدق
بيمينه للقرينة الظاهرة.
(مسألة: ك): لا يثبت
البلوغ إلا باستكمال خمس عشرة سنة بشهادة عدلين، نعم إن شهدت أربع نسوة بولادته
يوم كذا قبلن وثبت بهن السن تبعاً قاله في التحفة، ومنه يعلم قبول شهادة الأبوين،
ويقبل قول الصبية: حضت، من غير تحليف وإن اتهمت، فلو أطلقت الإقرار بالبلوغ قبل في
أصح الوجهين.
[فائدة]: لا يحلف ولي أنكر الرشد بل القول قوله في دوام الحجر، ولا يقتضي
إقرار الولي به فك الحجر بل يقتضي انعزاله، وحيث علمه لزمه تمكينه من ماله وإن لم
يثبت، لكن صحة تصرفه ظاهراً متوقفة على بينة برشده أي أو ظهوره اهـ تحفة.
(مسألة: ج): أسند أمر
أطفاله إلى أخيه فبلغ اثنان وطلبا المال سلم إليهما حصتهما فقط لا حصة البقية، بل
يضمن بتسليمها إليهما، هذا إن شهد خبيران بأحوالهما بأنهما مصلحان لمالهما، أو آنس
الوصي منهما الرشد، وهو في هذا الزمان صلاح المال فقط، وأما صلاح الدين فقد تودّع
منه اهـ، وعبارة ش مذهب الشافعي أن الرشد صلاح المال والدين بأن لا يرتكب محرماً
مبطلاً للعدالة، ومنه أن تغلب طاعاته صغائره، ولا يشترط جميع شروط العدالة من ترك
خارم المروءة أو فعل صغيرة، ولا فرق في استدعاء فك الحجر بالصلاح المذكور بين المتصل
بالبلوغ وغيره، نعم لا بد من صحة التوبة حتى لو كان في قطع الصلاة مثلاً توقف فكه
على قضاء جميع ما فوّته بعد بلوغه لأنه أحد أركان التوبة، فحينئذ لا عبرة بأمر من
لا خبرة له من يريد فك الحجر بصلاة يوم أو يومين ظاناً فك الحجر بذلك، غير ناظر
إلى أن ارتفاع الوجوب وتوقف فك الحجر بقضاء جميع الفائت، ومذهب الأئمة الثلاثة أن
الرشد صلاح المال فقط، وهو وجه في التتمة مال إليه ابن عبد السلام وأفتى به
العمراني وابن عجيل والحضرمي والأزرق، بل نقل السبكي عن البويطي وابن شريح
والماوردي وابن علي أنه يصح تصرف من بلغ سفيهاً ولو بالتبذير إذا لم يحجر عليه وهو
شاذ.
وليّ المحجور
(مسألة: ي): ولي المجنون ما ألحق به مما مر، وإن كان له نوع تمييز أب فأبوه
فوصيهما أو أحدهما، ثم الحاكم أو صلحاء المسلمين عند فقده أو جوره، فيتصرف من ذكر
في ماله بتربيتهم، ويزوّجه غير الوصي ممن ذكر بظهور الحاجة كتوقان أو خدمة، ويتعين
التسري إن خفت مؤنته عن النكاح.
(مسألة: ج): إذا لم
يكن للمحجور أب أو جد ولا وصي فوليه الحاكم أو من أنابه وللولي أن يأخذ له شركة
بيت للمصلحة ويصدق في الانفاق اللائق ودعوى التلف.
(مسألة: ش): ونحوه ب:
إذا فقد الولي الخاص وهو الأب أو الجد أو وصيهما، والعام وهو القاضي أو الإمام أو منصوبهما، وقام به مانع من نحو فسق أو
خيانة، لزم صلحاء البلد كنحو العم أن يقوموا بالمحجور فرض كفاية إن تعددوا وإلا
فعين، ثم إن اتفقوا على واحد فذاك وإلا أقرع ليتحد المتولي، إذ تعدده يؤدي إلى النزاع،
ولا تلي الأم في الأصح، خلافاً لابن عجيل والحضرمي القائلين بتقديمها على الوصي،
وليس لعصبته كأمه منازعة المتعين وجعل المال تحت أيديهم إذا كان هو الصالح أو
الأصلح، كأن لم يمكن دفع نحو الظالم عن المال إلا منه.
(مسألة: ش): مات عن
أطفال وله أخوان فقال أحدهما للآخر: تصرف في مال الأطفال وعليك مؤنتهم وزكاتهم وما
فضل من ربح لك، فإن لم تثبت لهما ولاية بنحو وصاية فتصرفهما مضمون عليهما، نعم
لهما كنحو العم تأديب الطفل وتعليمه والإنفاق عليه من ماله عند تعذر مراجعة نحو
القاضي كعبده لئلا تضيع مصلحة الطفل، وإن ثبتت ولايتهما بنحو وصاية أو لم يوجد قاض
أو خيف منه على المال فلهما بل عليهما كصلحاء البلد التصرف في المال بالغبطة، فإن
اتفقا على صالح فذاك، وإلا تصرفا بحسب المصلحة حيث اتفقا وإلا روجع ثقة، وقول
أحدهما للآخر تصرف في المال الخ. لا يترتب عليه أثر إلا فسق القائل إن مكنه منه
جراءة بلا ظن مصلحة للمحجور، وتصرف الآخر صحيح لثبوت ولايته فحينئذ نعم يفسق إن
أخذ زائد الربح عن المؤن، ولا يعذر بجهله إلا إن قرب عهده بالإسلام.
(مسألة: ش): ليس للحاكم الكشف عن الآباء والأجداد في ولايتهم على أطفالهم
وتصرفاتهم ما لم تثبت عنده الخيانة أو الفسق فيعزله، وليس على نحو الأب إقامة بينة
للبيع ولا يمين إذ لا يقبل رجوعه، ويجوز له استخدام المحجور بنحو صبا وسفه كعبده
فيما لا يقابل بأجرة، وإعارته لمصلحته كتعليم ونفقة، وكذا لسائر قراباته، وإن لم
تكن لهم ولاية عليه حيث لا قاضي ثقة أمين لما لهم من الشفقة عليه، لما في قصة أنس
رضي الله عنه ففيه جواز استخدام اليتيم ووجوب خدمة الإمام والعالم على المسلمين،
أما خدمة عبد المحجور فيما يقابل بأجرة، فإن كان في مصالح المحجور فلا إشكال فيه
أو في غيرها فلا، نعم إن تعينت طريقاً في منعه من نحو إباق بقرينة جاز بل وجب
كركوب الوديع لدابة.
(مسألة: ش): يجوز للولي اقتناء الحيوان للمحجور للمصلحة، بل يجب إلقاؤه إذا
كان فيه غبطة ظاهرة كالنحل، وقولهم: إن الولي لا يشتري الحيوان ولا يتركه بملك
المحجور محمول على الغالب من عدم المصلحة، وحينئذ لو كان العرف أن من يخدمه يأخذ
الربع من غسله مثلاً فيقدر الحاكم الربع المذكور في أغلب أحوال القيم مدة معلومة
ويعرف قيمته، ثم يستأجر بها أو بأقل منها مراعياً المصلحة فيستحق المسمى، فيعطيه
من مال المحجور أو يعوضه من العسل إن كان إجارة عين، فإن لم يعرف العاقدان ما
يحتاجه النحل من الأعمال أنابا من يعرفه وينزل على عادة الناس في ذلك.
[فائدة]: يجوز للولي خلط طعامه بطعام موليه حيث كانت المصلحة للمولى، ويظهر
ضبطها بأن تكون كلفته مع الاجتماع أقل منها مع الانفراد، ويكون المالان متساويين
حلاً أو شبهة، أو مال الولي أحل، وله الضيافة والإطعام حيث حصل للمولى قدر حقه،
وكذا خلط طعام أيتام إن كانت فيه مصلحة لكل منهم اهـ تحفة. وفي الإمداد: وإن تبرم
الولي بحفظ مال موليه أي سئم من ذلك وتضجر استأجر من يتولاه بأجرة المثل وله الرفع
إلى القاضي لينصب قيماً، وكذا ليفرض له أجرة إن لم يكن ثم متبرع، وليس لولي أخذ
شيء من مال موليه في مقابلة تصرفه اهـ. لكن عبارة التحفة تقتضي الجواز إن خاف من
إعلام القاضي الجائر بشرط إخبار عدلين بقدر أجرة المثل، قال: لتعذر الرفع حينئذ
اهـ.
الصلح
[فائدة]: لا يصح الصلح إلا مع الإقرار عندنا، وقال الأئمة الثلاثة: يجوز مع
السكوت بل ومع الإنكار اهـ تحفة وينابيع الأحكام. وقال ابن حجر في أسنى المطالب في
صلة الأرحام والأقارب: ولا بأس أن يندب القاضي الخصمين إلى الصلح ما لم يتبين له
الحق لأحدهما، لقول سيدنا عمر لأبي موسى رضي الله عنهما: واحرص على الصلح ما لم
يتبين لك فصل القضاء، ولا بأس به أيضاً بعد التبين إن كان فيه رفق بالضعيف، وقد
عرفه حقه وتبين صدقه، فلم يبق حينئذ إلا سؤال فضله، ولا يلح عليهم في الصلح
إلحاحاً يوهم الإلزام، أو كان ذلك خوفاً أو حياء من غير رضا بالباطن وإلا فلا بأس،
إذ العادة جرت بالإلحاح في الظاهر مع الرضا باطناً، وحكم الحاكم لا يحل حراماً ولا
يحرم حلالاً في الباطن، كما أن الصلح كذلك، سواء المال والأبضاع عندنا، وخصه أبو
حنيفة وكثير من المالكية بالأموال حتى لو شهدا بطلاق كذباً وحكم به الحاكم جاز له
نكاحها بشرطه وهذا فاسد فليحذر منه اهـ.
(مسألة: ش): صالح بعض الورثة بعضاً عن حصته، فإن علم كل المصالح به
والمصالح عنه من كل الوجوه كالبيع حتى ما حدث من الزوائد صح الصلح، وإن علم البعض
صح فيه فقط، وإن جهل أحدهم المصالح به أو عنه بطل، لأن الصلح إما حطيطة أو معاوضة،
وكلاهما يؤثر فيه الجهل، ومحل الصحة أيضاً إن صدر عن جميع بقية الورثة، ثم إن كانت
التركة أعياناً وصالح على غيرها فبيع أو على بعضها فهبة لباقي النصيب وإن كانت
ديوناً، فإن كانت عليهم وصالحوه على غيرها فبيع دين لمن هو عليه فيشترط أن لا يكون
دين سلم، وأن يعين العوض في المجلس مع قبضه إن اتفقا في علة الربا، أو على غيرهم فبيع
دين لغير من هو عليه فيصح في الأظهر بشرطه، ومنها كونه على مليء مقرّ، وإن صالح
بعض الورثة عن دين عليه أو على التركة صح مطلقاً، إذ يجوز قضاء دين الغير بغير
إذنه، أو عن عين صح إن صالح لنفسه، وكأنه اشتراها بالمصالح به لا لبقية الورثة،
إلا إن أذنوا فيه أولهم صح في حقه فقط إذ هو تصرف فضولي.
(مسألة: ب): صالح على مال مجهول عن بعضه معلوماً ثم بان بأنه مغبون، فإن
استوفى شروط الصلح شرعاً من سبق الخصومة ثم الإقرار به من المدعى عليه اختياراً
وهو أهل للتصرف بصيغة معتبرة صح وعمل بمقتضاه ولا عبرة بالندم بعد، وإن انتفى شرط
بطل، وإن أكده بقوله: رضيت أو نذرت به لأنه إنما فعله ظاناً صحة الصلح، فإذا بطل
بطل ما ترتب عليه كغيره من العقود اهـ. قلت: وقوله عن مال مجهول هو مخالف لما تقدم
عن ش فتنبه له، وفي الميزان: ويصح الصلح على المجهول عند الثلاثة خلافاً للشافعي.
الحقوق المشتركة
(مسألة): أفتى ابن حجر بحرمة نقل الطريق العامة عن محلها إلى محل آخر وإن قرب، بل عده في
الزواجر من الكبائر للحديث الصحيح: "ملعون من غيَّر منار الأرض" أما
الخاصة كأن استأجر جمع محصورون المرور في أرض فلهم بتوافق المؤجر نقله إلى محل
آخر، ونقل في القلائد جواز النقل عن بعضهم إذا لم يضر ولم ينقص من الأول.
(مسألة: ب): أحدث في
ملكه حفرة يصب فيها ماء ميزاب من داره لم يمنع منه وإن تضرر جاره برائحة الماء ما
لم يتولد منه مبيح تيمم، إذ للمالك أن يتصرف في ملكه بما شاء وإن أضر بالغير بقيده
المذكور، وكذا إن أضر بملك الغير، بشرط أن لا يخالف العادة في تصرفه، كأن وسع
الحفرة أو حبس ماءها وانتشرت النداوة إلى جدار جاره، وإلا منع وضمن ما تولد منه
بسبب ذلك، ولو انتشرت أغصان شجرة أو عروقها إلى هواء ملك الجار أجبر صاحبها على
تحويلها، فإن لم يفعل فللجار تحويلها ثم قطعها ولو بلا إذن حاكم كما في التحفة،
وإن كانت قديمة بل لو كانت لهما مع الأرض فاقتسما وخرجت لأحدهما كان للآخر إزالة
ما كان منتشراً منها في ملكه، نقله في القلائد عن البغوي، ولو فسد بأغصان الشجرة
أو ظلها زرع غيره لزم مالكها وإن لم يطلب منه إزالتها كميازيب الطرق، بخلاف ما إذا
لم تنتشر الأغصان، وإنما منعت نحو الضوء والريح أو تضرر الجار بنحو هوامّ، فلا
يلزم صاحبها قطع ولا تلوية، كما لا يمنع من وضع جذوعه على جدار نفسه وإن منعت
الضوء عن الجار.
[فائدة]: لا يمنع من فتح كوّة تشرف على جاره في الأصح، لكن يمنع من الإشراف،
ومنع بعضهم من القريبة دون البعيدة، واستحسنه ابن النحوي، ويجوز للجار أن يبني
جداراً في ملكه وإن سد كوى جاره، بخلاف من له كوات على موات ليس لأحد البناء فيه
بما يمنعه الضوء والهواء مما يتم به الانتفاع اهـ قلائد. وفي التحفة: لا يمنع
الجار من وضع خشب بملكه وإن تضرر به جاره ومنعه الضوء والهواء، كما أن له إخراج
جناح فوق جناح جاره بالطريق إن لم يضر بالمار عليه وإن أظلمه وعطل هواءه ما لم
يبطل انتفاعه اهـ، ونحوه الفتح والنهاية. وفي الميزاب: قال الشافعي وأبو حنيفة: له
أن يتصرف بملكه بما يضر جاره لقوة الملك وضعف حق الجار الخ اهـ. وأفتى النووي
بجواز الصلاة في أرض مملوكة للغير لا زرع فيها لعدم التضرر بذلك، كالتيمم بترابها
إذا علم بقرينة حال أو عرف مطرد أن مالكها لا يكره ذلك، قال السمهودي: واطراد
العرف بعدم الكراهة كاف في الجواز وإن كانت الأرض لنحو صبي اهـ مجموعة الحبيب طه.
(مسألة: ب): دار بين اثنين لأحدهما السفل والآخر العلو، فخرب العلو ولم
تمكن إعادته على السفل إلا بتجديده، لم يلزم صاحب السفل هدمه وتجديده ليبني عليه
الآخر، ولا يمكن صاحب العلو من البناء عليه إذا لم يحتمله كما في القلائد، بل لو
أراد هدم السفل وبناءه ثم البناء عليه فالأقرب، كما أفتى به أحمد مؤذن أنه لا يجاب
لما في ذلك من إعدام موجود غير مستحق الإزالة، ولأنه قد لا يفي بما وعد، أو بمقصود
صاحب السفل، فيؤول إلى النزاع، وليس له منع الجار من إزالة جداره الذي لم يثبت له
فيه حق، نعم لو وجدت جذوع موضوعة على جدار ولم يعلم أصلها فالظاهر وضعها بحق،
فيقضي لصاحبها باستحقاق وضعها دائماً، وله المنع من إزالة ما تحتها من الجدار، حتى
لو سقط الجدار وأعيد جاز إعادتها بلا خلاف ما لم تقم بينة بخلاف ذلك، ولو وجدت دكة
في شارع ولم يعرف أصلها كان محلها مستحقاً لأهلها، فليس لأحد التعرض لها بهدم
وغيره ما لم تقم بينة بأنها وضعت تعدياً كما صرح به ابن حجر، ولا يجوز إحداثها
كغيرها، أي من نحو بناء وشجرة في الشارع وإن لم تضرّ بأن كانت في منعطف على
المعتمد عند الشيخين والجمهور، واعتمد جمع متقدمون ومتأخرون الجواز حيث لا ضرر
وانتصر له السبكي.
[فائدة]: اقتسما داراً فخرج لأحدهما علوه وللآخر سفله، فالسقف مشترك بينهما
ينتفعان به كالعادة، والدرج الذي يصعد عليه صاحب العلو له إلا إن كان تحته بيت
فمشترك كالسقف اهـ فتاوى بامخرمة. ولو خرب المشترك من نحو دار وأرض لم يجبر الشريك
على العمارة على الجديد والقديم إجباره، واختاره ابن الصباغ والشاشي وابن الصلاح
وصاحب الذخائر وابن أبي عصرون والفارقي، ونقل في المجموع اختياره عن بعضهم وأن به
الفتوى والعمل، وقال الإمام والغزالي: يختص بما يختل به الملك، واختار عبد الله
بلحاج إجباره إذا كان له مال غير ذلك اهـ قلائد.
(مسألة: ج): لشخص أرض ولآخر فيها نخل وبقربها بئر، فزعم صاحب الأرض أنها
أمهما وأراد السقي منها فمنعه الآخر وأقام بينة أنها ليست أمهما بل خالصة له وأن
أمهما غيرها حكم له بها، وليس لأحدهما السقي إلا من أمها وإن بعدت إن عرفت، ويستحق
صاحب النخل إجراء الماء في الأرض من الأم الأصلية لا من هذه التي أثبت أنها خالصة
له.
الحوالة
(مسألة): أحال على دين به رهن أو ضمان انفك الرهن وبرىء الضامن ما لم ينص
على نقل الضمان، وإلا فللمحيل مطالبتهما، وتصح الحوالة على الميت على المعتمد، ولا
تنفك التركة بها بخلاف الرهن الشرعي، قاله في التحفة.
[فائدة]: هل تجوز
الإقالة في الحوالة وجهان جزم الرافعي بالمنع اهـ بامخرمة.
(مسألة: ش): باع شيئاً وأحال بثمنه على المشتري ثم أفلس قبل قبض المشتري
المبيع صح البيع والحوالة، وبرىء المحيل من دين المحتال، والمحتال عليه من دين
المحيل، وطالب المشتري المحيل وهو البائع بالمبيع، هذا إن صح البيع والحوالة
بشرطهما، إذ من شروط الحوالة رضا المحيل والمحتال لا المحال عليه، وثبوت الدينين
والعلم بهما قدراً وصفة.
(مسألة: ش): أحال زيد
عمراً على خالد بمائة ثم قال: أردت بالحوالة الوكالة، وادعى عمرو الحوالة بدين له
سابق، فإن لم توجد شروط الحوالة
كأن لم يكن على المحيل أو المحال عليه دين لغت دعوى عمرو الحوالة، بل الدراهم
المقبوضة باقية على ملك خالد فيردها باقية وبدلها تالفة، فإذا ادعى زيد توكيل عمرو
في اقتراض المائة وثبتت الوكالة ولو بتصديق خالد ملكها زيد بقبض وكيله ولخالد
استردادها كما هو حكم القرض، وإن وجدت شروط الحوالة واختلف في التوكيل والحوالة
صدق زيد، سواء قال: وكلتك أو أحلتك ومقصودي الوكالة، إذ لفظ الحوالة كناية في
الوكالة وهو أعرف بقصده، وإذا وقع الاختلاف بعد قبض عمرو فقد برئت ذمة خالد، لأن
عمراً إما وكيل أو محتال، وعليه رد المائة لزيد إن بقيت ومطالبته بدينه، وله جحده
إن كان مماطلاً أو جاحداً، فلو تلفت المائة في يد عمرو، فإن كان بتقصير فلزيد
مطالبته ببدلها، ولا يطالب هو زيداً لزعمه أن المائة المقبوضة ملكه أولاً بتقصير
فلا مطالبة لأحد، لأن زيداً يزعم أن عمراً وكيل وهو لا يضمن، وعمراً يزعم أنه
استوفى حقه بالحوالة.
الضمان والإبراء
(مسألة: ي): قال المضمون عنه للضامن: ضمنت مالي على فلان، فأجابه بضمنت أو
أنا ضامن أو زعيم كان صريح ضمان أو بغريم مسلم ولم يقل أنا فكناية، وإن قال: نذرت
أو استنذرت بما في ذمته لم يصح لأنه نذر بما لم يملكه، نعم إن قصد النذر بمثل ذلك
لزمه ويصدق في عدم قصده فيهما.
(مسألة): قال في التحفة: ولو قال أقرض هذا مائة وأنا لها ضامن ففعل ضمنها
على الأوجه، نظير ما يأتي في ألق متاعك في البحر وعليّ ضمانه بجامع أن كلاً يحتاج
إليه، فليس المراد بالضمان ما في هذا الباب اهـ. قال ابن قاسم: قوله ضمنها على
الأوجه عبارة العباب، فلا يصح ضمان ما لم يثبت كأقرضه ألفاً وعليّ ضمانه اهـ. ولم
يخالفه في شرحه بل صرح بأن قول أبي شريح بالصحة ضعيف، وعبارة شرح (م ر) ولو قال:
أقرض هذا مائة وأنا ضامنها ففعل ضمنها على القديم أيضاً.
(مسألة): أبرأت زوجها
بعد موته عن المهر أو أبرأت ورثته صح بشروطه، ومنها علم المبرأ منه جنساً وقدراً
وصفة ونوعاً وإلا فلا يصح، وهذا كما لو أبرأ أحد ورثتها فيصح في حصته فقط بالشرط
المذكور، ثم لو ادعت أنها لا تعلم قدره صدقت بيمينها إن أمكن جهلها ولو كبيرة وبطل
الإبراء، ولا يصح الإبراء عن الإرث إذ ليس ديناً على الزوج، وإنما تملكه بمجرد
موته، سواء أبرأت الميت أو وارثه، لأن الأعيان لا يبرأ منها، بل لو قالت: تركته
لباقي الورثة كان لغواً إلا إن نوت تمليكهم بذلك بالنسبة للعين وإبراءهم بالنسبة
للدين، وألفاظ الإبراء: أبرأت وعفوت وأسقطت ووضعت وتركت وحللت وملَّكت ووهبت.
[فائدة]: قال في التحفة: وطريق الإبراء من المجهول أن يبرئه مما يعلم أنه
لا ينقص عن الدين كألف شك هل يبلغها أم لا؟ وإذا لم تبلغ الغيبة المغتاب كفى فيها
الندم والاستغفار له، فإن بلغته لم يصح الإبراء منها إلا بعد تعيينها بالشخص، بل
وتعيين حاضرها فيما يظهر إن اختلف به الغرض، ولو أبرأه من معين معتقداً أنه لا
يستحقه فبان أنه يستحقه برىء، ولو أبرأه في الدنيا دون الآخرة برىء فيهما، لأن
أحكام الآخرة مبنية على الدنيا، ويؤخذ منه أن مثله عكسه اهـ.
(مسألة): شرط الإبراء
كونه من معلوم وغير معلق ولا مؤقت كالضمان، نعم يصح تعليقه بالموت كالوقف فيكون
لهما حينئذ حكم الوصية، فلو قالت له زوجته: إن مت قبلك فأنت بريء من كذا، كان وصية
لوارث، فلا بد من الإجازة واعتباره من الثلث، ولو قال لها في مرضها: أنا بريء من
المهر؟ فقالت: نعم، ثم برئت من ذلك المرض نفذ الإبراء من رأس المال، نعم لو ادعت
هي أو وارثها أنها غائبة الحس حينئذ، فإن عرف ذلك منها صدقت بيمينها كوارثها، وإلا
صدق الزوج فيحلف على نفي العلم.
الشركة
(مسألة): أركان الشركة خمسة: الشريكان وشرطهما إطلاق التصرف والبصر إن
تصرفا معاً، فإن تصرف أحدهما لم يشترط إبصار الآخر، وتصح من ولي بشرط المصلحة
وسلامة مال الشريك عن شبهة، خلا عنها مال المحجور وأمانة الشريك إن تصرف والمال
وشرطه خلط لا يتميز إن اتحد نوعه، فإن اختلف باع بعض ماله ببعض مال الآخر أو وهب
أو نذر هذا في غير المحجور، أما هو فإن علم قدر حصته باع كما ذكر، وإن جهلت ولم
تمكن معرفتها صالح وليه الشركاء بحصة لا تنقص عن نصيبه، فإذا كانوا ثلاثة مات
أحدهم عن محاجير صالح وليهم بحصة لا تنقص عن ثلث المال حال الموت ثم خلطها، وكون
الربح بينهما على قدر المالين بالجزئية، وإن تصرف أحدهما فقط، والصيغة بأن يأذن كل
منهما للآخر في التصرف إذناً دالاً على الاتجار والعمل، وشرطه أن يكون بالمصلحة
والاحتياط عند الإطلاق كالوكيل وبما قيد عند التقييد، هذا في الموجود عند العقد،
ويزيد الحادث أن يكون تبعاً للموجود لا استقلالاً كأن يقول: أذنت لك أن تبيع
وتشتري في حصتي في هذا وما سيحدث لي من المال، فعلم أنه لو اكتسب ثلاثة مالاً ثم
خلطوا واتجروا فيه، ثم اتفقوا على أن جميع ما بأيديهم ناصفته لأحدهم، وناصفته
الأخرى لاثنين وأبقوه مخلوطاً، فإن كان مال من جعل له النصف مثلي مال الآخرين أو
أقل، وحصل ما ذكر ببيع مع علم الحصص أو هبة مع العلم أيضاً، أو عدم إمكان المعرفة،
أو نذر مطلقاً صحت الشركة بشرط التقابض في البيع والهبة، وأما تصرفهم قبل الاتفاق
وبعده بنحو البيع والقراض والإجارة والعمارة وإخراج الحقوق ودفع الظلمة والقرض والإنفاق
والتزوّج والتسري والعتق والضيافة، فإن كان بإذن من مطلق التصرف سواء الشريك أو
نائبه، وراعى المتصرف ما يلزمه كالوكيل نفذ وإن فسدت الشركة، وإن لم يكن كذلك فلا،
وإن صحت سواء في ذلك ما فيه تنمية المال وحفظه كالبيع والقراض والعمارة ودفع
الظلمة وإخراج الزكاة، أو ثواب مجرد كالصدقة والعتق والضيافة، لأن الإذن فيهما
وكالة، وكذا ما فيه غرض لفاعله كالإنفاق والتسري والمهر والكفارة، لأنه من باب
الأخذ بعلم الرضا الدالّ عليه الإذن، فإن ظن أن شريكه لا يرضى إلا بالبدل كان
المأخوذ من نصيبه قرضاً ضمنياً أو بلا بدل فهبة، نعم إن طلب الشريك ضمن مطلقاً
ضمان غصب إن نفى الرضا وإلا فضمان يد، وإن كان الإذن المذكور من ولي المحجور، أو
كان الولي هو المتصرف صح بشرطه المارّ فيما فيه تنمية المال وحفظه فقط لا فيما
عداهما، نعم إن قصد التصرف أن ذلك من حصته كان عليه ولا إثم، وإن لم يقصد أثم وصح
إن بقي قدر حصة المحجور وإلا ضمن ضمان غصب، كما لو كان المتصرف غير مأذون له، أو
لم يستوف الشروط المارّة، نعم إخراج الشريك زكاة الكل جائز، وإن لم يأذن شريكه بلا
ضمان، والعتق نافذ في حصة الشريك من موسر، وطريق إخراج الشريك من مظالم شريكه أن
حسب الأعيان التي تصرف فيها ويقوّمها بأقصى القيم مع الاحتياط حتى تتيقن براءة
ذمته، فإن جهل القدر لطول الزمان لزمه ما غلب على ظنه أنه بذمته، وينبغي له إعطاء
زيادة على ذلك كما لو اشترى بذمته، وحكمنا بوقوع الشراء له لعدم الإذن أو الولاية
أو المخالفة، ونقد الثمن من المشترك فالربح كله له، لكن فيه شبهة قوية تقرب من
الحرام، فالورع إعطاء الشريك حصته اهـ. وفي ب نحو هذا وزاد: أما ما أخذه بعضهم من
أموال الناس قراضاً أو غيره فحكمه مختص بآخذه ربحاً وخسراً، فلو بنى أحدهم بيتاً
من ماله المختص به استحقه، نعم ما صرفه من المشترك من نحو تمر فيه تفصيل.
(مسألة: ج): الشركة الواقعة بحضرموت وهي أن يموت شخص ويخلف تركة فتستمر
الورثة وفيهم المحجور والمرأة على إبقاء المال، ويتصرف الأرشد في ذلك ويأكل الجميع
ويضيفون وقد يكون بعضهم أثقل من بعض، وقد ينمو المال وقد يضمحل، ويقع النزاع
والتشاجر بينهم بعد باطلة على المذهب، والمخلص من ذلك أن يتفق الورثة مع بلوغ كل ورشده وعلمه بماله من غير
غرر على أمر، ويحصل الرضا وطيب النفس من الجميع فيجري عليهم حكمه، وإذا لم يحصل
رضا فادعى الأرشد أن هذا من كسبه وأقام بينة اختص به، وإن ادعى بقية الورثة بأن
التلف صار بسبب تصرفه الواقع بلا إذن شرعي ولم يقم بينة بالإذن والمشاهدة تقتضي
تصرّفه وأقرّ بالتلف ضمن، وإن حصل للحاكم اشتباه بظهور قرائن قوية تفيد غلبة الظن
بظلم أحدهم لآخر واستحقاقه عنده شيئاً معلوماً أو مجهولاً فله الحكم بالقرائن التي
هي كالبينة وإلا فيلجئهم إلى الصلح والتصادق، ولو ادعى أحدهم ديناً على الجميع لم يثبت إلا ببينة.
(مسألة: ج): مات شخص
وترك عقاراً ومال تجارة، فحصل بين ورثته تقرير الحصص لكل وارث من العقار من غير
إقرار، وأبقوا مال التجارة عند أحد البنين، وأنفق الكل من الوسط، ثم حسب مال
التجارة بعد فوجد فيه نقص، فالتركة مشاعة وتصرف الابن صحيح للإذن، ما نقص إن كان
بتفريط منه بتصرف غير مأذون فيه أو إنفاق زائد أو صدقة فعلى الابن فقط وإلا فعلى
التركة، وما أنفقوه في مصروف الدار فعلى كل بقدر ما يأكله وممونه لا بقدر نصيبه من
التركة، إذ لا يحل مال مسلم إلا بطيبة نفس.
(مسألة: ب): اشترك رجل
وامرأة في مال ورثاه مدة، والرجل يتجر فيه على القانون الشرعي، وله مال مختص به
غير المشترك يتجر فيه على حدته ومتأمن أيضاً لأناس يتجر لهم، ثم إن تلك المرأة
طلبت قسمة المال المشترك بينهما فأجابها، وأحضر جماعة من العدول وما معه وتحاسبا
في ذلك وتقارّا وتصادقا بحضرة العدول بأنه لم يبق بينهما شيء من المال، وأن المرأة
قبضت جميع مالها من الشركة أصلاً وربحاً من مال ومتموّل، ولم يبق لها عند الرجل
شيء، وكتبوا بذلك صكاً بحضور المرأة بأنه وقع الانقطاع والانفصال بين فلان وفلانة
فيما بينهما على سبيل الشركة المنجزة إليهم بالإرث من مورثهما فلان، وما كان من
مال وعين ودين وأصل وثمر، وبذلك انقطعت كل دعوى بينهما، وكل دعوى تدعيها فلانة على
فلان باطلة ولاغية، جرى ذلك حال الصحة والاختيار، ثم بعد أن تصرف كل فيما خرج له
ادعت تلك المرأة على الرجل المذكور بأنه أخفى عليها من المال المشترك، أو ادعت أنه
ظهرت له أموال وديون لم تقسم، وأنها من ربح المال المشترك وغلته، صدق بيمينه في
أنه لم يخف شيئاً من الربح، وفي أن ذلك المال الذي ظهر مختص به ليس من ربح المال
المشترك إجماعاً في الأولى، وكما هو مصرح به في المتون في الثانية، كما لو ادعت
فساد الشركة بإخلال ركن أو شرط، وادعى هو صحتها فيصدق بيمينه أيضاً كما في التحفة
وغيرها، فيما إذا ادعى أحد العاقدين صحة البيع أو غيره من العقود، وادعى الآخر
فساده بإخلال شرط أو ركن على المعتمد، فالأصح تصديق مدعي الصحة غالباً لأن الظاهر في
العقود الصحة، وأصل عدم العقد الصحيح يعارضه أصل عدم الفساد في الجملة، نعم إن
أقامت بينة بفساد الشركة المذكورة وأن يده يد عدوان لا يد شركة بل غاصب لها، قبلت
لقول القلائد وغيرها، إن من أقرّ بعقد كبيع ونكاح ثم ادعى صفة توجب بطلانه قبلت
بيِّنته فيحكم بفساد الشركة، فحينئذ كل ما اشتراه هذا الرجل لنفسه أو في الذمة كما
هو العادة يكون الربح الحاصل منهما له كما هو ظاهر، وإن نقد ثمنه من مال الشركة،
نعم هو آثم بذلك له حكم الغصب، وفي ع ش: وأما ما جرت به العادة بين المتعاقدين من
أنه يقول: اشتريت هذا بكذا ولم يذكر عيناً ولا ذمة فليس شراء بالعين بل في الذمة
فيقع العقد فيه للوكيل، ثم إن دفع مال الموكل عما في الذمة لزمه بدله من مثل أو
قيمة من وقت الدفع إلى تلفه اهـ. وإذا أمرت المرأة المذكورة الشهود أن يشهدوا
عليها بما تضمنه الصك المذكور بعد أن قرىء عليها وأقرته كان إقراراً منها به، كما
مال إليه في التحفة تبعاً للغزالي وهو الراجح عند (م ر) في اشهدوا ويغني عن ذلك
كله إقرارها الآن بجميع ما تضمنه المسطور منطوقاً ومفهوماً، فما بقي إلا وجه
التعنت الذي جرى الخلاف في أن الدعوى هل تسمع معه أم لا؟ وإلا فهل يبقى كلام بعد
تصرف الشريك على القانون الشرعي، ثم القسمة الصحيحة بحضور العدول والمصادقة من
الشريكين برضاهما بأنه لم يبق إلى آخر ما مر.
(مسألة: ي): ادعى بعض ورثة الشريكين أن الدار التي ملكها مورثهم ليست
للشركة صدقوا بأيمانهم على نفي العلم حيث لا بينة كما يصدق مورثهم، إذ ما ثبت
للمورث ثبت لورّاثه، لكن يحلف المورث على البت إذ هو أعرف بقصده، فلو أقروا بأن
الثمن من مال الشركة لزمهم حصة الشريك منه مطلقاً، سواء ثبتت الدار للشركة أو لهم
مؤاخذة لهم بإقرارهم بأخذ مورثهم المال من الشركة وصرفه لنفسه وإلغاء كونه ثمن
الدار لزعمهم أنهم مظلومون بأخذ الدار بالبينة فيما لو ثبتت بينة بذلك.
الوكالة
[فائدة]: يشترط تعيين الوكيل فلا يصح: وكلت أحدكما، نعم إن قال: وكلتك في
كذا وكل مسلم صح عند (م ر) والخطيب تبعاً لزكريا خلافاً للتحفة وتعيين ما وكل فيه
أيضاً، فلو قال في كل قليل وكثير بطل إلاَّ إن كان تبعاً لمعين، قاله في الفتح
خلافاً للتحفة والنهاية والإقناع، نعم إن كان القصد الربح كفى قوله: اشتر بهذا ما
شئت من العروض أو ما رأيت فيه المصلحة اهـ فتح وتحفة.
(مسألة): يجوز التوكيل في قبض الزكاة كما نقله ابن زياد عن النووي واعتمده،
وظاهر كلام أبي مخرمة ترجيحه، واعتمد ابن حجر في فتاويه عدم الصحة قال: إلا إن
انحصر المستحقون بمحل فلمن سافر منهم التوكيل حينئذ لأنهم ملكوها حقيقة.
(مسألة: ي): الفرق بين
الوكالة الصحيحة والفاسدة أن الوكيل يستحق المسمى في الصحيحة وأجرة المثل في
الفاسدة، ولا يأثم كما في التحفة والنهاية، وقال كثيرون: يأثم بل لا يصح تصرفه في
قول، ويجوز لنحو الوصي والقيم والولي التوكيل فيما لا تليق به مباشرته أو يعجز عنه
اتفاقاً، وكذا فيما يقدر عليه كما رجحه في التحفة، لكن شرط الوكيل أن يكون أميناً.
(مسألة: ب): قال (بع) هذا على الخدمة أو على نصف الخدمة، واطرد عرفهم أن
الخدمة أن يعطيه في المائة خمسة قروش مثلاً لزم الشرط المذكور واستحق ما شرط
لاطراد العادة بذلك تقديماً للعرف الطارىء على الوضع، نعم إن فسدت الوكالة استحق
أجرة المثل، فإن كانت هي الخمسة استحقها.
(مسألة: ج): ابن
وبنتان اقتسموا مال مورّثهم وكتبوا بينهم سجلاً وفيه وعليهم ما حدث بعد المخارجة
من طلب الدولة في دفعه وفرقه بقدر الحصص، لم يكن هذا اللفظ توكيلاً في التسليم، بل
لا يجوز لنحو الأخ كزوج إحداهما تسليم ذلك من مالهما لو كان تحت يده إلا بإذن خاص
في شيء معين عند مطالبة الدولة، فلو سلم من ماله فإن كان باقتراض منهما ثبت له
وإلا لم يلزم وإن أذنتا في التسليم، نعم إن كان غبياً جاهلاً رجع حينئذ لجهله، أما
لو سلم من غير إذن اعتماداً على ما سطر فليس له الرجوع مطلقاً، ولا تسمع دعواه
التسليم حينئذ، بل هي مجرد لجاج يجب زجره عنها اهـ. قلت: صرح في التحفة بأن من قال
لآخر: أدّ ديني أو اعلف دابتي، أو قال أسير: فادِني ففعل المأمور به لا بقصد
التبرع رجع على الآمر وإن لم يشرط، وإن قال له: أنفق على زوجتي أو أعمر داري
ونحوهما مما للآمر غرض بذلك وشرط الرجوع رجع وإلا فلا اهـ فليتأمل.
(مسألة): قال في التحفة: لو قال لغيره اشتر لي كذا بكذا ولم يعطه شيئاً
فاشتراه له به وقع للموكل وكان الثمن قرضاً له فيرد بدله، وقياسه أنه يكفي: ضحّ
عني ويكون ذلك متضمناً لاقتراضه منه ما يجزي أضحية، أي أقل مجزىء لأنه المحقق،
ولإذنه له في ذبحها عنه بالنية منه.
(مسألة: ب): وكل آخر
في شراء شيء وقال له: أدّ الثمن قرضاً عليّ، أو أعطاه إياه فتصرف فيه بإذن الموكل
أو علم رضاه، ثم اشترى ما وكل فيه في ذمته بنية الموكل، فالذي يظهر أنه يقع للموكل
في الصورتين وإن لم يسمه في صلب العقد، إذ التسمية غير شرط للصحة كما في التحفة،
والفرق بين هاتين وما ذكروه في مبحث بيع الفضولي من وقوعه للمباشر، فيما لو اشترى
بمال نفسه أو في ذمته لغيره بلا إذن وإن سماه أو به ولم يسمعه بل نواه أنه ثمّ لم
يكن له عليه شيء ولم يلتمس اقتراض الثمن، فإذا لم يسمه وقع للمباشر والنية لا تؤثر
في مثل ذلك.
(مسألة: ش): وكله في شراء بضاعة، وأن يؤدي الثمن من ماله صح، وصار الثمن
قرضاً على الموكل يرجع به عليه لو تلفت البضاعة بلا تقصير ببينة أو حلف الوكيل لم
يضمنها والثمن بحاله، ولو وكله في فداء عين من يد ظالم ودفع له مالاً فسلمه للظالم
قبل رد العين ضمن ما لم يقبض منه العين ويردها للموكل، نعم إن قال له الموكل: لا
تسلم المال حتى يرد العين ضمن مطلقاً لمخالفته، فكان دفعه لا عن جهة الوكالة.
(مسألة): أذن لآخر في الإنفاق على أولاده أو زوجته أو عمارة ماله ونحو ذلك
صدق المنفق في الإنفاق وفي قدره بيمينه، وإن أنكر المنفق عليه أي في القدر اللائق
ما لم يقدر له شيئاً معلوماً وإلا صدق في القدر فقط، ومثله مأذون الحاكم في
الإنفاق على نحو محجور أو مال غائب اهـ، نقله العلامة علوي الحداد عن جمع.
(مسألة: ش): وكله في شراء مسكة وأعطاه دراهم وقال له: أوف باقي الثمن من
مالك وأرسل بها مع من كان، فإن لم يبين جنسها ولا اطرد عرف بشراء مسكة الفضة مثلاً
لم يصح التوكيل، فإذا اشتراها بعين مال الموكل أو أضافه إلى ذمته لم يصح الشراء،
فيلزم رد الدراهم إلى مالكها والمسكة باقية على ملك بائعها، فلو تلفت في الطريق مع
شخص أرسلها معه الوكيل رجع البائع على ما شاء والقرار على الذي تلفت تحت يده، وإن
بين الموكل أو اطرد العرف كما ذكر صح شراؤها للموكل ورجع الوكيل بما سلمه من ماله،
وإن لم يقل له لترجع عليّ، ولا يضمنها إن أرسلها مع أمين في رفقة يأمن معهم، فلو
قصر أرجع الموكل على من شاء منهما إن تلفت والقرار على الرسول، وإن قصر أحدهما
اختص الضمان به، وليس قول الموكل لوكيله: أرسلها مع من كان إذن في الإرسال مع غير
الأمين، كما لو قال: وكل من شئت.
(مسألة: ب): لا يخفى أن مرسل الدراهم من جاوة لنحو أرحامه لا يطلق غالباً
على الرسول إلا بضاعة أو نقداً لا يروج في بلد المرسل إليهم، ثم يأذن له في بيع
البضاعة وصرف النقد، ويكتب إليهم صدر صحبة فلان كذا قرشاً باعتبار ما يؤول إليه
الحال، وقد يكتب المرسل معه لوكيله: أطلق على فلان كذا من الفرانصة إرسالاً له
صحبتنا من فلان، ويفعل الوكيل ما أمر به، وقد يكون ذلك قبل بيع البضاعة وصرف النقد،
ثم قد لا تحصل مع الوكيل دراهم فيستقرضها من آخر ويسلمها للمرسل إليهم، وجرت
العادة بهذه المعاملة من غير نكير ممن بجاوة، وما غرضه إلا أن يصل إلى المرسل إليه
ما عينه له مع تحققه أنه غير المال الذي أرسله وإنما هو بدله، فإذا عرفت هذا ظهر
لك أنه لو أرسلت إلى شخص دراهم ليفرقها على غيره بحضرموت فبقيت في أحد البنادر ولم
يتيسر خروجها إلا إن حوَّل بها غيره ففعل ذلك واستلم من المحتال دراهم حاضرة أن له
تفريقها حينئذ، وإن لم يستلم معطي الدراهم بدلها لإذنه في التصرف فيها فتقع على
حسب ما فرقها صاحب جاوة، ويبرأ الكل بذلك باطناً فغلبة ظن برضا في ذلك، ولا ينبغي
البحث على ما يقتضيه الظاهر لما يترتب عليه من الضرر المفضي إلى ترك المواصلات
والزهد عن حمل هذه المكرمات، لا سيما مع فساد المعاملات وعلم الرضا مع الاستيفاء
من جملة المجوّزات، وقد اغتفر الشرع أشياء كثيرة من المحظورات لمسّ الضرورات.
[فائدة]: أفتى محمد صالح الريس فيمن أرسل مع غيره دراهم أمانة يوصلها إلى
محل آخر، وأذن له في التصرف فيها بأخذ بضاعة، وما ظهر فيها من ربح يكون للأمين في
مقابلة حمله الدراهم وإعطائها المرسل إليه كالأجرة، بأنه إن كانت الدراهم المذكورة
ملكاً للمرسل وأذن كذلك جاز، وكان الرسول ضامناً وحكمه حكم القرض حتى تصل إلى
المرسل إليه، وإن لم تكن ملكه ولم يأذن مالكها في التصرف لم يجزه ذلك، بل يضمنها
الحامل ضمان غصب والمرسل طريق في الضمان لو تلفت.
(مسألة: ش): وكل شخصاً في بيع أمة وآخر في تزويجها فوقع العقدان معاً صح
البيع دون النكاح، كما
أفتى به القاضي حسين ورجحه في العباب، وإن بحث في التحفة أن التبادر بطلانهما.
[فائدة]: وكل اثنين في
عتق عبد فقال أحدهما: هذا، وقال الآخر: حر في عتق بناء على الأصح أن الكلام لا
يشترط صدوره من ناطق واحد، وقول بعضهم يشترط مردود بأن هذا لم يحفظ عن نحوي بل عن
بعض الأصوليين، هذا ما أشار إليه الأسنوي وهو أصوب، لأن اللفظ حيث أمكن تصحيحه لم
يجز إلغاؤه اهـ تحفة.
(مسألة): وكل شخصاً في
بيع نخلة فباعها الوكيل من زيد والموكل من عمرو، فإن تصادق المشتريان على تقدم أحد
الشراءين أو قامت بينة بذلك فالصحيح الأوّل، وأن يعلم السابق فالقول قول من هي
بيده، فيحلف على نفي العلم بتقديم شراء الآخر، فإن لم تكن بيد أحد لم يصدقا بل
يتركان حتى يقرأ أحدهما للآخر.
(مسألة: ش): أذنت لوليها في تزويجها بعد كل طلاق وعدة، أو وكل الولي آخر في
تزويجها كذلك بعد إذنها له صح الكل، واستفاد به تكرير العقد مرة بعد أخرى، لأنه
توكيل فيما سيملكه تبعاً لمملوك، كما لو وكله في بيع عبده وأن يشتري بثمنه كذا، أو
وكله في كذا وكل مسلم أو في طلاق من سينكحها تبعاً لمنكوحه، أو أذن لعبده أن
يتزوّج الآن، وكلما طلق يجدد هذا إن كانت حال إذنها أو توكيله خالية عن موانع النكاح، وكذا لو أذنت وهي
منكوحة أو معتدة على المعتمد لا إن وكل الولي حينئذ خلافاً للقماط، لكن لو زوّج
الوكيل هنا صح النكاح لعموم الإذن، كما لو قال له: إذا جاء رأس الشهر بع هذا العبد
فينزل على التعليق ولا يضر حذف الفاء.
(مسألة: ش): وكل عبد،
أن يشتري نفسه من سيده صح، لكن لا بد أن يقول: اشتريت نفسي لموكلي، فإن لم يقل ذلك
انعقد العقد لنفسه وعتق، ويصح توكيله أيضاً، في شراء شيء من سيده، ولا يشترط ذكر
الموكل عند العقد، ويقبضه الموكل بنفسه أو يوكل آخر لا العبد المذكور، لأن يد
العبد كيد سيده فكأنه اتحد القابض والمقبض.
(مسألة: ك): وكله في شراء شيء لم يكن له أن يشتري من نفسه أو نحو طفله كما
لا يبيع منهما، وإن أذن له الموكل وقدر له الثمن ونهاه عن الزيادة لتضادّ غرض
الاسترباح لهم والاستقصاء للموكل ولاتحاد الموجب والقابل، ولا أن يوكل من يقبل
لموكله لعدم جواز التوكيل فيما يتأتى منه فعله.
(مسألة): أودعه جماعة
درهم يشتري بها طعاماً من محل كذا، لم يجز له خلطها إلا بإذنهم وإلا ضمنها، ثم لو
اشترى لأحدهم بدراهم الآخر، فإن كان بعين المال بأن قال: اشتريت هذا الطعام بهذه
الدراهم لم يصح الشراء فيرد الطعام لبائعه والدراهم للوكيل، فإن تعذر حصلت المقاصة
بأن يبيع الوكيل الطعام ويأخذ ما سلمه من ثمنه ولا ينعزل بذلك، وإن اشترى في الذمة
وسلم دراهم الآخر وقع الشراء لمن قصده به ولزمه مثل الثمن للبائع ورد الثمن منه
وهو مضمون عليه في الصورتين، وإذا اشترى الطعام ونقد الثمن برىء من ضمانه.
(مسألة): أَعطى آخر لباناً يبيعه في الهند ويعطي فلاناً من ثمنه أنفاً له
على الموكل، فبلغ الوكيل وخرج ولم يعط الدائن شيئاً ثم غرقا هو والمال في البحر،
فإن ثبت ولو بشاهد ويمين بيعه اللبان وتسلمه من الثمن ولو الألف وخروجه بها وقد تمكن من الأداء، وحلف الدائن يمين الإنكار
ضمن الوكيل الألف في تركته لتقصيره بالمخالفة بسفره بالمال، وإن لم يثبت ذلك كله
فلا ضمان لأنه أمين، وربما تلف اللبان قبل بيعه أو لم يتسلم الثمن أو تسلمه ولم
يتمكن من إعطاء الألف، وأما الزائد على الألف ففيه تفصيل يأتي الآن.
(مسألة: ش): وكيل يقبض
دين من غرماء مرض مرضاً مخوفاً لزمه ردّ ما قبضه لمالكه وهو الأولى، أو الإيصاء به
مع تمييز صفاته إلى قاض أو عدل، فإن لم يفعل ضمن إلا إن مات فجأة، فلو أوصى للموكل
بشيء وادعى أنه لم يقبض سواه وصدقه الموكل فلا اعتراض له على وارثه، بل له الدعوى
بالباقي على الغرماء، فإن أثبتوا الدفع إلى الوكيل انصرفت عنهم الدعوى، ولا يثبت
ذلك في تركة الوكيل لاحتمال تلفه بلا تقصير، وإن ادعى على ورثة الوكيل أن مورثهما
قبض الدين وهو كذا وهو باق في التركة يلزمهم تسليمه إليه، فإن أقام بينة بذلك
غرموا في التركة وإلا فعليهم يمين بنفي العلم، وإن ردوا اليمين عليه حلف على البت
وغرموا أيضاً.
(مسألة: ك): وكل آخر يستأجر له باليمن من يحمل صناعته التي فيه في مركب إلى
جدة، فخالف الوكيل واستأجر مركباً من جدة يحمل البضاعة ضمن الوكيل لمخالفته ما
عينه الموكل، نعم إن قدر له الأجرة ولم ينهه عن الاستئجار بغير اليمن جاز له
الاستئجار من غيرها، وهل يضمن ظاهر كلامهم في التوكيل في البيع الضمان، ولكن الفرق
ظاهر، إذ في مسألة البيع نقل المبيع إلى غير البلد بخلاف ما هنا.
(مسألة: ي): لا يصح توكيل غيره فيما وكل فيه، إلا أن يأذن له الموكل، أو لا
تليق به مباشرته، أو لا يحسنه، أو يشق عليه مشقة لا تحتمل أو يعجز عنه، وعلمه
الموكل في الكل، ويجب على الوكيل موافقة ما عين له الموكل من زمان ومكان وجنس ثمن،
وقدره كالأجل والحلول وغيرها، أو دلت عليه قرينة قوية من كلام الموكل أو عرف أهل
ناحيته، فإن لم يكن شيء من ذلك لزمه العمل بالأحوط، نعم لو عين الموكل سوقاً أو
قدراً أو مشترياً، ودلت القرائن على ذلك لغير غرض أو لم تدل وكانت المصلحة في
خلافه، جاز للوكيل مخالفته ولا يلزمه فعل ما وكل فيه، وإن سافر بالمال إلى بلدة
بعيدة وله عزل نفسه فيرده للموكل أو وكيله، وإلا فقاضٍ أمين ثم عدل ويشهد بذلك إذا
عرفت ذلك، فإذا أعطى جماعة أميناً دراهم يشتري بها طعاماً من بلد كذا، وأمره بعضهم
بالإتيان به في ساعيته، وبعضهم بالإتيان به معه، وبعضهم لم يشترط شيئاً، فما
اشتراه وأطلعه معه في تلك الساعية صح شراؤه للموكلين، وحكمه أمانة لامتثاله ما أمر
به، وما دفعه لغيره أثم به، وصار ضامناً للمدفوع لتوكيله غيره مع القدرة، ومخالفته
ما عينه الموكل، أو دلت القرينة في حالة الإطلاق، ثم إن اشترى المدفوع إليه بعين
مال الموكلين كاشتريت هذا الطعام بهذه الدراهم فالشراء باطل، والطعام باق على ملك
بائعه مضمون على مشتريه أو في الذمة كما هو الغالب، ثم نقد تلك الدراهم فالشراء
له، ويرجع الموكلون في الصورتين على من شاءوا من الوكيل والمشتري والبائع، والقرار
على المشتري إن تلف الطعام في يده، فإن قبضها من الوكيل تخير بين الرجوع على
المشتري والبائع، وإن قبض هو أو هم من المشتري رد الطعام على مالكه ورجع بدراهمه
إن بطل البيع، ولا رد ولا رجوع إن صح، وإن قبضوا من البائع رجع على المشتري بطعامه
في الأولى وبثمنه في الثانية، هذا حيث صادق المشتري والبائع الوكيل في أن الدراهم
لموكليه، أو ثبت ببينة أو اليمين المردودة، فإن كذباه وحلفا على عدم علمهما
بوكالته لم يطالبا بل يغرم هو، وإن صدقه أحدهما رجع عليه، ولا يطالب الوكيل
بالطعام أبداً إذ لا يلزمه امتثال ما وكل فيه كما مر، وإذا أطلع المشتري المذكور
الطعام في سفينته ضمنه لبائعه إن بطل شراؤه فيرده سالماً، ومثل ما تلف بنحو رمي،
ولا أجرة له على حمله مطلقاً لأنه إما غاصب أو مالك، نعم إن قال له الوكيل: اشتر
بهذه الدراهم طعاماً لي أو أطلق فلم يقل لي ولا لموكلي فاشتراه في الذمة قاصداً
الوكيل وقع للوكيل فيكون كالمشتري فيما ذكر، وعليه نول ما سلم من الطعام وهو أجرة
المثل لا ما رمي في البحر، بل يضمنه الرامي للوكيل، ولو دفع الوكيل بعض الدراهم
الموكل فيها إلى شخص يسلمها لآخر فسرقت أو غصبت ضمناها، والقرار على المدفوع له إن
علم عدم الإذن في تسليمها، واللازم على الوكيل عند سفره دفع المال إلى قاض أمين ثم
عدل غني، ويشهد ويخبر أهلها بذلك. واعلم أنه متى حكم الشرع برجوع أحد المطالبين
على الآخر كما في هذه المسائل فطالبه صاحب الحق لزمه التسليم حالاً، وإن كان من
يرجع عليه غالباً أو مفلساً أو ظالماً أو ميتاً لا تركة له ونحوه، ولا يكون ذلك
عذراً كما لا يعذر بجهله بالحكم.
(مسألة: ش): الوكيل بالبيع مطلقاً، يجوز له البيع بالفلوس الرائجة والعرض
المتعامل به، إذ المراد بنقد البلد المتعامل به غالباً نقداً كان أو عرضاً، فلو
أعطاه مناقير فلوساً وقال له: اصرفها وأعطني حرفاً، فإن قصد توكيله في صرفها أي
بيعها بحرف فللموكل صرفها، كذلك فلو أتلفها لزمه مثلها عدداً لا وزناً، وإن فرض أن
لا قيمة لها الآن، فإن فقد المثل فأقصى قيمها، وإن قصد صرفها في حوائجه كان قرضاً
صحيحاً يجب رد مثله ثم قيمته وقت المطالبة إن أراد بإعطاء الحرف الفلوس أو اطرد
التعبير به عنها، وإن أراد بإعطاء الحرف الرهن فقرض فاسد، فإنه شرط جر نفعاً
للمقرض فترد باقية وبدلها تالفه، وأقصى قيمها مفقودة.
(مسألة: ش): ليس الإذن في التصرف بنحو البيع في المال الزكوي إذناً في
إخراج زكاته مطلقاً، سواء جاز التصرف في كله كالتجارة والمعشر بعد الحرص أم لا،
لأنه إذا كان التوكيل في إخراجها ليس توكيلاً في النية من غير تصريح به، مع أن
النية من الماهية لكونها ركناً فأولى ذلك، فلو أخرجها حينئذ لم تقع زكاة فترد
باقية وإلا فبدلها، والدافع طريق في الضمان، والزكاة باقية بذمة المالك.
(مسألة): قال لآخر: بع هذا بمكان كذا ولك من ربحه الربع مثلاً، فسدت
الوكالة لفساد الصيغة بجهالة الجعل، ونفذ تصرفه لعموم الإذن، واستحق أجرة المثل،
ربح أم لا، ولو وكله أن يبيع بمكان كذا ويشتري بثمنه كذا صح، واستحق الجعل كاملاً
بإتيانه بجميع ما أمر به من البيع والشراء، فإن باع ولم يشتر ما أمر به فهل يستحق
قسطه كالأجير إذا تعذر عليه بعض العمل أم لا؟ كالجعل لا يستحق إلا بتمام العمل محل
نظر، نعم قد يؤيد الأوّل ما حكاه ابن حجر في فتأويه عن العمراني أنه لو استأجر
أجيراً لحمل كتاب إلى آخر وردّ جوابه فأوصله ولم يرد جوابه فله من الأجرة بقدر
ذهابه، بل قال القاضي: لو وجد المكتوب إليه غائباً استحق القسط ولا عبرة بعرف
يخالفه اهـ. ولا يلزم الوكيل فعل ما وكل فيه، ولو بجعل ما لم تكن بلفظ الإجارة
بشرطها، ويجوز له عزل نفسه قبله وبعده وبعد الشراء، وحينئذ يودعه أميناً، ولا يجوز
رد الثمن دراهم حيث لا قرينة ظاهرة تدل عليه لعدم الإذن، بل يضمنها حتى يقبضها
مالكها، نعم إن علم أنه لو عزل نفسه في غيبة المالك استولى على المال جائر حرم
العزل كالوصي بل لا ينفذ حينئذ.
(مسألة: ش): دفع لوكيله مالاً ليشتري له عيناً ثمنها عشرون باتفاقهما
فاشتراها وسلمها للموكل، ثم ادعى عليه أنه لم يقبضه إلا خمسة عشر، وقال للموكل: بل
جميع الثمن، فإن طالب البائع الموكل بالزائد فسلمه ثم طلبه من الوكيل لزعمه تسليم
الكل إليه فأنكره الوكيل صدق بيمينه، وإن دفع الوكيل إلى البائع الجميع ابتداء أو
بعد مطالبته له ثم أراد الرجوع على المالك بالزائد، فإن كذبه بالدفع من مال نفسه
كأن قال: كل المدفوع مالي الذي دفعته إليك، فالوكيل حينئذ يدعي أنه أدى دينه بإذنه
الذي تضمنه التوكيل في الشراء بالعشرين مع عدم إقباضه إلا خمسة عشر، والموكل ينكر
الإذن في الأداء، بل وينكر الأداء عنه، فيصدق بيمينه في أن الوكيل لم يدفع عنه
الخمسة من ماله، وإن صدقه في ذلك مع اعترافه بمقتضى الرجوع لنحو غيبة الزائد حال
العقد، فللوكيل الرجوع عليه بها لاعترافه بمقتضاه، نعم للموكل تحليف الوكيل أنه لم
يقبض سوى الخمسة عشر.
(مسألة: ش): ادعى الوكيل أو الضامن أنه أشهد على الأداء ومات الشهود أو
غابوا، وأقام بينة على مجرد الإشهاد من غير ذكر متعلقه وهو الأداء لم تسمع،
كالشهادة بمجرد رؤية الهلال من غير تقييدها بليلة، وإن شهدت أنه أشهد بالأداء إلى
الدائن تضمن ذلك الشهادة بالأداء نفسه وثبت الأداء، وما يترتب عليه ضمناً، كما لو
شهدت البينة أن زيداً وكل عمرو بن خالد فتتضمن الشهادة بنسب عمرو لخالد.
(مسألة: ج): الوكيل بالتصرف في المال لا يزوّج العبد إلا بإذن في ذلك له أو
للعبد، ولو تصرف الوكيل جاهلاً بعزل الموكل له بطل تصرفه على الصحيح وضمن ما باعه
على الأوجه، لأن الجهل لا يؤثر في الضمان، وقيل لا ينعزل حتى يبلغه الخبر.
(مسألة: ج): وكيل غائب على عقار ادعى عليه آخر
أنه اشتراه فصدقه من غير بينة وسلم العقار وثمن غلاته، ثم أتاه مكتوب من الغائب
بحفظ المال لم يمكن من انتزاع العقار بعد تصديقه لمشتريه، وأما الدراهم ثمن الغلة
فيرجع بها على الآخذ إذ لا تدخل في البيع.
(مسألة: ي): ادعى
الوكالة على أمين فصدقه ودفع إليه المال، فلما طلب منه الحساب كذبه في وكالته، لم
يقبل تكذيبه ولم يجز ردّ المال إليه، لأنه بتكذيبه للوكالة بعد الدفع ناقض تصديقه
له فلا تسمع دعواه، ولأنه بدعواه عدم الوكالة صار فاسقاً معزولاً لدفعه المال إلى
من ليس بوكيل في زعمه.
الإقرار
(مسألة: ش): أقر بحرية نصف عبد ثم اشترى نصفه، فإن قصد أحد النصفين عمل
بقصده، وإلا نزل البيع على النصف الذي لم يقر بحريته، إذ لو نزل على النصف الآخر
لم يكن قوله اشتريت مفيداً ترتب الأثر، ويصان كلام المكلف عن الإلغاء ما أمكن،
ويحتمل تنزيله على النصف الآخر.
(مسألة: ش): طولب بدين
عليه وله مال فأقر ببيعه لابنه الطفل في مقابلة ما أخذه من أمواله صح إقراره بذلك
وإن كان مديناً بل أو محجوراً عليه بفلس، كما لو أقر له بدين أسنده لما قبل الحجر،
لأن نحو الأب المتصف بصفة الولاية ولي طفله فإقراره له وعليه صحيح ظاهراً وباطناً
إن صدق وإلا فظاهراً فقط، نعم للدائن تحليف المقر له بعد كماله أنّ باطن الأمر
كظاهره، كما أن للمقر ثم وارثه تحليف المقر له ثم وارثه، إنّ إقراره عن حقيقة،
سواء ذكر لإقراره تأويلاً أم لا، أقر بمجلس القضاء بعد الدعوى عليه أم لا، أقر بعد
أنّ إقراره عن حقيقة أم لا، لاحتمال ما يدعيه وإمكانه.
(مسألة: ج): أقرت بأنها باعت من أخيها جميع ما خصها في أبيها وقبضت الثمن
والحال أنها رشيدة وأشهدت على ذلك صح إقرارها، ثم إن اتهم الأخ أو كان وارثاً
فعليه يمين بأن الإقرار عن حق.
(مسألة: ك): أقر بأن البيت وما فيه ملك زوجته نفذ إقراره ولو
في مرض الموت ويصدق الوارث بيمينه، فيما إذا ادعى أن بعض المتاع لم يكن موجوداً
عند الإقرار، فيحلف على نفي العلم ما لم تقم ببينة بوجوده.
[فائدة]: يصح إقرار
المريض مرض الموت لأجنبي، وكذا الوارث على المذهب وإن كذبه بقية الورثة، لأنه
انتهى إلى حالة يصدق فيها الكذوب ويتوب فيها الفاجر، فالظاهر صدقه، واختار جمع عدم
قبوله إن اتهم لفساد الزمان، بل قد تقطع القرائن بكذبه، فلا ينبغي لمن يخشى الله
تعالى أن يقضي أو يفتي بالصحة، ولا شك فيه إذا علم قصده الحرمان، وقد صرح جمع
بالحرمة حينئذ، وأنه لا يحل للمقر له أخذه، ولبقية الورثة تحليفه أنه أقر له بحق
لازم يلزمه الإقرار به، فإن نكل حلفوا وقاسموه، ولا تسقط اليمين بإسقاطهم فلهم
طلبها بعد ذلك اهـ تحفة.
(مسألة: ي): أقر مكلف بعين أو دين لأبيه ولم يكذبه المقر له صح وصار المقرّ
به للمقر له سمع الإقرار وقبله أم لا، وحكم له بذلك حتى لو مات قبل علمه ملكه
وارثه، فلو قال بعد إقراره: إن بعض ما ذكر أخذ غصباً، فإن صرح في الإقرار بأن
المقر به دين لم يلتفت لقوله، أو بأنه وديعة ونحوها من الأمانات قبل قوله كوارثه
بيمينه، وإن أتى فيه بما يحتمل الدين والأمانة، فيما فسر به لفظه هو أو وارثه، فلو
كان المقر له غائباً وادعى غرماؤه عليه ديناً وثبت عند الحاكم بشرطه لزمه إيفاؤهم
من مال الغائب، ومنه هذا المقر به إن علمه القاضي أو أثبته الغائب أو نائبه، وإذا
أوفاهم الحاكم من المقر به لم يلزمهم إعطاء كفيل خشية تكذيب المقر له المقر فيبطل
الإقرار، كما لو أقر لنحو محجور لا يلزم الولي كفيل خشية تكذيب المحجور بعد رشده
كما في التحفة، فإن لم يعلمه القاضي ولم يثبت عنده كما ذكر لم يمكن الغرماء
الإثبات للوفاء منه، لأن غريم الغريم لا يدعي لغريمه شيئاً، هذا إن لم ينحصر إرث
الابن المقر في أبيه المقر له، وإلا فلا فائدة في دعوى الغصب وإثبات الإقرار، إذ
ما خلفه المقر المذكور ملك أبيه.
(مسألة: ش): لما أقر بأن عليه لزيد درهماً أو صاعاً كل سنة أو شهر أو يوم
صح الإقرار، واحتمل كونه بذمته بطريق النذر وحمل على مدة حياته، ويبعد القول
ببطلانه أو بحمله على الأول منها فقط، وتحمل السنة والشهر على الهلالية ما لم يطرد
عرفهم على غيره كالرومية وعلى آخرهما إن أطلق، وكذا إن قال: أردته وحلف أو صدقه
المقر له، ولا تسمع دعواه إرادة سنين معينة إلا بتحليف المقر له، فإن صدر الإقرار
المذكور في مرضه المخوف ولم يسنده إلى نذر سابق كان من الثلث.
(مسألة: ش): يصح إقرار المريض بالطلاق مطلقاً أسنده إلى الصحة أم لا
كإنشائه، ثم إن كان الطلاق الذي أقر به أو أنشأ بائناً أو انقضت عدة الرجعية لم
ترثه على الجديد المفتى به وعلى القديم، وذهب إليه الأئمة الثلاثة: ترثه، بل وإن
انقضت عدتها وتزوجت عند مالك.
(مسألة: ش): أقر بدين
الآخر لدى الحاكم وكتب به سجلاً فطالبه المقر له فادعى الإكراه، فإن أقام ببينة
مفصلة للإكراه حكم بعدم صحته، سواء الحاكم الأول وغيره، وليس هذا نقضاً لحكمه ولا
لصحة الإقرار، لأنه بناء على أمر ظاهر فبان خلافه، فإن أقاما بينتين قدمت بينة
الإكراه لأن معها زيادة علم ما لم تقل بينة الاختيار كان مكرهاً فزال الإكراه ثم
أقر فتقدم حينئذ وحيث لا بينة صدق المقر له ووارثه فيحلف على نفي العلم، نعم إن
دلت قرينة على الإكراه صادق بها المقر له أو أثبتها المقر كحبس وقيد وتوكيل به صدق
المقر.
(مسألة: ش): قال: هذه العين كانت لأبي ولم يزد إلى أن مات وخلفها تركة
مثلاً لم يكن إقراراً على الأوجه، نظير ما لو قال: كان لك عليّ كذا أمس، نعم إن
كان ذلك في جواب دعوى من الورثة فإقرار، والفرق أن الكلام ابتداء قد يكون مبنياً على التجوز وعدم التحرر، بخلاف
الواقع في المحاورات، لأن المتكلم حينئذ يحرص على التحرز خوفاً من لزوم المدعى به
فيبعد صدوره عن العبث.
(مسألة: ب): وجد في
نظير شخص عندي لفلان كذا ولفلان كذا، لم يكن مجرد ما في النظير إقراراً، بل لو
قال: اكتبوا لزيد عليّ ألفاً لم يكن إقراراً، لأنه إنما أمره بالكتابة فقط، لأن
أصل ما ينبغي عليه الإقرار اليقين وطرح الشك، ولا يقين مع مجرد الكتابة، فلا يترتب
على جميع ما في النظير من الإقرار وغيره حكم وإن تحقق أنه قلمه اهـ. وعبارة ش: سئل
مريض عن ديونه فقال: لفلان كذا وفلان كذا، فقيل: وأولاد أخيك؟ فقال: ذمتي ناشبة
بحقهم، فقيل: كم حقهم؟ فقال: هو محفوظ في تنزيلي فوجد فيه قدر معلوم مكتوب باسمهم،
فقوله: ذمتي ناشبة بحقهم إقرار بمبهم يجب بيانه ويقبل ولو برد سلام، وليس قوله في
تنزيلي تفسيراً مقنعاً فيطالب هو ووارثه بتفسيره، نعم إن قال في هذا التنزيل
مشيراً إلى كتاب كان تفسيراً صحيحاً معوّلاً على ما فيه، كما لو قال: ما وجد في
دفتري فهو صحيح، وحينئذ فما تيقن كونه مكتوباً حال إقراره وتفسيره استحقه المقر له
وما شك فيه لم يستحقه اهـ. قلت: ونقله في التحفة عن السبكي وأقره.
(مسألة: ش): قال إمامنا الشافعي رحمه الله تعالى: أصل ما أبني عليه الإقرار
أن ألزم اليقين أي أو القريب منه وأطرح الشك، ولا أستعمل الغلبة أي حيث لم تطرد
بحيث لا يفهم من اللافظ بها غير الإقرار، وحينئذ فلو قيل لشخص: عليك دين لفلان؟
فقال: نعم، فقيل: عشرون ذهباً؟ فقال: أكثر، قيل: ثلاثون؟ قال: على هذا القياس،
فقوله نعم كمرادفها إقرار بمبهم، ولا يقتضي قوله أكثر تفسيره بأكثر من عشرين بل
ولا بالعشرين، إلا إن أراد بأكثر أنه أكثر من العشرين، وكذا إن أطلق على الأوجه
فيكون حينئذ مفسراً من حيث العدد مبهماً من حيث الجنس، فلو فسره بإحدى وعشرين حبة
مثلاً قبلاً، نعم إن اطرد عرفهم بإطلاق الذهب على دينار والذهبين على دينارين كان
قوله عليك ذهب لزيد كقوله دينار ذهب، فيكون من باب حذف المضاف، وحينئذ فجوابه
بأكثر يلزمه من الذهب أكثر من دينار، وقوله على هذا القياس مبهم أيضاً إلا إن قال:
أردت هذا العدد اهـ. قلت: وقوله إحدى وعشرين حبة هل مراده حبة ذهب كما هو ظاهر
اللفظ أو أيّ حبة كانت؟ راجع. وفي المسألة إشكال يتأمل.
الإقرار بالنسب
(مسألة: ك): مات شخص فادعى آخر أنه ابن عمه صدق في استلحاقه، بشرط أن يكون
المقر مكلفاً أو سكران متعدياً، وأن لا يكذبه الحس بأن يكون في سنّ يمكن أن يكون
ابن عمه، فلو مات عمه منذ عشرين سنة وكان الميت صغير السنّ بحيث لا يمكن أن يكون
ابن عمه لغا إقراره، وأن لا يكذبه الشرع بأن يكون معروف النسب من غيره أو ولد على
فراش نكاح صحيح غير فراش عمه، وإن نفاه صاحب الفراش إذ قد يستلحقه، وأن يكون
الملحق به أي وهو العم هنا ميتاً، فلو كان حياً لم يصح إقرار ابن العم لاستحالة
ثبوت نسبه من العم مع حياته بإقرار غيره، وأن لا يكون المستلحق قناً أو عتيقاً
للغير، وإلا لم يصح محافظة على حق السيد، بل لا بد من بينة، وأن يكون المقر وارثاً
حائزاً لتركة الملحق به حال الإقرار، بخلاف غير الوارث كرقيق وقاتل، لأنه إذا لم
يرث الميت الملحق به لم يكن خليفته في إلحاق النسب به، فلو كان للملحق به وارث غير
المقر المذكور ولو زوجة اشترط موافقته المقر على إقراره.
(مسألة: ش): يشترط في الإقرار بالنسب كالشهادة والقضاء به بيان سبب الإرث،
فلو أقر أو شهدت بينة أو حكم قاض بأن فلاناً ابن عم فلان لا وارث له سواه لم يثبت
بذلك نسب ولا إرث حتى يفصله ويذكر الوسائط بينهما على المعتمد، نعم إن كان المقر
كالشاهد والحاكم ثقة أميناً عارفاً بلحوق النسب صح وإن أجمله، ولا يثبت النسب إلا
بالبينة الكاملة وهي رجلان فقط، لا بما يثبت به المال مطلقاً، خلافاً للغزالي
والأصبحي في ثبوته بذلك لنحو الإرث والمهر، نعم الانتساب إلى الذكور يثبت
بالاستلحاق، بخلاف المرأة لسهولة إقامة البينة على الولادة، أما مجرد الاستفاضة
بأن فلاناً ابن فلان أو شقيقه دون الأخ الآخر من غير بلوغ حد التواتر المفيد للعلم
فلا يثبت بها، لكنها تصلح مستنداً للشاهد بشرطه، بل استوجه في التحفة أنه لا بد مع
البينة في نسب ذوي القربى من الاستفاضة، وأما مجرد وجوب كتاب أو كتب أن فلاناً ابن
عم لأبوين مثلاً فليس بحجة يترتب عليها استحقاقه الإرث دون ابن العم الآخر، ولا
مرجحاً من جانبه حتى تكون اليمين في جهته إذ يحتمل تزويره، نعم لو فرض ذلك في مصنف
اعتنى فيه صاحبه بحفظ النسب، واشتهر بكونه ذا علم بذلك وديانة وورع عن التكلم بلا
علم، ولم يقع فيه طعن من معتبر، أفاد الحاكم إما علماً ضرورياً أو نظرياً أو ظناً
غالباً، يجوز له الاستناد إليه والحكم بعلمه بناء على الأصح من جوازه في غير
الحدود، وحينئذ لا حاجة إلى يمين المدعي اهـ. وفي ي في مبحث القرابة والرحم في
الوقف والوصية لهم: وطريق العلم بذلك إما شهادة رجلين أو كتب النسب الصحيحة كشجرات
السادة بني علوي.
(مسألة: ي): أحيا مواتاً فادعى شخص أنه ورثه من زيد بالولاء، لم يحكم له به
إلا إن أثبت أن هذا الموات ملك زيد توفي وهو في ملكه، وأنه وارثه بالنسب أو
الولاء، وذكرت البينة آباء المورث والوارث واحداً واحداً ينسبانهما إلى الجد
الجامع لهما، أو الذي تلقى الولاء عنه مع انحصار الإرث فيه لكونه أرفع درجة أو لم
يبق من العصبة غيره.
(مسألة: ج): مات شخص
وله مال معهد عند آخر وله قرابة فادعى كل أنه الأقرب إلى الميت، فلا بد من بينة
بأنه الأقرب لا وارث له سواه، وإن استندت إلى الاستفاضة لكن جزمت الشهادة، فإن لم
يعرف قارئه لذوي الأرحام فلهم فسخ العهدة وغيره.
(مسألة: ك): أقرت
امرأة أن فلاناً ابن عمها لم يصح الإقرار لعدم استجماع شروطه، ومنها كون المقر
وارثاً حائزاً، ومعلوم أن المقرة المذكورة ليست كذلك بل غير وارثة أصلاً إذ هي من
ذوات الأرحام، نعم إن شهدت بينة بذلك، وإن كان مستندها السماع من جمع يؤمن تواطؤهم
على الكذب وحصل الظن القوي بصدقهم ثبت النسب بشرطه، ولو قال شخص: هذا زوجي فسكت
الآخر ومات المقرّ ورثه الساكت ولا عكس، نعم إن أنكرت المرأة الزوجية صدقت بيمينها
ولها الرجوع ولو بعد موته كما في التحفة.
العارية
(مسألة: ش): استعارت رحى لتطحن عليها فانكسرت، فإن تلفت بالطحن المعتاد لم
تضمن، وإن خالفت العادة بأن دقتها دقاً عنيفاً ضمنت، فلو اختلفا في أن التلف وقع
بالاستعمال المأذون أم لا صدق المالك، إذ الأصل في وضع اليد الضمان حتى يثبت مسقطه.
(مسألة: ش): أعار
أرضاً مشتركة للبناء بلا إذن بقيمة لشركاء صحت في حصته فقط وتبطل بموته فيستحق
وارثه الأجرة من حينئذ، كما أن حصة البقية لها حكم الغصب فتلزم المستعير أجرتها
بالغة ما بلغت، ويعتبر كل زمان بحالته، ويرجع بها المستعير على المعير أو ورّاثه
بعد التسليم إن لم يستوف المنفعة، ولهم مطالبة الشريك بالأجرة إن وضع يده على
الأرض قبل إعارتها، ثم يرجع بها على المستعير المستوفي للمنفعة وإلا فلا رجوع.
[فائدة]: استعار كتاباً فوجد فيه غلطاً هل يصلحه؟ قال في التحفة: الذي يتجه
أن المملوك غير المصحف لا يصلح فيه شيئاً مطلقاً إلا إن ظن رضا مالكه، وأنه يجب
إصلاح المصحف، لكن إن لم ينقصه خطه لرداءته، وأن الوقف يجب إصلاحه إن تيقن الخطأ
فيه وكان خطه لا يعيبه سواء المصحف وغيره، وأنه متى تردد في عين لفظ أو في الحكم
لا يصلح شيئاً، وما اعتيد من كتابة لعله كذا إنما يجوز في ملك الكاتب اهـ.
(مسألة: ش): الأنماط المعروفة باليمن التي يتخذ منها الدراق الذي سمعنا من
أهل الخبرة أنها من الحيوان غير المأكول فهي نجسة، فإذا اختلف المالك والمستعير في
أنها عارية أو هبة فحلف المالك على العارية ثم قال المدعى عليه: تلف النمط لم
يضمنه إذ لا يضمن النجس، فلو ادعى المالك طهارته كلف بينة، ولو فرض أنه أخذ المدعى
عليه دابة في مقابلة قيمته كان غاصباً آثماً بذلك.
الغصب
(مسألة): حكم مال المسلم والذمي والمستأمن، سواء في حرمة الاستيلاء عليه
بغير حق بخلاف حربي لم يدخل بأمان مسلم، فحاله وماله مباح لمن ظفر به، كما لو دخل
مسلم بلادهم بغير أمان منهم فلهم اغتياله.
(مسألة: ش): مال مشترك بين ثلاثة، أخذ متغلب ثلثه أو ثلث غلته بالمقاسمة
بقصد أنه حصة أحدهم كان الباقي مشتركاً بين الكل، ولا أثر لقصد المتغلب المذكور
ولا للمقاسمة لعدم صحتها، كما لو أخذ ظالم مال زيد ظاناً أنه مال عمرو لا رجوع
لزيد على عمرو، إذ القاعدة أن المظلوم لا يرجع على غير ظالمه، بخلاف ما لو اشتركا
في عبد فباعه أحد الشريكين مع المتغلب وقبض الشريك حصته، فلا يشاركه الآخر لأن
حصته باقية لم تبع.
(مسألة: ش): أعطاه
جماعة أموالاً يشتري لهم بناً من بلد كذا فنهيت في الطريق لم يضمنها إلا إن خلطها
بلا إذن أو كان الطريق غير آمن ثم لو ردّ عليه بعضها، فإن اختص به بعض كان له فقط،
وإن خلط الجميع ولم يتميز كان كالتالف، فإذا رد بعضه فقد ظفر أرباب الأموال بذلك
فيكون على حسب الحصص، كما هو شأن المغصوب المخلوط، فلو أمر الوكيل بعض رؤساء
الناهبين أن يقر عند الحاكم بقبض الجميع ويضمن له الباقي فأقر كذلك أوخذ بإقراره
ظاهراً وطولب بالمال، إلا إن أثبت بينة بإكراهه أو دلت قرينة ظاهرة عليه كحبس، وله
تحليف أرباب المال أنهم لا يعلمون صدّق دعواه، فإن نكلوا حلف المردودة وبرىء، بل
إن قطع بصدقه كبدوي جلف فينبغي تصديقه مطلقاً.
(مسألة: ش): عقار مشترك وقعت يد أحد الشركاء على جميعه، فما تحقق كونه
غاصباً بالاستيلاء المعروف من غير إذن شريكه تلزمه أجرته بأقصى الأجر إن اختلفت
انتفع بالعقار أم لا، طلب شريكه الانتفاع بحصته أم لا، إذ ليس لأحد الشريكين
الانتفاع بالمشاع بلا إذن شريكه، فلو بنى أو غرس فيه بلا إذن كلف القلع، وإن كان
يقلع ملكه عن ملكه، إذ لا يتوصل إلى أداء حق الغير إلا بذلك، نعم إن كانت حصته
متميزة فمانعه الانتفاع غاصب، وكذا كما لو ترشد أحد الإخوة على أخوته المحاجير من
غير وصاية أو إذن قاض واستغلّ أرضهم وأنفق عليهم فيلزمه أقصى الأجر مدة بسطه، وما
أنفقه عليهم بلا إذن فمتبرع به.
(مسألة: ي): مرض شخص عنده أمانات، فأوصى بها إلى غير أمين فباعها بأقل
أثمانها وتصرف في الثمن، حكم ببطلان تصرفات هذا الوصي، لأنه لفسقه وقلة أمانته وعدم
الإذن له في التصرف شرعاً فضولي، فما بدله المشترون من الأثمان يطالبون به ذلك
البائع، وما قبضوه فهو تحت أيديهم كالمغصوب يجب رده لوارث الميت أو وصيه المتصفين
بالعدالة.
(مسألة: ج): لصاحب
العين المغصوبة الدعوى على من هي تحت يده من غاصب وآخذ منه حضر الغاصب أو غاب
ويلزم المدعى عليه ردها، وصورة الدعوى أن يقول: أدعي أن هذه العين غصبها مني فلان
واستولى عليها ظلماً وعدواناً ويلزمه ردها ويقيم بذلك شاهدين.
[فائدة]: غصب بذراً فزرعه وصار حباً فللمالك أخذه مع حبه، أو ودياً فغرسه
فكبر فيكون للمالك، ولا شيء للغاصب قبل تربيته وغرسه في أرضه اهـ فتاوى أبي مخرمة.
ولو كانت الأرض لم تؤجر قط لزم غاصبها أجرة أقرب الأراضي إليها، ولو نجس ثوب آخر
لم يلزمه تطهيره، بل لا يجوز بلا إذن صاحبه، سواء كان لغسله مؤنة أم لا، ويلزمه
أجرة الغسل وأرش نقصه اهـ فتاوى ابن حجر. ومنها: وأفتى بعضهم فيما لو أتلف ولد
بهيمة فنقص لبنها أنه يلزمه أرشه اهـ. وفي التحفة: وأخذ مال غيره بالحياء له حكم
الغصب، وقد قال الإمام الغزالي: من طلب من غيره مالاً في الملأ فدفعه إليه لباعث
الحياء فقط لم يملكه ولا يحل له التصرف فيه، ولو حمل نحو سيل بذراً إلى ملك غيره
فنبت فهو لصاحب البذر، ويجبره صاحب الأرض على قلعه، ولا أجرة عليه مدة بقائه لعدم
الفعل، بخلاف ما لو بذره بظن أنها ملكه فتلزمه حينئذ، ولو نقل سيل تراباً أو حجارة
أرض عليا إلى سفلى أجبر صاحب العليا على إزالته اهـ ملخصاً.
(مسألة: ش): اشترى أو
اتهب نخلة صغيرة ونقلها إلى محل بعيد فبانت كلها أو بعضها وقفاً على نحو مسجد وجب
ردها إلى محلها، إن قال أهل الخبرة ولو واحداً: إن ذلك لا يضرها ضرراً بيناً ويأثم
العالم بذلك، فإذا ردّت ولم يحدث عليها تلف أو نقص فلا ضمان، وإلا لزمه قيمتها أو
أرشها، ويشتري الحاكم إن لم يكن لها ناظر خاص مثلها وإلا فشقصاً ويوقفه، هذا إن
أمكن شراء ذلك، وإلا كانت ملكاً للموقوف عليه، كما جزم به في التحفة من ثلاثة
أوجه، وإن ضر نقلها أو نقص ثمرها تركت هناك وعلى ناقلها إيصال ثمرها لمستلحقه، نعم
رأى نحو الناظر نقلها أصلح خوف اندراس الوقف أو عدم إيصال الثمر، فله تكليفه النقل
مطلقاً وحيث بقيت، فإن نقصت قيمتها باختلاف المحالّ لزمه الأرش اهـ. قلت: وقوله إن
لم يكن لها ناظر خاص سيأتي في (ك) في الوقف أن المعتمد أن المتولي شراء بدل الوقف
الحاكم مطلقاً وهو كذلك في التحفة.
[فائدة]: اشترى نخلاً فاستثمره ثم بانت وقفيته ضمن مثل ثمره، ولا يفيده
غلبة ظن استحقاقه له، ولا يلزم بائعه غير الإثم، أي وردّ الثمن كما هو مقرر في
محله اهـ فتاوى محمد باسودان.
(مسألة: ش): المكس
والعشور المعروف من أقبح المنكرات بل من الكبائر إجماعاً، حتى يحكم بكفر من قال
بحله، وليس على المسلم في ماله شيء، فلو أن رجلاً من أهل الصلاح لم يؤخذ من ماله
وسفينته عشور لجاهه وبقي بعده، أن من فعل سفينة من ذريته لا يؤخذ منه ذلك لم يستحق
بقية الورثة عليه شيئاً، وإن كان إنما ترك لجاه جدّه وهذا ظاهر.
(مسألة: ك): عين السلطان على بعض الرعية شيئاً كل سنة من نحو دراهم يصرفها
في المصالح إن أدّوه عن طيب نفس لا خوفاً وحياء من السلطان أو غيره جاز أخذه، وإلا
فهو من أكل أموال الناس بالباطل، لا يحل له التصرف فيه بوجه من الوجوه، وإرادة
صرفه في المصالح لا تصيره حلالاً.
(مسألة: ك): سعى بشخص عند ظالم فأخذ منه مالاً ظلماً بسبب
سعايته، إن عرف ذلك الظالم بأخذ المال ممن سعي به إليه وكان السعي ظلماً كان له
الرجوع بما أخذ منه على الساعي فيما يظهر، كما أفتى به ابن زياد تبعاً لابن عبد
السلام والطنبداوي، وخالفاه في التحفة والنهاية قبيل الدعوى ونسبا ذلك إلى الشذوذ
اهـ. وعبارة (ش) السعاية بمظلوم إلى ظالم كبيرة يفسق ويعزر مرتكبها ويكفر مستحلها،
وإذا أخذ الظالم من مال المسعي به شيئاً لم يرجع به على الساعي لقطع المباشرة أثر
السبب، كما لو أكره شخصاً ودابته فسعى به إلى السلطان فأخذ ماله فالضمان على
السلطان، ولا يكون المكره طريقاً في الضمان على المعتمد من أن المباشرة أقوى من
السبب، خلافاً لابن عبد السلام ومن تبعه، نعم إن أزال الساعي يد صاحب الدابة صار
غاصباً لها، فيكون طريقاً في الضمان قطعاً اهـ. وفي ج : طلبت الدولة مالاً منه ومن
إخوته فسلمه من غير توكيل لم يرجع عليهم بشيء، فلو سعى بهم إلى الدولة فلزمهم بسبب
سعايته غرامات، فللمسعي به مطالبة الساعي بها عند الحاكم فيجتهد في ذلك إذ قد
تختلف فيه الأنظار.
أحكام الأموال الضائعة
والمشتبهة
(مسألة: ش): انكسر مركب وفيه بضائع لأناس، فغرق بعضها وسلم البعض ولم يعلم
لمن هو، فإن علم انحصار المتداعين فيه ولو بانتفاء دعوى غيرهم وقف الأمر إلى
البيان أو الصلح ولو بتفاوت من كاملين، ولا يشترط التواهب حينئذ كما قاله في
الروضة خلافاً للعباب، ولا يجوز الصلح على أن يأخذه بعضهم ويعطي الآخر من غيره،
لأن هذا بيع ومن شروطه تحقق ملك العوضين، وشرط الصيمري لصحة الصلح أن يقول كل
للآخر هو له ويسأله حط شيء منه، ومتى وقع الصلح لم ينقطع حق كل لما أخذه، فلو ظهر
أن ما بيد أحدهم للآخر أخذه ما لم يوجد تواهب ولو ضمناً كأن قسماه برضاهما اهـ.
قلت: وذكر في التحفة كلام الصيمري لكن أطال في رده قال: لما يترتب على ذلك من
الغرر العظيم، ومن أخرج متاعاً غرق ملكه عند الحسن البصري وردّ بالإجماع على خلافه
اهـ.
(مسألة: ب ش): وقعت في يده أموال حرام ومظالم وأراد التوبة منها، فطريقة أن
يرد جميع ذلك على أربابه على الفور، فإن لم يعرف مالكه ولم ييأس من معرفته وجب
عليه أن يتعرفه ويجتهد في ذلك، ويعرفه ندباً، ويقصد رده عليه مهما وجده أو وارثه،
ولم يأثم بإمساكه إذا لم يجد قاضياً أميناً كما هو الغالب في هذه الأزمنة اهـ. إذ
القاضي غير الأمين من جملة ولاة الجور، وإن أيس من معرفة مالكه بأن يبعد عادة
وجوده صار من جملة أموال بيت المال، كوديعة ومغصوب أيس من معرفة أربابهما، وتركة
من لا يعرف له وارث، وحينئذ يصرف الكل لمصالح المسلمين الأهم فالأهم، كبناء مسجد
حيث لم يكن أعم منه، فإن كان من هو تحت يده فقيراً أخذ قدر حاجته لنفسه وعياله
الفقراء كما في التحفة وغيرها، زاد ش: نعم قال الغزالي إن أنفق على نفسه ضيق أو
الفقراء وسع أو عياله توسط حيث جاز الصرف للكل، ولا يطعم غنياً إلا إن كان ببرية
ولم يجد شيئاً، ولا يكتري منه مركوباً إلا إن خاف الانقطاع في سفره اهـ. وذكر نحو
هذا في ك وزاد: ولمستحقه أخذه ممن هو تحت يده ظفراً، ولغيره أخذه ليعطيه به للمستحق،
ويجب على من أخذ الحرام من نحو المكاسين والظلمة التصريح بأنه إنما أخذه للرد على
ملاكه، لئلا يسوء اعتقاد الناس فيه، خصوصاً إن كان عالماً أو قاضياً أو شاهداً.
(مسألة: ك): اختلط حال الزوجين ولم يعلم لأيهما أكثر، ولا قرينة تميز
أحدهما، وحصلت بينهما فرقة أو موت، لم يصح لأحدهما ولا وارثه تصرف في شيء منه قبل
التمييز أو الصلح إلا مع صاحبه، إذ لا مرجح كما قالوا فيما لو اختلط حمامهما،
وحينئذ فإن أمكن معرفتهما وإلا وقف الأمر حتى يصطلح الزوجان أو ورثتهما بلفظ صلح
أو تواهب بتساو أو تفاوت إن كانوا كاملين، ويجب أن لا ينقص عن النصف في المحجور،
نعم إن جرت العادة المطردة بأن أحدهما يكسب أكثر من الآخر كان الصلح والتواهب على
نحو ذلك، فإن لم يتفقوا على شيء من ذلك فمن بيده شيء من المال فالقول قوله بيمينه
أنه ملكه، فإن كان بيدهما فلكل تحليف الآخر ثم يقسم نصفين.
(مسألة: ج): استردّ مالاً من غاصب وأيس من معرفة مالكه كان لبيت المال ثم
لمصالح المسلمين العامة وأمان الطرق ونحوها.
(مسألة): حكم ما يلقيه
البحر من الأموال والأخشاب ونحو الآلات من كل ما دخل تحت يد مالك حكم المال
الضائع، إن توقع معرفة ملاكه عادة حفظ وجوباً عند أمين، ولا يستحق آخذه جعلاً، وإن
تكرر له من بعد أو أطلعه في سفينته، فإن أيس من معرفة مالكه صرف مصرف بيت المال.
(مسألة: ي): مرض رجل وعنده أموال، عروض بعضها أمانة وبعضها قراض وبعضها له
أخذهما بذمته، فأوصى بالجميع إلى آخر يقبضها إلى أن يجيء فلان ومات، فباعها الوصي
بأقل أثمانها وفوّت الثمن، حكم ببطلان تصرفات هذا الوصي الفاسق، ووجب رد المال إلى
أهله، ويطالب البائع بالثمن، ويضمن الميت ذلك أيضاً، ككل أمين لتقصيرات أربع كل
واحدة منها توجب الضمان وهي: تركة الإيصاء إلى عدل، وتركة الإشهاد على ذلك، وتركة
تمييز ما لكل واحد بما يرفع الاشتباه عنه وتسليطه هذا الفاسق على أمانته، وإن كان
إنما أعطاه بظن أنه أمين فبان خلافه لتقصيره بترك البحث، ويحكم ظاهراً بأن تك
الأموال تركة ما لم يثبت في عين أنها لغيره، وحينئذ فالواجب لهم على الميت رؤوس
أموالهم فقط، نعم إن تحقق أن أموالهم بضائع ولم يدر أهي هذه أم لا فلهم قيمة
بضائعهم في التركة، ثم إن علم أعيان أهل الدين والبضائع وقدر ما لكل منهم صرف من
بيده المال إن لم يكن وارث ولا وصي ثم قاض أمين أثمان البضائع إلى أربابها بحسب
مالهم، وثمن مال الميت إلى مداينيه، وأهل البضائع إن لم تف أثمانها بحقوقهم، نعم
ما علم أنه أخذه لموكله أو مقارضه معيناً أو مجهولاً فلمن له البضاعة فقط، ثم إن
اتفق الغرماء وأهل البضائع على شيء، وإلا نصب القاضي مخاصماً عن الميت، فإن فقد
الحاكم أو لم يتأهل حكم من بيده المال والمدّعون عالماً، فمن أثبت ببينة ولو
شاهداً ويميناً مع يمين الاستظهار قدراً معيناً ضارب مع الغرماء، ومن ادعى ديناً
أو رأس مال ولم يعينه أو عينه بلا بينة لم تسمع دعواه ولم يعط شيئاً، نعم يلزم
الوارث هنا وفيما يأتي إعطاء ما تيقن أنه على الميت، ولو علم أن عليه ديوناً وعنده
أموال قراض وأمانة علم قدرها وجهل أربابها، فإن توقعت معرفتها حفظت وإلا فلبيت
المال ككل مال أيس من معرفة مالكه، وإن جهلت الحقوق وأربابها أو الحقوق فقط حكم
على المال بأنه تركة، نعم إن علم أنها اشتريت للموكلين والمقارضين، ولم يعلم عين
ما لكل تركت أثمانها بيد عدل حتى يصطلحوا ولو بتفاوت إن لم يكن فيهم محجور، وإلا
لم يجز نقصه عن سهمه، فإن تعذر الصلح والتداعي بين أهل الحقوق والميت اجتهد متولي
المال في تعيين المستحقين من أهل الدين والقراض والوكالة والوديعة، وقدر الاستحقاق
وقسمة الأثمان عليهم بغلبة الظن والقرائن كخط موثوق به، وإخبار من يقع في القلب صدقه
ولو عبداً أو امرأة، فلو دلت قرينة في تعيين بعض الحقوق كلزيد ألف ولبقية الحقوق
خمسة آلاف، أعطي زيد سدس الأثمان، وقسم الباقي على عدد الرؤوس كما لو لم يعلم شيء.
الشفعة
(مسألة: ش): لا تثبت الشفعة إلا في جزء شائع من أرض، وما ثبت فيها من بناء
وشجر إن أجبر على قسمته شرعاً، فإذا طلب الشريك الشفعة بعد علمه ولو بعد زمن طويل
استحقها بشرط مبادرته بعد العلم ويصدق بيمينه في الفورية، ولو بيع البناء أو الشجر
دون الأرض فلا شفعة، كما لو كانت الأرض موقوفة أو ملك الغير.
(مسألة: ج): استأجر أرضاً متصلة بأملاكه بنصف غلتها مثلاً ثم
باعها مالكها لآخر لم يستحق الشفعة، إذ هي ثابتة في مشترك لم يقسم، نعم إن كان له
بها عناء زادت به لم يصح بيعها حتى يرضى صاحب العناء لأنها حينئذ كالمرهون.
(مسألة: ش): شفع
الشفيع والمشتري غائب جاز، بل وجب على القاضي الأمين قبض الثمن، لأن ملك الشفيع
متوقف إما على قبض المشتري الثمن أو رضاه بذمة الشفيع، أو حكم الحاكم بها، ومع
ملكه في غير الأولى ليس له تسلم الشقص حتى يؤدي الثمن إلى نحو المالك، ثم الحاكم
عند امتناعه أو غيبته.
[فائدة]: قال في
التحفة: والأظهر أن الشفعة على الفور، وقد لا تجب في صور كالبيع بمؤجل، أو وأحد
الشريكين غائب وكان أخبر بنحو زيادة فترك ثم بان خلافه، وكالتأخير لانتظار إدراك
زرع وحصاده، أو ليعلم قدر الثمن، أو لتخليص نصيبه أو لجهله بأن له الشفعة، أو
بأنها على الفور وهو ممن يخفى عليه ذلك، وكمدة خيار شرط لغير مشتر أو عفا وليه فلا
يسقط حقه اهـ.
القراض
(مسألة: ي): شروط القراض اثنا عشر، كون العاقدين جائزي التصرف، والعامل
بصير والمقارض له على المال ولاية، وكونه بإيجاب وقبول كقارضتك على كذا والربح
بيننا نصفين مثلاً فيقول: قبلت، أو خذ هذه الدراهم بع واشتر فيها ولك ثلث الربح
مثلاً، وكون رأس المال نقداً مضروباً ولو مغشوشاً راج لا عرضاً، ومعلوم القدر، وفي
يد العامل لا في يد غيره، ولا أن لا يشتري إلا برأي، وكون العمل تجارة لا حرفة،
كاشتر حنطة واخبزها وبعها والربح مشترك بينهما بالجزئية لا لأحدهما فقط ولا
لغيرهما منه شيء، ولا كخمسة في المائة للعامل، وأن لا يضيق التجارة على العامل كلا
تبع إلا لزيد، أو لا تأخذ إلا ياقوتاً أحمر، وأن لا يؤقت القراض بمدة كسنة، ولا
التصرف كقارضتك، ولا تتصرف إلا بعد شهر، وأن يعين رأس المال لا على إحدى الصرتين
ولا على دين كالثمن قبل قبضه، نعم لو قارضه على ألف نقداً بذمة العامل ثم عينها في
المجلس وقبضها المالك ثم أقبضها للعامل صح بهذه القيود، وطريق تصحيح القراض في
المال الغائب، ونحو البز أن يقول له المالك: وكل عني من يقبض منك أو من زيد المائة
ويقارضك عليها ويسلمها لك، أو بع لي هذا البز ووكل عني من يقارضك على ثمنه بعد
قبضه نقداً، وإذا تم القراض وجب على العامل حفظ المال، وأن لا يبيع أو يشتري من
نفسه أو موكله، ولا يبيع نسيئة، ولا يسافر به بلا إذن فيها، ولا يشتري إلا ما
يتوقع فيه الرّبح، ولا ينفق على نفسه أي إلا بإذنه كما في التحفة، وليس على المالك
إلا أجرة حمل البضاعة الثقيلة والكيل والوزن إن لم يباشرها العامل بنفسه، وله أن
يوكل غيره بإذن، والأجرة عليه لا على المالك ولا الرّبح، بل لو شرطت منه فسد إلا
إن كانت الوكالة في معين بأجرة معلومة.
(مسألة: ك): أعطاه شيئاً وقال: بعه ولك نصف الرّبح، كان حكمه حكم القراض
الفاسد يستحق أجرة المثل لأنه عمل طامعاً، إذ شرط القراض على نقد ناضّ بإيجاب
وقبول ولم يوجد، كما لو أعطاه دراهم وقال له: اتجر في الكتان ولك في الربح الرّبع
مثلاً، فله أجرة المثل أيضاً لعدم القبول وعزة الكتان.
(مسألة: ش): قارضه على
مائة والربح بينهما على أن لا يسافر بها، ثم لما ظهر الربح سافر بها ضمن الكل
أصلاً، وربحاً، إذ لا يملك العامل حصته إلا بالقسمة، نعم إن تعذر رده للمالك أو
وكيله ثم القاضي فأمين فسافر به فلا ضمان، ولا ينفسخ القراض بسفره مطلقاً، فله
التصرف إن لم تنقص قيمته هناك عن تلك البلد، ثم لو تلف المال بنحو نهب، فإن قلنا
بارتفاع القراض حينئذ طولب بالبدل، واستقرت حصته إن كان بدل الربح من جنس رأس
المال، وإلا لم تستقر إلا بالقسمة أو بعدمه، فالعقد باق في البدل، نعم لو عاد
العامل إلى بلد القراض واعتاض عن المال المضمون بيده ارتفع الضمان، كالوكيل المتعدي
يرتفع ببيعه ضمان الثمن.
(مسألة: ش): قارضه على ألف فتصرف في بعضها ثم تلف الباقي كان تلفه من أصل
رأس المال، فيعود حينئذ إلى الباقي، حتى لو حصل ربح استحق فيه المشروط ولا يجبر به
التالف، بخلاف ما لو تلف أو نقص شيء مما تصرف فيه فيجبر، إذ لا يأخد العامل شيئاً
من الربح حتى يرد للمالك مثل ما تصرف فيه.
(مسألة: ش): باع
المالك مال القراض صح بيعه ولو بعد ظهور الربح أو وجود راغب يدفع أكثر من رأس
المال، كما لو كان رأس المال عبداً فأعتقه المالك أو وهبه، إذ لا يملك العامل حصته
إلا بالقسمة، وحينئذ يلزمه للعامل
حصته من الربح، ولا ينفسخ القراض فيتعلق بالقيمة.
[فائدة]: لا يعامل عامل
القراض المالك بمال القراض، أي لا يبيعه إياه لأدائه إلى بيع ماله بماله، ولا
يشتري منه بعين أو دين بشرط بقاء القراض بخلافه بلا شرط لتضمنه الفسخ، ولو كان له
عاملان فليس لأحدهما معاملة الآخر إلا إن أثبت لكل الاستقلال لا إن شرط الاجتماع،
قاله في التحفة. وقال (م ر): لا يعامل الآخر مطلقاً كالوصيين، قال (سم:) إن كان
المراد بمعاملة الآخر أن الآخر يشتري من مال القراض لنفسه فالجواز قريب لا يتجه
غيره، كما في الوصيين المستقلين فإن لأحدهما أن يشتري لنفسه من الآخر كما يأتي،
وإن كان المراد أن الآخر يشتري للقراض من صاحبه بمال القراض فلا ينبغي إلا القطع
بامتناع ذلك، فضلاً عن إجراء خلاف فيه مع ترجيح الجواز، لأن فيه مقابلة مال المالك
بمال المالك، فكما امتنع بيعه من المالك فيمتنع بيع أحد العاملين من الآخر للقراض،
إذ المال للمالك، فيلزم مقابلة ماله بماله، هذا إذا كان المال واحداً وكل منهما
عامل فيه على الاستقلال، وكذا لو قارض أحدهما وحده على مال وقارض الآخر كذلك، ففيه
التفصيل المذكور على الأوجه اهـ ملخصاً، وعبارة بج على الإقناع، ولا يعامل أحدهما
الآخر إذا شرط عليهما الاشتراك، فإن انفرد كل منهما بمال وثبت له الاستقلال جاز له
الشراء من الآخر، وهذا التفصيل هو المعتمد اهـ زي اهـ.
(مسألة: ب): قارض آخر مدة ثم طالبه بردّ المال فأقرّ به وماطله مدة أشهر
حتى مات العامل ضمن المال باقياً وبدله تالفاً، ويصدّق العامل كوارثه في دعوى
التلف لئلا يخلد في الحبس، إذ القراض والوكالة والوديعة من واد واحد، فيضمن في
الكل حيث قصر، ومنه أن يطلبها المالك فيتراخى عن التخلية بلا عذر، من نحو صلاة أو
أكل أو إشهاد على نحو وكيل طلبها من الأمين.
[فائدة]: ادعى المالك
بعد تلف المال أنه قرض والعامل أنه قراض حلف العامل، كما أفتى به ابن الصلاح
كالبغوي، لأن الأصل عدم الضمان، وخالفهما الزركشي ومن تبعه فرجحوا تصديق المالك،
وجمع بعضهم بحمل الأوّل على ما إذا كان قبل التصرف، والثاني على ما بعده، أما قبل
التلف فيصدق المالك، لأن العامل مدع عليه الإذن في التصرف وحصته من الربح والأصل
عدمهما اهـ تحفة. واعتمد (م ر) كلام الزركشي قال: وكذا لو أقاما بينتين فتقدم بينة
المالك أيضاً ولو كان المال باقياً وربح، وقال المالك قراض والعامل قرض صدق العامل
اهـ زي، ولو استعمل العامل دواب القراض وجب عليه الأجرة من ماله للمالك أو المالك
بلا إذن العامل لم يلزمه غير الإثم اهـ بج.
(مسألة: ش): مات عامل القراض وخلف عروضاً، فإن ثبت أنها من مال القراض أو
من غيره ببينة أو تصادق فذاك، وإن اختلف المالك ووارث العامل حلف الوارث على نفي
العلم، ثم إن وجد رأس المال في التركة أعطيه المالك فقط وإن لم يوجد، فإن نسب
العامل إلى تقصير بأن مات بمرض ولم يوص به إلى قاض ثقة ثم إلى أمين ولم يميزه
بإشارة إليه أو بيان جنسه وصفته ضمنه، فيباع له من العرض بقدره مع الربح إن تصادقا
عليه، وإلا صدق الوارث في قدره بل
وفي نفيه أصلاً، وإن لم ينسب إلى تقصير فلا لاحتمال تلفه قبل الموت وهو أمين، فلو
ادعى على الوارث تفريط مورثه حلف على نفي العلم، أو أن مال القراض بيدك حلف على
البت، وإن وجد في التركة أعيان يصلح كونها مال قراض.
[فائدة]: قال في فتح
الجواد: يستقر ملك عامل القراض بأحذ ثلاثة أمور: إما بفسخ مع القسمة والمال وناض
لأنها وحدها لبقاء العقد قبل الفسخ مع عدم تنضيض رأس المال حتى لو حصل بعدها ربح
جبر بالربح المقسوم، أو بالفسخ مع النضوض والمراد به مصير مال القراض من جنس رأس
المال، أو بإتلاف المالك بنحو إعتاق وألحق به التلف بآفة، وعلم مما تقرر أنه لا
يستقرّ ملكه بقسمة العرض ولو مع الفسخ اهـ.
المساقاة والمغارسة والمخابرة
والمناشرة
(مسألة: ب): اعلم أن المغارسة المعروفة بحضرموت جارية على خلاف المعتمد من
المذهب، والعمل مستمر عليها في الجهات، وللعاملين بها على القول بها أحوال
اصطلاحية جرت بها عادتهم واستمر عليها فعلهم من غير نكير ولا تقريع عليها، فعلى
المعتمد إذا ساقى آخر على سقي خلعه إلى العتيق وله ثلث النخل مثلاً لا يستحق
المساقي الجزء المشروط له، سواء قبل التعتيق وبعده، بل له أجرة المثل نقداً، كما
لا يستحق مالك الأرض إلا أجرة مثل أرضه نقداً أيضاً، ويكون الخلع كله لمالك الوديّ
أي النقيل، ولا يجوز لحاكم ولا مفت أن يحكم أو يفتي بخلاف المعتمد من مذهب إمامه
هذا، ولما كان المشي بهذه المعاملة على جادة المذهب يترتب عليه أنواع من الضرر
لوقوع الخاص والعام فيها، اختاروا العمل فيها بأوجه مرجوحة وأحوال اصطلاحية بينهم
معلومة، إذ لا يمكن العمل في الجهة بغيرها، قال في القلائد: قال شيخنا عبد الله
بلحاج: وجوازها أي المغارسة وجه مرجوح، وعمل أهل جهتنا عليه، وقد اصطلحوا على ذلك
بحيث لا يرجعون لقول مفت إذا تنازعوا وشاع وذاع اهـ. ونقل عن أحمد مؤذن أنه يقسط
الجزء المشروط للعامل على حسب ما عمل، حيث وقع نزاع واختلال شروط المساقاة أو فسخت
أو ثبت تقصير، وأفتى بعض الفقهاء بأن العامل لا يستحق المشروط إلا بالفراغ وهو
بلوغ الغرس التعتيق المعتاد قياساً على الجعالة، وأما بيع المساقي الجزء المشروط
له قبل التعتيق فلا يصح للجهل بما يستحقه على القول بالتقسيط، أو لعدم استحقاقه له
الآن على القول الثاني، وأما على المذهب فلا يستحق في الخلع شيئاً أصلاً كما تقدم.
(مسألة: ج): ما حكم المزارعة والمغارسة والمخابرة والمناشرة؟ ومن جوّزها من
العلماء؟ أما المزارعة وهي العمل في الأرض ببعض ما يخرج منها، والبذر من المالك
والمخابرة كذلك، إلا أن البذر من العامل، وصيغتهما أن يقول: زارعتك على هذه الأرض
على أن لك نصف زرعها أو ثلثه مثلاً، فقد ذهب كثير من العلماء إلى جوازهما، روي ذلك
عن سيدنا عليّ وابن مسعود وعمار وسعد بن أبي وقاص ومعاذ رضي الله عنهم، وهو مذهب
ابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وطاوس والحسن والأوزاعي، وإحدى الروايتين
عن أحمد لما روى عن نافع أن ابن عمر كان يكري مزارعه على عهد رسول الله وأبي بكر
وعمر وعثمان وصدراً من إمارة معاوية رضي الله عنهم بالثلث والربع.
وفي صحيح البخاري: عامل عمر الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر من عنده فله
الشرط، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا. قال البخاري: وزارع عليّ وسعد وابن مسعود وعمر
بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل عمر وآل علي وابن سيرين، ونقل النووي عن الخطابي
أن المزارعة جائزة، وهي عمل المسلمين في جميع الأمصار، ولا يبطل العمل فيها أحد،
وجوّزها أيضاً ابن خزيمة وصنف فيها جزءاً وابن المنذر، وقال الحبيشي: قال النووي
المختار جوازهما، وبصحتهما قال أبو عبيد القاسم بن سلام، والقول بجوازهما حسن
ينبغي المصير إليه لصحة الأحاديث الواردة في ذلك، ولأن اختلاف العلماء رحمة وللضرورة
الداعية إلى ذلك اهـ. واختارهما السبكي أيضاً، وقال في الهداية للحنفية، ومنع أبو
حنيفة المزارعة وجوّزها صاحباه "لأنه عامل أهل خيبر على نصف ما يخرج من ثمر
وزرع" والفتوى على قولهما لحاجة الناس، ولظهور تعامل الأمة بهما، والقول يترك
بالتعامل اهـ. وأما المغارسة ويقال لها المناصبة والمفاخذة والمخالعة، وهي أن يدفع
صاحب الأرض أرضه لمن يغرسها من عنده ويكون الشجر بينهما أو بينهما وثالث ويعمل ما
يحتاجه الغرس، فقد قال السبكي: لا شك أن من منع المخابرة يمنعها، ومن جوّزها يحتمل
أن يجوّزها ويحتمل المنع، وأوسع المذاهب في ذلك مذهب ابن أبي ليلى وطاوس والحسن
والأوزاعي، فمقتضى مذهبهم تجويز المغارسة أيضاً، والفرق بينهما عسير اهـ. وقال
السمهودي: المشهور من مذهبنا أنه لو ساقى المالك العامل على ودي ليغرسه ويكون
الشجر بينهما لم يجز، وعللوه بأنه كتسليم البذر من المالك في المزارعة التي تفرد
عن المساقاة. وعن صاحب التقريب وجه أنه يصح كما قيل به في المزارعة، وإلحاق ذلك
بالمزارعة يقتضي أن من جوّز المزارعة و المخابرة جوّزها اهـ، أي لأنه إن كان
الفسيل من المالك فكالمزارعة، أو من العامل فكالمخابرة، بل الحاجة إلى المغارسة
أكثر كما لا يخفى، قال علي بايزيد وهو الأصلح للناس: ولهذا درج عليه علماء جهة
الشحر وحضرموت وغيرهم من غير نكير اهـ. وقد قضى بذلك الحنابلة، وقال ابن السبكي:
ما أحسن التمذهب واستعمال الأوجه في درء المفاسد الواقعة في مصادمة الشرع. وفي
التحفة قال السبكي: يجوز الإفتاء بغير المذاهب الأربعة لمصلحة دينية أي مع تبيينه
للمستفتي قائل ذلك اهـ. وفي فتاوى باصهي: أن المغارسة بجهة حضرموت عمل بها من لا
يشك في علمه وعمله، وهو عمل أهل المدينة، وهو المفتى به والأصلح للناس، بحسب ما
شرطوه وتراضوا به مما لا يخالف المذاهب اهـ. وإذا جوّزنا المغارسة المذكورة على
قياس المزارعة، فيشترط أن يبين المدة إلى التعتيق على خلاف فيه، وأن يبين نوع
النخل الذي يغرسه على إشكال فيه، إذ العمل الآن على خلافه، وأن لا يشرط الثمر
لأحدهما قبل القسمة وبعدها، وأن لا يشرط الولاء وهو منافع الأرض للعامل، أو أن لا
يزرعها غير الغارس إلا بإذنه، أو يشرط القصب أو الحمط لأحدهما، وإن علم أن الشرط
المؤثر هو الواقع في صلب العقد أو في مجلس الخيار لا قبله وبعده، كما أن من شروط
المزارعة بيان المدة خلافاً للسبكي، وبيان جنس البذر، وأنه على من وكم للعامل.
وأما المناشرة ويقال لها المفاخذة وهي أن يدفع الأرض الدامرة لمن يعمرها ويقوّم
أسوامها ويرد مكاسرها ويحرسها، بحيث تستعد للزراعة بجزء منها، قال أبو صهي وأبو
حويرث وأبو يزيد: إن عمل أهل حضرموت على ذلك قياساً على اختيار المخابرة، ويقررهم
علماؤهم على ذلك وفيها ما فيها، والأوفق بالصحة أن يؤجر المالك العامل على العمارة
بجزء من الأرض لكن مع تعيين العمل، ويزارعه على بعض الغلة بالشرط المتقدم في
التحفة.
[فرع]: أذن لغيره في زرع أرضه فحرثها أو هيأها للزراعة فزادت قيمتها بذلك،
فأراد المالك نحو بيعها أو رهنها لم يجز بغير إذن العامل لتعذر الانتفاع بها بدون
العناء المحترم فيها اهـ ملخصاً من نبذة في ذلك للعلامة علي بن عبد الرحيم بن
قاضي.
(مسألة: ج): ساقاه على غرس نخل بينهما فمات المساقي، فتراضى مالك الغرس
وبعض ورثة المساقي من غير إذن بقيتهم على شرائه وسلم له بعض الثمن، ثم باع المشتري
الغراس من آخر، فادعى بقية ورثة الميت أن حصتهم باقية، لم يوكلوا أخاهم في ذلك
وأقاموا بينة قبلت، ولو استأجر أرضاً للغراس فحفر فيها بئراً وغرس نخلاً، فإن
جوزنا الإجارة على عمل الجهة فلصاحب الأرض من عين البئر مثل ما شرط له من الخلع من
ثلث أو غيره، وللعلماء في ذلك كلام العمل على خلافه.
(مسألة: ش): خابره على أرض كعادة البلد على الربع مثلاً، فرجعا إلى الأجرة
لبطلان المخابرة، ولم تكن بالبلد أجرة معلومة إلا هذا القدر من الطعام، فأجرة
المثل قيمة ذلك القدر المعتاد نقداً، وغلط من قال: يلزمه ذلك الشيء المقدر من
الطعام.
[فرع]: لو قال شخص
لآخر: سمن هذه الشاة ولك نصفها، أو هاتين على أن لك إحداهما لم يصح ذلك، واستحق
أجرة المثل للنصف الذي يسمنه للمالك، وهذه الحالة مما عمت بها البلوى في الفراريج،
يدفع كاشف البرية أو متلزم البلد لبعض أهل البيوت المائة أو الأكثر أو الأقل ويقول لهم: ربوها ولكم
نصفها، فيجب على ولي الأمر ومن له قدرة على منع ذلك أن يمنع من يفعل هكذا، لأن فيه
ضرراً عظيماً على الناس اهـ بج على الإقناع.
الإجارة
[فائدة]: استأجر عيناً مدة لا تبقى إليها غالباً بطلت في الزائد فقط
تفريقاً للصفقة كما صرح به في العباب اهـ ع ش.
(مسألة): لا تتصوّر
إجارة العقار في الذمة، وألحق به في النهاية السفينة، خلافاً للتحفة بخلاف المنقول
كالشخص والدابة فيصح تأجيرهما معينين، أو في الذمة كأن يلزم ذمته خياطة أو بناء أو
يستأجر دابة موصوفة.
(مسألة: ي): استأجر
بستاناً لأخذ ثمره لم يصح لورود الإجارة على غير مقصود، إذ الأعيان لا تملك قصداً
بعقد الإجارة، فحينئذ يكون الثمر مضموناً على صاحبه بأقصى القيم وأسهل الطرق إلى
تصحيح هذه المعاملة، أن يؤجره أرض البستان بأجرة معلومة، وينذر له بالثمر تلك
المدة، إذ يصح النذر بالمجهول والمعدوم، ولا يتوقف على قبض اهـ. وعبارة ك: لا تصح
إجارة النخل لأخذ ثمره، فإن أجره الأرض لأجل الغراس أو الزرع صح حيث استجمعت
الشروط، ولا فرق بين الأرض المملوكة والموقوفة على معين أو جهة، وحينئذ تجب الزكاة
على المستأجر ولو في الموقوفة على غير معين، إذ ليس للموقوف عليه إلا الأجرة، خلافاً
لمن توهم عدم الوجوب هنا، قياساً على عدم الوجوب في ثمر وزرع الموقوف على غير
المعين، بل إن كانت الأرض خراجية وجبت زكاتها مع الخراج أيضاً.
(مسألة: ي): يصح الاستئجار لكل ما لا تجب له نية عبادة كان، كأذان وتعليم
قرآن وإن تعين، وتجهيز ميت أولا كغيره من العلوم تدريساً وإعادة، بشرط تعيين
المتعلم والقدر المتعلم من العلم، وكالاصطياد ونحوه لا القضاء والإمامة ولو في
نفل، فما يعطاه الإمام على ذلك فمن باب الأرزاق والمسامحة، فلو امتنع المعطي من
إعطاء ما قرره لم تجز له المطالبة به ولا لعقد نكاح كالجعالة عليه، ويحرم اشتراط
الأجرة عليه من غير عقد، بل هو من أكل أموال الناس بالباطل، نعم إن أهدى نحو الزوج
للملفظ شيئاً جاز قبوله إن لم يشترطه، وعلم الدافع عدم وجوبه عليه.
(مسألة: ش): يصح الاستئجار لتملك المباحات كالاصطياد والغوص للآلىء
وغيرهما، كما يجوز التوكيل فيها، فحينئذ لو استأجره للغوص إجارة عين أو ذمة، فإن
قدرت بالعمل اشترط معرفة المستأجر عمق الماء ووجود الصدف في المحل، واتصالها
بالعقد في العينية أو تأجيلها في الذمة إلى زمن يغلب فيه وجوده، وإن قدرت بالزمان
كشهر فلا بد من بيان
محل الغياضة ومعرفتها مع عدلين خبيرين ليرجع إليهما عند التنازع قدر السير إليه
وعمق الماء وغلبة وجود الصدف فيه، وأن الآلة على أيهما إذا لم يطرد عرف وتعين
الشهر وكونه هلالياً، ويحمل على العادة الغالبة مع اتصاله بالعقد في العينية وإلا
فسدت، ويلزم في الصحيحة المسمى وفي الفاسدة إن جهل الأجير الفساد أجرة المثل، وما
أخرج من اللؤلؤ يملكه المستأجر مطلقاً ويحرم الاستئجار، ويفسد مع هيجان البحر أو
كثرة القرش بمحل الغياضة لأنه غير مقدور عليه شرعاً.
(مسألة: ش): استؤجر
للعمل مدة معلومة فسلم نفسه، استحق كل الأجرة بمضي مدة الإجارة وإن لم يعمل لتلف
المنافع تحت يد المستأجر، فلو شرط ذلك في صلب العقد لم يفسدها، إلا إن شرط فيه
استحقاق الأجير قبل تمام المدة، أو شرط على الأجير أنه متى عجز عن العمل أثناءه
فليس له شيء، فحينئذ له أجرة المثل ما لم يعلم بفساد العقد وأن لا أجرة.
(مسألة: ش): يستثنى من مدة الإجارة زمن المكتوبة ولو جمعة والرواتب
والطهارة، فلو فقد الطهورين فصلى لحرمة الوقت ثم أعادها بأحدهما نقص قدرها من
الأجرة، كما لو أعادها لنحو حدث، لأن منفعة الأجير مستغرقة للمستأجر إلا ما استثني
شرعاً.
[فائدة]: استأجره لحمل
حطب إلى داره وأطلق لم يلزمه إطلاعه السقف، وهل يلزمه إدخاله الدار والباب ضيق أو
تفسد الإجارة؟ قولان أصحهما الأول، ولو ذهب مستأجر الدابة بها والطريق أمن فحدث
خوف، فإن رجع بها ضمن أو مكث ينتظر الأمن لم تحسب عليه مدته، وله حينئذ حكم الوديع
في حفظها، وإن قارن الخوف العقد فرجع فيه لم يضمن إن عرفه المؤجر، فإن ظن الأمن
فوجهان أصحهما عدم تضمينه اهـ نهاية.
(مسألة: ب): دفع له مالاً ليبيعه ولم يجر بينهما ذكر أجرة ولا ما يدل عليها
لم يستحق شيئاً، كمن دفع ثوبه لخياط أو قصار ولم يذكر أجرة ولا ما يدل عليها اهـ.
وذكر نحوه في (ش) وزاد: وقيل تلزم أجرة المثل مطلقاً، وقيل: إن جرت العادة بأخذها
أخذ وإلا فلا، واستحسنه الغزالي وغيره وأفتى وقضى به جمع.
(مسألة): خدم أخاه ورعى له إبلاً ولم يشرط له أجرة لم يستحق شيئاً، وإن قال
له الأخ: اخدمني هذا، والأولى أن لا يخليه من شيء خروجاً من الخلاف، نعم إن كان
الخادم محجوراً عليه لزمت له أجرة المثل مطلقاً.
[فائدة]: استأجر محلاً
لدوابه فوقفه المؤجر مسجداً، امتنع عليه تنجيسه وتقذيره من حينئذ ويتخير، فإن
اختار البقاء انتفع به إلى مضي المدة إن كانت المنفعة المستأجر لها تجوز فيه، وإلا
كالاستئجار لوضع نجس به تعين إبداله بمثله من الطاهر، وامتنع على الواقف وغيره
الصلاة ونحوها فيه بغير إذن المستأجر، وحينئذ يقال لنا مسجد منفعته مملوكة، ويمتنع
نحو صلاة واعتكاف به بغير إذن مالك منفعته اهـ تحفة.
[فائدة]: المعنى في عدم انفساخ الإجارة في بيع العين المستأجرة من مكتريها
كون الإجارة واردة على المنفعة، والملك وارداً على الرقبة، فلا تنافي بينهما،
ولهذا لو استأجر ملكه من المستأجر صح، وبه فارق انفساخ نكاح من اشترى زوجته،
والفائدة في عدم الانفساخ أنه لو ردّ المبيع بعيب استوفى بقية المدّة، أو فسخ الإجارة بعيب أو تلف العين رجع بأجرة
باقي المدة اهـ فتاوى الحبيشي.
(مسألة: ش): دفع له
ثوباً ليخيطه أو فضة ليصوغها بأجرة، وشرط عليه أن لا يعمل لغيره حتى يفرغه أو
يعمله في يومين، كانت إجارة فاسدة، فلا يضمنه لو تلف بلا تقصير في المدة وبعدها،
إذ فاسد العقود كصحيحها غالباً، نعم إن طلبه مالكه فلم يخل بينه وبينه ضمن.
(مسألة: ش): حكم العين
المستأجرة حكم الوديعة، فتضمن بما تضمن بها، وتفارقها في أنه لا يصدق في الرد
بيمينه، فلو استأجر جملاً إلى محل بعيد فأعيا في الطريق وعجز عن إيداعه أميناً
وخاف على نفسه أو ماله فتركه لم يضمنه، إذ لا يلزمه التغرير بنفسه، كما لو وقع
حريق وعنده ودائع فنقل متاعه أولاً وتلفت هي.
(مسألة: ش): لا خلاف أن المستعير والوديع لا يخاصمان، وكذا المرتهن
والمستأجر على المنصوص، وقيل يخاصمان، ونقله الإمام عن المحققين وقطع به، وجزم به
الغزالي في بسيطه ووسيطه، والبغوي والقفال، وعلى الأول لو غاب المالك أقام الحاكم
من يدعي له، نعم لهما حضور محل الخصومة لتعلق حقهما بالمأخوذ، هذا إن لم يكن
المتلف أو الغاصب الراهن أو المؤجر، وإلا فلهما مطالبته لئلا يفوت حقهما.
(مسألة: ش): يصح
الاستئجار على القراءة عن الميت ولو كافراً على الأوجه عند رأس القبر أو مطلقاً
ويحمل عليه، وكذا عن الحي بحضوره لانتفاعه بسماعه الذكر، ولا يصح عن ميت غائب، لا
بشرط الدعاء له بمثل ما حصل له من الأجر، لا بنية ثوابها له فقط خلافاً للسبكي،
ولا بإهدائه له بعدها على المعتمد، خلافاً للأزرق والأئمة الثلاثة القائلين بحصول
نفس الثواب للميت، فعليه يصح الاستئجار كذلك
(مسألة: ك): استؤجر لقراءة شيء معين من القرآن لشخص، واستؤجر لقراءة ذلك
المعين أيضاً لآخر، فاقتصر المستأجر على قراءة المعين، ثم أهدى ثوابه للشخصين،
فالذي يظهر وهو الأحوط أنه لا يكفي على المعتمد الذي رجحه ابن حجر من حصول نفس
الثواب، أما على ما اعتمده السيوطي من أن الجعل على الدعاء فيكفي، وينبغي أن يحافظ
الأجير على قراءة البسملة أوّل كل سورة غير براءة، إذ أكثر العلماء يقول إنها آية،
فإذا قرأها كان متيقناً قراءة الختمة أو السورة، خصوصاً من استؤجر أو جوعل على
قراءة الأجزاء والأسباع فيبرأ بيقين، وإلا فلا يستحق الأجرة لما أخل به عند من
يقول إنها آية، ولو أخل ذو وظيفة كقراءة بها في بعض الأيام لم ينقطع استحقاقه لغير
مدة الإخلال.
(مسألة: ب): أخلّ الأجير بشيء مما استؤجر عليه، فإن كان لعذر ولم تمكنه
استنابة من يقوم مقامه فينبغي أن لا يأثم، لكنه لا يستحق شيئاً مدة الإخلال ولو في
النادر، إلا إن كان من المستثنيات شرعاً، أو استثنى عند العقد أو لغير عذر وأمكنه
الاستنابة حيث جوّزناها بأن وردت الإجارة على الذمة فلم يستنب أثم.
(مسألة: ك): لا تكفي قراءة قل هو الله أحد ثلاثاً لمن استؤجر على قراءة
ختمة كاملة، بل لا بد من قراءة جميعها لأنه مستأجر على الجميع، فلا يخرج من العهدة
إلا بالإتيان بجميع العمل، وإن قلنا إن ثواب قراءتها كثواب من قرأ ثلث القرآن.
(مسألة: ب): قال في الأحياء: وفي أخذ الأجرة على نحو إمامة
الصلاة والأذان والتدريس وقراءة القرآن خلاف، وكره السلف أخذ الأجرة على كل ما هو
من قبيل العبادات وفروض الكفايات، كغسل الأموات والأذان والتراويح، وإن حكم بصحة
التأجير عليه، وكذا تعليم القرآن والعلم، فإن هذه الأعمال حقها أن يتجر فيها
للآخرة، ومن صيغ إجارة العين: استأجرتك أو اكتريتك لتؤذن وتقيم الصلوات الخمس في
مسجد كذا، أو تقرأ فيه جزءاً مثلاً سنة بأجرة كذا، وفي إجارة الذمة: ألزمت ذمتك،
أو أسلمت إليك هذه الدراهم في الأذان للصلوات الخمس، فيقبل الأجير من غير أن يتخلل
فصل مضر، ويشترط في إجارة الذمة
تسليم الأجرة في مجلس العقد.
إحياء الموات
(مسألة: ش): الأرض الإسلامية التي لم يعلم لها سبق إحياء، وكذا لو علم ولم
يدرأ جاهلية أم إسلاماً على الراجح، إذ الأصل الإباحة يجوز إحياؤها ولو بلا إذن ذي
الولاية، نعم يسن استئذانه خروجاً من الخلاف، بل لو خاف الفتنة وجب اهـ. وعبارة ج:
أرض موات في سفح جبل على أصلها من اشتباك الحصى بعضه ببعض لم تعمر الحرث قطعاً
وبغيره ظناً، فأحياها شخص ملكها ما لم تثبت عمارتها بالإحياء قبل بشرطه.
(مسألة: ي): كل أرض
حكم بأنها إسلامية لاستيلاء المسلمين عليها أولاً، وإن استولى عليها الكفار بعد
ومنعوا المسلمين منها كغالب أرض جاور حكمها حكم الموات، فإذا أحياها المسلم لا
غيره ولو ذمياً أذن له الإمام ملكها، سواء علم أنها لم تعمر قط أو شك، وليس بها
أثر عمارة، وكذا لو عمرها كافر قبل استيلاء المسلمين أو بعده، ولم تدخل تحت يد
مسلم قبل العمارة أو بعدها، كما لو شك في العمارة هل هي إسلامية أو جاهلية ولم تكن
تحت يد أحد وإلا فلذي اليد ولو كافراً، وإن حكمنا بعدم صحة إحيائه لها لكونها دار
إسلام، لأن اليد دليل الملك، والأصل وضعها بحق إلى أن يثبت نقيضه، ويتصوّر دخولها
في يده بنحو شراء ونذر، لأن الأصل في الأموال التي الأيدي حلها لمن هي في يده،
وقبولها تصرفاتهم وجواز التراضي عليها، وإن علم أن العمارة إسلامية ولم تكن تحت يد
أحد فمال ضائع يحفظ إن رجي مالكه وإلا فلبيت المال.
(مسألة: ش): لا يجوز إحياء حريم القرية كالقضاء الذي خلل البيوت والخارج
عنها المحوط بما يملكه به من أراد السكنى، وحريمه لا حريم محجر عليه بنحو حطب وقصب
فيجوز إحياؤه، وكذا المحجر عليه نفسه لكنه يأثم اهـ. قلت: قال في التحفة: منفعة
الشارع المرور فيه، ويجوز الجلوس فيه لاستراحة ومعاملة إن لم يضيق على المارة، ولا
يجوز لأحد أخذ عوض ممن يجلس به مطلقاً، ومن ثم قال ابن الرفعة فيما يفعله وكلاء
بيت المال من بيع بعضه زاعمين أنه فاضل عن حاجة الناس: لا أدري بأي وجه يلقى الله
تعالى فاعل ذلك، وشنع الأذرعي أيضاً على بيعهم حافات الأنهار، وعلى من يشهد أو
يحكم بأنها لبيت المال، قال:، أعني الأذرعي، وكالشارع فيما ذكر الرحاب الواسعة بين
الدور، فإنها من المرافق العامة كما في البحر، وقد أجمعوا على منع إقطاع المرافق
العامة كما في الشامل اهـ.
(مسألة: ك): اعتاد بعض السلاطين حجر الموات لنفسه فيقول: هذه البقعة ملكي
فمن زرع فيها فعليه
كذا، لم يصر بذلك محيياً للأرض، بل من أحياها الإحياء المعروف ملكها إذ الأرض لا
تملك إلا بالإحياء أو بإقطاع الإمام أقطاع تمليك، نعم له أن يحمي مواتاً لنعم من
يضعف عن الإبعاد ورعي خيل جهاد ونعم نحو جزية، فلو رعاه غير أهله لم يضمن، لكنه
يأثم ويعزر، ولا يحمي الإمام لنفسه بل لا يدخل نعمه فيما حماه للمسلمين، ويحرم عليه
أخذ العوض ممن يرعى في حمى أو موات أو يجلس في الشارع.
(مسألة: ك): حجر
السلطان بعض المعادن كالماس والذهب من غير إحياء تلك البقع، بل أمر أناساً
باستخراجه، فإذا استخرجوه ترك لهم الصغير وأخذ القطع الكبار بثمن قليل، ونهاهم عن بيعها
لغيره، بل لو علم بيعهم لغيره عذبهم بأنواع العذاب، أثم بذلك إثماً عظيماً، إذ
المعادن الظاهرة لا تملك بإحياء ولا إقطاع بقعة ونيل ولا يثبت فيها تحجر، كما أن
المعادن الباطنة كالنقدين والحديد والياقوت لا تملك بالحفر والعمل أيضاً، ولا
بالإحياء في موات، ولا يثبت فيها اختصاص بحجر، نعم يجوز للإمام إقطاعها إقطاع
إرفاق لا تمليك، فإن أحيا معدناً مع العلم به لم يملكه ولا بقعته أو مع الجهل
ملكه، فحينئذ قول السلطان هو ملكي لا أثر له، ولا يملك ما يأخذه منهم بل هو من
جملة أكل أموال الناس بالباطل، ومن أخذ من معدن شيئاً لم يحزه غيره ملكه ما لم ينو
به غيره وله بيعه ممن أراد، ولا يجب عليه امتثال أمره باطناً، بل ولا ظاهراً،
والفرق بينه وبين التسعير ظاهر.
(مسألة: ج): الماء الخارج من الوادي المباح يتبع فيه العادة المطردة من
تقديم وتأخير، ويردّ كل شيء إلى عادته الأصلية بنظر أهل الخبرة والأمانة.
(مسألة: ش): أرض عليا
مستحقة السقي قبل غيرها، أراد صاحب السفلى أن يسقي قبله أثم ولزمه إرساله للعليا،
كما لو أذن له الأول في السقي قبله ثم أراد الرجوع فيمكن منه وجوباً إذ هو أباحه،
وليس للثاني إرساله
لمن هو أسفل منه مطلقاً، ولا لأحد منازعة المتقدم، نظير ما لو أدبر نحو ما على
اليمين، فقدم المستحق غيره ممن هو عن يمينه، فلا يكون ما بعده أحق من المقدم، وإن
لزم رجوعه يسار الشارب تنزيلاً لهما منزلة الشارب الواحد.
الجعالة
(مسألة: ك): انكسر مركب في البحر فأمر صاحبه أن كل من أخرج من المتاع شيئاً
فله ربعه مثلاً، فإن كان المجعول عليه معلوماً عند الجعيل بأن شاهده قبل الغرق أو
وصفه له صح العقد واستحق، وإلا فسد واستحق أجرة المثل.
[فائدة]: تجوز الجعالة
على الرقية بالجائز كالقرآن، والدواء كتمريض مريض وعلاج دابة، ثم إن عين لها حداً
فذاك، وإن لم يعين ما جوعل فيه بضبط فله أجرة مثله، فإن قيد بالشفاء استحق ما ذكر
به لا قبله اهـ قلائد.
الوقف
(مسألة: ش): باع أرضاً ثم ادعى أنها موقوفة وأنه باعها مكرهاً، فإن صدقه
المشتري حكم بالوقف، وإلا فإن شهدت بينة حسبة فيما إذا كان الوقف على جهة أو
أقامها المدعي مطلقاً ولم يصرح حال البيع بأن الأرض ملكه، أو حلف المردودة بعد
نكول المشتري عنها حكم به أيضاً، ولزم المشتري أجرة الأرض في الصورتين، معتبرة بكل
وقت زيادة ونقصاناً، ولا أثر لدعوى المشتري نسيان الوقف إلا في سقوط الإثم فقط، ثم
إن لم يفسق البائع لعذر الإكراه فنظره إن كان ناظراً باق، وإلا لم يعد حتى تصح
توبته.
الصيغة والموقوف
(مسألة: ب): قال: وقفت هذا لله تعالى ولم يبين المصرف، اعتمد ابن حجر عدم
صحة الوقف، وفرق بينه وبين وقفته لسبيل الله بأن لسبيل الله مصرفاً معلوماً يحمل
الوقف عليه، قال: وإنما صح أوصيت به لأن الغالب صرفها للفقراء، واعتمد أبو مخرمة
صحة الوقف المذكور كالوصية، وجعل مصرفه وجوه القرب وإليه أميل، ولو قال: تصدقت
بكذا على مسجد كذا، ولم يقل بعده صدقة محبوسة أو مسبلة أو موقوفة أو لا تباع أو
محرمة ونحوها كان كناية في الوقف، فإن علمت نيته، وإلا فتمليك محض للمسجد فيجوز
بيعه والمبادلة به بشرطه، بل قد يجب نحو البيع إن خيف استيلاء ظالم عليه، ويصرف ما
اشتراه أو استبدله مصرف الأوّل.
(مسألة: ج): وقف على معين اشترط قبوله على ما في الروضة لكن الراجح ما في
المنهاج من عدم الاشتراط.
(مسألة: ي): لا يصح
تعليق الوقف، فلو قال: وقفت داري قبل مرض موتي بثلاثة أيام أو قبل موتي بلحظة
مثلاً لم يصح، نعم يستثنى من عدم صحة التعليق مسألتان: الأولى كل ما يضاهي التحرير
وهو ما اتفق على أن الملك فيه لله تعالى، كالمساجد والمدارس والمقابر والربط فيصح
تعليق وقفها مطلقاً. الثانية تعليقه بالموت كوقفت داري بعد موتي، أو إذا مت فهي
وقف على كذا فيصح أيضاً، ويقع الوقف بعد الموت، ويسلك به مسلك الوصية من كونه يقبل
الرجوع اتفاقاً، وكونه من الثلث، ومن أنه لا بد فيه من الإجازة إن كان لوارث، ثم
يصير حكمه حكم الوقف.
(مسألة): لو نجز الوقف وعلق الإعطاء للموقوف عليه بالموت جاز، كما نقله
الزركشي عن القاضي حسين، قاله في الإقناع والمغني، ومثلهما التحفة والنهاية قالا:
وعليه فهو كالوصية اهـ. أي فيسلك به مسلكها في أحكامها كالمعلق بالموت. وقال (بج):
واستشكل هذا بأن منافع الموقوف للواقف في هذه الحالة، فما الفائدة للفقراء في
الوقف؟ وأجيب بأن الفائدة فيه لهم انتقال الوقف إليهم بعد موته، وهذا يشبه الحيلة
في الوقف على النفس، لأن الفائدة في هذه تكون له مدة حياته، وإن لم يكن موقوفاً
عليه مدة حياته فهو يشبهه.
(مسألة): الحيلة المباحة لمن أراد وقف شيء من عقار أو منقول، وأن تبقى غلته
ومنافعه له مدة حياته، ولا يستحقها الموقوف عليه إلا بعد موته أن ينذره بمنافع
وغلة ما يريد وقفه لشخص معين مدة معلومة كمائة سنة مثلاً، ثم يقف ذلك على من أراد
فيصح الوقف ويكون مسلوب المنفعة تلك المدة، ثم بعد نفوذ الوقف ينذر المنذور له
للناذر بما نذر به له، فتعود العلة أو المنفعة في تلك المدة للواقف ولوارثه بعده،
فإذا أراد الواقف إعطاءها أي المنافع والغلة للموقوف عليه بعد موته أي الواقف وقبل
مضي تلك المدة فلينذر بها له نذراً معلقاً بموته أو يوصي له بها، فحينئذ تكون
الغلة أو المنفعة المذكورة بعد موت الواقف للموقوف عليه لا قبله، وصار ذلك كأنه
وقف معلق بالموت، لكنه يخالفه في أنه لا يحسب من الثلث بل يكون من أصل التركة، وفي
أنه لا يشترط إجازة بقية الورثة فيما لو كان لوارث، نعم تحسب من الثلث بقية المدة
من الغلة المنذورة أو الموصى بها للموقوف عليه كما هو معلوم، فإذا بقي بعد موت
الواقف عشرون سنة من المائة المذكورة مثلاً، فتقوّم العين الموقوفة حينئذ
بمنافعها، ثم تقوم ثانياً مسلوبة المنفعة تلك المدة الباقية بعد الموت، فما نقص من
قيمتها حينئذ حسب من الثلث، وهذا كله حيث كان الوقف في حال الصحة، فإن كان في مرض الموت
كان حكمه حكم الوصية اهـ.
[فائدة]: تشترك الجمل والمفردات المعطوف بعضها على بعض بواو، أو لم يعطف في
وصف تقدم أو تأخر، واستثناء أو شرط، أو ضمير صلح للجميع، سواء نوى عوده للجميع أو أطلق أو لم تعلم نيته، هذا إن لم يتخلل
بين المتعاطفين كلام طويل، وإلا فلا اشتراك حينئذ، وأفهم قوله بواو أن العطف
بالفاء، وثم لا ترجع معه الصفة والاستثناء إلى الكل وهو المعتمد اهـ فتح ومثله
التحفة، واعتمد الخطيب و (م ر) وأبو مخرمة أن الثلاثة الأحرف سواء بخلاف بل ولكن.
(مسألة): يجوز للمتعهد
وقف النخل المعهد، وإذا فك اشترى الحاكم بدله ووقفه، قاله أبو مخرمة، وقال غيره:
لا ينفك بل يستمر عليه حكم الوقف ويعطى المعهد زائد القيمة بين العهدة والقطع،
قال: وهو الأحوط.
(مسألة: ش): وقف أرضاً
على أبيه على ثلاثة قراء مجهولين يقرأون كل يوم ثلاثة أجزاء لم يصح وقفه، لأنا إن
جعلناه على جهة عامة نافاه الحصر في قوله على ثلاثة قرّاء، وإن جعلناه على معين
فلا تعيين، نعم لو قال: وقفت هذا على من يقرأ كل يوم كذا على قبر أبي وقد عرف
قبره، أو في مسجد كذا صح وكان وقفاً على جهة، أو على زيد مثلاً على أن يقرأ كما مر
صح وكان وقفاً على معين، لكن شرط صحته في سورة القراءة على القبر إمكانها بأن علم
القبر وإلا لم يصح الوقف أصلاً.
(مسألة: ك): وقف جميع ما يملكه على ذريته، وله عقار ونخيل ومواش، نفذ في
الجميع إن كان مكلفاً رشيداً غير محجور عليه بمرض أو فلس عالماً بما وقفه ولو
مديناً ولا يدفع منه شيء لغير الموقوف عليهم، فإن كان في حال المرض لم ينفذ إلا
بإجازة جميع الورثة بعد الموت، فإن أجاز بعضهم نفذ فيما أجازه، نعم تنفذ إجازتهم
في قدر الدين الذي على الواقف حيث لم يبرأ منه اهـ. قلت: وقوله عالماً بما وقفه
قال في التحفة والنهاية: شرط الموقوف كونه عيناً معيناً مملوكة ملكاً يقبل النقل،
ولكن لا تشترط الرؤية للموقوف فيصح وقف الأعمى، وقال في الفتح: يصح وقف ما لم يره
اهـ.
(مسألة: ك): يصح وقف الإمام أراضي بيت المال على جهة ومعين على المنقول
المعمول به بشرط ظهور المصلحة في ذلك، إذ تصرفه منوط بها كوليّ اليتيم، ومن ثم لو
رأى المصلحة في تمليك ذلك لهم جاز، قاله في النهاية ومثلها التحفة وزاد فيها بشرط
أن يكون الإمام رقيقاً لبيت المال، وأعتقه ناظره قال: فالأتراك لا يعمل بشيء من
شروطهم في أوقافهم كما قاله أجلاء المتأخرين، لأنهم أرقاء بيت المال وعتق رقيق بيت
المال غير صحيح.
(مسألة: ك): وقف عشر نخلات على آخر وشرط أنهن محررات، ومعنى محرر عندهم أنه
يسقى ويحفظ من مال الواقف وليس على الموقوف عليه خسر، فإن عين الواقف جهة للخسارة
المذكورة صرفت منها، وإلا
فأجرته منه لا على الواقف ولا ورثته كما أفهمه كلامهم.
(مسألة: ك): وقف نخلة
فقلعت بقيت الأرض وقفاً، ثم إن غرسها الموقوف عليه وإلا أجرت بما يعمرها كما قاله
في التحفة والنهاية، فيما إذا وقف داراً على معلم الصبيان أو على أن له أجرتها
فخربت ولم يعمرها الموقوف عليه أنها تؤجر بما يعمرها للضرورة، هذا إن كانت الأرض
موقوفة مع النخلة، وإلا فهي ملك للواقف ووارثه، إذ لا يدخل المغرس في وقف النخلة
كما لا يدخل في بيعها.
[فائدة]: تنجس فمه
وأراد الشرب من المال المسبل للشرب، فإن كان بحيث يطهر بمجرّد جري الماء فله الشرب لحصول زوال النجاسة من الحكم
بطهارة الغسالة وإلا حرم غسل فمه منه، فإن شرب حينئذ من غير أن يضطر حرام من حيث
شرب النجس فقط، نعم إن اطرد عرف عمل به اهـ بامخرمة.
(مسألة: ش): حكم الشجر
النابت في أرض موقوفة لسكنى المسلمين أو المقبرة المسبلة أو الموقوفة الإباحة
تبعاً لها، لكن قال الحناطي: الأولى صرف ثمرها لمصالح الوقف، أما الموقوفة على
طائفة مخصوصة فتختص بهم، فمن أخذ منهم شيئاً ملكه، وإن أخذه غيرهم ضمنه ويبرأ
بدفعه لواحد منهم، والأولى دفعه للحاكم ليصرفه في مصالحها، كحفر بئر بها وتسويتها،
كما لو استوفى شخص منفعة الأرض بنحو زرع وغرس.
(مسألة: ي): الموقوف على ذرّية شخص كوقف الشيخ عبد الله بن يس، لا يصح بيعه
ولا بيع الحصص قطعاً ولا هده ولا رهنه اتفاقاً، لأن شرط الرهن كونه عيناً يصح
بيعها، ومن شروط البيع العلم بالمبيع ورؤيته وملكه، وبفقد واحد منها يبطل فكيف
بفقد كلها؟ إذ رقبة المال موقوفة لا يصح بيعها، والغلة مجهول قدرها وغير مملوكة
للعاقد، فحينئذ ما قبضه المعطي من الغلة والآخذ من مقابلها مضمون عليها ضمان غصب،
نعم إن نذر غير المحجور بغلة السهم الذي يخصه فقط لا مما يخص موكله ومحجوره بصيغة
صحيحة منجزاً أو
معلقاً صح، ولا يضمن المنذور له في مقابله شيئاً في حكم الظاهر ويبطل بموت الناذر.
الموقوف عليه
(مسألة): شرط الموقوف عيه معيناً كان زيد وذرية فلان، أو جهة كالفقراء
والمساجد ونحوهما كونه أهلاً للتملك، فخرج به من سيولد لي أو ولدي ولا ولد له
والحمل، ونحو المرتد والعبد لنفسه، فإن أطلق فلمالكه، وكبهيمة غير موقوفة إلا إن
قصد مالكها فهو وقف عليه، نعم يصح الوقف على حمام مكة وكبئر وساقية ودار لعمارتها،
لا إن قال لطارقها فيصح إذ هم الموقوف عليهم حينئذ، نعم إن كانت موقوفة صح الوقف
كنحو رباط وبئر موقوفين أو مسبلين، لأن حفظ العمارة حينئذ قربة، قاله في الإمداد
والنهاية وغيرهما، ويؤخذ منه أن المصلي كذلك أي إن وقف للصلاة فيه أو نص الواقف
على أنه لمن يصلي فيه صح وإلا فلا فليتنبه لذلك.
(مسألة: ي): المراد بالقرابة والرحم، فيما إذا وقف شخص أو أوصى لأقاربه أو
رحمه أو أقارب أو رحم غيره كل قريب من الجهتين، والعبرة فيه بأقرب جدّ ينسب إليه
ذلك الشخص أو أمه، ويعدون قبيلة إذا علمت ذلك، فعدّ من أبي الواقف وأبي أمه إلى أن
تنتهي إلى أقرب جدّ يعدّون أولاده قبيلة واحدة، فجميع ذرّية هذين الجدين أعلاهم،
وذكرهم وغنيهم وأضدادهم من تلك القبيلة وغيرها كأولاد البنات أرحام الواقف تجب
التسوية بينهم واستيعابهم وإن شق الاستيعاب، نعم لا يدخل ورثة الواقف فيما إذا وقف
على قرابة نفسه أو رحمه، فإن تعذر حصرهم وجب الاقتصار على ثلاثة فأكثر، لكن يلزم
الوصي تقديم الأحوج فالأحوج، فإن استووا قدم الأقرب، وطريق العلم بذلك إما معرفة
الناظر أو شهادة رجلين بأن هذا من ذرّية إحدى القبيلتين، أو كتب النسب الصحيحة
كشجرات السادة بني علوي، ومن مات من المستحقين رجعت حصته لبقية الأرحام جميعهم لا
لخصوص ورثة الميت، ومثل الوقف في جميع ما ذكر الوصية، لكن يفارقها في أنه يدخل في
الوقف من كان موجوداً ومن حدث بعده إلى الأبد إلا الحمل فلا يستحق شيئاً من غلة
وجدت قبل انفصاله.
(مسألة: ش): وقف بيتاً على ذرّيته وذريتهم ما تناسلوا، فمات عن بنتين
اشتركتا ثم من حدث من أولادهما شارك بالسوية عملاً بقضية الواو، ولا شيء لعصبتهم
إذا لم يكونوا من الذرية.
(مسألة: ب): وقف على
ذريته، دخل أولاد البنات وإن قصد من ينسب إليه فقط، أو لم يعرف في لغة جهته أن
أولاد البنات يدخلون في الوقف على الذرية ما لم يخصصهم لفظ حال إنشاء الوقف عملاً
بعموم اللفظ في دلالته على الحقائق الثلاث، يعني الشرعية واللغوية والعرفية، ولأن
المراعى في الأوقاف والوصايا والنذور ونحوها إنما هو دلالة الألفاظ لا المقصود إلا
إن علمت واحتملها اللفظ.
(مسألة: ب): وقف على ولديه ثم أولادهما الذكور المنسوبين إليه أبداً ما
تناسلوا، ومن مات وله عقب فنصيبه لعقبه الذكور، ثم أولادهم المنسوبين إليه ما
تناسلوا، فمات أحد الابنين في حياة الواقف بلا عقب، ثم الآخر عن ثلاثة بنين فقسم
أثلاثاً، ثم مات أحدهم عن ابن فأخذ نصيبه، ثم الثاني عقيماً كان نصيبه لأخيه، ثم
مات هذا الأخ الثالث عن ثلاثة قسم جميع الوقف بين الكل بالسوية على المعتمد الذي
رجحه ابن حجر وغيره، وهكذا كل درجة بعد انقراض ما قبلها يصيرون شركاء على حسب الرؤوس،
إذ كل طبقة إنما يتلقون من الوقف لا من الذين قبلهم، ومعنى تلقيهم منه أن
الاستحقاق لجميعهم بحسب ما نص عليه الواقف.
(مسألة): وقف على أولاده دخل الذكر والأنثى والخنثى لا الحمل والمنفي ولا
أولاد الأولاد، نعم إن لم يكن له إلا الأحفاد دخلوا كما في الإرشاد، قال (ع ش):
ولو بوسائط فيدخل الجميع ويشتركون اهـ. ونقل في التحفة عن الرافعي أنه لا تدخل
الأخوات في الوقف على الإخوة بخلاف الأولاد، لأن هذا اللفظ لا مقابل له يميزه
بخلاف الأوّل، قال: ولو وقف على زوجته أو أم ولده ما لم تتزوّج بطل حقها بتزوّجها
ولم يعد بتعزبها، بخلاف نظيره في بنته الأرملة لأنه أناط استحقاقها بصفة وبالتعزب
وجدت بخلاف نظيره في الزوجة اهـ. وأفتى الماوردي والسمهودي باستحقاق الزوجة
كالبنت.
[فائدة]: أفتى محمد باسودان بأن من استعار من طلبة العلم كتاب وقف من طالب
آخر لا يلزمه ردّه إليه إذا طلبه الأول، إذ هو مستحق الانتفاع به مثله، قال: ثم
رأيت في القلائد ما يقتضي أنه إن شرط عليه ردّه لزم وإلا فلا اهـ.
[فائدة]: وأفتى علي بن
قاضي في وقف على مصرفين معينين وأحدهما يحتاج إلى أضعاف ما يحتاجه الآخر، ولم يعلم
في ذلك تفصيل ولا عادة نظارمعتبرين بأنه يتعين الرجوع إلى اعتبار النظر إلى
المصارف وإعطاء كل ما يقتضيه العرف بالنسبة إلى زيادة كلفته ووجود حاجته على
الآخر، فإذا قضى العرف في موقوف على مسجد وسقاية مثلاً بأن المسجد يحتاج إلى ثلاثة
أرباعه لكثرة مصارفه ونحو السقاية يحتاج إلى ربع جعل الوقف بينهما كذلك، واستدل
بعبارات من الإمداد والعباب اهـ.
[فائدة]: ومن أثناء جواب لمحمد باسودان في الوقف المنقطع الآخر قال: فتقدم
البنوّة الأقرب فالأقرب فابن بنت مقدم على ابن ابن ثم الأبوان ثم الأخوة ثم
الجدودة وهكذا على عدد رؤوسهم. قال: ثم ليعلم السائل أن قولهم: يصرف إلى أقرب
الناس رحماً لا إرثاً أنه إذا كان الأقرب وارثاً استحق إذ الإرث غير مانع ولا
مرجح، نعم ينبغي لمن رفعت إليه مثل هذه الواقعة وظهر له فيها قرينة الحرمان أن
يرشدهم إلى تقليد القائلين ببطلان الوقف، وهو ما ذكره ابن حجر في التحفة عن غير
واحد من الأئمة، وإن رجح هو كالخطيب و (م ر) الصحة، إذ العمل بالقول الضعيف لمن
أراد التقليد صحيح، كما قرره الكردي في الفوائد المدنية اهـ.
(مسألة: ش): الذي يظهر في الوقف المنقطع الآخر أنه لا يعتبر فيه شرط الواقف من تفضيل الذكر
واستحقاقه على الأنثى، بل ينتقل لأقرب الناس إلى الواقف حين انقطاعه بالسوية، فلو
حدث آخر في درجتهم شارك، كما لو مات الأقرب وخلف أولاداً وكان في درجتهم آخرون
فيقسم الجميع بالسوية أيضاً وهكذا كل درجة، بل لو حدث من هو أقرب إلى الواقف من
الموجودين انتقل الاستحقاق إليه.
حكم النظر وتلف الوقف
[فائدة]: ذكر الدميري حديث: "إذا أحب الله عبداً جعله قيم مسجد، وإذا
أبغضه جعله قيم حمام".
(مسألة: ي): يتبع في
النظر ما شرطه الواقف بترتيبه، فمن كانت النوبة له وتأهل للنظر فله الولاية، فإن لم يتأهل لصغر أو جنون أو
عدم كفاية انتقلت إلى الحاكم إلى كماله، فعلم أنه لا ولاية لوصي الوصي ولا لمتأخر
مع وجود متقدم ناقص، فلو استولى شخص بلا تولية ولا نظر حرم ولزم الحاكم نزعه منه،
فإن ادعى شرط الواقف وأن يده بحق قال أبو مخرمة وجماعة من السادة العلويين وغيرهم:
لا يصدق إلا ببينة. وقال ابن سراج والسيد طه بن عمر: يصدق ذو اليد والقلب إلى
الأوّل أميل، نعم إن كان المتولي ومن قبله من صلحاء البلد وقصد حفظه لعدم الحاكم
أو جوره كان محسناً، لأن المراد بالحاكم حيث أطلق العدل الأمين كامل النظر فغيره
كالعدم، فحينئذ يلزم صلحاء أهل بلد الوقف تولية أهل لذلك وإلا أثموا، ولزم من تحت
يده الوقف التصرف فيه إن كان أهلاً وإلا دفعه إلى أهل اهـ. قلت: ووافق ابن سراج
والسيد طه الطنبداوي والعلامة أبو بكر بن شهاب الدين وابن زياد وأبو حويرث وأبو
بحير، ونقله في الدشنة عن فتاوى ابن عمر، وعبارة (ب): لا ولاية شرعية في أموال نحو
المساجد للآحاد مع وجود قاض أمين بل مع عدمه أصلاً، أو كونه غير أمين بحيث لو سلم
إليه المال مثلاً خيف ضياعه، فحينئذ يسوغ لمن بيده المال أن يصرفه في مصارفه ويقوم
مقام الإمام العادل، فلو مات قيم نحو المسجد حينئذ فقامت بنته مقامه، فإن استوفت
شروط النظر فهي قائمة مقام القيم، فتصرفها الجاري على الوجه الشرعي جائز للضرورة
ويلزمها أن لا تتعدى المصلحة، فلو وجدت من يقوم بالمصلحة بأجرة ناقصة فأجرت بأكثر
أو تركت عقد الإجارة أثمت.
[فائدة]: وقف على كذا وجعل النظر للأكبر الأصلح من أولاده ثم أولادهم ما
تناسلوا، فاتفق أن الأكبر صالح والأصغر أصلح مع استواء الدرجة، فالظاهر أن النظر
للأول، لأن مفهوم الأكبر أخرج الأصغر مطلقاً، ولو انفرد صاحب الطبقة العليا وكان
صالحاً استحق النظر كما في التحفة اهـ علي بن قاضي.
(مسألة: ب): وظيفة
الولي فيما تولى فيه حفظه وتعهده والتصرف فيه بالغبطة والمصلحة وصرفه في مصارفه
هذا من حيث الإجمال، وأما من حيث التفصيل فقد يختلف الحكم في بعض فروع مسائل
الأولياء، وحينئذ فإذا أعطى جندي مثلاً وليّ المسجد مالاً للمسجد ملكه إياه فرده،
فإن عد مقصراً برد المال بأن لم يكن ثم موجب لرده أثم ولزمه طلبه، فإن أنكره
الجندي لزمه طلب يمين الإنكار إن لم يلحقه ضرر بطلبها لعله يقرّ ويرد ما أخذه أو
بعضه، وتجوز بل تجب عليه المعاوضة في ملك المسجد إن رأى المصلحة، كأن كانت أرض
المسجد لا تحرث أو تحرث نادراً، فرغب فيها شخص بأرض تحرث دائماً، ويكون بصيغة
المعاوضة أولى فيكتب في الصيغة: أما بعد فقد صار الزبر الفلاني المحدد بكذا لمسجد
كذا من فلان بالمعاوضة الشرعية المستكملة للشروط والأركان، فصار الزبر المذكور
ملكاً من أملاك المسجد قطعاً قلاطاً، وتعوض فلان المذكور في مقابلة ذلك ما هو ملك
المسجد المذكور وهو الزبر الفلاني بحدوده الأربعة على لسان القيم والوالي شرعاً على
المسجد المذكور فلان بن فلان وذلك بعد ظهور الغبطة والمصلحة، وله أن يقاسم عن
المسجد كسائر التصرفات.
[فائدة]: يجوز للقيم الجري على سنن النظار الأولين المعتبرين، فيضيق بحسب
العادة منهم كما أفتى به النووي، وإن كانوا عامية لا يعلم فسقهم كما يرجع إلى
الدفاتر المتقدمة من النظار ويتبع ما فيها لأن الظاهر استنادهم إلى أصل قاله ابن
زياد، وقال أبو مخرمة: يتبع العرف المطرد القديم من غير نكير في مصرف الوقف، كما
لو كان الوقف مشهور بوقف الجامع، ويصرف منه النظار المتقدمون على مساجد أخر فيتبع
عملهم، إذ العادة المرضية القديمة كشرط الواقف اهـ.
[فرع]: أفتى القفال بأن ناظر الوقف لو أجره سنين وأخذ الأجرة لم يعط البطن
الأول منها إلا بقدر ما مضى من الزمان، وإلا ضمن الزيادة للبطن الثاني إذا مات الآخذ، وأخذ منه الزركشي أنه
لو أجره الموقوف عليه لم يتصرف في جميع الأجرة لتوقع ظهور كونه لغيره بموته، لكن
صرح ابن الرفعة بأن له ذلك لأنه ملكه في الحال، وفصل السبكي بين طول المدّة وقصرها
قال: فإن طالت بحيث يبعد احتمال بقاء الموجود من أهل الوقف منع من التصرف وإن قصرت
فلا، وأما صرفها في العمارة فلا مانع منه بحال اهـ، إمداد.
(مسألة: ب): ليس لناظر
الوقف وولي المحجور الاقتراض له لنحو نفقة وعمارة كإقراض ماله إلا بإذن الواقف أو
الحاكم ولو بقوله في خط النيابة: وأذنت له أن يقرضه ويقرض ماله، فيرجع به حينئذ في
ماله بخلافه بلا إذن فلا رجوع، وإن كان المنفق الحاكم نفسه، نعم يصدق الأب والجد
في الإنفاق بنية الرجوع ويرجعان بذلك.
(مسألة: ش): ليس للناظر غرس الأرض الموقوفة لنفسه بالأجرة بلا إذن الحاكم
لتولي الطرفين، فإن فعل قلع مجاناً ولزمه أقصى الأجر يصرفها في مصالح الوقف، نعم
إن أذن الواقف في صلب الوقف لناظرها أن يغرسها أو يزرعها لنفسه أو اطرد العرف بذلك
جاز، لأن العادة المطردة المقارنة للوقف كشرط الواقف.
(مسألة: ش): عمر أحد
الموقوف عليهم الوقف فلا شيء له إن كانت العمارة أثراً، فإن كانت عيناً أجنبية
كأخشاب وآجرّ فهي على ملك واضعها، ثم إن كان ناظراً أو أذن له الناظر في ذلك كان
عارية له الرجوع فيها، ويخير الناظر بين الإبقاء بالأجرة من غلة الوقف والقلع
بالأرش، وإن لم يكن كذلك فلا قلع ولا أجرة لتعديه، بل إن قلعه هو أثم ويلزمه أرش
النقص، كما لو أدخل ديناراً محبرة غيره.
(مسألة: ش): ناظر الوقف على القراءة إذا عمل بنفسه، فإن نص الواقف على
استحقاقه في صلب الوقف كأن قال: فإن قرأت بنفسك فلك المشروط، أو اطرد عرف بذلك حال
الوقف استحق ما شرط وإلا فلا، ومثله الوصي بالإحجاج، وهذا نظير ما لو قال فرق ثلثي
فإنه لا يأخذ لنفسه مطلقاً، وكذا لأصله وفرعه ما لم ينص عليهم، فإن استأجره الحاكم
للقراءة، قال الأصبحي وفقهاء زبيد: استحق، وقال غيرهم: إذ لا يتولى مع الناظر نظر
الوقف.
(مسألة ج): يجوز للناظر ولو من جهة الواقف عزل نفسه كالوكيل والولي،
فيتولاه غيره ممن شرط ثم الحاكم ثم أهل الحل والعقد من صلحاء البلد،نعم إن لم يوجد
صالح غير الناظر حرم عزله بل لا ينفذ كالوصي.
(مسألة: ي): ليس
للناظر العام وهو القاضي أو الوليّ النظر في أمر الأوقاف وأموال المساجد مع وجود
الناظر الخاص المتأهل، وليس للحاكم ولا غيره عزل الناظر من جهة الوقف، بل لا ينفذ
إلا إن فقدت أهليته، فينتقل النظر للحاكم مدة فقدها، ثم يعود بعودها من غير تولية،
وكذا لا يجوز عزله لو كان من جهة الحاكم على الراجح، نعم لو زالت أهلية هذا ثم
عادت لم يعد له النظر إلا بتولية جديدة.
[فائدة]: وقع بين رجل من أهل الوظائف بالظاء المشالة وبين الناظر تنازع،
فعزله عن وظيفته من غير مسوّغ شرعي لم يجز عزله، بل لا ينفذ العزل لمن كان قائماً
بوظيفته بشروطها من غير سبب شرعي، بل ذلك قادح في نظره، كما أفتى به الطنبداوي
وابن زياد، نعم إن كان الناظر موثوقاً بعلمه وديانته لم يلزمه بيان سبب العزل،
قاله في الفتح اهـ فتاوى عبد العزيز الحبيشي.
(مسألة: ك): أتلف العين الموقوفة شخص ضمنها واشترى الحاكم لا الناظر على
المعتمد بدلها وأنشأ وقفها بأحد ألفاظه المعتبرة، أما ما اشتراه الناظر من ريع
الوقف أو عمره منها، أو أخذه لجهة الوقف فالمنشىء هو الناظر، كما أن ما بناه من
ماله أو من ريع الوقف من الجدران الموقوفة يصير وقفاً بالبناء لجهته فلا يحتاج
حينئذ إلى لفظ.
[فائدة]: يد طالب
العلم على الكتب الموقوفة يد أمانة يضمن بما يضمن به الوديع، فحينئذ لو أراد السفر
لزمه التخلية بين الناظر أو وكيله وبين الكتاب، فإن فقد فالحاكم الأمين ثم الأمين،
فإن لم يفعل عصى بسفره، وإن تركه في حرزه وليس له إيداعه ولو لولده كما ليس له
إعارته لطالب آخر بغير إذن الناظر، ويصدق بيمينه في دعوى التلف بغير تقصير على
تفصيل الوديعة، هذا إن بقي على أمانته، فإن تعدى أو جحد ثم ادعى التلف قبله ضمن
كالغصب وصدق في التلف وقدر القيمة، واشترى الحاكم بالقيمة مثل التالف وإلا فبعضه ويقفه
بدله، ولا يصدق في الرد على من لم يأمنه من وكيل الناظر أو ناظر آخر، فإن ادعى
الرد من ائتمنه فقضية القاعدة الكلية وهي قولهم: كل أمين مصدق في دعوى الردّ على
من ائتمنه إلا المرتهن والمستأجر أنه يصدق كسائر الأمناء، ويحتمل عدم تصديقه أخذاً
من قولهم: من أخذ يميناً بإذن صاحبها لمصلحة نفسه لا يصدق في دعوى الرد، ويجوز
للناظر طلب الكتاب عند وجود المصلحة في أخذه، كتفقده ودفعه لأحوج من الأول، وخشية
مفسدة في إبقائه عند الطالب من نحو جحود واشتهار ملكه له لطول مدته عنده ونحو ذلك،
ويلزم الطالب التسليم حينئذ وإلا ضمن، ولو طلب منه الكتاب فادعى الرد ثم أقرّ به
وادعى التلف لم يصدق، وإن ادعى ثم غلطاً أو نسياناً لتناقض كلامه، نعم إن أقام
بينة شهدت بتلفه قبل دعواه الرد قبلت وحملت دعواه الرد على الغلط، وحيث لم تقم
بينة صدق في التلف وغرم القيمة، ولو شرط الواقف في صيغة الوقف أن لا يسلم الكتاب
إلا برهن وجب اتباع شرطه، فلا يسلم إلا برهن يفي بقيمته وهو رهن لغوي، إذ المقصود
منه مجرد الحمل على تذكره ورده سريعاً عند عدم الحاجة، فلا يتعلق به ضمان، ولا
يباع لو تلف الكتاب عنده ولو بتفريط، بل يرده الناظر ويطلب القيمة، ولا يقدر
الناظر المدة للطالب إلا إن شرطها الواقف أو اطردت عادة في زمن الواقف وعلمها
فيعمل به، فإن لم يكن شيء من ذلك فعل الناظر ما فيه المصلحة من غير تقييد بمدة،
ويحرم عليه أخذه من الطالب ومنعه منه من غير مصلحة مما تقدم، ومثل الناظر الحاكم
إن كان له النظر في الأوقاف، وإلا فليس له ولاية مع الناظر الخاص إلا إن فعل ما لا
يليق فيجب نهيه حينئذ، أما لو أمر بتقدير المدة ذوو الشوكة أو الحاكم الذي له
الولاية العامة وجب على الكل امتثال أمره، إذ تجب طاعته فيما لا معصية فيه ظاهراً
وباطناً إن كان ثم مصلحة وإلا فظاهراً فقط، فيجوز تأخير الرد حينئذ خفية ولا ضمان
اهـ فتاوى السيد عمر بن عبد الله بن يحيى.
(مسألة: ب): بيوت موقوفة على معينين أشرفت على الخراب بأن تعطل الانتفاع
بها من الوجه الذي قصده الواقف كالسكنى ولم يرغب فيها الموقوف عليهم، جاز للناظر
الخامس ثم العام أو نائبه ثم صلحاء البلد إجارة الأرض والبيوت مدة معلومة وإن طالت
كمائة سنة مثلاً، بحيث تفي تلك المدة بعمارة الوقف ورده على حالته الأولى أو
الممكن، ويتسامح بذلك للضرورة، مراعياً في الإجارة مصلحة الوقف لا الموقوف عليهم،
فتؤجر بأجرة مثلها معجلة كل سنة على حدتها ويحتاط لذلك، ولا يدفع للمستحقين شيء من
الأجرة ما دام الاحتياج إليها لعمارة عين الوقف، بل لو لم يرغب أحد في الوقف
المذكور إلا بشراء بعضه جاز بيعه في الأصح، قياساً على بيع حصر المسجد البالية
وجذعه المنكسر كما جرى عليه الشيخان، فتحصيل يسير من ثمنها يعود على الوقف أولى من
ضياعها، ويعمر بالثمن الباقي احتياطاً لغرض الواقف وبقية البطون، فإن تعذر انتفاع
الوقف بالثمن في عمارة عينه أو بدله بشرطه لقلته فلا يبعد انقطاع الوقف حينئذ،
ويملكه الموقوف عليهم على المعتمد نظير قيمة العبد التالف، وجافّ الشجر إذا لم يكن
شراء بدله ولو شقصاً أو الانتفاع إلا باستهلاكه.
الهبة والإباحة
[فائدة]: شرط الهبة بإيجاب وقبول متصل موافق كالبيع، فلو وهب له ألف فقبل
نصفه لم يصح، كما لو قبل أحد اثنين نصف ما وهب لهما اهـ فتح ومثله التحفة
والنهاية، واعتمد في المغني الصحة فيهما تبعاً لشيخه زكريا.
(مسألة: ش): قال له: هب لي هذه الجارية، فقال: هي لك فليس بصيغة هبة، بل لو
قلنا في أنها صيغة هبة فيشترط القبول فوراً وقبضها بإقباض الواهب اهـ. قلت: وقوله
يشترط القبول هلا كان قوله: هب لي إيجاباً، وقول الآخر: هي لك كناية كالبيع فتأمل،
إذ يشترط فيها ما يشترط فيه حتى كون العاقدين بصيرين ورؤية الموهوب كما في ع ش.
(مسألة: ي): صريح
العقود لا يحتاج إلى نية، بل إلى قصد معنى اللفظ بحروفه في الجملة، فخرج به جريانه
من نائم ومجنون وأعجمي لا يعرف معناه جملة وتفصيلاً فلا يقع ما لفظوا به، ودخل من
يعرف معنى اللفظ إجمالاً لا تفصيلاً فيقع، فمن قال لآخر: وهبتك أو منحتك أو ملكتك
أو أعمرتك أو أرقبتك هذا، وهو لا يميز معنى ما لفظ به حقيقة، لكن عرف أن هذا اللفظ
يؤتى به لنقل الملك من المخاطب إلى المخاطب مجاناً وقع منه ما لفظ به لمعرفته ذلك
إجمالاً، كما لو لفظ بصريح ببيع أو طلاق، ولا يعرف خصوص ما لفظ به، لكن يعرف أنه
يؤتى به لنقل الملك بعوض ولقطع عصمة النكاح، ولو وهبت امرأة أرضاً لأخرى وكتبت
لها: بأني أهديت لك أرضي صح، وإن كان لفظ الهدية مغايراً للفظ الهبة لاتحادهما
معنى وهو نقل الملك بلا عوض وإن اختلفا تفصيلاً واصطلاحاً، فلو ادعت جهلها بما
تلفظت به، فإن دلت قرينة حالها على الجهل ولم تكن مخالطة لمن يعرف ذلك صدقت
بيمينها وإلا فلا تسمع دعواها.
[فرع]: أعطى آخر دراهم ليشتري بها عمامة مثلاً، ولم تدل قرينة حاله على أن
قصده مجرد التبسط المعتاد لزمه شراء ما ذكر وإن ملكه لأنه ملك مقيد يصرفه فيما
عينه المعطي، ولو مات قبل صرفه في ذلك انتقل لورثته ملكاً مطلقاً كما هو ظاهر
لزوال التقييد بموته، كما لو ماتت الدابة الموصى بعلفها قبل التصرف فيه، فإنه
يتصرف فيه مالكها كيف شاء ولا يعد لورثة الموصي، أو بشرط أن يشتري بها ذلك بطل
الإعطاء من أصله، لأن الشرط صريح في المناقضة لا يقبل تأويلاً بخلاف غيره اهـ
تحفة.
(مسألة: ي): لا يصح تعليق الهبة كوهبته قبل موتي بساعة، كما لا يصح توقيتها
إلا في مسائل العمرى والرقبى فيصح وتتأبد، ولا مع شرط كأن لا يزيله عن ملكه.
(مسألة: ب): لا تجب
التسوية في عطية الأولاد، سواء كانت هبة أو صدقة أو هدية أو وقفاً أو تبرعاً آخر،
نعم يسن العدل كما يسن في عطية الأصول، بل يكره التفضيل، وقال جمع: يحرم سواء
الذكر وغيره ولو في الأحفاد مع وجود الأولاد إلا لتفاوت حاجة أو فضل فلا كراهة،
فإن كان ذلك وصية فلا بد من إجازة بقيتهم.
(مسألة: ج): أعطى بناته عطايا على سبيل البتول والنحلة وهنّ تحت حجره وكل
يعرف عطيته، ثم مات المعطي فأنكر بقية الورثة العطية، فإن أقامت البنات بينة
بالإعطاء حال الصحة وأنها باقية تحت يده على اسمهن استحقين ذلك، وإلا فعلى الورثة
يمين بأنهم لا يعلمون لهن شيئاً من ذلك كله ولا بعضه.
[فائدة]: أفتى العلامة
عبد الرحمن الأهدل ووافقوه فيما لو ألبس الزوج امرأته حلياً وحريراً للتجمل ولم
يصدر منه تمليك ولا قصده بأنه يكون باقياً على ملك الزوج ووارثه بعده، ولا تملكه
بمجرد ذلك كما في التحفة والقلائد، كما لو ألبس الصبي حلياً أو حريراً بلا قصد
اهـ.
(مسألة: ك): ادعى الأب بعد موت ابنته أن له بعض ما معها من الحلي فالقول
قول وارثها ما لم يقم الأب بينة، ويحلف يمين الاستظهار إن طلبها الوارث الخاص،
وليس هذا من باب اختلاف الزوجين أو ورثتهما الذي يجري فيه التحالف، نعم إن كانت
البنت تحت حجره وصاغ لها من ماله ولم يسبق منه تمليك لها ولا إقرار بأن ذلك ملكها
صدق بيمينه، كما لو كان في يد الولد عين مقر بأنها لوالده ثم ادعى أن المقر به هبة
وقد رجع فيه فإنه يصدق أيضاً اهـ. وعبارة (ي): جهز بنته الكبيرة وكذا الصغيرة على
المعتمد، أو زين زوجته بنحو حلي أو سريته وأعتقها ثم تزوجها وبقي بيدها كان ذلك
الحلي ونحوه ملكه في الثلاث الصور، فيصدق هو ووارثه بيمينه، على أنه لم يحصل منه
تمليك بنذر وهبة وغيرهما، لكن الوارث يحلف على نفي العلم، لأن الأصل بقاء ملك
الباذل إلا بنقل صحيح ولم يوجد، نعم إن نقل نحو الأمتعة إلى بيت زوج ابنته وأقر
بأنها ملكها أو جهازها أوخذ بإقراره وملكته، وما نقله في فتح المعين عن ابن زياد
عن الخياط ضعيف مخالف لكلامهم، فلو أثبتت العتيقة بينة ولو شاهداً ويميناً أو
امرأتين بأن السيد ملكها ذلك بعد العتق بنحو هبة مع إقباض أو نذر، أو أثبت إقراره
بذلك ثبت وحلفت يمين الاستظهار إن كان السيد قد مات.
(مسألة: ج): نحل ابنه نخلات في جربة وبقيت في يده ثم باع جميع نخل الجربة
المذكورة، فإن كانت النحلة بلفظ الهبة فلا يملكها الابن إلا بالقبض، فإذا لم تقبض
صح تصرف الأب فيها، وإن كانت بلفظ النذر ملكها الابن من غير قبض فتصرفه بعده باطل
إلا إن كان لحاجة الطفل.
(مسألة: ج): جرت عادة
أهل اليمن أنه إذا أتى بائع الورس طلب منه المشتري لمن عنده من الصبيان شيئاً منها
فيطرحه البائع، فإن تم البيع وإلا أخذه، فالذي يظهر أنه يملكه الصبي لكن بعد قبض
وليه، ولا يملكه المشتري إذ لا دلالة لذلك لا لفظاً ولا عقلاً، وقد خرج من ملك
البائع ببذله حال الرضا.
(مسألة: ك): قوله : "العائد في هبته" وفي رواية: "في
عطيته" الخ حمل الشافعي ومالك النهي على التحريم في هبة الأجنبي، وعلى
التنزيه في هبة الوالد لولده، لما جاء في أحاديث أخر ما يقتضي تخصيصه بغير الوالد
لولده وإن سفل، وحمله أبو حنيفة على الكراهة مطلقاً، والمراد بالتشبيه القبح مروءة
وخلقاً.
[فائدة]: شروط رجوع
الوالد في هبته لولده وإن سفل أن لا يتعلق به حق لازم، وأن لا يكون الفرع قناً
فإنه يكون لسيده، وأن يكون الموهوب عيناً لا ديناً، وأن لا يزول ملك الفرع وإن عاد
إليه اهـ ش ق. وخرج بالهبة النذر فلا رجوع فيه على المعتمد. ونظم بعضهم حكم ما
عوده بعد زواله كعدم عوده وعكسه:
وعائد كزائل لم يعد >< في
فلس مع هبة للولد
في البيع والقرض مع الصداق
>< بعكس ذاك الحكم باتفاق
اهـ بج.
(مسألة: ش): رهن أرضاً
وأباح للمرتهن أو غيره منافعها مدة بقاء الدين، انتهت الإباحة بموت المبيح فيغرم
المنافع من حينئذ، وإن جهل موته على خلاف فيه، كما لو باعها المالك أو وهبها مع
القبض من آخر أو رجع عن الإباحة، لكن لا يغرم هنا إلا بعد علمه بالحال ويأثم
حينئذ.
اللقطة واللقيط وحكم الأرقاء
المجلو بين
[فائدة]: من اللقطة أن تبدل نعله بغيرها فيأخذها، فلا يحل له استعمالها إلا
بعد تعريفها بشرطه أو تحقق إعراض المالك عنها، فإن علم أن صاحبها تعمد أخذ نعله
جاز له بيعها ظفراً بشرطه، وأجمعوا على جواز أخذ اللقطة في الجملة لأحاديث فيها
اهـ تحفة. ومنها: ولو أعيا بعيره مثلاً فتركه فقام به غيره حتى عاد لحاله ملكه عند
أحمد والليث، ورجع بما صرفه عند مالك، ومذهبنا لا يملك ولا يرجع بشيء إلا إن
استأذن الحاكم في الإنفاق أو أشهد عند فقده أنه ينفق بنية الرجوع لا بالنية فقط،
وإن فقد الشهود لندرته، ومن أخرج متاعاً غرق ملكه عند الحسن البصري وردّ بالإجماع
على خلافه.
(مسألة: ش): مكلف مختار أقر بالرق لغيره ولم يكذبه المقر له صح إقراره ما
لم يسبق منه إقرار بحرية أو برقّ لآخر ويكذبه فيصير حر الأصل، وإذا حكم برقه فادعى
أنه حر الأصل لم يقبل للتناقض، نعم إن شهدت بها بينة حسبة ثبتت، وحينئذ لا أثر
لتصادق الرقيق ومالكه بالرق، وصدق ذو يد غير ملتقط في دعوى رق غير مكلف عملاً
باليد ولا تقبل دعواه الحرية بعد تكليفه إلا ببينة، نعم له تحليف السيد، فإن نكل
حلف العبد وثبتت حريته، بخلاف مكلف ادعي رقه فأنكر فيصدق هو ما لم يقم السيد بينة
ولو شاهداً ويميناً ذكرت سبب الملك كوراثة أو اشتراه، وهذا كملتقط ادعى رق لقيط،
وكمدع رق صبيّ ليس في يده، فلا بد من بينة تذكر السبب أيضاً كولدته أمته، ويكفي
هنا أربع نسوة يشهدن بالولادة، ولا يشترط التعرّض للملك على المعتمد، ولا يسوغ
للشاهد في الشهادة بالرقّ الاستناد إلى ظاهر اليد مع التصرّف الطويل حتى يسمع منه
أي العبد ومن غيره بالملك، إذ الاستخدام في الأحرار يقع كثيراً بخلاف مال الغير مع
الاحتياط للحرية، وينبغي لمن أراد شراء عبد أن يشهد على إقراره بالرق لبائعه لئلا
يدعي الحرية بعد.
(مسألة: ش): يحكم بإسلام الصبي بتبعية أحد أصوله أو سابيه، وتتصوّر حريته
بعتق سابيه حيث لم يكن غنيمة، كأن أخذه سرًّا ثم هرب، أو جحد مالكه فيختص به
فيهما، أو وقع في سهمه في غنيمة فأعتقه، فحينئذ يقتص به من الحرّ المسلم لا إن بلغ
وسكت.
(مسألة: ك): حاصل
المعتمد في الأرقاء المجلوبين أنه إذا كان السابي له مسلماً تبعه المسبي في
الإسلام، ما لم يكن أحد أبويه في الجيش وإلا فهو على دينه أو حربياً كتابياً أو
غيره، فعلى دينه أو ذمياً وكان سبيه له في
جيش فكذلك على الأصح، وقيل هو مسلم وحينئذ فحيث حكم بإسلام الأمة حلّ وطؤها، فتلخص
من ذلك حلّ هؤلاء السراري المجلوبة الآن ما لم يتحقق أن الغانم لهنّ المسلمون، ولم
تخمس، ولم يسبق من أميرهم قبل الاغتنام أن من أخذ شيئاً فهو له لجوازه عند الأئمة
الثلاثة وفي قول عندنا فحينئذ يمتنع التسرّي، ولكن أنى لك بوجود معرفة هذه الشروط
المانعة وحكم السارق والمختلس كالغانم في وجوب التخميس، وقال الإمام والغزالي:
يختصان بما أخذه وهو مذهب أبي حنيفة اهـ. وعبارة (ب) حاصل ما ذكره العلماء في
الإماء المجلوبة هو أن ما جهل حالها بأن لم يعلم كونها من غنيمة لم تخمس، فالرجوع
فيه إلى ظاهر اليد في الصغيرة واليها مع الإقرار في الكبيرة إذ اليد حجة، فيحل
شراؤها كسائر التصرفات، وما علم فإما أن يتحقق إسلامها وأنه لم يجر عليها رقّ قبل
ذلك فهذه لا تحل بوجه من الوجوه إلا بزواج بشرطه ككافرة ممن لهم عهد وذمة، أو تكون
كافرة من أهل الحرب مملوكة لحربي أو غيره، ولو بأخذها قهراً من سيدها الحربي فحلال
لمشتريها، أو كافرة من أهل الحرب لم يجز عليها رق وأخذها مسلم فهذه قسمان: أحدهما
أن ينجلي عنها الكفار بغير إيجاف من المسلمين، أو يموت عنها من لا وارث له من أهل
الذمة وما أشبه ذلك، فهذه فيء يصرف خمسه لأهله والباقي لأهله. ثانيهما أن يأخذها
جيش من جيوش المسلمين بإيجاف خيل وركاب فهي غنيمة خمسها لأهله وأربعة أخماسها لمن
حضرها، وهذا كما لو غزا واحد أو اثنان أو أكثر بإذن الإمام أم لا، أو كانوا
متلصصين لا على صورة الغزاة على المعتمد من اضطراب وخلاف في ذلك، وطريق من وقع
بيده غنيمة لم تخمس ردها لمستحق علم، فإن غاب فالقاضي ما لم ييأس من معرفته فتكون
لبيت المال، وحينئذ فلمن له فيه حق الظفر به والورع لمريد الشراء أن يشتري ثانياً
من وكيل بيت المال، لأن الغالب عدم التخميس واليأس من معرفة ملاكه، وأما شراء
صبيان الكفار من نحو أصولهم فلا ينعقد بيعاً وإنما هو استيلاء، ثم إن كان المشتري
مسلماً تبعه في الإسلام وعليه تخميسه، أو كافراً ولو ذمياً على الأصح فباق على
كفره ويملكه خالصاً، وحينئذ لا يحلّ لمشتريها منه وطؤها قبل البلوغ والإسلام كما
هو ظاهر كلامهم، واختار البلقيني صحته واعتمده السيوطي ومال إليه السبكي، ولا يصح
مع ولد المعاهد بحال، ونقل عن الماوردي صحته وعليه يكون كولد الحربي ويتولى بيعه
المتبوع، ولا يجوز أخذ أولاد المستأمنين اختلاساً كنهب.
الوديعة
(مسألة: ك): خلط دراهم وديعة بدراهم أخر له أو لغيره ولو للمودع ضمنها إن
لم تتميز بنحو سكة وعتق، ولم يأذن صاحبها في الخلط ولا ظن رضاه أو أذن ونقصت
بالخلط، وهذا كما لو أودعه دراهم لنحو حجة أو هدية فصرفها بسكة أخرى بغير إذنه أو
علم رضاه فيضمن أيضاً، فحيث سلمت سلمت لأربابها، وحيث تلفت ضمن الخالط والصارف إن
لم يبرئه بعد التلف.
[فائدة]: قال في
التحفة: فعلم أنه لو وقع بخزانة حريق فبادر بنقل أمتعته فاحترقت الوديعة لم يضمنها
مطلقاً لأنه مأمور بالابتداء بنفسه، نعم لو أمكنه إخراج الكل دفعة من غير مشقة
ضمن، كما لو كانت فوق فنحاها وأخرج ماله الذي تحتها، ولو رأى نحو وديع وراع
مأكولاً تحت يده وقع في مهلكة جاز ذبحه، ولا يضمن بتركه إن لم يكن ثم من يشهده على
الذبح وإلا ضمن اهـ.
(مسألة: ش): أودعه طوقاً وأذن له أن يجعله تحت الفراش الذي ينام عليه فوضعه
ثم فقد بعد ساعة وأناس حاضرون، فإن قال الوديع سرق وصدقه المودع، أو حلف الوديع أو
ردها فلم يحلف المودع المردودة لم يضمن الوديع، وإن حلف ضمن الوديع كما لو قال: لا
أدري كيف ضاع لتقصيره، وللمودع الدعوى على من اتهمه من الحاضرين بأن يعينه أو يدعي
على الكل بأنهم سرقوه لصحة الدعوى حينئذ، بخلاف ما لو قال: أدعي على أحد هؤلاء فلا
تصح لعدم تعيين المدعى عليه.
(مسألة: ش): أودعه دابة يوصلها إلى محل كذا فأعيت في الطريق فتركها لم
يضمنها إن خرج بها مع رفقة يأمن معهم، ولم يمكنه أن يودعها في الطريق عند قاض أو
ثقة، نعم إن ظن أنها تعيى ولم يقل له المالك سر بها وإن أعيت، أو سر بها الآن مع
علمه بكونها تعيى ضمن، إذ يحمل إذنه على السفر بها بعد الإطاقة عملاً بالظاهر.
(مسألة: ي): كل أمين
كوديع ووكيل ومقارض يصدق هو ووارثه بيمينه في دعوى التلف والرد على المالك لا على
وارثه ووكيله، ولا يضمن إلا بالتعدي، ومنه أن يطلبها المالك بنفسه أو نحو وكيله،
فيؤخر الأمين الرد بنفسه أو بوكيله مع إمكانه بلا عذر، كاشتغال بطهر وصلاة حضر
وقتهما، فحينئذ لا يصدق في دعوى التلف إلا ببينة تشهد بالتلف قبل مضي الإمكان، فإن
عجز صدق في التلف لضمان البدل كالغاصب.
(مسألة: ي): الواجب على كل أمين إذا مرض ردّ ما بيده لمالكه أو وكيله ثم
الحاكم الأمين، فإن فقده لزمه الإيصاء به إلى عدل بأن يعين له ذلك وهو يحرزه
بقوله: هذا لفلان وهذا لفلان، أو يصف له كل عين بما يميزها ويأمره بردها لأربابها
ويشهد عدلين فأكثر، فإن ترك الترتيب المذكور أو الإشهاد في الرد لغير المالك أو
قصر في الوصف ضمن، ولو أوصى بشيء إيصاء مميزاً إلى عدل فلم يوجد في تركته فلا ضمان
إذ لا تقصير حينئذ.
(مسألة: ش): ادعى على وديع أو مدين أن المالك باعه العين أو أحاله بالدين
فصدقه لزمه الدفع إليه، وليس له طلب بينة لاعترافه بانتقال الحق إليه، نعم له
التأخير للإشهاد على الدفع، ثم لو أنكر المالك ذلك صدق بيمينه، إلا إن أقام المدعي
بينة بما ادعاه ولو شاهداً ويميناً، أو حلف المردودة بعد نكول المالك، فحينئذ تسلم
العين أو الدين إليه إن لم يقبض ذلك، فلو ادعى الوديع أو المدين إقباضه فأنكر ولا
بينة وهي شاهدان لا غير في العين، وشاهدان أو شاهد ويمين في الدين حلف على عدم
القبض، ثم يطالب المحال عليه بالدين وانفصلت الخصومة، وينفسخ البيع ظاهراً في
العين فيسترد الثمن من البائع إن كان قد ثبت قبضه له، فلو عثر بالعين بيد الوديع
أو مدعي الشراء تبينا عدم الانفساخ وحيث حكم بالانفساخ، فإن استمر المودع على
الإنكار أو رجع عنه ولم يذكر عذراً فلا مطالبة له على أحد، وإن ذكر عذراً كنسيان
وصدق الوديع في الدفع لمدعي الشراء مع الإشهاد أو في الدفع فقط وكان حاضراً وقته
فلا شيء له على الوديع أيضاً وإلا رجع عليه ببدل العين، فإن غاب مدعي البيع أو
الحوالة وأقام الوديع أو المدين شاهدين بالحوالة أو البيع مع الإقباض دفعت عنه
الخصومة ولا يثبت الحق للمدعي.
كتاب الفرائض
(مسألة): يقدم في تركة الميت حق تعلق بعين التركة، كمبيع مات مشتريه مفلساً
بثمنه، فيأخذ الموجود ويضارب بالتالف، حجر على الميت في حياته أم لا، ثم ديون الله
تعالى كحج استطاعه في حياته وزكاة وكفارة على ديون الآدمي المتعلقة بالذمة، ومنها
ما يلزم الزوج مما يعتادونه من الجهاز، وتستوي هذه الديون، فإن وقت بها التركة
وإلا قسط بحسب مقاديرها اهـ. قلت: وقوله ومنها ما يلزم الخ سيأتي في الصداق عن أبي
مخرمة خلافه.
أسباب الإرث وموانعه وما ألحق
بهما
(مسألة: ك): مات وله وارث كابن عم ولو بوسائط كثيرة علمت، فماله له
بالعصوبة إن كان من جهة الأب، وبالرحم إن كان من جهة الأم ولم يكن سواه، فإن غاب
حفظه القاضي الأمين أو نائبه، فإن لم يكن وارث خاص فتركته لبيت المال، فإن لم
ينتظم بأن فقدت بعض الشروط كأن جار متوليه، فعلى من بيده صرفه لقاضي البلد الأهل
ليصرفه في المصالح إن شملتها ولايته، وإلا صرفه العدل الأمين بنفسه أو فوضه لأمين،
وأما لو أعطى السلطان أهل الرباط مثلاً فرماناً أن كل من مات فيه ولا وارث له يكون
لهم خاصة أو لشخص مخصوص، ولا يدخل تحت بيت المال لم يصح ذلك، ولا يوافق مذهب
الشافعي إذ قد يكون الآخذ المذكور لا يستحق شيئاً في بيت المال، أو كان ما هو أهم
في الدفع إليه منه.
[فائدة]: ماتت امرأة ولا وارث لها وكانت تنتسب إلى فخذ من قبيلتها وتقول:
هم ورثتي، ويزوّجها كبير الفخذ فلا يثبت الإرث بمجرد ذلك، بل لا بد من بينة تشهد
بالتدريج منها ومنه إلى أب معروف، فإن لم يثبت ذلك فإن استفاض أنهما أعني الرجل
والمرأة من الفخذ الفلاني، وكان الرجل المذكور أرفع درجة من غيره حكم بالإرث ونحوه
له، وإن لم يعلم الأرفع وقف الإرث بينهم إلى أن يثبت الأرفع أو يصطلحوا، وهذا إذا
لم ينتشر الفخذ المذكور انتشاراً لا ينضبط، وإلا صرفت التركة لبيت المال فيهما اهـ
فتاوي بامخرمة، ووافقه الأشخر قال: وقول العراني لا يتعلق حكم النسب ونحوه إلا بمن
علم اتصاله محله إذا لم ينحصر أهل ذلك النسب، ثم رأيت أحمد الخلي أفتى بما يوافق
ذلك.
(مسألة): تزوّج امرأة فامتنعت عن تمكينه حتى مات
أحدهما ورثه الآخر، لأن أحكام الزوجية غير نحو النفقة، والقسم تثبت غالباً بالعقد وإن لم يدخل بها، هذا إن صح النكاح
بأن تزوّجها برضاها أو بإجبار الأب والجد بشرطه مع بقية شروط النكاح، وإلا فلا
نكاح ولا إرث.
(مسألة): ولدت امرأة
ابناً وماتت ومات الابن فادعى أبوه موته بعد أمه وأنكره ورثة الأم فالقول قولهم
بأيمانهم إنهم لا يعلمون حياته، لأن شرط الإرث تحقق حياة الوارث بعد موت المورث،
ولأن الأصل عدمها هنا، فإن أقام الأب بينة ولو شاهداً ويميناً أو امرأتين ببقاء
حياة الابن بعد موت أمه قبلت وورث الابن الأم، وحجب من يحجب به كأخت الميتة ثم
يرثه وارثه.
(مسألة: ش): إذا حبل
الخنثى تبين أنه أنثى، وإن كان قد حكم بذكورته وتزوّج امرأة وأولدها فيبين بطلان
نكاحه الأوّل، وأن الولد ليس منه لاستحالة إحبال المرأة، فحينئذ يرثه أولاد بطنه
لأنه المتيقن، ولا يحكم له بولد من صلبه سواء قبل حبله أو بعده، بخلاف ما لو مال
طبعه إلى الرجال فحكم بأنوثته ثم وطىء امرأة بشبهة فولدت له ثبت النسب احتياطاً
ولم يحكم بذكورته، وما حكي أن امرأة خرج لها ذكر فوق فرجها بعد أن ولدت فتزوّجت
امرأة وأولدتها لم يصح، ولو فرض صحته فلا تنافي الخنثى إذ فيها نسخ ظاهر بالانقلاب
من الأنوثة إلى الذكورة بأمر محسوس وهو نبات الذكر المذكور فلا تغير القواعد، نعم
يقال إن الضبع والأرنب سنة ذكراً وسنة أنثى ويولد له من فرجيه.
[فائدة]: سأل أبو يوسف إمامنا الشافعي بمجلس الرشيد رحمهم الله عن قول
القائل:
ولي عمة وأنا عمها >< ولي
خالة وأنا خالها
فأما التي أنا عمّ لها ><
فإن أبي أمه أمها
أبوها أخي وأخوها أبي ><
ولي خالة وكذا حكمها
الخ فأجابه: إن التي هي عمتي وأنا عمها
صورتها أن أخي لأمي تزوّج جدتي أم أبي فولدت له بنتاً فأنا عم هذه البنت لأني أخو
أبيها لأمه وهي أي هذه البنت عمتي لأن أم أبي أمها هي أخت أبي لأمه، وأما التي هي
خالتي وأنا خالها فإن أبا أمي تزوّج بأختي لأبي فأولدها بنتاً فصارت هذه البنت أخت
أمي لأبيها فهي خالتي وهي بنت أختي لأبي فأنا خالها اهـ.
(مسألة): ماتت امرأة عن زوج وبنت وأم، للزوج الربع، وللبنت النصف، وللأم
السدس، والباقي سهم من اثني عشر سهماً للعصبة إن كانت، وإلا ردّ على الأم والبنت
أرباعاً بحسب فرضيهما ولا شيء للزوج، إذ الرد مخصوص بغير الزوجين من الورثة، ولو
مات عن بنت وأولاد بنت أخرى ولا عصبة كان الجميع للبنت، ولا شيء لأولاد البنت
لأنهم من ذوي الأرحام والرد مقدم عليهم.
(مسألة: ب): مات شخص
ولا وارث له، وخلف أولاد بناته وبنات أخيه شقيقاً أو لأب وأولاد أخته كذلك، وأولاد
أخيه لأمه، فحيث قلنا بتوريث ذوي الأرحام وهو المختار المعتمد ففيه مذهبان،
أرجحهما مذهب أهل التنزيل، وهو أنه ينزل كل منزلة من يدلي به فيأخذ نصيبه، وحينئذ
يقدر كأنه ترك بنتين فأكثر فلهما الثلثان، وأخاً وأختاً شقيقين أو لأب لهما الباقي
وهو الثلث أثلاثاً، ولا شيء لولد الأخ للأم لأن أباه المنزل هو منزلته محجوب
بالبنات المنزل أولادهن منزلتهن في الإرث والحجب، فتقسم مسألتهم من تسعة: ستة
لأولاد البنات لكل أولاد بنت ما يخص أمهم للذكر منهم مثل حظ الأنثيين، وواحد
لأولاد الأخت كذلك، واثنان لبنات الأخ.
(مسألة): مات شخص ولم يخلف وارثاً من المجمع على توريثهم، ولم ينتظم بيت
المال كما هو المعهود، فماله يكون لأرحامه من جهة أبيه وأمه، كأجداده وجداته غير
الوارثين، وأخواله وخالاته وأعمامه لأنه وعماته مطلقاً، وأولاد أخواته، وأولاد
أخواته من الأم، وبنات أخواته مطلقاً، وأولاد بناته، وبنات أعمامه ومن أدلى بهم،
فمن انفرد من هؤلاء أخذ تركة، وإن اجتمع صنفان فأكثر فالأرجح مذهب أهل التنزيل،
وهو أن ينزل كل منزلة أصله إلا الأعمام والعمات فكالأب، وإلا الأخوال والخالات
فكالأم، ويقدم الأسبق إلى الوارث على غيره وإن قرب الغير من الميت، ويتحاجبون كمن
يدلون به، فبنت البنت تحجب ولد الأخ للأم، لأن من أدلت به وهو البنت يحجب الأخ للأم،
ويحجب الخال الشقيق الخال من الأب، ويحجبهما الجد للأم، ويفرض للذكر مثل حظ
الأنثيين، كإرثهم ممن يدلون به، نعم يستثنى أولاد الإخوة للأم فيقتسمون ما خصهم
بالسوية، مع أنه لو مات من يدلون به اقتسموه للذكر مثل حظ الأنثيين، والأخوال
والخالات من الأم يقتسمون ما يخصهم للذكر مثل حظ الأنثيين، مع أنه لو ماتت الأم
اقتسموه بالسوية لأنهم إخوة للأم فافهم، فإن لم يكن أحد من ذوي الأرحام فالمال
لمصالح المسلمين، يعني ما فيه مصلحة عامة، كإحياء معالم الدين، وأرزاق القضاة
والمعلمين، وبناء المساجد، وإطعام الجائع ونحوها.
(مسألة): مات عن زوجة وعمة وخالة ولا عصبة: للزوجة الربع، وللعمة النصف،
وللخالة الربع، لتنزيل كل منهما منزلة من يدي به وهما الأبوان، فكأنه خلف زوجة
وأبوين، فتعطى حصة الأب للعمة، والأم للخالة، ولا يردّ على الزوجة إذ الرد مخصوص
بغير الزوجين من سائر الورثة.
(مسألة): لا يرث القاتل من مقتوله، والمراد من
له دخل في قتل مورثه بمباشرة أو تسبب أو شرط، والفرق بين الثلاثة أن المباشرة ما
يؤثر في الهلاك ويحصله، والسبب ما يؤثر فيه ولا يحصله، كالإكراه وشهادة الزور
وتقديم الطعام للضيف، والشرط ما لا يؤثر فيه ولا يحصله بل يحصل التلف بغيره،
ويتوقف تأثير ذلك عليه كالحفر مع التردي، فالمؤثر هو التخطي صوب البئر، والمحصل هو
التردي فيها المتوقف على الحفر، فحينئذ يتردد النظر في شلى الأم ولدها من الجدري
هل ترثه لو مات بسببه؟ وإذا وقع التردد في إرث الزوج من زوجته إذا ماتت بسبب الولادة
فهذه أولى اهـ فتاوى عبد الرحمن بن سليمان الأهدل، وجزم السيد زين جمل الليل بعدم إرث الأم
المذكورة، لكن رجح محمد صالح الريس أنه إن كانت الأم المذكورة قيمة على ولدها
وأخبر الطبيب العدل أن هذا العلاج نافع فلا ضمان عليها وترثه وإلا فلا اهـ من خط
باسودان.
(مسألة: ب): حفر بئراً سقاية للخير فوقع مورثه
فيها ورثه عند الثلاثة، وفي القتل تفصيل، واختلف في ذلك عندنا، فأطلق بعضهم عدم
الإرث حسماً للباب، وقيده آخرون بالعدوان وفي منعه من الميراث، والحال ما ذكره ما
لا يخفى، بل توريثه هو الأليق بمحاسن الشريعة، وما أحسن التراضي والتصالح بينه
وبين بقية الورثة.
(مسألة): لا ترث أم
الولد من سيدها مطلقاً وكذا غيره كأولادها وزوجها مدة حياة السيد لنقصها، إذ هي حينئذ
قنة في غالب الأحكام، حتى لو قتلها حر لم يقتل بها وكانت قيمتها لسيدها، فإذا مات
السيد صارحكمها حكم الأحرار، كما لو عتقت هي كغيرها من الأرقاء بأي صورة من صور
العتق فترث وتورث حينئذ.
(مسألة: ش): من أسر أو
فقد أو انكسرت به سفينة وانقطع خبره لم يحكم بموته حتى تقوم بينة بموته، ولا يحتاج
معها إلى حكم حاكم، أو تمضي مدة لا يعيش فوقها ظناً، فيجتهد الحاكم أو المحكم بشرطه
الآتي في التحكيم، ويحكم بموته بغلبة الظن، ولا تقدر المدة على الصحيح، بل وإن قلت
حيث حصل عندها غلبة الظن فحينئذ يعطى حكم الأموات في سائر الأحكام زاد ب : هذا
مذهب الشافعي، ونقل السبكي عن الحنابلة أنه يعني المفقود نوعان: أحدهما من الغالب
سلامته كمسافر لم يعلم خبره فهو مردود إلى اجتهاد الحاكم، والثاني من الغالب هلاكه
كمن فقد في معركة أو انكسرت به سفينة أو خرج يصلي العشاء ففقد، فينظر أربع سنين ثم
يقسم ماله وتتزوج نساؤه، فإن أرشد الفقيه ورثة المفقود إلى تقليد الحنابلة إن كان
مفقودهم من هذا النوع لم يكن به بأس، إذ العامي لا مذهب له، بل له أن يأخذ بفتوى
من أفتاه من أرباب المذاهب لكن بشروط التقليد المارة.
أحكام الإرث بالفرض والتعصيب
والحجب
(مسألة): مات شخص عن أم وأخ من الأم وأخ شقيق، كان للأم السدس ولابنها
السدس والباقي للشقيق، فلو كان معهم زوجة فلها الربع، والباقي بعد الفروض المذكورة
للشقيق.
(مسألة: ش): مات عن
بني أخوين لأحدهما ثلاثة وللآخر واحد، كان الجميع أو الفاضل بعد الفروض بينهم
أرباعاً إذ لا مزية لأحدهم، ولا يرث من أولاد الإخوة إلا الذكور ولا يعصبون
الإناث، كما لا يعصبنهنّ الأعمام، إذ التعصيب مختص بالأولاد وأولادهم وبالإخوة
أشقاء أو لأب.
(مسألة): ماتت عن زوج
وأم وجد وأخت شقيقة أصلها من ستة وتعول لتسعة وهي الأكدرية، للزوج ثلاثة، وللأم
اثنان، وللجد والأخت أربعة بينهما أثلاثاً للذكر مثل حظ الأنثيين وهي منكسرة
عليهما، وتصح من سبعة وعشرين، ولو كان بدل الزوج زوجة كانت من اثني عشر للزوجة ربع
ثلاثة، وللأم ثلث أربعة، وللأخت والجدّ الباقي خمسة.
(مسألة): خلف إخوة أشقاء أو لأب وجداً، فإن كان معهم ذو فرض غيرهم أخذ
فرضه، ثم يأخذ الجد الأكثر من ثلث ما يبقى بعد الفروض وسدس جميع المال ومقاسمة
الإخوة كأخ، وإن لم يكن معهم ذو فرض خير بين ثلث جميع المال والمقاسمة، ولو خلف
جداً وأخوات فإن كنّ أشقاء أو لأب خير الجد بين المقاسمة للذكر مثل حظ الأنثيين
وثلث المال، ومعنى التخيير أنه يلزم إعطاؤه الأحظ له، فإن كانت الأخوات من الأم
فلا شيء لهنّ معه إذ هنّ محجوبات به.
(مسألة: ش): مات عن جدّ وأخ وأختين أشقاء وأخت لأب، كان الثلث للجد خيراً
من المقاسمة، خلافاً لبعض نسخ الدميري، إذ تصح مسألة الثلث من ستة له منها اثنان،
ومسألة المقاسمة أصلها من سبعة له اثنان أيضاً، وتصح من ثمانية وعشرين.
(مسألة): مات عن ثلاث
بنات وأخت شقيقة وابن أخ شقيق، للبنات الثلثان، والباقي للأخت، أو عن بنت وعم
وأخوة لأم، فللبنت النصف، والباقي للعم، ولا شيء للإخوة لحجبهم بالبنت.
(مسألة: ش): لا تحجب أم أبي أب أم أم أب، وإن كانت الأولى أقرب لأنها
بمثابة أم الأب، والأخرى بمثابة أم أم الأب والقربى من جهة الأب لا تحجب البعدى من
جهة الأم.
المناسخات
(مسألة: ش): مات عن زوجة وابنين وبنتين، ثم مات أحد الابنين عن أمه وأخيه
وأخته الشقيقين، ثم ماتت الأم عن ابنها وبنتها المذكورين، ثم مات الابن عن أخته
الشقيقة وأخته لأبيه وعصبة، فحاصل المناسخات من أربعمائة واثنين وثلاثين سهماً،
ترجع بالاختصار إلى نصفها 216 سهماً، للشقيقة مائة وثلاثة وعشرون، وللأخت للأب
اثنان وخمسون، وللعصبة إحدى وأربعون.
(مسألة): مات عن زوجة وثلاثة بنين وبنت، فماتت البنت عن زوج وابن وأم هي
الزوجة، ثم مات أحد البنين عن أمه المذكورة وأخويه وبنت وزوجة، فتصح مسألة الأوّل
من ثمانية وحصة الثاني منها واحد يباين مسألته التي هي من اثني عشر، فتضرب مسألته
في الأوّل تبلغ 96، وحصة الثالث من ذلك 24، إذ القاعدة أن من له شيء من الأولى
أخذه مضروباً في كل الثانية إذا لم يكن توافق في وفقها إن كان، ومسألته التي تصح
من 96 توافق سهامه المذكورة بربع السدس، فيضرب اثنان في 96 يبلغ حاصل مسائلهم
الثلاثمائة واثنين وتسعين للزوجة الأولى التي هي أم في الأخيرتين ستة وثلاثون،
ولكل من الابنين في الأولى اللذين هما أخوان في الأخيرتين ثلاثة وخمسون، ولزوج
البنت ستة، ولابنها أربعة عشر، ولزوجة الابن الميت آخراً ستة، ولابنته أربعة
وعشرون.
(مسألة: ش): مات عن زوجتين وابنين وبنتين، فمات أحد الابنين عن أم وأخت
شقيقة وأخ وأخت لأب وأخ لأم، ثم ماتت أحدى البنتين التي هي شقيقة الابن الميت عن
الأم المذكورة وزوج وابنين وبنت وأخ لأم، فلا شيء لهذا الأخ الأخير لحجبه
بالأولاد، ومسألة الأول تصح من ثمانية وأربعين، وحصة الثاني منها أربعة عشر توافق
مسألته التي تصح من ثمانية عشر بالنصف فتصح المسألتان من أربعمائة واثنين وثلاثين،
وحصة الثالث منهما مائة وستة وعشرون، توافق مسألته التي تصح من ستين بالسدس، فيصح
مجموع الثلاث من أربعة آلاف وثلاثمائة وعشرين، فحصة المرأة التي هي زوجة في
الأولى، وأم في الأخيرتين ستمائة وتسعون، وللزوجة الثانية مائتان وسبعون، وللابن
الذي هو أخ في الثانية ألف وأربعمائة، ولأخته سبعمائة، وللأخ للأم في الثانية
مائتان وعشرون، وللزوج في الأخيرة ثلاثمائة وخمسة عشر، وللبنت فيها مائة وسبعة
وأربعون، ولكل ابن فيها مائتان واثنان وتسعون.
الوصية
[فائدة]: قال الدميري: رأيت بخط ابن الصلاح أن من مات بغير وصية لا يتكلم
في البرزخ، وأن الأموات يتزاورون سواه، فيقول بعضهم لبعض: ما بال هذا؟ فيقال: مات
على غير وصية، ويحمل ذلك على ما إذا كانت الوصية واجبة أو خرّج مخرج الزجر اهـ ع ش.
(مسألة: ب): أوصى بأن
يقبر داخل السور بقرب الشيخ الفلاني، وجب قبره هناك لندب الوصية بذلك، وقد استثنوا
من حرمة نقل الميت من بلد إلى أخرى مكة والمدينة وبيت المقدس وجوار الصالحين.
(مسألة: ب): كل تبرع
صدر من المريض مرض الموت من نحو: نذر ووقف وهبة وإبراء وصدقة وعارية وعتق وتدبير يكون
من الثلث، كما أن من الثلث أيضاً كل معلق بالموت ولو في حال الصحة من نحو: وصية
ونذر ووقف، فإن كان ذلك لوارث فلا بد فيه من إجارزة بقية الورثة الكاملين، فحينئذ
لو قال مريض: نذرت قبل موتي بثلاثة أيام بجميع ما هو بجهة كذا من كساء لابني فلان،
وبجميع ما هو بتلك الجهة من أوان وفرش وحلي لأولادي وأمهم، وبجميع عبيدي بجهة كذا
لأولادي، صح الكل بإجازة الورثة المطلقي التصرف لأولي محجور وغائب مع شرط مضي
الثلاثة الأيام قبل موته في الكل، وإن قيد بها في الأولى فقط، إذ الصفة والشرط
والاستثناء والحال في الجمل والمفردات المعطوفة بالواو تعتبر في الكل حيث لم يتخلل
كلام طويل اهـ. قلت: وأفهم قوله المعطوفة بالواو أن العطف بالفاء وثم لا ترجع معه
الصفة والاستثناء إلى الكل وهو المعتمد، قاله ابن حجر في الفتح والتحفة، واعتمد (م
ر) والخطيب وأبو مخرمة أن الثلاثة الأحرف سواء بخلاف بل ولكن.
(مسألة: ب): حدّ المرض المخوف هو ما يكثر الموت عنه عاجلاً، ولا تتطاول معه
الحياة، ولا تشترط غلبة حصول الموت به بل عدم ندرته، فحينئذ لا ينفذ تبرعه فيما
زاد على الثلث أو للوارث مطلقاً، إلا إن أجاز الوارث الأهل بعد الموت، ومثله غير المخوف إن اتصل بالموت ولم
يحمل موته على الفجأة، كما لو كان يتولد منه الموت كثيراً، فلو ادعى الوارث موته
من مرض تبرعه والمتبرع عليه شفاء وموته من آخر أو فجأة، فإن كان مخوفاً صدق الوارث
وإلا فالآخر، ولو اختلفا في وقوع التصرف في الصحة أو المرض صدق المتبرع عليه، فإن
أقاما بينتين قدمت بينة المرض لأنها ناقلة.
(مسألة: ش): أبرأت
زوجها في مرض موتها، فإن لم يرثها لمانع كان حكمه حكم الوصية، وإلا توقف على الإجارة
من بقيتهم، فإن لم يجيزوا برىء من حصته فقط، نعم إن كان في مقابلة طلاق برىء من
جميعه وإن لم تكن لها تركة سواه، ولو تزوّج مريض بمحاباة لا تحتمل فهي وصية لوارث،
فلو ماتت قبله دارت المسألة لأنه يرثها فيزيد ماله، فيزيد ما ينفذ فيه التبرع،
فيزيد ما يرثه، فلو أصدقها مائة هي ماله ومهر مثلها أربعون فلها اثنان وسبعون،
أربعون مهر مثلها والباقي محاباة، ويبقى معه ثمانية وعشرون، ويرجع له بإرثه ستة
وثلاثون، فيجتمع لورثته أربعة وستون وهي ضعف المحاباة، ولا يبطل هذا التبرع بموته
قبلها، لأن هذه المحاباة في ضمن عقد، وهذا بخلاف الوصية فإنها تبطل بموت الموصي له
قبل الوصي.
(مسألة: ش): ونحوه ب: الأظهر صحة الوصية لبعض الورثة بإجازة بقيتهم
الكاملين بنحو: أقررت الوصية أو أجزتها أو أمضيتها، وقد لا تصح مطلقاً، كما إذا لم
يكن له وارث سوى الموصى له لتعذر إجازته لنفسه وقد تصح مطلقاً، كما لو وقف المريض
عيناً تخرج من الثلث على وارثه المتحد أو المعتمد بنسبة إرثهم فلا يبطلها الوارث،
ولا تصح إجازة وليّ المحجور، لكن لا يضمن إلا بتسليم المال وينتظر كماله، كقدوم
الغائب فلا يتصرف واليهما في الموصى به إذ لا تبطل في حقهما، خلافاً للأذرعي في
الأول.
الصيغة
(مسألة: ب): مذهب الشافعي أن مجرد الكتابة في سائر العقود والإخبارات والإنشاءات ليس بحجة شرعية، فقد ذكر الأئمة
أن الكتابة كناية فتنعقد بها، نحو الوصية مع النية ولو من ناطق، ولا بد من
الاعتراف بها، يعني النية منه أو من وارثه، وحينئذ فمجرد خط الميت بنحو نذر وطلاق
ووصية لا يترتب عليه حكم، وإن تحقق الورثة أنه قلم الموصي، بل وإن قال: هذا خطي
وما فيه وصيتي، ولا يلزم الورثة الجري عليه قطعاً لأنه في حكم المعدوم، وليس بحجة
شرعاً، وحينئذ لو فعل الوارث الحاضر يوم الموت وبعده ما يعتاد فعله من التركة بناء
على خط الميت، فإن أجازه الغائب الكامل فذاك، وإلا فما عدا الواجب من التجهيز يختص
به الفاعل.
(مسألة: ب): لا تثبت
الوصية بقوله: مالي مثلث، إذ ليس ذلك من صيغها ولا قريبآ منها فيحمل عليها، نعم إن
اطرد عرف جهة الموصي باستعمال هذا اللفظ وصية كان كناية، فإن علمت نيته صحت وصرفت
للفقراء والمساكين وإلا بطلت، ومن اعتقل لسانه أو خرس فأوصى بالإشارة صح، ثم إن
فهمها كل أحد فصريحة وإلا فكناية، ولو أوصى بوصايا على يد شخص ثم أوصى بوصايا أخرى
على يد آخر، فإن لم يثبت رجوعه عن الأولى صحتا و عمل بمقتضاهما.
(مسألة): قال عند
موته: جعلت أو بغيت ثلث مالي في وجوه أخي، فإن أراد بذلك مصرفاً من مصارف الخير مما ليس بحرام ولا مكروه كقراءة وضيافة أو
شيئاً من المباحات بأن صرح بذلك، أو دلت قرينة أو عرف محلهم على ذلك صح، كما لو
استعجم عن الكلام فقيل له: تريد أو مرادك ثلث مالك؟ فأشار برأسه أي نعم، وإن لم
يعرف له مصرف بطلت، بخلاف ما لو قال: أوصيت بثلثي على يد فلان أو ثلثي وصية ولم
يذكر مصرفاً فيصرف للفقراء.
(مسألة: ي): أوصى بلغة
الملايو بأن أوصياءه يجمعون ثلثه ويبيعون العروض منه بدراهم، ثم يخرجون ما عينه
منه للوصايا، والزائد يحفظونه ويمشونه ويجرونه بما يحصل المصلحة الدائمة لتكون
صدقة باقية صحت الوصية واشترى بالزائد المذكور عقاراً وصرفت غلته لأقارب الموصى
الفقراء غير الوارثين والأوصياء، ويلزم الوصي المبادرة بذلك، ولا عبرة بما لو كان
عرف بلد الموصي أن هذا اللفظ إنما يراد به الاتجار في الدراهم الموصى بها وهو لا
يصح، فاجتهاد الوصي، فالحاكم، ولا يعدل عن مرتبة حتى تفقد ما قبلها، فزعم البطلان
في هذه للعرف المذكور باطل من ثلاثة أوجه، مخالفته لعرف الشرع فيها، إذ الصدقة
الجارية الواردة في الحديث محمولة على كل ما ينتفع به مع بقاء عينه، كالوقف
والوصية بالمنافع ومخالفته للعرف العام لو قدرنا أن الشارع لا عرف له هنا، لأن
الصدقة للمصلحة الدائمة هي الصدقة الجارية ومخالفته للغة، إذ معنى ترجمة كلامه أن
التمشية والإجراء هو الشراء، أي يشترون بها ما يحصل مصلحة دائمة أي متكررة فيقتضي
شراء عقار، إذ التجارة لا يتكرر الربح فيها إلا بتكررها، فعلم أن اللغة مخالفة
لعرف بلده، وقد مر أنها كسابقيها مقدمات على العرف الخاص، نعم يقدم عرف البلد على
اللغة فيما إذا صار عاماً واتفق على عمومه ولم يكن ثم مخصص، ولم يكن له في اللغة
معنى يحمل اللفظ عليه، وكل هذه القيود منتفية في مسألتنا أيضاً، إذ ليس العرف
المذكور متفقاً على عمومه عند أهل تلك اللغة كما أسمعنا الثقات منهم، ولأن في
اللفظ مخصصاً يخرجه عن دائرة العموم لو قلنا به وهو قوله الدائمة، لأن ذلك مخصص
لقوله: ويجرونه بما يحصل المصلحة العامة في الشراء للتجارة وللأعيان، فخص ذلك
بشراء الأعيان فقط، بل ولو قدرنا عدم المخصص فلا يستدل به على البطلان إلا لو لم
يكن له في اللغة معنى يصح حمل الوصية عليه، إذ يصان كلام المكلف عن الإلغاء ما
أمكن، ومعناه أنه إذا نطق بكلام له معنيان: أحدهما يترتب عليه حكم والثاني لا
فتحمله على الأوّل، ولا يمتري عاقل في شمول لفظ الموصي لشراء الأعيان المنتفع بها
مع بقاء عينها شمولاً أظهر من الإتجار، وليس هذا، كمن نطق بكلام لا يعرف معناه،
لأن الشرط معرفة ذلك إجمالاً، أي بأن ذلك مزيل لملكه مجاناً، إذ مدار الأحكام على
معاني الألفاظ لا القرائن والمقاصد كما قالوه، فيما لو أوصى أو وقف لأولاد زيد
وأولاد أولاده ومقصوده وعرف بلده إطلاقه على الذكور فقط أنه يعم الذكور والإناث
وأولادهنّ الأجانب، وفيما لو كان العرف أن الواقف يأكل من الموقوف، وأن الموصى به
يصرف للنائحات أنهما يصحان ويلغى العرف المذكور، بل يصرف الوقف في مصارفه الشرعية،
والموصى به للفقراء إن لم يذكر له مصرفاً مباحاً.
(مسألة: ج): أوصى عند موته بأنه على حكم الله تعالى ورسوله وأوصى بدراهم
تفرق، فإن أراد بحكم الله التوبة من الربا وله ديون عند الناس على حكم الربا
فالتوبة مقبولة، وليس لوارثه إلا رأس المال فقط، بل لا يجوز أخذ شيء من الزائد
بعمل الربا مطلقاً أوصى بذلك أم لا، والوصية بالدراهم تنفذ حالاً للفقراء
والمساكين وهي على حسب نية الميت، فإن نواها زكاة وقعت وإلا فنافلة ولا يضيع
أجره.
الموصى له
(مسألة: ش): أوصى للأشراف أو لأشرف الناس أو أشرف الأشراف حمل على ذرية
رسول الله ، وهم الآن المنسوبون إلى الحسنين ريحانتيه عليه وعليهما أفضل الصلاة
والسلام، باطراد العرف بذلك منذ أزمنة، لا يوصف بهذا الاسم غيرهم، فإن أوصى لأشرف
ذرية الحسن والحسين اعتبر زيادة وصف معنوي من نحو علم وتقوى فيما يظهر.
(مسألة: ج): حد طلب العلم كما هو المتعارف بحضرموت فيما لو أوصى شخص لطلبة
العلم من له ملكة يقتدر بها على استخراج المسائل المنصوصة والمفهومة، أو هو من
يقتدر على تصوير المسألة ويستدل لها، ولا تكفي معرفته باباً أو بابين من الفقه، بل
لا بد أن يكون طالباً وناظراً لجميع أبواب الفقه، وبهذا يظهر أن من ليس له إلا
قراءة مختصر لا سيما المشتملة على فروض الأعيان لا يعد من طلبة العلم، وأما أهل العلم فالمراد
بهم حيث أطلقوا الفقهاء والمفسرون والمحدثون، فمن هو طالب لواحد من هذه الثلاثة
أعطي لا غيرها من العلوم على الأصح، فمن أخذ شيئاً من غير أهله فقد أكل السحت
الحرام، ولا يجب استيعاب الطلبة ولا يختص بأهل بلد المال.
(مسألة: ب ي): أوصى
لقرابته أو أرحامه دخل كل قريب من جهة الأب والأم غير الوارث، وضابطه كل جد ينسب
إليه الموصي أو أمه، ويعد قبيلة واحدة سواء قال: أوصيت بها لأرحامي أو للأرحام، أو
لقرابتي أو للقرابة، فيصرف لجميع ذرية جد الموصي وجد أمه الملقبين بذلك الاسم وإن بعد وارثاً وغيره ولو من غير قبيلته، كأولاد
البنات والعمات والخالات وإن سفلوا، ويستوى الغني والمسلم وضدهما، فيجب استيعابهم
والتسوية بينهم وإن كثروا وشق ذلك، نعم إن تعذر حصرهم أو كان قليلاً لا يقع موقعاً
جاز الاقتصار على البعض ولو على ثلاثة منهم، ويجب الاستيعاب المذكور بقيده، وإن
دلت القرائن أو قال قائل: إن الموصي أراد بذلك أناساً مخصوصين يعرفهم ويواسيهم لا
كل القرابة المذكورين، لأن هذا أمر لا يعرفه ولا يخطر بباله فلا يلتفت إلى ذلك ولا
يجوز التخصيص، إلا إن صرح هو ولو بعد الوصية بذلك فيعتمد قوله، كما لو أوصى
لجيرانه وقال: أردت الملاصقين فقط، وقد أطلق الأصحاب اعتبار المعاني الشرعية في
نحو الوقف على الأرحام والعشيرة والقرابة والموالي ونحوها، ولم يلتفتوا إلى
اصطلاحات العوام في ذلك، ولا إلى ما يظنونه من تعميم الألفاظ وتخصيصها اكتفاء
بمعرفتهم لأصل المعنى وإن لم يحيطوا بحقيقته، لأن المدار عند الشافعي على مدلولات
اللفظ ما أمكن، وليس هذا كمن نطق بكلام وهو لا يعرف معناه، لأن الموصي يعلم أن هذا
اللفظ يزيل الملك، وإنما يجهل أمراً آخر مثل هذا الجهل لا أثر له في صحة التصرف
وكيفيته إذ هو جهل بالتفصيل، وقد صرح في التحفة بأن ماله معنى في الشرع مقدم على
اللغة والعرف، ولو أعرضنا عن عرف أهل العلم واتبعنا عرف العوام لبدلنا الأحكام
وغيرنا دين الإسلام، بل يلزم كل إنسان العمل بما حكم الشرع، وإن سخط الناس ورأى هو
وغيره أن المصلحة في مخالفته، زاد (ي): وكذا الحكم فيما أوصى شخص لقرابته أو رحمه
آل فلان، أو قال: أوصيت لآل فلان أي فيشمل جميع ذرية ذلك الشخص الملقب بذلك الاسم
على ما مر تفصيله، ولا يدخل في الوصية لنحو الأرحام إلا من كان موجوداً عند الوصية
وبقي إلى موت الموصي، فلو مات قبله أو شك بطلت في حصته ورجعت لورثة الموصي لا
لبقية الأرحام، ولا يستحق الحمل الموجود عند الوصية وإن انفصل قبل الموصي، إذ لا
يسمى ولداً ورحماً وقريناً وآلاً، ولو قيد الموصي الأرحام بالمتوطنين ببلد كذا،
صرف ذلك لمن توطن بنفسه، وإن خرج عنه بنية العود وطال زمن خروجه، ويصدق في نية
العود بلا يمين، إذ لا يعرف ذلك إلا منه، وخرج به من ولد بغيرها من أولاد القاطنين
ولم يأت إليها إلى الآن، وإن كان عازماً هو أو وليه على النقلة إليها، ومن لم ينو
العود وإن قرب خروجه فلا يستحقان شيئاً، وزاد (ب): ثم المراد بالقبيلة في اصطلاح
أهل النسب ما تحت الشعب وبعدها العمارة ثم البطن ثم الأفخاذ ثم الفصائل آخرها،
مثاله خزيمة شعب كنانة قبيلة قريش عمارة بكسر العين، قصي بطن هاشم فخذ العباس
فصيلة، فحينئذ لو كان الموصي المذكور من السادة آل جنيد باهرون جمل الليل، وكانت
أمه من السادة آل شهاب الدين بن عبد الرحمن بن شهاب الدين بن عبد الرحمن ابن الشيخ
علي كانت القبيلة من جهة أبي الموصي هو الشيخ محمد جمل الليل بأحسن من جهة أمه هو
الشيخ علي بن أبي بكر السكران، إذ هما اللذان يعدّ أولادهما قبيلة شرعاً وعرفاً
ولغة، فلو قيل: عدوا قبائل السادة إلى أبي علوي لأخذ العادة يقول: آل جمل الليل،
آل العيدروس، آل الشيخ علي، آل عبد الله باعلوي، آل عم الفقيه وهكذا، ولا يقول: آل
باهرون، آل ابن سهل، آل شهاب الدين، آل منفر، لأن مثل هؤلاء بطون أفخاذ لا قبائل
كما علم مما مر، نعم في تمثيل بعضهم كالإمام النووي في بعض كتبه للقبيلة ببني هاشم
يفهم منه أن تكون القبيلة في مسألتنا آل باهرون لا آل جمل الليل الشامل لهم
ولغيرهم، وآل شهاب الدين الأكبر لا آل الشيخ علي كذلك وهو محل تردد، إذ هما اللذان
يعرف بهما الموصي وأمه، ويتميزان بهما عن غيرهما من أولاد أجدادهم الأقدمين، وما
دون هذين من أجداد الموصي وأمه، فلا يعتبر في الضابط المذكور مطلقاً لأنه إما فخذ
أو فصيلة اهـ. وفي (ي): الذي يظهر من نصوص العلماء أن من أوصى لأقارب شخص من آل
أبي علوي أو لأقارب نفسه وهو منهم أنها تصرف وصيته لجميع آل أبي علوي لا لخصوص
قبيلة ذلك الشخص المنسوب هو إليهم فقط، نعم قرابة الشخص المذكور أولى من غيرهم عند
تعذر التعميم، ولو اقتضى لفظ الوصية الصرف للأقارب ولم يصرح به الموصي كان الصرف
لهم أولى، بل قال الشيخان وابن حجر بلزوم الصرف إليهم حينئذ، وهذا إن لم يحكم حاكم
الصرف لهم وإلا لزم قطعاً، لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف المذهبي وغيره، ويحنئذ فإذا
أوصى شخص من السادة آل عيديد مثلاً بغلة
مال تقسم في وقت معين بعضها على الفقراء عند قبره، وبعضها لقرابته بحضرموت، وبعضها
لمن حضر منهم بجاوه، وبعضها على عمارة المال قدمت عمارة المال مطلقاً ولو من بقية
الأسهم، كما يرد الفاضل من العمارة على الأسهم، ويرسل ما لأهل حضرموت إلى الثقات
المأمونين يفرقونه على الفقراء من جميع آل أبي علوي هناك، ويخص طلبة العلم بزائد،
ويفرق ما للسادة ببلد الموصي على من حضر منهم سواء الساكنين بها والمارين، ولكن لا
يعطى غني الزكاة، ووارث الموصي والوصي نفسه، ولا من تلزمه نفقته، نعم إن انعزل أخذ
له ولممونه، وما للفقراء يفرق كل ما حصل أو يبقى لوقت الاجتماع كيوم مولد الموصي.
(مسألة): أوصى لأرحامه بجهة العرب المنتسبين لوالده فلان، فالظاهر الذي
تفهمه عبارة الفقهاء في نظير هذه المسألة أنهم ذرية والده الذين من قبيلته فقط، لا
أولاد البنات ولا ذرية أجداد الموصي، لقول العلماء: لو وقف على ذريته المنسوبين
إليه لم تدخل أولاد البنات والوصية كالوقف، فإذا لم يدخلوا في الذرية فالأرحام من
باب أولى لقوله تعالى: {ادعوهم لآبائهم} وأما قوله عليه الصلاة والسلام في الحسن
رضوان الله تعالى عليه: "ابني هذا سيد" الخ، فمن خصوصياته أن أولاد
بناته ينسبون إليه نسبة شرعية كما هو مقرر في محله، وبقيد المنتسبين لوالده أعني
الموصي خرج من فوقه من قبيلته من ذرية آبائه كهو أي الأب، إذ لا ينسبون إلى الوالد
المذكور بل لأجداده، ثم رأيته في العباب قال:
(فرع): أوصى لمناسب شخص فلمن ينسب إليه من أولاده الخ. وقال في القلائد:
ويدخل أولاد الأولاد وإن سفلوا في الذرية والعقب إلا أن يقول: من ينسب إليّ فلا
يدخل أولاد البنات، قال الماوردي والروياني ومثله مناسبي ولا يدخل فيه من ينتسب هو
إليه اهـ، وهو كالصريح فيما ذكرته، وحيث دخل ذرية والد الموصي كما ذكرنا لم يدخل
فيهم أولاد الموصي ذكوراً وإناثاً كأبويه، إذ لا يسمون رحماً عرفاً. ويدخل أولادهم
بالقيد المذكور، ولا يدخل أيضاً من ليس بجهة العرب من الموصى لهم مطلقاً
(مسألة): أوصى لأختانه صرف لأزواج بناته فقط لا أزواج حوافده إلا إن انفردن
عن البنات، فيدخل أزواجهن حينئذ فقط، نظير ما لو أوصى لأولاده ولم يكن له إلا
أحفاد فيصرف لهم، والمعتبر في كونهم أزواجهنّ حال الموت لا حال الوصية ولا حال
القبول، نعم المعتدة الرجعية حال الموت كالزوجة في إعطاء زوجها، قاله في شرح الروض
ونحوه العباب، ويؤخذ منه أنه لو أوصى لزوجات أولاده اعتبر ذلك بحالة الموت أيضاً
فليراجع.
(مسألة: ي): أوصى بدراهم تفرق بمحل كذا على المحتاجين أقارب أو غيرهم وجب
تفريقها هناك، لكن لا يجب استيعاب الأقارب وإن انحصروا لأن أو تقتضي التخيير،
وينبغي مراعاة ما فيه فضل للميت أكثر.
[فائدة]: تصح الوصية
لعبده المدبر والمعلق عتقه بالموت لأنه يصير حراً بموت السيد، ذكره في الروض وشرحه
اهـ.
(مسألة: ي): أوصى
لمستولدته صح وكان لها لأنها تعتق بالموت من رأس المال، نعم إن علق الوصية كأن
قال: إن خدمت أولادي استحقتها بالخدمة، كما لو قال: إن لم تتزوّج فتعطي الموصى به
فإن تزوّجت رد منها.
(مسألة: ش): أوصى لمن نصفه حر ونصفه لوارثه ولا مهايأة ولم تحز بقية الورثة
بطل في الجميع، قاله في العباب وهو قضية كلام الروضة ونقل عن الأكثرين، ووجهه عدم
تمييز ما للوارث فسرى الرد إلى الكل، وقال الإمام: كالروض وشرحه يبطل في حصة
الوارث فقط.
(مسألة: ش): أوصى لزيد
بعين قيمتها مائة ولعمرو بثلثه والثلث مائة، فإن لم تحز الورثة قسط الثلث على
كليهما فللموصى له بالثلث خمسون وبالعين نصفها، هذا إن خص الثلث بغير العين الموصى
له بها، وإلا فالثلث شائع في كل المال، فكأنه أوصى لزيد بكل العين، ولعمرو بثلثها
مع ثلث بقية المال، فإن أجاز الورثة قسمت العين أرباعاً على المعتمد، لزيد ثلاثة
أرباعها ولعمرو ربعها مع تمام المائة من بقية المال، وإن لم تجز قسط الثلث بنسبة
الوصيتين، فنسبة ما للموصى له بالعين ثلاثة أسباع، فيستحق من العين ما يساوي اثنين
وأربعين وستة أسباع، ونسبة ما للثاني أربعة أسباع، سبع في العين وهو يساوي أربعة
عشر وسبعين، وثلاثة أسباع في بقية المال وهو اثنان وأربعون وستة أسباع، فجملة ماله
سبعة وخمسون وسبع، اجمعها إلى اثنين وأربعين وستة أسباع التي لصاحب العين تصير
مائة وهو ثلث المال.
الموصى به
(مسألة: ش): مات عن ابن وبنتين وزوجة، وأوصى لأولاد بنته الثلاثة بمثل نصيب
ابنه الميت لو كان حياً، فيقدر حياة الابن الميت وكأنه خلف ابنين وبنتين، ويزاد
للموصى لهم مثل نصيب ابن فأصلها ثمانية، للزوجة واحد ولهم سبعة منكسرة على ثمانية
تضرب في أصلها تبلغ أربعة وستين، للموصى لهم ربع بعد الثمن 14، وللأولاد الباقي 42
وهو منكسر على الصنفين مع المباينة في الأوّل والموافقة في الثاني، فتضرب رؤوس
الموصى لهم ثلاثة في أصل المسألة تبلغ 192، ووفق الأولاد اثنان في هذا المصحح تبلغ
الجملة 384، للزوجة ثمن لكل 48 سهماً، وللموصى لهم 84 سهماً، وللأولاد 252 سهماً
اهـ. قلت:وقوله للزوجة: ثمن الكل الخ يتأمل كلامه، إذ من المعلوم أن الموصى به
ينقص على الجميع، فصواب العبارة والله أعلم أن تقول: أصل المسألة ثمانية، للزوجة
ثمن واحد، تبقى سبعة منكسرة على ستة: الابن الحي والميت المقدر إرثه والبنتين،
تضرب الرؤوس 6 في أصلها 8 تبلغ 48 لكل ابن 14، فيزاد للموصى لهم 14 تصير الجملة 62
وهي منكسرة عليهم أيضاً، تضرب رؤوسهم 3 في المصحح 62 تبلغ 186، للموصى له 42،
وللزوجة ثمن الباقي 18، وما فضل للأولاد وهو منكسر عليهم أيضاً مع الموافقة، تضرب
وفقهم 2 في المصحح 186 يبلغ الكل 372، للموصى لهم 84، وللزوجة 36، وللابن 126،
وللبنت 63، فهذا وجه تصحيح القسمة في مثل هذه.
(مسألة: ش): خلف ابناً وزوجة وأوصى لها بمنفعة أرض مدة حياتها فباعها
الابن، فإن كان قبل الإجازة صح في الكل إن أذنت الزوجة، وإلا ففيما عدا الثمن،
وبطلت الوصية لدلالته على الإعراض كبيع الموصي قبل موته، بل أولى أو بعدها بطل
مطلقاً لجهالة المستثنى من المنافع لتأقيتها بمدة الحياة، ومتى صح البيع كما مر ثم
باعها ثانياً بعد موت أمه المذكورة بطل، ولا أثر لدعواه حينئذ الوصية لها من أبيه
وإجازته ذلك قبل بيعه الأوّل لتكذيبه ذلك بالبيع الأوّل، نعم إن أقرّ المشتري
الأوّل ببطلان البيع أو جحد فأقام الثاني بينة سلمت للثاني ورد الابن الثمن أو
بدله إن تلف، أما تصادق الابن والمشتري الثاني على الإجازة قبل البيع الأوّل فلا
أثر له، إلا أنه يغرم له القيمة للحيلولة، فإذا رجعت إليه الأرض سلمها للثاني
واسترد القيمة.
(مسألة: ب): أوصى لعمتيه بمنافع نخلات مدة حياتهما فقبلتا ثم ماتت إحداهما
رجع نصيبها لورثة الموصي، وبقي نصيب الأخرى على المعتمد الذي أفتى به أحمد بحير
وأبو حويرث، كما لو قبلت إحداها وردت الأخرى، وأفتى أبو زرعة برجوع الكل للورثة
بموت إحداهما، ولو أوصى لآخر بشيء وقال: إن مات قبل البلوغ عاد لوارثي، فأفتى ابن
حجر بأنها تكون مؤبدة مطلقاً ولا ترجع للورثة نظير العمرى والرقبى.
(مسألة): أوصت امرأة لابن ابنها بمثل نصيب أو بنصيب أبيه الميت أو بحصة
إرثه منها، أو قالت: جعلته على ميراث أبيه صح في الكل، وإن لم تقل لو كان حياً
وكان كناية في الأخيرتين إلا إن قيدته ببعد الموت، ثم إذا صح فلو ماتت عن زوج وابن
وبنتين كان للموصى له خمس التركة لا ربعها، كما حققه العلامة ابن حجر في القول
الواضح المقر ورد على من خالفه، وذلك لأنا في المشبه به المقدر وجوده كابن الابن
هنا نقدر وجوده وسهمه، ثم يزاد مثل سهمه على المسألة وفي الموجود، كما لو أوصت
بمثل نصيب الابن الحي هنا يزاد مثل سهمه على المسألة فيكون له ربع، وحاصل مسألتنا
أن تقول أصلها من أربعة: للزوج ربع سهم، وللابن الحي سهم، وللبنتين سهم، وللابن
الميت المقدر وجوده سهم، ويزاد خامس للموصى له فيأخذ الخمس ثم تقسم التركة بين
الكل بحسب إرثهم. قال ابن حجر: ولا عبرة بعرف البلد في تنزيله منزلة أبيه من غير
زيادة، وما نقل عن ابن عبسين وابن مزدوع ومن سبقهما أو تبعهما مما يخالف ما ذكرنا
فغلط لا يعوّل عليه، لأن ذلك لا يوافق إلا مذهب مالك، وليس من مذهب الشافعي في
شيء، ولو أوصى له بنصيب ابنه بالإضافة وليس له ابن وارث بطلت أو بنصيب ابن
بالتنوين صحت اهـ.
(مسألة: ب): أوصى بثلث ماله يخرج منه تجهيزه ووصايا معينة، ويؤخذ بالزائد
مال يخرج منه وصايا وتهاليل، وما زاد يقسم أثلاثاً: ثلث للسادة المحتاجين حسبما
يراه الوصي، وثلثان للأرحام، فقوله: يؤخذ مال الخ. يجب اتباع شرطه، ولا تجوز
تفرقته دراهم وإن خيف ضياعه في المستقبل، بل الذي يظهر أنه يجب فوراً شراء ذلك
وصرف غلاته في مصارفها التي عينها، نعم إن غلب على ظنه الضياع واستيلاء الظلمة
عليه بعد الشراء جاز دفع بعضه لسلامة الباقي، فإن تحقق الضياع أو الاسيتلاء قبل
شراء المشروط في الوصية وأراد تفرقته نقداً فربما يجد مندوحة ويبرأ ظاهراً
وباطناً، هذا والمسلك الأولى والأوفق بشرط الموصي، وأحرى بالزمان هو أن يشتري
الموصي من كل أحد من الموصى لهم من أموالهم بقدر ما يخصه في الوصية باعتبار النقد،
ثم يأذن له في استقلاله على مقتضى الوصية، ويكون النظر في ذلك للوصي ولمن يستنيبه
فيما يعجز عنه، إذ هي جائزة حينئذ للضرورة.
(مسألة: ك): أوصى لزوجته بعقار من ضمان لها عليه لم يكن ذلك وصية إلا بالنسبة لتعيين دفع ذلك العقار في
الدين، إذ الوصية تبرع بحق مضاف ولو تقديراً لما بعد الموت، وبكونه ضماناً خرج عن
كونه تبرعاً فهو إقرار لا تبرع، وهو صحيح حتى للوارث في مرض الموت، ثم إن صح
الإقرار والضمان بشروطهما من التكليف والرشد، ومن معرفة صاحب الدين ولزوم المضمون
والعلم به وثبوته في غير ضمان الدرك دفع ذلك العقار للزوجة إذا قبلته بعد الموت عن
دينها، ولا يتوقف ملكها على القبض، ولا فرق في وجوب صرف العين الموصى بها للدين،
بين أن تكون لوارث أو غيره ولا تبرع هنا، نعم إن زادت العين على قدر الدين فقدره
يحسب من رأس المال، وما زاد من الثلث فلا بد حينئذ، فيما إذا كانت وارثة من إجازة
بقية الورثة المطلق التصرف في الزائد، وقدم غرض الموصي في صرف العين لما ذكر، إذ
ربما تكون أحل أمواله مثلاً ومنها لو باع المريض ما له لوارثه بثمن المثل أو بما
يتسامح به نفذ قطعاً، فلو خالف الوارث فقضى الدين من غير المعين الموصى به نفذ
تصرفه وإن أثم بإمساكها لرضا المستحق بما بذله الوارث ووصوله إلى حقه.
(مسألة ك): أوصى لزوجته بالبيت وما فيه دخل جميع ما في البيت من دراهم
ونحاس وسلاح ودوابّ وغيرها، لكن لا بد من إجازة بقية الورثة الكاملين بعد موت
الموصي، فإن أجاز بعضهم نفذت في نصيبه فقط ولا رجوع لهم بعد الإجازة، نعم إن ادعوا
الجهل بقدر التركة بأن قالوا: نظن قلتها فبان كثرتها صدقوا بأيمانهم حيث لم تقم
بينة بعلمهم ولم تكن الوصية شيئاً معيناً اهـ. قلت: وقوله دخل ما في البيت الخ. أي
عند الموت وإن حدث بعد كما في فتاوى ابن حجر لا عند الوصية كما هو معلوم.
(مسألة: ك) أوصى بعتق عبيده ثم اشترى بعد الوصية عبيداً أخر ومات عتق
الجميع، حيث لم يقيد بالموجودين حال الوصية وخرجوا من الثلث إذ العبرة في الوصية
بالمال والعتق وغيرهما بحالة الموت دون الوصية على المعتمد، حتى لو أوصى له بعبد
من عبيده ولا عبد عنده، ثم حدث له عبيد جاز إعطاؤه واحداً من الحادثين، وما نقل عن
شيخنا سعيد سنبل مما يخالف ذلك فغير ظاهر.
[فائدة]: أوصى بماعون الدار دخل فيه صناديق وفراطل وجفان وأصحان صين
وأباريق وطشوت نحاس ولو كباراً وحناجير وقعايد وسرر وميازين إلا نحو قبان ومراطبين
كباراً تراد للتجارة كفؤوس وقداوم تراد للحرث فلا تدخل، بخلاف ما يراد لتكسير حطب
وإصلاح سقوف اهـ فتاوى بامخرمة.
(مسألة: ي): أوصى
بدراهم يؤخذ بها مال ويوقف على الأرحام، فروجع فرد الأمر إلى أبيه فقال الأب:
مرادنا تفرقتها دراهم، فرده الأمر لأبيه توكيل في كيفية الصرف، وتقرير الأب الصرف
دراهم وإبطاله الوصية بالوقف صحيح، فتفرق حينئذ دراهم.
(مسألة: ك): أوصى بثلاثين ديناراً يشتري بها نخل ويوقف على مسجد معين وأشهد
على ذلك، ثم اشترى مالاً بأربعة وثلاثين ووقفه في حياته على ذلك المسجد، لم يكن
شراؤه المذكور رجوعاً عن الوصية إلا إن عين الدنانير الموصى بها ثم اشترى بها، أو
علم رجوعه عن الوصية، وحيث لم يكن شيء من ذلك، فيشتري النخل ويوقف كذلك إن وسعه
الثلث، أو أجاز جميع الورثة المطلقي التصرف.
(مسألة: ب): أوصى
بأنواع من القربات على يد شخص، ثم أوصى بأخرى على يد آخر، فإن ثبت رجوعه عن الأولى
وإلا حكم بصحتهما فيخرجان من الثلث إن وسعه وإلا قسط.
[فائدة]: أوصى بكتبه دخلت الأجزاء والمصاحف أو بمصاحفه لم تدخل الكتب اهـ
بامخرمة. ولو أوصى له بثلث ماله إلا كتبه، ثم أوصى له بالثلث وأطلق لم تدخل الكتب،
قاله ابن حجر وأبو مخرمة خلافاً لبعض الأشراف، ولو أوصى له بمائة ثم أوصى له
بخمسين فله خمسون لأن الثانية قاطعة للأولى اهـ تحفة. وقال في الروض وشرحه: ولو عكس
بأن أوصى له بخمسين ثم بمائة فله مائة.
(مسألة: ش): أوصى أو
أقرّ بمنافع نخلة أو دابة، فإن أراد به الثمرة والولد أو اطرد بهما العرف ملكهما
الموصى له كما دلت قرينة، لكن بالنسبة للوصية لا الإقرار، لأن مبناه على اليقين،
وإذا لم يدخل حملت المنافع في النخلة على ما يصح الاستئجار عليه من منافعها، كربط
دابة ونشر ثياب عليها، وفي الدابة على ركوبها أو الحمل عليها، ودياسة نحو الحب
وولدها حينئذ كهي، فلو قال بفوائدها أو غلتها حمل على الثمرة واللبن والصوف.
(مسألة): قال في الإمداد ونحوه التحفة: وكاعتبار الوصية بالمنافع مدة معلمة
ما لو أوصى لزيد بدينار كل سنة من أجرة داره، ثم من بعده للفقراء مثلاً، والأجرة
عشرة دنانير، فيعتبر من الثلث قدر التفاوت بين قيمة الدار مع إخراج الدينار منها
وقيمتها سالمة عن ذلك، ثم إن خرجت من الثلث امتنع على الوارث بيعها وإن ترك ما
يحصل منه دينار، لأن الأجرة قد تنقص عنه، وإن لم تخرج فالزائد على الثلث رقبة
وأجرة تركة اهـ، ومثله فتاوى بامخرمة، وحينئذ فلو أوصى بعقار يخرج من غلته للقراءة
كذا وما بقي لابنه فلان، فإن لم تجز الورثة للابن كان الزائد على أجرة القراءة
تركة، وكذا إن أجازت ومات الابن كما اقتضته فتاوى ابن حجر، ولو أوصى أن يعطى فلان
كل شهر كذا أعطيه إن عين الإعطاء من ريع ملكه، ولا أعطيه الشهر الأوّل فقط، كما لو
أوصى لوصيه كل سنة بمائة دينار ما دام وصياً فيصح بالمائة الأولى فقط خلافاً لمن
غلط فيه، قاله في التحفة.
(مسألة: ي): أوصى بثلث الجروب التي أحياها أن يصرف ريعه في تحصيل ماء للشرب
بمحل كذا، لزم الوصي فعله في ذلك المحل، فلو تعذر فعله في بعض الأحيان حفظت الغلة
إلى زوال العذر، فإن أيس من زواله في العادة أو خيف على الغلة قبل زواله، صرف
للشرب بمحل آخر بقرب ذلك المحل، ولا يجوز صرفه لجهة أخرى كأرحام الميت، ولا بيع
الثلث الموصى به من تلك الجروب كالوقف، ولو أوصى بثمر يقسم يوم موته فأخر وجب
تفريقه بعده، ولو أوصت بثلث مالها على يد زوجها يخرجه بنظره، وجب تفريقه بعد
تنضيضه دراهم على أقاربها غير الورثة.
(مسألة: ش): خلف كلب صيد وزقّ خمر ولحم ميتة فقط، وأوصى بأحدها اعتبر الثلث
بفرض قيمتها، إذ لا تناسب بين رؤوسها حتى يعتبر العدد، ولا بين منفعتها حتى تعتبر،
فإن أوصى بكلها نفذ في ثلث كل إن لم يجز الوارث.
(مسألة: ب): أوصى
بأنواع من القربات ثم قال: وأوصى بأن عبده فلاناً معتوق عتقاً معلقاً قبل موته
بثلاثة أيام وجعل له مائة قرش، والجارية المتزوّج بها، والجارية والعبد اللذين عند
فلان بشرط أن يكونوا في طاعة أولاده، وكذلك عبده فلان معتوق قبل موته بثلاثة أيام
صحت الوصايا بشرطها، وكذا العتق إن وجدت الصفة وهي مضي الثلاث مع الشرط وهو خدمة
الأولاد، فإن لم يدوموا على الخدمة بعد لم يبطل العتق، لأن عدم الشرط يمنع إمضاء
الوصية، ونفوذ العتق يمنع الرجوع فيه، فحينئذ يرجع الورثة على كل بقيمته وتكون
تركة، لكن يتردد النظر في قول الموصي وأوصى بأن عبده فلاناً معتوق عتقاً معلقاً
قبل مرض موته بثلاثة أيام، إذ في ذلك شبه تناف أو هو هو، فيحتمل إلغاء هذه الصيغة
وإن قصدها المعتق، لأن المقاصد إذا لم يدل عليها الألفاظ لا تعتبر، وقاعدة ما كان
صريحاً في بابه تؤيده، ويحتمل صحة العتق نظراً لتشوف الشارع إليه ما أمكن، ويكون
معنى أوصيت أقررت أو أعلمت ونحوه، ويؤيد هذا قولهم: إعمال الكلام أولى من إهماله،
وكلام المكلف يصان عن الإلغاء ما أمكن، والقلب إلى هذا أميل.
(مسألة: ك): أوصى بكفارة وأطلق واجتهد الوارث في بيانها، فإن عرفها بقرينة
أو إخبار أخرجها، فلو لم يحج الموصي تبين أنها ليست من كفارته، وإن لم ينكح علم
أنها ليست عن ظهار، وهكذا يستدل بالقرائن على خروج ما لا يتصور وجوده، فإن لم يظهر
شيء اتجه وجوب سائر الكفارات، إذ لا يخرج من العهدة إلا بذلك، وحينئذ إن كفر عنه
بالعتق مثلاً أغناه عن الجميع من حج ووقاع رمضان وظهار وقتل ويمين، وكذا إن كفر
بصيام شهرين متتابعين حيث كفاه الصوم في كفارة اليمين، لأن الثلاثة بعض الستين،
كما لو كفر بإطعام الستين فيكفيه لغير كفارة القتل إذ لا إطعام فيها، فينوي بذلك
الواجب على مورثه، وينصرف لما هو عليه من ذلك، إذ التعيين في نية الكفارة غير لازم
كما هو مصرّح به في المتون اهـ. قلت: وقوله: من حج يتأمل كلامه، إذ ليس في كفارات
الحج عتق، وقوله: حيث كفاه الصوم في كفارات اليمين أي ومثلها غيرها إذ هو مؤخر عن
العتق كما علم.
(مسألة: ك): أوصى بدراهم تنزع من تركته يشترى بها عقار تصرف غلته لمصرف
مباح، فإن كانت التركة أعياناً حاضرة ناضاً وغيره أخذ الوصي الدراهم من الناض ما
لم ينض على دراهم معينة وإلا تعينت، وإن كان بعضها غائباً أخذ قدر ثلث الحاضر، ثم
إذا تمكن من الباقي أخذ ما بقي، هذا إن وفى الثلث بالموصى به وإلا أخذ قدر الثلث
فقط.
(مسألة: ب): أوصى بثلث
ماله يفعل منه قراءة وختم وصدقات معينات، وما يزيد بعد ذلك يكون بيد فلان يفعل ما
يعود نفعه على الموصي من مصالح الخير، ففعل الوصي ما عينه وبقي نحو ثلاثمائة قرش،
فالذي أراه من أفضل القربات إن لم يكن أفضلها، ومن أعلى شيء يعود نفعه على الميت
أن يشتري بذلك مال وتكون غلته لطلبة العلم بمحل كذا، أو مدرسة كذا، ترغيباً لطلبة
العلم، لا سيما في هذه الجهات التي ركدت فيها زيارته وخبت مصابيحه، وهو الذي ما
عبد الله بشيء أفضل منه، وفضله في الدين معلوم بالضرورة بل هو الدين كله، وأهله
الملوك في الدنيا والآخرة، ولو أوصى بثلثه فلم يعين له جهة أو عين وبقيت بقية صح
وصرف الكل أو الباقي للفقراء، وإن قال: أوصيت بثلثي مالي لله يصرف منه كذا أو سكت،
فالفاضل أو الكل يصرف في وجوه البرّ.
(مسألة: ب): أوصى ببيع ثلث أمواله غير البيت، يصرف في أبواب الخيرات من
قراءة وتهليل وللمساجد، وله بيوت وأموال عقارية ومنقولة، فقوله في أبواب الخيرات
أل فيها للعموم عند أكثر علماء الأصول ما لم يتحقق عهد، فيشمل جميع أنواع القرب،
لكن ذكر بعضهم أن التقسيم مما يفيد الحصر فلا يتعدّى غيره، فحينئذ يكون مقصوراً
على ما ذكره فقط، فعليه لا يجوز صرف شيء من ذلك لأرحام الميت وأهل العلم والدين
المستحقين، والطريق الأقوم السالمة عن الاعتساف إرشاد الوصي إلى أن يؤجر من يريد
صلته، وإعطاءه من أرحام الموصي أو من السادة أو أهل العلم أو الصلاح من يقرأ أو
يهلل للموصي، ويفاضل في الأجرة بتفاضل الأشخاص، فهذا أنفع للميت مع صلة من ذكر،
وأما فعل التهاليل على الوجه المعتاد في المساجد من اجتماع العوام والتسبب في
إلجائهم إلى عدم احترامها من الكلام فيما لا يعني، بل ربما وقعوا في المحرم من نحو
غيبة وعدم اجتناب نجاسة، واختلاط نساء ورجال، فلا أرى فيه مندوحة، فضلاً عن أن
تراه أفضل مما أشرنا إليه، وله أن يفاضل بين أجرة القراءة والتهاليل وما للمساجد
بحسب نظره إذ هو موكول إليه، بل الذي يظهر أنه يكفي ما يطلق عليه اسم المال لكل من
ثلاثة مساجد من أي بلد كانت لعموم لفظ الموصي وعدم تقييده بمحل، وما يطلق عليه اسم
القراءة والتهليل أيضاً، وقول الموصي غير البيت، فإن دلت قرينة على أنه البيت
المعهود الذي يسكنه فذاك، وإلا فالراجح عند أئمة الأصول أن اسم المفرد المعرف بأل
للعموم فيعم كل بيت ما لم يتحقق عهد وإلا صرف إليه جزماً، وقيل: يختص بالبيت الذي
يسكنه مثلاً، لأنه المتحقق والقلب إلى هذا أميل، لأن العوام لا يقصدون بمثل هذه
الألفاظ إلا دار السكنى فقط، ومع ذلك هو الأحوط للورثة والوصي، والأنفع للميت،
فينبغي العمل به، فيبيع الوصي ثلثاً من جميع المنقول والعقار ما عدا تلك الدار
ويصرفه بحسب نظره، وله أن يعين شيئاً من العقار لما يراه من نحو قراءة أو لمسجد.
(مسألة: ش): أوصى بتهاليل سبعين ألفاً في مسجد معين، وأوصى للمهللين بطعام
معلوم، فالمذهب عدم حصول الثواب بالتهليل إلا إن كان عند القبر على المعتمد، وفي
وجه حصوله مطلقاً، وهو مذهب الثلاثة، بل قال ابن الصلاح: ينبغي الجزم بنفع: اللهم
أوصل ثواب ما قرأناه إلى روح فلان، لأنه إذا نفعه الدعاء بما ليس للداعي فماله
أولى، ويتعين المسجد المذكور لاستحقاق الطعام الموصى به عملاً بشرط الموصي كالوقف
اهـ، وعبارة (ك): قرأ شيئاً من القرآن ثم أهدى ثوابه إلى روح النبي ثم إلى روح
فلان وفلان، أما النبي فالثواب حاصل له مطلقاً، بل هو مضاعف تضعيفاً تستحيل
الإحاطة به، لأنه يثاب على أعمال أصحابه الضعف، وأما غيره ممن دعا له القارىء
بوصول ثواب القراءة له أو جعله له أو كان بحضرته أو نواه بها، فالنفع حاصل للكل لا
محالة، بل إحضار المستأجر له في القلب سبب لشمول الرحمة إذا نزلت على قلب القارىء،
وأما ثواب نفس القراءة ففي حصوله له خلاف، والذي اعتمده ابن حجر و (م ر) حصوله إن
دعا للميت عقب القراءة، أو جعل له ثوابها أو كان بحضرته، وكذا إن كان غائباً ونواه
بالقراءة كما اعتمده (م ر) وهو مذهب الأئمة الثلاثة، وقال ابن حجر: يحصل له ثواب
النفع دون ثواب القراءة، ويحصل أيضاً للقارىء ثواب وإن قصد به غيره أو أهداه له
كما مر، فلو بطل ثوابه كأن كان لغرض دنيوي لم يبطل ثواب المنوي له، ولا يظهر في
هذا المقام فرق بين الواو وثم فيما إذا قال: إلى روح فلان ثم فلان، أو قال: إلى
فلان خاصة ثم إلى المسلمين عامة، كما مال إليه في التحفة والنهاية، لكن يتفاوت
الثواب، فأعلاه ما خصه، وأدناه ما عمه، نعم في النفس توقف من الإتيان بالترتيب،
لأن فيه تحكماً، أو عدم تفويض الأمر لله تعالى، وينبغي أن تكون الصدقة عن الغير
أفضل من القراءة، إذ لا خلاف في حصولها، والأفضل من الصدقة ما دعت إليه الحاجة في
المحل المتصدّق فيه أكثر، فتارة يكون الماء، وتارة يكون الخبز، وتارة يكون غيرهما.
(مسألة: ك): من عمل عملاً فقال بعده: اللهم أوصل ثواب هذه العبادات للنبي
صح ذلك بل يندب على المعتمد، وإن كان يضاعف له أجر كل من عمل خيراً من أمته من غير
أن ينقص من أجورهم شيء، ومن غير احتياج إلى افتتاح الأعمال بنية جعل ثوابها له
عليه الصلاة والسلام، لأن كل عامل ومهتد إلى يوم القيامة يحصل له أجره، ويتجدد لشيخه مثل ذلك الأجر، ولشيخ شيخه
مثلاه، وللثالث أربعة، وللرابع ثمانية، وهكذا تتضاعف المراتب بعدد الأجور الحاصلة
بعده إلى النبي ، وبهذا يعلم تفضيل السلف على الخلف، فإذا فرضت المراتب عشراً بعده
عليه السلام كان له صلوات الله عليه من الأجر ألف وأربعة وعشرون وهكذا، وأما نيَّة
ثواب الأعمال له من غير دعاء، فإن كان صدقة أو دعاء صح وإلا فلا على الراجح. وفي
فتاوى شيخنا سعيد سنبل: من عمل لنفسه ثم قال: اللهم اجعل ثوابه لفلان وصل له
الثواب، سواء كان حياً أو ميتاً، أي وسواء كان بطريق التبعية أو الاستقلال، وأما
ما يفعله بعض السالكين المستغرقين في محبته من افتتاح جميع أعماله بنية ثوابها له
، ثم إن تصدق عليه عليه الصلاة والسلام قبل منه على وجه الصدقة، وإن لم يعطه شيئاً
فرح بذلك أشدّ الفرح، فيجوز لأمثالنا المخلطين الاقتداء بهؤلاء السادة، وإنما
الممنوع منه أن يفعل تلك العبادة البدنية بدلاً عن فلان.
(مسألة: ج): أوصى بأن يقرأ يس وتبارك كل يوم ويهدي ثوابها إلى روحه، وأجرة
من يقرأ في تركته صحت، وإن لم يخلف عقاراً فيؤخذ من التركة بقدر ما يؤخذ به نخل أو
زبر وهو أولى تفي غلته بأجرة تلك القراءة، ولو أوصى بأن يقرأ عليه جزء من القرآن
في مسجد معين لم يتعين كنذر الصلاة إلا المساجد الثلاثة.
الإيصاء
(مسألة: ش): من شروط الوصي العدالة الظاهرة، فإذا ادعى شخص الوصاية، فإن
علم القاضي فسقه أو ثبت ببينة لم تسمع دعواه، وإلا سمعها وطلب إثباتها ونفذ
ظاهراً، ثم إن فسق انعزل، أو ثبت فسقه قبل الإيصاء إليه بأن أن لا ولاية له، وإن
كان قد نفذها الحاكم وحكم بصحتها اعتماداً على الظاهر، إذ المذهب أن حكم الحاكم لا
يغير ما في الباطن إذا خالف الظاهر، وإن لم يثبت فسقه ولا عدالته وجب البحث عن
حاله على الأصح، بخلاف الأب والجدّ إذ ثبوتها لهما أصلي فلا يرتفع حتى يتحقق خلافه.
(مسألة: ي): أوصى بأن
فلاناً يتولى أمره ويعطي كل ذي حق حقه، ملك بهذه أداء ديون الميت والأمانات
والحقوق التي عنده لآدمي أو لله تعالى، كالزكاة والكفارة وكالوصايا وغيرها كالوصاية
على المحجور لا الكامل، بل إن غاب تولاه الحاكم الأمين ثم صلحاء البلد اهـ. وعبارة
(ش): أوصى إلى زيد باستيفاء دينه وحفظ أمواله لورثته الغائبين صح وتولاه دون
الحاكم، وليس ذلك ولاية في أمر الغائب الكامل، إذ لا تصح إلا من نحو الأب على
المحجور، بل وصاية فيما يتعلق بالميت، لأن له غرضاً بعد موته في حفظ ماله، إذ ربما يظهر عليه دين، فإن لم يوص تولى الحاكم
الثقة قبض العين مطلقاً، وكذا الدين إن خاف تلفه كأن طالت غيبة مستحقه.
(مسألة:): أوصى إلى
آخر بتجهيزه والتصدق عنه من الثلث، أو أداء دينه وردّ ودائعه، لزم الوصي مطالبة
الوارث الكامل وولي المحجور بتسليم الموصى به يفرقه، وبأداء الدين أو إعطائه قدره
من التركة ليؤديه من ثمنه، وليس له الاستبداد بالبيع بغير إذنه أو إذن الحاكم عند
غيبته أو امتناعه، بل لا يصح البيع، ولا تبرأ ذمة الميت فيرد المقبوض، إذ للوارث
إمساك عين التركة وقضاء الدين من ماله ما لم يعين الموصي للأداء مالاً وإلا وجب الأداء منه، وهذا حيث لم يقل
الموصي للوصي: بع عين كذا واقض ديني منها، وما لم يكن في التركة جنس الدين، وإلا
استبد في الأولى وكفى أداء الدين في الثانية، لكن يأثم بعدم المراجعة فيها حيث سهلت
في الأصح، وله رد الودائع من غير مراجعة، إذ لمالكها الاستقلال بأخذها، ولو دفع
الوصي الوصية أو قضى الدين من مال نفسه لم يرجع على التركة ولا مال الوارث إلا إن
أذن له في الأداء، وإن لم يشرط الرجوع على الأوجه، نعم إن كان وارثاً وأدى بنية
الرجوع رجع ولو بلا إذن.
(مسألة:): أوصى إلى
اثنين بأن قال: أوصيت إليكما أو إلى فلان، ثم قال: ولو بعد مدة:، أوصيت إلى فلان،
أو قال لشخص: هذا وصيي، ثم قال لآخر: هذا وصيي، وعلم الأول أو نسيه لم ينفرد
أحدهما، بخلاف ما لو قال: أوصيت إليه فيما أوصيت فيه لزيد فإنه رجوع كما في التحفة،
وقال في الفتح: ولو اختلف الوصيان في المصرف ورجع القاضي أو في الحفظ قسم إن قبل
القسمة، فإن لم يقبلها جعل بينهما هذا كله في وصيي تصرف اختلفا في الحفظ، أما وصيا
الحفظ فلا ينفرد أحدهما بحال.
(مسألة: ب) ونحوه ي: أوصى إلى ثلاثة أشخاص وشرط اجتماعهم إن كانوا بالبلد،
وجعل لكل الاستقلال عند غيبة صاحبه، أو قيام مانع شرعي به، وجعل أوصياء آخرين في
حفظ تركته وقبضها وإخراج ما لا بد منه كتجهيز الميت إلى أن يصل أوصياؤه، ففعل
هؤلاء ما أمرهم به، ثم قدم أوصياؤه الثلاثة، فعزل واحد نفسه، وغاب واحد من بلد
المال أو مات، وبقي الثالث كان له الاستقلال بجميع التصرفات، لأن الموصي أثبت لكل
من أوصيائه وصف الوصاية، فدل على أن كلاًّ وصيي، وإنما شرطوا اجتماع الأوصياء فيما
إذا قال: أوصيت إليكما ونحوه، ولو لم تحصل الكفاية بغير الحاضر، أو خاف على المال
استيلاء نحو ظالم، أو عزل نفسه، تعين عليه القيام بذلك لكن لا مجاناً بل بأجرة
المثل، وله إن خاف من إعلام القاضي الاستقلال بأخذها بعد إخبار عدلين عارفين له
بقدر أجرة المثل ولا يعتمد معرفة نفسه، والأوجه أنه يلزمه القبول في هذه الحالة،
وأنه يمتنع حينئذ عزله ولو من الموصي لما فيه من ضياع ودائعه أو مال أولاده كما في
التحفة، وليس للموصي توكيل غيره فيما تولاه حضر أو غاب إلا فيما لا يتولاه مثله أو
عجز عنه ابتداء لكثرته، لا إن طرأ العجز لنحو سفر ومرض، زاد (ي): لكن رجح في
التحفة جواز التوكيل مطلقاً كالولي والقيم بشرط أن يوكل أميناً.
[فائدة]: يجوز للولي شراء مال طفله من الحاكم وإن لم يعزل نفسه، كما لو
أوصى إليه بتفريق شيء وهو مستحق فيجوز للقاضي إعطاؤه وإن لم يعزل نفسه اهـ، نقله
أبو مخرمة عن ابن حجر وأقره.
(مسألة: ش): أوصى بعين تصرف في عمارة بركة تمسك الماء، طلب الوصي ثم أبو
الميت بناء على الأوجه من تقدمه على الحاكم كما في الفتح ثم الحكم ثم الوارث تسليم
العين ممن هي تحت يده للموصى له بإصلاحها إن أوصى بعينها، وحينئذ تدخل في ملكه إن
كان معيناً بمجرد الإقباض، نعم إن قال: يستأجر بها فلا بد من استئجاره، فلو زادت
العين على الأجرة فاز بها الموصى له إذ هي وصية على الأوجه، فإن أوصى بثمنها طلب
من ذكر بيعها وتسليم ثمنها لمن ذكر، ولا يجوز إبدالها، إذ قد يكون للموصي غرض في
تلك العين، وهذا إن وقت تلك العين بالإصلاح أو تبرع بالزائد وارث أو أجنبي، وإلا
بطلت الوصية ورجعت للوارث على الأوجه، ولا يسلم الوصي شيئاً من الأجرة إلا بعد
كمال الإصلاح، نعم لو لم يمكن الإصلاح إلا تدريجاً، ولم يرض العامل إلا بتسليم
أجرته كل يوم، فالظاهر جواز تسليم ذلك إن غلب على الظن أن الموصى به يفي بالإصلاح،
ولا يضمن نحو الوصي بعروض مانع من الإتمام كتلف المعين له، فلو استأجر من ماله أو
في الذمة، ولم ينو تسليم الأجرة من العين في الثانية، أواستأجر أجنبي مطلقاً ولو
وارثاً لزمه تسليم الأجرة من ماله.
[فائدة]: أخرج الوصي الوصية من ماله ليرجع رجع إن كان وارثاً وإلا فلا، كما
لو اقترض ليرجع، وإن اقترض للميت شيئاً في الذمة كالكفن وغيره رجع إن نوى الشراء
للميت اهـ عماد الرضا.
(مسألة: ب): أقر
الموصي عند وصيه بأن لفلان كذا بذمته لم يجز للوصي إعطاء المقر له قبل ثبوته ببينة
أو إقرار من الورثة كالوكيل، بل يضمن بأدائه ولا يرجع على الورثة لاعترافه، كما لو
ادعي على الوصي بدين على الميت فأداه بلا بينة اهـ. قلت: وهذا من حيث الظاهر، ففي
فتاوى ابن زياد وابن
حجر: لو علم الوصي ديناً على الميت لزمه تسليمه باطناً وإن لم يأمره الميت وعبارة
(ك): لا يصدق الوصي في قضاء الدين إلا ببينة، كما لا يصدق في إخراج الزكاة ودفع
المال إلى مستحقه والبيع بغبطة أو حاجة وترك شفعة، إذ لا تعسر إقامة البينة على
ذلك، ولا ينافيه تصديقه في عدم الخيانة وفي تلف المال بنحو سرقة وغصب لأنه أمين،
والأصل عدم الخيانة بخلافه في قضاء الدين، فإنه يدّعي ثبوت الدين وقضاءه فعليه
البينة، والحاصل أن كل ما ادعى الوصي الإتيان به مما يضر المحجور ولا تعسر إقامة
البينة عليه لا يصدق فيه وما لا صدّق، نعم يجوز للوصي فيما إذا علم ديناً على
الميت قضاؤه باطناً، ولا يضمن فيما بينه وبين الله تعالى، بل قد يجب كما قاله ابن
زياد اهـ. وعبارة (ش): ليس للوصي أداء الدين وردّ العين لمستحقهما قبل ثبوتهما وإن
علمهما هو، نعم له قبل الأداء أن يشهد للمدعي ويتم الحجة بآخر أو يمينه لا بعد
أدائه للتهمة، كما لو شهد بهلال شوّال يوم الثلاثين بعد أن أفطر، وحيث لم يثبت
المدعي بينة حلف الوارث علي نفي العلم ووجب رد الدين والعين ثم بدلهما وله مطالبة
الوصي، فإن غرمه لم يرجع على من أقبضه لزعمه أن الظالم له الوارث، نعم يجوز للوصي
الدفع باطناً وله كالمدفوع له الحلف بعدم الإقباض والقبض ويكفران، وليس له
المطالبة بالرد بعد الدفع لاعترافه بملكه ما لم تكن العين باقية وطلبها منه
الوارث.
(مسألة: ي): رقم الولي على موليته حساباً لها وعليها، لزمه ما أقرّ به لها،
وأما ما عليها فلا يثبت إلا بخمسة شروط: ثبوت ولايته عليها بعدلين، وكون المرقوم
عليها من ثمن وخرج نحو الحلي والثياب يساوي ذلك بنظر العدلين من أهل الخبرة بعد
مراعاة ما حصل فيه من زيادة ونقص من أخذه إلى الآن، وهذا كالمرقوم اللائق في
نفقتها، وخرج المال بقول من ذكر، ويزيد ما اقترضه من الغير أو استدانه أو أخرجه من
مال نفسه على ذينك بأن تفقد غلتها ودراهمها أو يتعسر الإخراج منهما وقت الحاجة،
وأن يأذن الحاكم في ذلك بشاهدين، وأن يحلف الولي أن الاقتراض وما بعده بعد إذن
الحاكم وتعسر الإخراج، ويحلف ثانياً يمين الاستظهار بأن ذلك باق بذمتها لم يتطرق
إليه مسقط من إبراء أو وفاء أو فقد شرط مما ذكر، أما ما رقمه بعد بلوغها فلا يلزم
إلا إن أثبت إذنها بعدلين ولم يشتر لها من نفسه ولا محجوره وحلف يمين الاستظهار
أيضاً، هذا إن لم تصدقه أو وارثها الرشيد، وإلا لزم المصدق حصته اهـ. وعبارة (ش):
أنفق الوصي أو القيم على المحجور من مال نفسه لم يرجع به عليه، بل يكون متبرعاً
بذلك، إلا إن أنفق منه لمصلحة المحجور كانتظار غلته ولو بلا إذن حاكم في الإنفاق،
ويصدق في القدر اللائق فيه بيمينه لعسر إقامة البينة،فإن ذكر قدراً غير لائق صدّق
المحجور في الزائد، ولو أنكر الوصي الوصاية لغير عذر انعزل من الآن لا ما تقدم.
(مسألة: ي): عزل الوصي نفسه أو أراد سفراً لزمه رد المال للقاضي الأمين،
فإن لم يكن كما هو الغالب الآن لزمه أن يجمع صلحاء البلد ويردّه إليهم ويلزمهم
اختيار واحد منهم، كما لو خان الوصي أو فسق فيلزمهم عند فقد القاضي عزله وتولية
غيره، وليس للوصي أن يوصي إلى غيره فيما وصي فيه إلا بإذن الموصي كالوكيل وناظر
الوقف، ويلزم الوصي الإشهاد والمحاسبة كل سنة، وكذا كل أمين في هذا الزمان تلزمه
المحاسبة لكثرة الخيانة كما قاله في التحفة والنهاية.
كتاب النكاح
[فائدة]: أخرج الإمام مالك في الموطأ أن رسول الله قال: "إذا تزوّج
أحدكم المرأة أو
اشترى الجارية فليأخذ بناصيتها وليدع بالبركة" اخـ. وليقل: "اللهم بارك
لي في أهلي وبارك لأهلي فيّ وارزقهم مني وارزقني منهم، واجمع بيننا ما جمعت في
خير، وفرق بيننا ما فرقت في خير، بارك الله لكل منا في صاحبه" اهـ من كتاب
البركة. وروى أبو داود: "إذا تزوّج أحدكم فليقل: اللهم إني أسألك خيرها وخير
ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرّها وشر ما جبلتها عليه" اهـ. وليقل:
"اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم".
[فائدة]: إذا سكنت المرأة في إحدى حجرتين أو علو
أو سفل أو دار وحجرة، وأراد الرجل الأجنبي أن يسكن الأخرى، اشترط أن لا تتخذ
المرافق كمطبخ وخلاء وبئر ومـمرّ وسطح ومصعد له، فإن اتحد واحد حرمت المساكنة
لأنها حينئذ مظنة الخلوة المحرمة، كما لو اختلفا في الكل ولم يغلق الباب بينهما أو
يسد أو غلق وكان ممرّ أحدهما على الآخر أو بابه في مسكن الآخر، نعم تنتفي الحرمة
في هذه الصور بأن يكون معها محرم مميز متيقظ ولو أنثى أو أعمى ذا فطانة، بحيث يغلب
على الظن انتفاء الفاحشة، أو كان له امرأة كأجنبية يحتشمها لخوف أو حياء، ولو لم
يكن في الدار إلا بيت وصفة لم يساكنها ولو محرماً، فعلم أنها تجوز خلوة رجل ثقة
بأجنبيتين ثقتين يحتشمهما لا رجلين بأجنبية مطلقاً اهـ فتاوى ابن حجر.
(مسألة): قال في التحفة: وإنما حلَّت خلوة رجل بامرأتين يحتشمهما بخلاف
عكسه، لأنه يبعد وقوع فاحشة بامرأة متصفة بذلك مع حضور مثلها ولا كذلك الرجل، ومنه
يؤخذ أنه لا تحل خلوة رجل بمرد يحرم نظرهم مطلقاً بل ولا أمرد بمثله وهو متجه، ولا
تجوز خلوة رجل بغير نساء ثقات وإن كثرن، وفي التوسط عن القفال: لو دخلت امرأة
المسجد على رجل لم تكن خلوة لأنه يدخله كل أحد اهـ. وإنما يتجه ذلك في مسجد مطروق
لا ينقطع طارقوه عادة، ومثله في ذلك الطريق أو غيره المطروق كذلك.
[فائدة]: تزوّج امرأة وقد أزيل شعر رأسها قبل تزوّجه بها فالظاهر حرمة
النظر إليه كما لو أزيل منها وهي في نكاحه ثم طلقها، لأن العقد إنما شمل الأخرى
الموجودة وقته ولأنها صارت أجنبية في الثانية، ولا نظر لانفصاله في وقت كان يجوز
له فيه النظر اهـ ع ش. وقال الباجوري في مبحث حرمة نظر الرجل: وخرج بالبالغ الصبي
لكن المراهق كالبالغ ومعنى حرمة النظر فيه أنه يحرم على وليه تمكينه منه ويحرم على
المرأة أن تنكشف له كغير المراهق إن كان يقدر على حكاية ما يراه بشهوة، فإن قدر
عليه بغير شهوة فكالمحرم، وإن لم يكن يقدر على حكاية شيء فكالعدم، فعلم أن غير
البالغ أربعة أقسام اهـ.
الصيغة
[فائدة]: ما يفعله بعض العاقدين للنكاح من زيادة خطبة مختصرة بعد خطبته
المشهورة الواردة عنه بقوله: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله الخ، ثم
يعقد لا أصل له في السنة، ولا يروى عن أحد من المشايخ كابن حجر و (م ر): وإن ذكرها
في الإحياء بل هي خلاف الأولى، إذ لا فائدة لتكرير خطبتين معاً اهـ جواب الشريف
أحمد بن حسن الحداد.
(مسألة: ب): قال
للولي: زوّجني موليتك فلانة، فقال: زوّجتكها صح، كما لو قال له المتوسط: زوّجت
فلاناً بنتك، فقال: زوّجتها منه وقبل الزوج بشرطه.
(مسألة: ش): لو قال
الولي للزوج بعد الإيجاب: قبلت لم يضر وإن لم يكن من مصالح العقد، لأن الكلام
الأجنبي اليسير لا يضر بمن انقضى كلامه بخلافه ممن طلب جوابه وهو الزوج هنا،
وحينئذ لو ابتدأ الزوج فقال للولي: زوّجني ابنتك، فقال: استوص بها خيراً زوّجتك
ضرّ إذ هو حينئذ ممن طلب جوابه.
(مسألة: ش): تزوّج امرأة بشرط أن لا يخرجها من بيت أبيها، فإن لم يكن في
صلب العقد فلا أثر له تقدم أو تأخر فلا يلزم به شيء، أو في صلبه: كزوّجتك ابنتي
بشرط أن لا تخرجها من بيتي صح النكاح ولغا الشرط وفسد المسمى ولزم مهر المثل ككل
شرط لا يخل بمقصود النكاح، ولهما أو لأحدهما به غرض، والقديم كمذهب أحمد صحة الشرط
النافع لها فتخير عند فقده، وقال شريح: يلزمه الوفاء به.
(مسألة: ش): غيرت
اسمها ونسبها عند استئذانها في النكاح فزوّجها القاضي بذلك الاسم، ثم ظهر أن اسمها
ونسبها غير ما ذكرته، فإن أشار إليها حال العقد بأن قال: زوّجتك هذه أو نوياها به
صح النكاح سواء كان تغيير الاسم عمداً أو سهواً منه أو منها، إذ المدار على قصد
الولي ولو قاضياً والزوج كما لو قال: زوّجتك هنداً ونويا دعداً عملا بنيتهما.
الزوجان
(مسألة): من شروط النكاح علم الزوج بالمنكوحة، فلو تزوج من لا يعرف نسبها
ولا عينها وتعذرت معرفتها بعد لم يصح وإن أشار إليها الولي، نعم لو قال: زوّجتك
بنتي أو إحدى بناتي أو بنتي فلانة ونويا معينة ولو غير المسماة صح إذ تغتفر
الكناية في المعقود عليه، قاله في التحفة والنهاية قال ع ش: فلو اختلفت نيتهما لم
يصح، وتعيين الزوج فزوّجت أحدكما باطل، كما لو قال وليّ الطفل: زوّجت ابني بنتك
ولم يسمه للجهل بالزوج، نعم قال ع ش: يؤخذ من كلام (م ر): أنه لو قال الولي: زوجت
موليتي هذا ولم يعرف اسمه ونسبه صح اهـ. وحيث قلنا تغتفر الكناية في الزوجة لا
يقدح ذلك في الشهادة، إذ المقصود حضور الشاهد وضبطه صورة العقد وإن تعذرت الشهادة
عليهم، كما لو كانا ابني الزوجين، ويحنئذ لو دعوا للأداء لم يشهدوا إلا بصورة العقد
التي سمعوها لا غير كما في التحفة.
(مسألة: ش ك): يجوز للشخص نكاح المعتدة منه بطلاق دون الثلاث، أو بوطء شبهة
أو نكاح فاسد لأن الماء ماؤه، إذ التعبد بالعدة إنما يكون لغير ذي العدة، لكن
الأولى أن لا يعقد عليها حتى تنقضي العدة.
(مسألة: ي ش): يجوز نكاح
الحامل من الزنا سواء الزاني وغيره ووطؤها حينئذ مع الكراهة.
(مسألة): عقد على
امرأة ثم فارقها قبل الدخول حل له نكاح بنتها، إذ لا تحرم البنت إلا بوطء الأم
بنكاح أو شبهة أو ملك اليمين، بخلاف أم الزوجة وزوجة الأب والابن فيحرمن بمجرد
العقد.
(مسألة): زنى ببنت
زوجته وجب عليه الحدّ ولا ينفسخ نكاح الأم، بخلاف ما لو وطئها بشبهة كأن ظنها
حليلته، فينفسخ النكاح وتحرمان عليه مؤبداً إن وطىء الأم، وإلا حرمت الأم مؤبداً
لا البنت فله نكاحها، ويلزمه المهر بوطء الزنا والشبهة ما لم تطاوعه على الزنا، إذ
لا مهر لبغي، ولو نكح امرأة فبانت محرمة برضاع ببينة أو إقرار فرق بينهم، فإن حملت
منه كان الولد نسيباً لاحقاً بالواطىء لا يجوز نفيه، وعليها عدة الشبهة ولها مهر
المثل لا المسمى، وللوطء المذكور حكم النكاح في الصهر والنسب لا في حل النظر
والخلوة ولا في النقض، فيحرم على الواطىء نكاح أصولها وفروعه، وتحرم هي على أصوله
وفروعه، ويجوز النظر إلى المحرم المذكورة بلا شهوة.
(مسألة: ك): وطىء امرأة بنكاح أو شبهة أو أكره على الزنا بها أو وطئها
مجنوناً حرم عليه أصولها وفروعها، وحرمت هي على أصوله وفروعه، بخلاف النظر
والمباشرة بلا وطء فيما ذكر ووطء الزنا فلا يحرمان، لأن الله امتنّ على عباده
بالصهر والنسب ولأن الزنا لا حرمة له، وقال أبو حنيفة: يثبته.
(مسألة: ك): امرأة
تاركة الصلاة، إن كان تركها لها جحداً لوجوبها أو وجوب ركن منها مجمع عليه أو فيه
خلاف واه فهي مرتدة لا يجوز لأحد ولو كافراً ومرتداً نكاحها فلتستتبّ ثم يضرب
عنقها، ويجوز إغراء الكلاب على جيفتها ومالها فيء، أو كسلاً مع اعتقاد وجوبها قتلت
حداً بعد الاستتابة ندباً وتجهز كالمسلمين، ويجوز نكاحها لكن غيرها من أهل الدين
أولى.
(مسألة: ش): أخبره عدل وكذا فاسق وقع في قلبه صدقه بموت أحد زوجاته الأربع
جاز له التزوّج بخامسة، ثم لو بان حياتها حال عقده بالخامسة تبين بطلانه، ولها مهر
مثلها إن دخل بها ولم تكن عالمة بحياة ضرتها، أو عالمة وظنت حلّ العقد بالخامسة
لجهلها الممكن، وإلا فهي زانية لا تستحق مهراً، والولد منها حر نسيب تثبت له سائر
الأحكام.
(مسألة: ش): يجوز لنحو
الأب تزويج موليته إذا أخبرته الأم ببلوعها بالسنّ كأن قالت: ولدت يوم قدوم الباشا
أو وقعة كذا، وقد علم أن ذلك منذ خمس عشرة سنة، وصدقها هو والزوجان لأن العبرة في
العقود بقول أربابها، بخلاف الحاكم لا يصح عقده ظاهراً ما لم يثبت عنده البلوغ
ببينة إذ يسهل الاطلاع على السنّ، بل لو أراد الولي تصحيح النكاح من الحاكم لم
يجبه قبل الثبوت، وبخلاف ما لو ادعت البنت البلوغ بالحيض أو الاحتلام فتصدق مطلقاً
بلا يمين.
(مسألة: ب ك): أخبرها عدل بموت زوجها أو طلاقه وصدقته جاز لها التزويج
بغيره بعد خلوّها من الموانع، ولوليها الخاص أن يعقد لها، إذ العبرة في العقود
بقول أربابها.
(مسألة: ش): ادعى على امرأة مزوّجة بآخر أنها زوْجته، فإن علمت زوجية
الأوّل أوّلاً وادعت تطليقه، فإن أقامت بينة وإلا حلف ونزعت من الثاني ولا شيء له
عليها، وإن لم تعلم زوجيته بل تزوّجت امرأة فادعى آخر أنه تزوّجها قبل الثاني، فإن
أقام بينة أو أقر له الزوجان بسبق عقده سلمت له، كما لو أقرت المرأة فقط وادعت
طلاقه فحلف أنه لم يطلق، والحال أنه لم يصدر منها إقرار بنكاح الثاني ولا إذن فيه
ولا تمكين، وإلا فإقرارها لغو، كما لو نكحت بإذن ثم ادعت رضاعاً محرماً فلا يلتفت
إليها حينئذ اهـ. وعبارة (ي): امرأة تحت رجل مقرة له بالزوجية ادعى عليها آخر أنها
زوجته هربت منه وأن نكاحه سابق، فأقرت له بذلك، وأقرت أيضاً أنها تزوّجت بعد هربها
بآخر قبل الذي هي تحته ومات عنها واعتدت ولها منه أولاد ولها من الثالث أولاد
أيضاً، فإن أقرت للأوّل ولم تدع عليه طلاقاً حكم له بالزوجية وبطلان الأخيرين
وأنها زانية، ثم إن صدقها الأخيران وإلا حلفت للمكذب، فإن نكلت حلف ولزمها مهر
المثل، وإن ادعت الطلاق وانقضاء العدة وأثبتتهما بشاهدين انقطع نكاح الأوّل، وإن لم
تثبت الطلاق حلف على نفيه وحكم ببقائه، لكن لا تحد بوطء الأخيرين للشبهة، وإن لم
تقر للأوّل بالنكاح وعجز عن البينة فليست زوجته، ثم إن أثبتت بينة بنكاح الثاني
ثبت الإرث ونسب الأولاد وغيرهما من أحكام النكاح، وإن لم تثبته لم يثبت إلا سقوط
الحد ولزوم العدة عليها، وحكم الأولاد حكم مجهول النسب، وأما إقرارها بنكاح
الثالث، فإذا حكم بأنها ليست زوجة الأوّل وأثبتت نكاح الثاني وموته وانقضاء عدته
صح نكاح الثالث مطلقاً صدّقها أو كذبها، وإن أثبتت النكاح فقط أو صدقها فيه دون
الموت لم يصح نكاح الثالث، وإذا لم يصح نكاح الثاني أو الثالث ترتبت على بطلانه
أشياء منها عدم التوارث بينها وبينه، وسقوط مهرها ونفقتها، ووجوب الحد عليها، وهذه
الثلاثة لا تختلف بين علم الواطىء حال الوطء بالفساد وجهله، وكذا يثبت نسب الأولاد
ومحرمية المصاهرة والعدة عليها إن جهل الواطىء الفساد ووجوب الحد على العالم به
منهما.
(مسألة: ك): من شروط التزوّج بالأمة أن لا تكون تحته حرة تصلح للاستمتاع
ولو في عدة الرجعية، لأن الواحدة تعفّ الرجل وزيادة غالباً، فلو فرض وجود رجل لا
تعفه واحدة وخاف الزنا فنادر، وأن لا يكون قادراً على من تصلح للتمتع من الحرائر
أو الإماء بالملك ولو بائناً منه بغير الثلاث ووجد ما ترضى به.
(مسألة): كالأمة في عدم صحة نكاح الحر لها، من أوصى بحملها دائماً فأعتقها
الوارث لأنها وإن كانت حرة فأولادها أرقاء كما في التحفة والنهاية والمغني، وهل
ذلك عام حتى للموصى له بالأولاد أم يختصّ الحكم بغيره؟ إذ العلة وهو إرقاق الولد
منتفية هنا تأمل، وقال في الفتح: والأوجه امتناع خالصة الرقّ مع وجود مبعضة، لأن
إرقاق بعض الولد أهون من إرقاق كله لا ولود مع وجود عقيم.
وليّ المرأة
(مسألة: ش): أصل المذهب أن الفاسق لا يلي النكاح بل تنتقل الولاية للأبعد
ثم القاضي، فلو امتنع الولي من
التزويج إلا ببذل مال فلها مع خاطبها التحكيم، وكذا إن قلنا الفاسق يلي وامتنع من
تزويجها.
(مسألة: ك): يشترط في
الولي عدم الفسق على الراجح، فإذا لم يصح عقده لم يصح توكيله لأنه فرعه، كوكيل
وليّ أحرم موكله هذا في غير سيد الأمة، أما هو فيزوجها ويوكل ولو فاسقاً، لأن
تزويجه لها بالملك لا بالولاية، كما أن الإمام الأعظم لا ينعزل بالفسق، فيزوّج
بناته إذا لم يكن لهن وليّ خاص غيره كبنات غيره، ويوكل غيره الأهل لذلك، ولا تشترط
العدالة في الولي مطلقاً، فلو تاب في المجلس توبة صحيحة زوّج في الحال، وإن كان
وصف العدالة لا يثبت إلا بعد مضي سنة، نعم فيه إشكال من حيث إن من شروط التوبة ردّ
المظالم وقضاء الصلوات، وقد لا يتمكن من ذلك فوراً مع قولهم زوج حالاً، لكن صرح (ع
ش) بأن التوبة في حق الولي لا يشترط فيها قضاء نحو الصلاة، حيث وجدت شروط التوبة
بأن غرم مصمماً على ردها، ويؤيده أن ما هنا أوسع بدليل أن الحرفة الدنيئة التي لا
تليق بالولي لا تمنع تزويجه، وأن المستور يزوّج، وكذا الصبي إذا بلغ، والكافر إذا
أسلم، ولم يصدر منهما مفسق اهـ. ونحوه في (ي) وزاد: والقول الثاني وهو الذي عليه
عمل الناس منذ أزمنة، بل لا يسعهم إلا هو، وأفتى به المتأخرون، وصححه ابن عبد
السلام والغزالي، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وجماعات أن الفاسق يلي مطلقاً، ومال
إليه في التحفة فيما إذا كانت تنتقل إلى فاسق من بعيد وحاكم.
(مسألة: ش): الولي الذي قام به مانع من نحو صبا وخلل وحجر سفه، وكذا فسق
على المعتمد من خلاف قويّ منتشر كالعدم، بناء على الأصح أن ذا المانع لا يسمى
ولياً، فعليه لا يعتبر رضاه بغير الكفء مطلقاً، وقيل: يعتبر إن كان صحيح العبارة
كسفيه وفاسق، لأن ذا المانع له ولاية متأخرة اهـ. وفي فتاوى أخرى له: فلا يعتبر
رضاه أي من ذكر في الكفاءة إن كان مسلوب العبارة كصبي ومجنون على المعتمد، بخلاف
ما لو كانت عبارته صحيحة كفاسق ومحجور سفه فيعتبر رضاه فيما يظهر وإن لم يل
التزويج، وإذا قلنا بانتقال الولاية بأحد الموانع المذكورة فالأصح انتقالها للأبعد
والثاني للحاكم، فالاحتياط أن تأذن لكل من الأبعد والحاكم ثم يوكل أحدهما الآخر.
(مسألة: ي): غاب وليها مسافة القصر انتقلت الولاية للحاكم لا للأبعد في
الأصح، ثم ينبغي استئذانه أو الإذن له خروجاً من هذا الخلاف القائل به الأئمة
الثلاثة، فلو زوج الأبعد حينئذ كان الوطء شبهة يثبت به نسب الأولاد، وتحريم المصاهرة،
ومهر المثل للموطوءة والعدة، لأجل النظر واللمس والخلوة وعدم النقض، ويجب التفريق
بينهما، ولواطئها العقد بها في عدته ولها المسمى حينئذ.
(مسألة): زوج ابنته والحال أنها غائبة عن بلد العقد صح النكاح بشرط إذن
الثيب، وكذا البكر إن كان الزوج غير كفء على المعتمد، بخلاف الحاكم لا يزوّج إلا
من في محل ولايته، ولو فسق الأب أو جنّ انتقلت إلى بقية العصبة الأقرب فالأقرب،
ولو طلبها ابن عمها الكفء فامتنع وليها، فسافر بها الخاطب إلى مرحلتين ثم حكَّما
عدلاً بتزويجهما ثم أذنت له صح نكاحه ولا اعتراض عليه، بل لو حكما بالبلد عند
امتناع الولي أو فسقه جاز أيضاً بشرطه.
(مسألة): لا يجوز تولي طرفي عقد النكاح إلا للجد في تزويج ابن ابنه المحجور
عليه بصبا، أو جنون بنت ابنه الآخر البكر عند فقد أبويهما، أو قيام مانع بهما من
الولاية لا نحو غيبة وإحرام، بشرط أن يأتي بصيغتي الإيجاب والقبول، وأن يقرن
القبول بواو العطف فيقول: وقبلت الخ، كما رجحه في التحفة، خلافاً لـ (م ر) وخرج
بالجد المذكور نحو العم والحاكم في تزويج ابنه المحجور بموليته فلا يتولى الطرفين،
بل تنتقل ولاية المرأة حينئذ للحاكم، كما لو كانت بنت الابن ثيباً في مسألة الجد،
إذ من شرط تولية الطرفين الإجبار، وهذا نظير ما لو أراد الولي أو الحاكم كالسلطان
تزويج موليته لنفسه، فتنتقل الولاية للحاكم في الأولى لا للأبعد، ولحاكم آخر ولو
متولياً منه في الأخيرتين، كما قاله ابن حجر و (م ر) وغيرهما.
(مسألة: ك): يشترط لصحة نكاح المجبر أن يزوّجها من كفء موسر بمهر المثل،
وعدم عداوة بينها وبين الزوج، وعدم عداوة ظاهرة بحيث لا تخفى على أهل محلتها بينها
وبين الولي، وشرط جواز الإقدام لا الصحة كونه بمهر المثل حالاً من نقد البلد، نعم
لو جرت العادة بتزويج الأقارب بدون مهر المثل صح العقد بدونه وكان مهر المثل، كما لو اعتدن التأجيل أو غير نقد البلد اهـ.
وفي ج: زوج بكراً صغيرة بصبي غير موسر بالمهر لم يصح على المعتمد الذي عليه
الشيخان وغيرهما، لأن شرط الإجبار يسار الزوج بالهر، واعتمده مشايخنا وبه يعملون،
حتى إنهم يملكون أولادهم شيئاً من المال قبل العقد، وحينئذ فحبس المرأة وتتبع
الأقوال الخارجة إضرار بها أيّ إضرار وسببه الجهل.
(مسألة: ش): زوجها
أبوها إجباراً بكفء، فشهدت بينة ولو أربع نسوة حسبة بأنها كانت ثيباً بوطء قبل عقد
الأب حكم بكون المرأة خلية عن النكاح، فإن ادعت ذلك على الزوج مع غيبته أو وهو
حاضر لم يخالطها لم تسمع دعواها وبينتها، نعم إن طلبت من الحاكم أن يزوّجها أو
الولي بحضرة الحاكم فقال: كنت مزوجة بمن عقد له أبوك جبراً، فادعت أنها كانت ثيباً
بوطء قبله وأقامت بينة سمعت وثبت عدم كونها مزوّجة بالأول، وإن ادعت في وجه الزوج
فإن صدقها أو أقامت البينة المذكورة، أو نكل عن اليمين على نفي العلم فحلفت
المردودة بطل النكاح أيضاً وإلا استمر، كما لو تقيد البينة بالثيوبة بالوطء أو
يقبل العقد لإمكان زوالها بغير الوطء أو بعد العقد أو تخلق ثيباً، ولا عبرة بالحمل
فيما لو بانت حاملاً، إذ البكر قد تحمل كما شوهد كثيراً اهـ. قلت: وقوله إذ البكر
الخ. أي كأن توطأ وهي غوراء لم تزل بكارتها أو تستدخل المني، أو توطأ في الدبر
فتحمل بذلك من غير زوال بكارة.
(مسألة: ش): زوّجت خرساء بالإشارة من صبي قبل له وليه، ثم ادعى وليها غير
المجبر أن تزويجه إياها قبل بلوعها فلا أثر لدعواه في الصحة وعدمها، بل إن علم صحة
النكاح بوقوعه بعد بلوغ المرأة فذاك، وإلا فهو محكوم ببطلانه استصحاباً لأصل
الصبا، ثم إن ادعى ولي الصبي أو هو بعد بلوغه على المرأة لا على وليها، إذ لا تسمع
الدعوى على غير المجبر أن النكاح بعده فصدقته بالإشارة، أو أقام بينة بالبلوغ أو
ردت اليمين فحلف ثبت النكاح، وإن عارضتها بينتها بعدم البلوغ في الحيض، وكذا السن
في بعض الصور، لأن الأولى معها زيادة علم.
(مسألة): تزوّج ابنة عمه فأتت له بولد ثم فارقها، وأرادت التزويج بغيره كان
وليها ابن عمها المذكور عند عدم أقرب منه، ثم ابنه الذي هو ابنها، فيزوّجها
بالقرابة لا بالبنوّة، كما لو كان الابن قاضياً فيزوّج أمه بالولاية، إذ البنوّة
غير مقتضية للولاية لا مانعة لها بخلاف الرق، ولو فقدت العصبة من النسب زوجها
الحاكم، وليس للوصي وولي مالها ورشيدها تزويجها، وإن أوصي إليه بذلك على المعتمد.
(مسألة): عتقت
الجارية وأبوها كان ولاية النكاح والإرث له، سواء عتق قبلها أو بعدها، وإن اختلف
معتقهما، ثم لبقية عصبتها، ثم معتقها، ثم عصبته، ثم معتق الأب، فلو أرادت التزويج
برقيق ووليها غائب لم يصح إلا برضاه على المعتمد.
(مسألة: ش ك): أذنت
لوليها قبل أن تخطب أو وهي مزوّجة أو في العدة، ثم خطبت وزوجها بعد زوال المانع
صح، كما يصح توكيل وليها حينئذ وهي كذلك، وزاد في ش: ويستفيد به تكرير العقد فيما
لو أذنت له في التزويج كلما طلقت واعتدت لا في توكيل الولي، لكن ينفذ فيه أيضاً
لعموم الإذن اهـ. وفي ك أيضاً: أذنت لوليها
أن يزوجها برجل تحته أختها إذا طلقها صح الإذن ولم يحتج لتجديده بعد.
(مسألة: ك): أذنت
لوليها مطلقاً ولم تعلم من هو أو في زوج غيرمعين كفى، وقولها: رضيت أن أزوج، أو
رضيت فلاناً متضمن للإذن للولي، فله أن يزوجها بغير تجديد إذن، لكن محله إن لم
ترجع عن الإذن وإلا احتاج إلى تجديده.
(مسألة: ش): يكفي قول
المرأة عند الاستئذان: آذنت بالمدّ وفتح الذال في تزويجي أو أن تزوجني، فإن لم
تعين الزوج زوّجها من كفء، وإن عينته كفى قولها زوجني فلاناً، ويكفي لفظ التوكيل،
ويجوز للحاكم الإقدام على تزويج موليته، لكن بعد شهادة عدلين بإذنها من غير سبق دعوى من
الزوج لتعذرها حينئذ.
(مسألة: ي): بدوية
قالت لوليها: أنت وكيل بجوازتي من تحت فلان أي بعقد فلان صح إذنها، إذ قولها
بجوازتي الخ ليس بشرط لصحة العقد، بل يصح عقد غير المعين المذكور.
(مسألة): أذنت لوليها
بلفظ التوكيل صح، إذ المعنى واحد، ولو قالت: وكلتك كلما عزلت فأنت وكيل صح في
الحال، ولا يعود وكيلاً إذا انعزل، لكن ينفذ عقده لعموم الإذن، ذكره ابن حجر
وغيره، فلو ادّعت عزله قبل العقد، فإن أثبتته بشاهدين أو صدقها الزوج بان بطلانه
وإلا فلا، وإن صدقها الولي، وقيل وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد: إن الوكيل لا
ينعزل إلا ببلوغ الخبر ممن تقبل روايته، وإذا لم تثبت العزل ولم يصدقها الزوج حلف
على نفي العلم، فإن ردّهاحلفت على البت وبطل النكاح.
(مسألة: ي): مذهب الشافعي أن البكر الصغيرة لا يزوجها إلا مجبر أب أو جد
فقط، والثيب لا تزوج حتى تبلغ، ومذهب الحنفية جواز تزويج غير المجبر لهما، فيقدم
الأقرب فالأقرب من العصبة، ثم بعدهم الأم، فالأخت الشقيقة فللأب، فالإخوة للأم،
فذوو الأرحام ثم السلطان فالقاضي، لكن إنما يزوج الأخيران من كفء بمهر المثل
مطلقاً، كاللذين قبلهما في الثيب لا البكر، نعم الأب والجد لهما التزويج مطلقاً
بلا قيد بكراً أو ثيباً، ويجوز التقليد ولو من غير ضرورة في التزويج وغيره لكن
باجتماع شروطه، ومنها العلم بأركان النكاح في مذهب المقلد وجريانه على مذهبه في
تلك القضية وما تعلق بها، كطلاق وظهار وعدم تتبع الرخص، نعم القاضي لا يجوز له
التقليد مطلقاً، إذ يلزمه الجري على المعتمد اهـ. وعبارة ج ش: لا يجوز، ولا يصح
لغير الأب والجد تزويج الصغيرة بحال، وإن تضررت بعدم النفقة قولاً واحداً بلا خلاف
عندنا، فمن حكم أو أفتى بصحته نقض حكمه وردت فتواه، وأما تزويجها على مذهب أبي
حنيفة فلا ينبغي للمحتاط لدينه أن يتساهل فيرخص في العمل بذلك، كما يفعله بعض
متفقهة العصر إذ لا ضرورة إلى ذلك، لأن الضرورة حيث أطلقت هي التي يسوغ معها أكل
الميتة فمتى يحكم بذلك، نعم قال ابن عجيل وإسماعيل الحضرمي وولده: يجوز مع شدة
الحاجة تقليد أبي حنيفة القائل إن لكل من الأولياء حتى الحاكم تزويجها سواء فقد
المجبر أو غاب، بل جوّز شريح وعروة وحماد تزويج الأجنبي للصغيرة، وكأنهم راعوا
المشقة في عدم التزويج. والحاصل أنه لا ينبغي لغير متبحر في العلم عالم بشروط
التقليد فتح هذه المسألة والإفتاء بها، فمن فعل ذلك فهو إما مدعي التبحر أو متهوّر
اهـ. وعبارة ب: يجوز تقليد مذهب الغير في العمل في نكاح امرأة بلا ولي أو بلا شهود
بشروطه المارة، ومعلوم أن تقليد المذهب الآخر صعب على فقهاء العصر فضلاً عن
عوامهم، فينبغي للمستبرىء لدينه التثبت وسلوك طريق الاحتياط في مثل ذلك.
(مسألة: ش): تزوج فقيه أو عامي امرأة من نفسها على مذهب أبي حنيفة، فإن كان
ملتزماً لمذهبه فلا اعتراض عليه، نعم إن رفع الأمر لقاض شافعي فنقضه بطل قطعاً، أو
لمذهب الشافعي حرم ذلك، ووجب إنكاره على كل ذي قدرة ولو حنفياً بيده ثم بلسانه ثم
بقلبه، إذ هو حرام في عقيدة الفاعل فيجب إنكاره كالمجمع عليه، ووجب على الشافعي
نقضه، وحينئذ ترتفع شبهة الخلاف ويبطل قطعاً أيضاً، وإذا قطع بالبطلان كان وطؤه
زنا، وليس لقاض حنفي الحكم بصحته حينئذ، كما لو رفع أوّلاً لحنفي فحكم بصحته فيصح
قطعاً، ويجري هذا التفصيل فيما لو زوج السيد عبده الصغير بأمته إجباراً وتولى
الطرفين على المذهب القديم ومذهب مالك وأبي حنيفة، فلا يجوز لشافعي كحنبلي الحكم
بصحته، إذ المذهب القديم ليس مذهباً للشافعي، فإن حكم بالصحة مالكي أو حنفي صح
قطعاً، إذ حكم الحاكم براجح مذهبه يرفع الخلاف ويصير كالمجمع عليه ويعزر الزوجان
إن اعتقدا تحريمه، نعم إن دعت ضرورة إلى ذلك كأن احتاجت للنفقة ولحقها في إعلام
وليها مشقة صح باطناً ما لم يحكم بصحته حنفي فيصح ظاهراً أيضاً، فإن رفع أوّلاً
لشافعي نقضه إلا إن كان أهلاً للترجيح ورأى المصلحة في إبقائه، ولم يشترط عليه
الحكم براجح المذهب، ولم يطرد به العرف في المسألتين، ولا ينبغي أن يفتح باب
التجويز والتخيير، إذ يؤدي إلى مفاسد عظيمة لقضاة السوء ومتفقهتهم اتباعاً
للأهوية.
(مسألة: ب ش ك): ادعت مجهولة النسب أنه لا وليّ لها قبلت، إذ العبرة في
العقود بقول أربابها نعم الأحوط إثبات ذلك، وله التأخير ما لم تلح، فالأولى
المبادرة وتحليفها ندباً بأن لا ولي لها، وأنها خلية عن موانع النكاح، أما معروفة
النسب لو ادعت موت وليها فلا يزوّجها القاضي كالمحكم حتى يثبت ذلك، كما لو ادعت
موت زوجها المعين أو طلاقه، بخلاف ما لو قالت: كنت مزوجة فطلقني الزوج واعتددت ولم
تعينه فتصدق بلا يمين اهـ. وعبارة ي: اعتمد في التحفة عدم جواز إقدام الحاكم على
تزويج من طلقها زوجها المعين أو مات بعد ثبوته لديه، واعتمد في الفتاوى وابن زياد
وأبو قضام جواز ذلك إذا صدق المخبر، إذ العبرة في العقود بقول أربابها، ولأن تصرف
الحاكم ليس حكماً وهو القياس، وأما الصحة فعلى ما في نفس الأمر إن بان الفراق صح
وإلا فلا.
(مسألة: ش): العبرة بكون المرأة بمحل ولاية الحاكم وعدمه بحال التزويج لا
الإذن، فلو أذنت خارجه وزوّج وهي به صح، وإن ظنها خارجه اعتباراً بما في نفس
الأمر، ولا يشترط كون الزوج به، لأن حكم الحاكم نافذ في جميع أقطار الأرض بخلاف
العكس، وإن كان الزوج به لكن لا يفسق لو زوّجها حينئذ، لأن تعاطي العقود الفاسدة
صغيرة، فلو شك هل وقع العقد وهي به أو خارجه استصحب الأصل من كونها فيه أو خارجه
قبل العقد، فإن لم يكن أصل يستصحب بطل العقد احتياطاً للنكاح، فعلم أن خروج الحاكم أو خروجها عن محل
ولايته بعد الإذن لا يؤثر، فيزوج إذا رجع أو رجعت بخلاف عزله، نعم إن لم يكن في
المحل الذي هي فيه قاض فحكَّمت هي وخاطبها من فيه الأهلية ولو القاضي المذكور صح،
وإن بعدت عن محله إذ هو الآن محكم، ولا يشترط في المحكم كونها بمحله.
(مسألة: ش): غاب وليها
مرحلتين من بلدها، فأذنت للحاكم يعني الذي شمل حكمه لبلدها وإن لم يكن بها صح، وإن
قرب من محل الولي أو كانا في بلد واحدة بل وإن كان القاضي المذكور أبعد من محل
الولي إلى المرأة، لأن العلة وهي غيبة الولي التي هي شرط لثبوت ولاية الحاكم وجدت
ولا عبرة بالمشقة وعدمها.
(مسألة: ي): يصح تزويج الحاكم من غاب وليها بعد البحث عنه هل هو بمسافة
القصر أم لا؟ فلو شك وتعذر الإذن لعدم العلم بمحله صح أيضاً ما لم يبن قريباً،
ويزوّج الحاكم بنت رقيق أمها حرة أصلية، فإن كانت الأم عتيقة فولايتها لموالي الأم
ما لم يعتق أبوها، وإلا انجر الولاء له ولمواليه ولم يعد.
(مسألة): أتى رجل إلى
الحاكم يريد التزوج بامرأة، وادعى أنها أذنت لوليها الغائب، وأن وليها وكَّل
الحاكم في ذلك، لم يصح تزويج الحاكم إلا بعد ثبوت ذلك على المعتمد، نعم إن كان وليها
بمسافة القصر وهي بمحل ولاية الحاكم وأذنت له صح تزويجه فإن وطىء حيث قلنا ببطلانه
فبشبهة، كما لو زوّجها بلا وليّ أو شهود.
[فائدة]: الأمة الموقوفة على معين يزوجها الحاكم بإذن الموقوف عليه لا منه
بلا إجبار منه لها، وعلى غير معين كمسجد يزوجها أيضاً بإذن الناظر، وأما عبيد بيت
المال فلا يزوجون بل يباعون، ويزوجهم سادتهم كالعبد الموقوف، لا يزوّج أبداً على
المختار عند أئمة المذهب، وإن تعلق بعض المفتين بترجيح الغزالي فهو مدخول اهـ
فتاوى ابن زياد. وقد صرح في التحفة في باب الوقف بأن الأتراك عبيد بيت المال أعتقهم
ناظره، والحال أنه رقيق بيت المال ولا
يصح عتقه.
التحكيم والتولية
(مسألة: ب ش): الحال في مسألة التحكيم أن تحكيم المجتهد في غير نحو عقوبة
لله تعالى جائز مطلقاً، أي ولو مع وجود القاضي المجتهد، كتحكيم الفقيه غير المجتهد
مع فقد القاضي المجتهد، وتحكيم العدل مع قد القاضي أصلاً أو طلبه مالاً وإن قل، لا
مع وجوده ولو غير أهل بمسافة العدوى، وكذا فوقها إن شملت ولايته بلد المرأة، بناء
على وجوب إحضار الخصم من ذلك الذي رجح الإمام الغزالي والمنهاج وأصله عدمه، ولا بد
من لفظ من المحكمين كالزوجين في التحكيم كقول كل: حكمتك لتعقد لي أو في تزويجي، أو
أذنت لك فيه، أو زوجني من فلانة أو فلان، وكذا وكلتك على الأصح في نظيره من الإذن
للولي، بل يكفي سكوت البكر بعد قوله لها: حكميني أو حكمت فلاناً في تزويجك، ويشترط
رضا الخصمين بالمحكم إلى صاحب الحكم لا فقد الولي الخاص، بل يجوز مع غيبته على
المعتمد كما اختاره الأذرعي، ولا كون المحكم من أهل بلد المرأة، فلو حكمت امرأة
باليمن رجلاً بمكة فزوّجها هناك من خاطبها صح وإن لم تنتقل إليه، نعم هو أولى لأن
ولايته عليها ليست مقيدة بمحل، وبه فارق القاضي فإنه لا يزوج إلا من محل ولايته
فقط، بل لو قالت: حكَّمتك تزوجني من فلان بمحل كذا لم يتعين إلا إن قالت: ولا
تزوِّج في غيره، وأما التولية فهي والتفويض بمعنى وليس هي التحكيم خلافاً لبعضهم،
فشرطها فقد الولي الخاص والعام، فللمرأة إذا كان في سفر أو حضر وبعدت القضاة عنها
ولم يكن هناك من يصلح للتحكيم أن تولي عدلاً كما نص عليه. زاد في ب: وشرط ابنا حجر
وزياد في التحكيم فقد الولي الخاص، فلا يجوز مع غيبته وجوّزه الأذرعي والرداد،
واقتضاه كلام ابن حجر في الفتاوى وابن سراج، قال أبو مخرمة وهو مقتضى كلام
الشيخين: نعم يشكل على ذلك فيما إذا عم الفسق في زمان أو مكان كما هو المشاهد ولا
يستغرب، فقد قال الإمام الغزالي: إن الفسق قد عم العباد والبلاد، ولم يكن بمحل
المرأة ولي خاص ولا حاكم ولا عدل، وقد ذكروا أنه لا يجوز تحكيم الفاسق مطلقاً، فل
يتعين عليها الانتقال إلى محل الحاكم وإن بعد وشق وخافت العنت؟ أو تزوّج نفسها
تقليداً لمن يرى ذلك إن علمته بشروطه، وكذا إن لم تعلمه واعتقدت أنه حكم شرعي
ووافقت مذهباً كما مر في التقليد، أو تولي أمرها الأمثل فالأمثل، أي الأقل فسقاً
في موضعها وما قرب منه، ولو قيل يتعين انتقالها إلى الحاكم وإن بعد إن لم تخف
العنت ولم تعظم المشقة ولا أمكنها تقليد مذهب معتبر، ولا تولي الأمثل فالأمثل لم
يكن بعيداً ولكنت أميل إليه، بل نقل الأشخر عن فتاوى البلقيني جواز تحكيم المقلد
غير العدل مع فقد قاض مجتهد وكفى به سلفاً هنا.
(مسألة: ي): غاب وليها مرحلتين ولم يكن ثم قاض صحيح الولاية بأن يكون عدلاً
فقيهاً، أو ولاه ذو شوكة مع علمه بحاله بمسافة القصر حكَّمت هي والزوج عدلاً يقول
كل منهما: حكمتك تزوجني من فلانة أو فلان، ولا بد من قبول المحكم على المعتمد ثم
تأذن له في تزويجها، ويجوز تحكيم الفقيه العدل ولو مع وجود القاضي كغير الفقيه مع
عدمه بمحل المرأة ولو مع وجود فقيه.
الكفاءة
[فائدة]: مذهب الإمام مالك عدم اعتبار الكفاءة، وقد قال ابن حجر وأبو
مخرمة: إن صاحب الأمر إذا أمر باتباع مذهب وجب ولا يجوز نقضه، فحينئذ إذا سهل
استئذانه في هذه الواقعة فحسن، قاله أحمد مؤذن: باجمال اهـ محمد باسودان.
(مسألة: ي): اعلم أن الذي
يستفاد من كلام أئمتنا أن في الكفاءة أربعة أقوال: الأول أنه لا تكافؤ بين الزوجين
إلا إذا ساواها الزوج أو زاد عليها في النسب، وعدد الآباء إلى المنتسب إليه، ووجد
استواء الزوجين وآبائهما في العفة والحرية، وقرب الإسلام والشهرة بالعلم والصلاح،
وبالولاية العادلة أو ضدها، فمتى كانت أرفع منه بدرجة في النسب، أو كان في آبائها
من اتصف بصفة كجدها الخامس مثلاً، ولم يتصف بذلك جده المذكور، وإن اتصف بها جده
السادس دون جدها لم يكافئها، لأن خصال الكفاءة لا يقابل بعضها ببعض، وهذا ما
اعتمده الشيخان وجرى عليه المتأخرون كابن حجر و (م ر) . الثاني: يشترط الاستواء في
النسب والعفة والحرية والحرفة مع مجرد الاشتهار بالعلم والصلاح والأمارة، ولا
يشترط الاستواء بل النازل بدرجة فأكثر كفء لمن فوقه، وهذا ما اعتمده في القلائد
ودعسين والعمودي، وكلام ابن قاضي يميل إلى أنه مرجح الشيخين. الثالث: اعتبار ذلك
بالزوجين فقط لا آبائهما، وهو ما رجحه الأذرعي ونقله عن الأكثر، ورجحه ابن الرفعة،
وقال العمودي: هو المختار الذي دل عليه العمل من قديم الزمان. الرابع: مقابل الأصح
أنه يعتبر فيهما ما مر في الأول، لكن يقابل بعض الخصال ببعض، فإذا فقدت خصلة في
أحدهما ووجدت أخرى وحينئذ إذا زوجها أحد الأولياء المستوين، فإن كان برضا البقية
صح مطلقاً أو بغير رضاهم، فإن وجدت قابلتها الكفاءة على أحد الأقوال الثلاثة:
الأول صح أيضاً كما لو انتفت والعاقد عدل دونهم وإن انتفت، والكل فسقة أو فيهم عدل
لم يرض بطل النكاح على الأصح، أما لو انتفت على جميع الأقوال فيبطل قطعاً وإن ظنته
هي والعاقد كفؤاً، ومحل قولهم إنه لا خيار فيما إذا ظنته هي ووليها كفؤاً فبان
عدمه إذا اتحذ الولي أو تعدد وأذن الكل ولو ترافعوا إلى الحاكم، فإن كان قبل العقد
لم يصح الحكم بمنع التزويج، إذ لم يدخل وقته أو بعده، فإن وجدت على القول الأوّل
فلا كلام في صحة النكاح، أو على الثاني أو الثالث فكذلك أيضاً، لأنهما وإن كانا
مرجوحين فقد رجحهما المتأخرون وقرروهما، وعليهما عمل القضاة في جميع الأمصار، فلا
يجوز لقاض إبطاله، إذ في العمل بالقول الأول من العسر والضرر ما لا يخفى، فليسع
القاضي اليوم ما وسع القضاة والعلماء الأعلام قبله.
(مسألة: ك): يشترط لتزويج الولي موليته بغير الكفء تعيين الزوج لها في
الاستئذان أو وصفه بأنه غير كفء، فإذا رضيت به ولو سفيهة ولو بالسكوت في البكر،
ورضي سائر الأولياء المستوون في الدرجة صح النكاح، نعم لا يشترط رضا الوليّ في
الجب والعنة، ويكره كراهة شديدة تزويجها من فاسق إلا لريبة، ومحل صحة النكاح إذا
زوّجها الولي الخاص لا العام، قال في التحفة: ولو طلبت من لا وليّ لها أن يزوّجها
السلطان بغير كفء ففعل لم يصح، وقال كثيرون أو الأكثرون: يصح، وأطال جمع متأخرون
في ترجيحه وتزييف الأول وليس كما قالوا، وعلى الأول لو طلبت ولم يجبها القاضي
فالأقرب أن لها أن تحكم عدلاً يزوّجها منه للضرورة، حيث لم يكن حاكم يرى ذلك لئلا
يؤدي ذلك إلى الفساد اهـ. وألف البلقيني في صحة تزويجها ممن لا يكافئها تأليفاً
مستقلاً أطال فيه الأدلة وبين أنّ ما رجحه الشيخان ليس مذهب الشافعي، قال: فإذا
كان الشخص معتقداً ما صححاه فلينتقل عن هذا الاعتقاد قبل العقد ثم يقبل النكاح،
فإن لم ينتقل ووقع الحكم بالصحة حلّ الاستمتاع ظاهراً وباطناً اهـ. وفي ب ش نحو ما
نقل عن التحفة وزادا: والذي نراه الأول إلا عند مشقة أو خوف فتنة، فينبغي اعتماد
ما قاله الأكثرون، بل بحث بعضهم أنه يلزم الحاكم إجابتها عند خوف الفتنة، لكن محل
هذا القول في عادمة الولي لا إن غاب، ومحله أيضاً حيث لم يكن هناك من يرى تزويجها
ولم تجد عدلاً تحكمه وإلا لم يلزمه، إذ لها عند امتناع الحاكم التحكيم للحاجة.
(مسألة: ش): زوّج بعض الأولياء موليته بغير كفء برضا من في درجته، ثم
أبانها الزوج وأرادت التجديد منه، فلا بد من رضا الجميع الآن أيضاً على المعتمد،
ولا يكتفى برضاهم السابق، ومثله القاضي مع غيبة الولي ولو تجديداً بمن رضي به
الولي أولاً، بل هو أولى بالمنع من بعض الأولياء.
(مسألة: ش): زوّج المجبر موليته إجباراً من فاسق بترك الصلاة أو الزكاة لم
يصح على الأظهر لعدم الغبطة، ويعزر بتزويجها غير كفء ما لم تدع إليه حاجة ويقلد
تقليداً صحيحاً، بل لو خطبها كفؤان وأحدهما أكفأ لزم الولي تزويجها به، وهذا كما
لو زوّج بعض الأولياء المستوين بغير رضا الباقين، والثاني يصح ولها ولهم الخيار
وهو مذهب الحنفية، ولا يجوز الإفتاء به إلا لمن له أهلية التخريج والترجيح لا
لعلماء الوقت اهـ. وعبارة (ك) العامي الذي لا يعلم فرائض نحو الصلاة والوضوء لا
يصحان منه، كما لو قصد بفرض معين النفلية أو أخل بشيء معين من الفروض، وحينئذ يفسق
بترك التعلم لعدم صحة العبادة منه، بخلاف من اعتقد جميع أفعال الصلاة فرضاً،
فحينئذ من أتى من العوام بالفروض العينية على وجه صحيح فليس بفاسق، فيكافىء
الصغيرة من هذه الحيثية ومن لا فلا، على أن للشافعي قولاً وهو مقابل الأظهر بصحة
النكاح من غير كفء، لكن إن زوجت إجباراً أو أذنت إذناً مطلقاً تخيرت بعد علم
الكبيرة وبلوغ غيرها، وقيل لا تتخير.
(مسألة: ش): ليس للهاشمي الغير المنتسب إليه كذرية عليّ كرم الله وجهه من
غير فاطمة رضي الله عنها كفؤاً لذرية السبطين الحسنين ابني فاطمة الزهراء رضي الله
عن الجميع، وذلك لاختصاصهم بكونهم ذريته عليه الصلاة والسلام ومنتمين أي منتسبين
إليه في الكفاءة وغيرها، ويحمل قولهم: إن بني هاشم وبني المطلب أكفاء على غير
أولاد السبطين، وقوله : "نحن وبنو المطلب شيء واحد"، على الموالاة
والفيء وتحريم الزكاة وغيرها. ولا دليل في تزويج عليّ أم كلثوم بنت فاطمة من عمر
رضي الله عن الجميع فلعلهما كانا يريان صحة ذلك اهـ. ونحوه في (ي) وزاد: إذ
الكفاءة في النسب على أربع درجات: العرب وقريش وبنو هاشم والمطلب، وأولاد فاطمة
الزهراء بنو الحسنين الشريفين رضوان الله عليهم، فلا تكافؤ بين درجة وما بعدها،
وحينئذ إن زوجها الولي برضاها ورضا من في درجته صح، أو الحاكم فلا وإن رضيت.
(مسألة: ي): عمل ساداتنا آل أبي علوي نفع الله بهم أنهم لا يراعون بعد صحة
النسب إلى سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين شيئاً مما ذكره
الفقهاء من القرب والبعد والصلاح والعلم والحرفة ونحوها طلباً لما هو أهمّ من ذلك،
وهو تحصين الشريفة بشريف مثلها، ولا يتأتى ذلك إلا بالإعراض عن تلك التفاصيل،
فالمعترض عليهم متعنت يخشى عليه الطرد والمقت لأنهم أئمة أجلة، ما خالفوا ذلك التفصيل
إلا لعلة، وعلى ذلك عمل حكام جهتنا سابقاً ولاحقاً.
(مسألة): شريفة علوية خطبها غير شريف فلا أرى جواز النكاح وإن رضيت ورضي
وليها، لأن هذا النسب الشريف الصحيح لا يسامى ولا يرام، ولكل من بني الزهراء فيه
حق قريبهم وبعيدهم، وأتى بجمعهم ورضاهم، وقد وقع أنه تزوّج بمكة المشرفة عربي
بشريفة، فقام عليه جميع السادة هناك وساعدهم العلماء على ذلك وهتكوه حتى إنهم
أرادوا الفتك به حتى فارقها، ووقع مثل ذلك في بلد أخرى، وقام الأشراف وصنفوا في
عدم جواز ذلك حتى نزعوها منه غيرة على هذا النسب أن يستخفّ به ويمتهن، وإن قال الفقهاء إنه يصح برضاها ورضا وليها فلسلفنا
رضوان الله عليهم اختيارات يعجز الفقيه عن إدراك أسرارها، فسلَّم تسلم وتغنم، ولا
تعترض فتخسر وتندم. وفي ي المتقدم ما يومىء إلى ما أشرنا إليه من اتباع السلف، إذ
هم الأسوة لنا والقدوة، وفيهم الفقهاء بل المجتهدون والأولياء بل الأقطاب، ولم
يبلغنا فيما بلغنا أنه قد تجرّأ غيرهم ممن هو دونهم في النسب أو لم تتحقق نسبته
على التزوّج بأحد من بناتهم قط، اللهم إلا إن تحققت المفسدة بعدم التزويج فيباح
ذلك للضرورة، كأكل الميتة للمضطر، وأعني بالمفسدة خوف الزنا، أو اقتحام الفجرة أو
التهمة ولم يوجد هناك من يحصنها، أو لم يرغب من أبناء جنسها ارتكاباً لأهون الشرين
وأخف المفسدتين، بل قد يجب ذلك من نحو الحاكم بغير الكفء كما في التحفة.
(مسألة: ش): حد الفقيه من أدرك من كلّ باب من أبواب الفقه ما يستدل به على
باقيه، والعالم هو الفقيه المذكور أو المفسر أو المحدّث، فالفقيه أخص فلا يكافىء
بنتهما جاهل، نعم من لم يبلغ منهما تلك الرتبة كافأ بنته الجاهل، وتوقف فيه في
التحفة فارقاً بين الكفاءة والوصية.
(مسألة: ش): يكافىء
حرة الأصل من أمه أم ولد، إذ هو حر الأصل أيضاً ليس لأحد عليه ولاء، بخلاف من أمه أمة،
وإن عتقت أو عتيقة، أو في آبائه عتيقان أو عتقاء أكثر أو أقرب، فلا يكافىء من ليست
كذلك، كما لو كان أبوها عالماً أو قاضياً ولو غير مجتهد، ولو لم يكن هناك أفضل
يصلح للولاية، أو كان في آبائها علماء أكثر أو أقرب، فلا يكافئها من لم يتصف بتلك
الصفات، أما الانتساب إلى قضاة الزمان المخلطين أو المتولين مع وجود أفضل منهم فلا
عبرة به كالانتساب إلى ولاة الظلم والجور.
(مسألة: ش): لا يكافىء ولد ذي الحرفة الدنيئة ومن له أبوان فيها من ليست
كذلك كولد الفاسق بنت العفيف، ومن أسلم بنفسه من أسلم أبوها كما رجحه الشيخان، نعم
لو تاب ذو الحرفة الدنيئة قبل موته ومضت عليه سنة ولم تكن مما يعير بها أبداً
كافأها ومن باب أولى ولده، وهذا بخلاف ولد نحو الأبرص فيكافىء من ليس أبوها كذلك،
إذ لا يعير بعيب أبيه مما ليس باختياره. وقال الماوردي والروياني والهروي وأبو
الطيب: عبرة بفسق الأب وكفره وحرفته، ورجحه الأذرعي وجعله المنقول، فلو حكم بصحة
النكاح قاضي الزيدية مثلاً، فإن ولاه ذو شوكة وحكم بجادّة مذهبه نفذ حكمه ظاهراً
وكذا باطناً للضرورة، وإذا صححنا الحكم المذكور فيعلم مذهبه، فإن كان يكافىء عندهم
من أبوه ذو حرفة دنيئة مثلاً من ليست كذلك كما هو عند الهروي ومن وافقه فلا خيار
لها إذا بلغت لو كانت حال العقد صبية، بل لا مخلص لها إلا نحو الطلاق وإن لم
يكافئها عندهم ولكن لها الخيار، فحكمه بالصحة مقيد بثبوت الخيار بعد البلوغ، فإذا
اختارت الفسخ ففسخ بعيب فتعتبر شروطه.
(مسألة: ك): تتفاوت الحرف في الكفاءة كما نص عليه الأئمة في بعضها وذكروا،
لما لم ينصوا عليه ضوابط يعرف بها الخسيس من غيره، فمن ذلك قول التحفة: ويظهر أن
كل ذي حرفة فيها مباشرة نجاسة كالجزارة على الأصح ليس كفؤاً لذي حرفة لا مباشرة
فيها، وأن بقية الحرف التي لم يذكروا فيها تفاضلاً متساوية إلا إن اطرد تفاوت في
عرف بلد الزوجة اهـ. وقال في الأنوار: فأصحاب الحرف الدنيئة ليسوا بأكفاء للأشراف
ولا لسائر المحترفة، فالكناس والحجام ونحو الفصاد وقيم الحمام والحائك والراعي
والقصاب والبقال والطباخ والدباس والدهان ونحوهم لا يكافئون بنت الخياط والعطار والخباز
والنجار، والخياط لا يكافىء بنت التاجر والبزاز والجوهري، ويشبه أن يلحق بهم
الصرّاف والعطار، وهم لا يكافئون بنت القاضي والعالم والزاهد المشهور، وتتفاوت
الصنائع والحرف، وما شك فيه يرجع لعرف البلد اهـ. وعلة تفاوت الحرف تكون تارة
بالنظافة وتارة بطيب الرائحة وتارة بزيادة الكسب كالتجارة.
(مسألة: ك): صريح عبارة التحفة تفاوت الأرقاء في الكفاءة كالأحرار فلا بد
من اعتبارها، لكن بالنسبة لتزويج غير السيد مطلقاً، وكذا له ما عدا الرق ودناءة
النسب فله تزويج أمته ولو شريفة بعبد ودنيء.
(مسألة: ب): زوج حرّ ابنته
الحرّة الصغيرة من رقيق لم يصح النكاح وإن رضيت إذ إذنها حينئذ لاغ.
(مسألة: ك): ونحوه ش:
إذا تاب الفاسق بغير نحو الزنا ومضت له سنة كافأ العفيفة، كما قاله ابن حجر خلافاً
لـ (م ر) . أما الفاسق بالزنا ونحوه مما يتلطخ به العرض فلا يكافئها مطلقاً وإن تاب
وحسنت توبته باتفاقهما.
الخيار والإعفاف ونكاح الرقيق
(مسألة: ش): ادّعت عنته فأقرّ به، وادّعى أنه مسحور عنها لم يمنع ضرب المدة
والفسخ بعد، سواء كانت دعواه السحر قبل المدة أو بعدها أو أثناءها صدّقته أم لا،
وإن قلنا بالضعيف إن مرض الزوج وحبسه أثناءها لا يحسب إذ العنة لا يعتبر فيها
العجز الخلقي بل الحادث مثله، ومن ثمَّ لو عنّ عن امرأة دون غيرها أو عن الكبر فقط
كان الأمر كذلك.
(مسألة: ش): الحب
الفارسي المعروف بالشحر لا يثبت به الخيار في النكاح كالاستحاضة والقروح السائلة
والبخر والصنان ونحوها،
إذ الخيار منحصر بأسباب ليست هذه منها، ومجرد العيافة لا تقتضي الإقدام على الفسخ
فلو حكم حاكم بذلك نقض.
(مسألة: ك): اختلف
الزوجان في الوطء صدق النافي منهما، نعم تستثنى مسائل يصدّق فيها مدّعيه منها
العنين إذا ادعى الوطء في مدة ضرب السنة، وفيما إذا أعسر الزوج بالمهر يصدّق في
الوطء لتمنع من الفسخ بالإعسار، وكالمولى يصدق فيه أيضاً وفيما لو علق طلاقها
للسنة وادعى الوطء في طهرها يصدق لبقاء العصمة، وتصدق هي فيما لو اختلفا في أن
الطلاق قبل الوطء أو بعده، وأتت بولد يلحقه، وفيما لو شرطت بكارتها فوجدت ثيباً
وادّعت افتضاضه فتصدّق لدفع الفسخ لا المهر، وفيما لو تزوجت لتحلّ لحليلها الأول
فتصدق في الوطء.
(مسألة: ك): عتق الأمة كلها تحت رقيق تخيرت في فسخ النكاح وعدمه على الفور،
نعم إن جهلت التعتق أو الخيار به صدّقت بيمينها إن أمكن، فإن فسخته قبل الوطء فلا
مهر، أو بعده بعتق بعده فالمسمى، أو قبله فمهر مثل. ولو عتق بعضها أو كوتبت أو عتق
عبد تحته أمة فلا خيار، وإن ملك أحد الزوجين الآخر ملكاً تاماً انفسخ النكاح
بينهما ولا يحتاج إلى فسخ.
(مسألة: ش): ملك زوجة
أصله لم ينفسخ نكاح الأصل على الأصح عندنا، وعند أحمد: وإن كان الأصل لا يحل له
نكاح الأمة حين ملك الفرع، إذ يغتفر في الدوام غالباً ما لا يغتفر في الابتداء،
كما لو أيسر الشخص بعد نكاحه الأمة فنكح حرة لا ينفسخ نكاحه للقاعدة المذكورة، أما
لو حلت الأمة للأصل الآن كأن كان رقيقاً أو الابن معسراً لا يلزم إعفافه فلا ينفسخ
نكاحه قطعاً، وإذا لم ينفسخ النكاح فأولاده الحادثون أرقاء كالسابقين لرضاه برق
ولده ابتداء أي حين نكحها، عالماً برقها راضياً برق ولده منها، إذ القاعدة أن
الفرع يتبع الأم في الرق، سواء كان الواطىء حراً أو عبداً، بزنا أو نكاح، أو شبهة
بأن ظنها زوجته الأمة، ولا يخرج من ذلك إلا إذا استولد هو أو أصله الحر أمته، فإن
الولد ينعقد حراً، ويثبت الاسيتلاد للمستولدة، ويقدر انتقالها إلى ملك الأصل قبيل
وقوع مائه لشبهة وجوب الإعفاف، والشبهة تقتضي حرية الولد غالباً بخلاف النكاح
السابق.
(مسألة: ب): تزوج عبد حرة برضاها ورضا وليها أو أمة لزمه نفقة المعسرين في
كسبه، فإن استخدمه سيده لزمه نفقتها إن ساوت أجرته أو نقصت عنها، فإن زادت ولم
يتبرّع بالزائد قرر ما زاد بذمّة العبد حتى يعتق إن رضيت بذمّته، وإلا فلها الفسخ
بشرطه، هذا إن سلَّم الأمة سيدها ليلاً ونهاراً، فإن سلمها ليلاً فقط فليس بها إلا
المهر فقط اهـ. وعبارة ك: يخير سيد العبد المتزوج بين تركه عند زوجته والإنفاق
عليها حينئذ من كسبه، وبين السفر به والتكفل بالمؤن، هذا إن لم يطلب العبد الزوجة،
وتأبى هي أو سيدها من المسير معه وإلا سقطت.
(مسألة): لا يصح تزوج العبد عندنا إلا بإذن سيده الرشيد، فلو غاب بعض ملاكه
أو حجر عليه امتنع التزويج حتى يأذن الغائب ويكمل المحجور، ولا يقوم الحاكم
كالوكيل والولي مقامه، وإن رأى المصلحة في ذلك بخلاف أمة المحجور، والفرق أنه
يستفاد بنكاحها المهر والنفقة والعبد يغرمهما.
(مسألة: ج): ذكر
الفقهاء صريحاً ومفهوماً أنه لا يصح تزويج العبد المتعلق برقبته مال إلا بإذن من
له الجناية كالعبد المرهون مثلاً وهو مشكل جداً، إذ لا يخلو العبيد غالباً عن
الجنايات، مع أن العمل قديماً وحديثاً على تزويجهم من غير تفتيش ولا نكير، والظاهر
أن وجه العمل المسوّغ للقضاة والنوّاب هو الاعتصام والأخذ بالأصل الذي هو عدم تعلق
الحق بالرقاب عند الشك في ذلك، ولا عبرة بالغالب والظاهر، إذ الأصل مقدَّم عليهما،
لأنه الأضبط المتيقن بخلافهما، وكفى بذلك حجة ومستنداً سيما إذا ضاق الأمر، ومن
المسوّغ أيضاً قولهم: إن تزويج الموسر عبده اختيار للفداء، بل ذكر الزركشي في
قواعده وغيره من العلماء خلافاً قوياً في بيع العبد الجاني مطلقاً فضلاً عن
تزويجه، فحينئذ لا يكلف النائب التفتيش عن العبد المأذون له في النكاح من سيده عما
تعلق برقبته لأن الأصل عدمه، إذ لا تثبت الجناية إلا ببينة أو إقرار السيد، وكذا
العبد بموجب قصاص، فكان اللائق والأحسن بقاء العمل على ذلك أخذاً بالأصل وتقليداً
لمن سلف، لأنهم أورع منا وأعرف، والفحص عن ذلك يؤدي إلى الحرج والتشويش لما فيه من
التعطيل، بل ترك التزويج يؤدي إلى مفاسد كما لا يخفى والدين يسر. ومن القواعد:
المشقة تجلب التيسير، وإذا ضاق الأمر اتسع، وعند الضرورات تباح المحظورات، ولا جرم
أن التسهيل في مثل هذا الحال هو اللائق بالحال خصوصاً في هذا الزمان لكثرة الظلم
والغصوب؛ وبالجملة فللنوّاب الآن مندوحة وهي عمل من قبلهم من غير تفتيش ولا نكير.
الصداق
(مسألة: ش): ما صح ثمناً صح صداقاً ولا عكس، إذ المنافع يصح إصداقها، ومتى
وجدت في أحد شقي العقد كان إجارة صحيحة إن وجدت شروطها وأركانها وإلا ففاسدة،
والذي يظهر في ضابط ما يصح صادقاً أن يقال: كل ما قوبل بعوض وكان معلوماً ولم يكن
بضعاً صح صداقاً ومالاً فلا، فخرج ما لم يقابل بعوض والمجهول والبضع ابتداء كزوجتك
على أن تزوجني، أو رفعاً كعلى أن تطلق زوجتك ودخل القصاص.
(مسألة: ب): المهر
والصداق مترادفان على الأصح، وقيل: الصداق ما وجب تسميته في العقد، والمهر ما وجب
بغير ذلك، وله أسماء جمع بعضهم منها تسعة فقال:
مهر صداق نحلة وفريضة ><
طول حباء عقد أجر علائق
ويجوز إخلاء العقد من تسميته إجماعاً مع
الكراهة، ولا تحصل التسمية بقوله: زوجتك بمهر المثل من غير تقدير، أو بمثل ما في
يدي من الدراهم ولا علم له بها، وقد تجب التسمية، كأن كان الزوج محجوراً عليه
ورضيت رشيدة بدون مهر المثل، وكما لو كانت محجورة أو مملوكة محجور أو رشيدة وأذنت
مطلقاً ورضي الزوج بأكثر من مهر المثل، لأن ترك التسمية يوجبه وهو بخس بهنّ، ويسنّ
كونه فضة ومن عشرة دراهم إلى خمسمائة، وأن يسلم بعضه قبل الدخول، وما صح ثمناً صح
مهراً ومالاً كخمر وحبة برّ يفسد مسماه، ويصح النكاح بمهر المثل، ومهر المثل هو ما
يرغب به في مثلها نسباً وصفة، فيراعى أقرب ما ينسب إليها، فلو اعتدن مسامحة نحو
قريب أو تأجيلاً جاز للولي ولو حاكم العقد به، إذا علمت ذلك ظهر لك صحة ما جرت به
العادة بجهتنا من التواطؤ على مهر معروف لا يزيد ولا ينقص، ولا يختلف باختلاف
الأشخاص، بل هو الأليق والأقرب للتقوى في زمان البلوى، وقد أغمضوا الجفن لذلك في
كثير من مسائل الكفاءة والشهادات، مع أن هذا المسمى في جهتنا مساو لمهر المثل فيها
لما تواطأوا عليه، أخذاً من اعتبار الاعتياد والتسامح، حتى جرت به العادة قديماً
وحديثاً، وللعادة مجال وتحكيم في كثير من الأحكام ونظر الأوّلين أتم، بل من محاسن
أهل جهتنا ترك المطالبة به رأساً لاعتياد المسامحة فيه والتحليل من غالب النساء لا
سيما الأشراف، بل يعدّ بعضهم المطالبة به من غير اللائق مع علمهم بوجوبه.
(مسألة: ب). تزوجها بمال كثير لا يملكه حال العقد صح وكان ديناً بذمته، نعم
إن كانت مجبرة وهو معسر ففيه الخلاف المشهور اهـ. قلت: ومر في الولي في (ح ك) أنه
يشترط لتزويج المجبر كون الزوج موسراً بمهر المثل، وإلا لم يصح النكاح على
المعتمد.
(مسألة: ش): عتقت تحت رقيق بعد الدخول أو قبله ولم تعلم به إلا بعد الوطء
فلسيدها مهر رقيقة لا لها، لأن موجبه الأصلي العقد، نعم إن لم يجب لها مهر إلا
بالوطء لسكوت السيد عنه وعدم فرضه قبل عتقها كان المهر لها، وهو مهر عتيقة لا أمة.
(مسألة: ك): عقد بنوع
مما يتعامل به كدراهم وفلوس وأطلق، فإن كان غالباً انصرف العقد المطلق إليه، سواء
كان فلوساً أو مغشوشاً أو مكسراً أو ناقصاً، وإلا فلا بد من التعيين ولو باتفاقهما
عليه نية، وإن تساوت المعاملة عليه بأن لم يختلف قيمة وغلبة من غير تعيين سلم من
أيها شاء.
(مسألة: ك): عقد شخص عقد النكاح وأخلّ ببعض شروطه فسد العقد، ويلزم نحو
المهر المباشر وهو الزوج لا العاقد، كما لا يلزم الغارّ إذ المباشرة أقوى من السبب.
(مسألة: ش): دفع
لمخطوبته مالاً ثم ادعى أنه بقصد المهر وأنكرت صدقت هي إن كان الدفع قبل العقد
وإلا صدق هو اهـ. قلت: وافقه في التحفة، وقال في الفتاوى وأبو مخرمة: يصدق الزوج مطلقاً، ويؤخذ من
قولهم صدقت أنه لو أقام الزوج بينة بقصده المذكور قبلت.
(مسألة: ش): دفع
لمخطوبته مالاً بنية جعله في مقابلة العقد استرده إذا لم يتفق العقد ويصدق في ذلك
اهـ. قلت: ورجح ذلك في التحفة، وخالف في فتاويه فقال: ولو أهدى لمخطوبته فاتفق
أنهم لم يزوجوه، فإن كان الرد منهم رجع بما أنفق لأنه لم يحصل غرضه الذي هو سبب
الهدية، أو منه فلا رجوع لانتفاء العلة اهـ. وأفتى الشهاب الرملي بأن له الرجوع
أيضاً مطلقاً، سواء كان الرد منه أو منهم، كما لو مات فيرجع في عينه باقياً وبدله
تالفاً مأكلاً ومشرباً وحلياً اهـ.
(مسألة: ش): خطب بكراً
ودفع إليها مالاً بلا لفظ، سواء قصد جعله في مقابلة العقد على بكر أم لا، ثم ادعى
أنها ثيب، صدق بيمينه لاسترداد المدفوع للقرينة، وهي اطراد العادة أن ما يدفع
للبكر أكثر مما يدفع للثيب، ولأن الأصل عدم الاستحقاق ما لم تتيقن البكارة قبل
العقد، وإن زالت بعده أو طلقها قبل الدخول.
(مسألة: ب): من الديون
المتعلقة بالذمة ما يلزم الزوج مما يعتادونه من الجهاز فتستحقه الزوجة كالمهر
وتستوفيه من التركة كسائر الديون اهـ. قلت: وعبارة أبي مخرمة الجهاز إذا لم تقبضه
الزوجة أو وليها أو وكيلها فليس لها المطالبة به، إذ غايته أنه وعد وهو غير لازم.
(مسألة: ب): تجب المتعة لكل مطلقة إن لم يجب شطر المهر بأن وجب كله أو لم
يجب شيء، وكذا بفرقة بسببه كإسلامه وردته، فإن كان بسببها كفسخ بعيب منه أو منها
فلا وهي أقل متمول، ويسنّ أن لا تنقص عن ثلاثين درهماً، فإن تراضيا على شيء وإلا
فرض الحاكم لائقاً بحال الزوج يساراً وإعساراً، وحالها نسباً وجمالاً ونحوهما.
[فائدة]: قال في
التحفة: وكذا تجب المتعة لموطوءة طلقت بائناً أو رجعياً وانقضت عدتها، فلو مات
فيها فلا، للإجماع على منع الجمع
بين المتعة والإرث، وبهذا يعلم أن الأوجه أن المتعة لا تكرر بتكرر الطلاق في
العدة، إذ الإيحاش لم يتكرر اهـ. ورجح (م ر) تكررها بتكرر الطلاق وأنها تجب وإن
راجعها في العدة اهـ.
الوليمة
[فائدة]: لم أر أحداً من أئمتنا ضبط المسافة التي تجب إجابة الداعي لوليمة
العرس إليها، ويؤخذ من متفرقات كلامهم احتمالان: أحدهما: ضبطها بمسافة العدوى
قياساً على أداء الشهادة بجامع أن كلاحق آدمي. ثانيهما ضبطها بما تجب إجابة الجمعة
منه لأن الجمعة فرض عين، فإذا سقطت عمن لم يسمع النداء فكذلك يسقط وجوب الإجابة
وهذا أقرب، وأقرب منه احتمال ثالث وهو العرف المطرد عند كل قوم في ناحيتهم، فإن
اعتادوا الدعوى من مسافة العدوى، وأن ترك الإجابة قطيعة على المدعو وجبت على
القوي، وإن لم يعتادوا لم تجب، بل إن اعتادوا عدم الدعاء من خارج البلد، وإن سمع
النداء لم تجب اهـ فتاوى ابن حجر.
[فائدة]: يملك الضيف ما ازدرده أي ملكاً مراعى، بمعنى أنه إذا أكله أكل
ملكه، ولا يتم ملكه إلا بازدراده، فلو حلف لا يأكل طعام زيد فضيفه زيد وأكل لم
يحنث، لأنه إنما أكل ملكه لا ملك زيد، نعم ما يقع من تفرقة نحو لحم على الأضياف
يملكه ملكاً تاماً بوضع يده عليه، وكذا الضيافة المشروطة على أهل الذمة يملكها بوضعها
بين يديه، فله الارتحال بها والتصرف فيها بما شاء، قاله (م ر) اهـ بج على الإقناع.
[فرع]: لو تناول ضيف إناء طعام فانكسر منه ضمنه كما بحثه الزركشي اهـ فتح.
قال في القلائد: ولا يكره الأكل قائماً لكنه في القعود أفضل، وكذا الشرب، وقيل:
يكره ورجح، وقيل: خلاف الأولى ويسن تقيؤه مطلقاً، وكره في الأنوار ومختصره الشرب
للماشي لا القائم.
القسم والنشوز
[فائدة]: قال (ق ل): الحقوق الواجبة للزوج على زوجته أربعة: طاعته،
ومعاشرته بالمعروف، وتسليمها نفسها إليه، وملازمة المسكن، والواجبة لها عليه أربعة
أيضاً: معاشرتها بالمعروف، ومؤنها، والمهر، والقسم. اهـ.
(مسألة: ش): أكثر القسم ثلاثة أيام، فلا تجوز الزيادة عليها إلا برضاهن على
المعتمد ولو قدر كسفر وخوف وتفرقهنّ في البلدان فيجب القضاء والاستحلال، إذ العذر
المذكور لا يجوّز المبيت زيادة على المشروع، بل يلزمه الاعتزال والمبيت في نحو
مسجد أو دار صديق، فإن تعذر جاز له المبيت مع البعد عنها ما أمكن، نعم نقل
البلقيني عن النص جواز الزيادة على الثلاث مع التسوية اهـ. قلت: ونقل مج عن إمام
الحرمين أنه لا يجب القسم لمن ليست في بلد الزوج، وبه قال مالك اهـ.
(مسألة: ج): مزوّجة إذا دخلت على زوجها اعتراها ضيق وكرب وصياح، وإذا خرجت
من بيته سكن روعها لم يلزمها التسليم للضرر، لكن تسقط مؤنثها، ولا يلزم الزوج
الخروج من بيته لآخر لو فرض أنه لم يعترها ما ذكر، حينئذ يرشدهما الحاكم إلى
الخلع، ولا كراهة فيه حينئذ، فإن لم يتفقا على شيء واشتد الخصام بعث حكمين يدفعان
الظلامات، وينبغي كون حكمه من أهله وحكمها من أهلها، فينظران أمرهما ويفعلان
الأصلح من صلح أو تفريق، وهما وكيلان عنهما، فلا بد من رضاهما بهما، ويوكل هو حكمه
بطلاق وقبول عوض خلع، وتوكل هي حكمها ببذل عوض وقبول طلاق، وإن امتنعت لا لعذر فهو
نشوز تأثم به وتسقط المؤن ويجوز ضربها، فإن رجعت وإلا أتى ما تقدم.
[فائدة عظيمة]: ذكر بعضهم أن من أراد أن يكون ولده، من الشيطان وجنوده،
محفوظاً، وبعين العناية الإلهية في الدارين ملحوظاً، فليذكر الله قبل المباشرة
أولاً بالذكر الوارد عن المصطفى وهو: "باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب
الشيطان ما رزقتنا" ثم يشتغل بذكر الحق تعالى باطناً من أول المباشرة إلى
آخرها، ثم يحمد الله تعالى بعدها على أن جعل ذلك حلالاً، فإن ذلك مما يغفل عنه
الكثير، واستحضار من يجب من أولياء الله وأنبيائه حالتئذ نافع جداً، فيسري سر ذلك
الولي أو النبي في الكائن في ذلك الوقت ذكراً أو أنثى، ومن كان من أهل الذكر في
تلك الحالة بلغ آماله، إذ تلك الحالة مشغلة عن الله تعالى وعن كل شيء، والغفلة فيه
سم قاطع وداء شائع، وفيه من الإمدادات ما لا يخطر ببال يعلم ذلك أهل الكمال، ولا
التفات إلى من يقول: إنه شهوة بهيمية بل هو منقبة نبوية، ولا يفوز بالإكثار منه
إلا كامل الرجولية، اهـ من شرح رسالة للشيخ حسين عبد الشكور المقدسي.
الخلع
(مسألة): ادعى الطلاق الثلاق بعوض فأنكرت العوض، حلِّفت ووقعت الثلاث مؤاخذة بإقراره ولا مال لأن الأصل
عدمه، نعم إن أقام بينة ولو شاهداً ويميناً ثبت المال.
الصيغة
(مسألة): تعليق الطلاق بالإعطاء والنذر والضمان ونحو الإبراء الإقباض إن
قصد به التمليك، فإن كان بنحو متى أو أيّ وقت أو مهما فهو على التراخي متى وجد
المعلق عليه طلقت، أو بإن وإذا فعلى الفور، هذا إن لم تدخل عليها لم، وإلا فالجميع
على الفور إلا إن فعلى التراخي.
(مسألة: ب): قال لها:
أنت طالق طلقة خلعية، أو أنت طالق الطلاق الخلعي، أو أنت طالقة طلاقاً بائناً، ولم
يلتمس قبول الزوجة وقع رجعياً، إذ الحاصل من كلامهم فيمن قال: خالعتك أو فاديتك مثلاً
من غير ذكر مال ونوى التماس قبولها، وكذا إن لم ينوه، كما قاله أبو مخرمة وابن
سراج، وقبلت فوراً وقوعه بائناً بمهر المثل، فإن لم تقبل فلا طلاق اتفاقاً، ورجح
ابن حجر أنه إذا لم ينو التماس قبولها يقع رجعياً قبلت أم لا، كما لو نفى العوض
لفظاً أو قصداً فيقع.
(مسألة: ش): وكل آخر
في طلاق زوجته على البراءة من مهرها صح، وكان توكيلاً في الخلع لا تعليقاً على
البراءة، فلا فرق بين أن يبتدىء الوكيل الصيغة أو تبتدىء هي، فلو قالت له: طلقني
على براءة زوجي من مهري، فقال: أنت طالق وقع بائناً إن صحت البراءة بشرطها، بخلاف
ما إذا فسدت الوكالة كأن قال: إذا أبرأتني فطلقها، أو فقد وكلتك في طلاقها، فإنه
إذا طلقها بعد براءتها براءة صحيحة منجزة يقع رجعياً وإلا فلا طلاق اهـ، قلت:
ومثله التحفة.
(مسألة: ك): قال: خالعتك بألف فقبلت ولم تذكر الألف، أو قالت: طلقني بألف،
فقال: طلقتك فقط بانت به.
(مسألة: ي): تشاجر هو
وزوجته فقال له أجنبي: اشتريت هذه الفضة ومهر المرأة المذكورة بطلاقها، فقال:
اشتريت، فإن أراد بذلك الطلاق وقبل مخاطبه فوراً بنحو قوله بعده: بعتك إياهما وقع
الطلاق، وإن لم يقبل لم يقع أصلاً، لأن قوله للزوج اشتريت الخ مجرد التماس وسؤال
لا إنشاء، ثم إن وكلته المرأة بالخلع بما ذكر، أو دلت قرينة على إرادة الأجنبي
بمهر المرأة مثل مهرها كأن يضيفه إلى ذمته، وكأن يحيل الزوج المرأة على الأجنبي
قبل خلعه وقع بائناً وإلا فرجعي، ولو خالعت أم المرأة على مؤخر صداق بنتها في
ذمتها فأجابها الزوج وقع بائناً.
[فائدة]: قال في التحفة كالنهاية: علم مما مر ضبط مسائل الباب يعني باب
الخلع، أن الطلاق إما أن يقع بائناً بالمسمى إن صحت الصيغة والعوض وبمهر المثل إن
فسد العوض فقط، أو رجعياً إن فسدت الصيغة وقد نجز التطليق أو لا يقع أصلاً إن تعلق
بما لم يوجد اهـ.
خلع السفيهة وحكم البذل
(مسألة: ش): خلع السفيهة إن كان بصيغة تعليق من الزوج نحو: إن أبرأتني من
صداقك فأنت طالق، فأبرأته لم يقع شيء كما لو قاله لصبية أو أمة، وكذا إن أعطيتني
ألفاً فأعطته على الراجح إن قصد معنى التمليك، فإن قصد الإقباض أو أطلق وقع رجعياً
في السفيهة والصبية، وفي الأمة يقع بمهر المثل بذمتها أو بصيغة تعليق منها كإن
طلقتني فأنت بريء، أو فلك كذا، أو خلع منه كطلقتك بألف فقبلت، أو منها كطلقتني
بألف فأجابها، فالمشهور الذي اعتمده الجمهور وقوعه رجعياً في الكل علم السفه أم
لا، واختار بعضهم وقوعه بائناً بمهر المثل وهو شاذ، وهذا إذا قلنا بمذهب الشافعي
إن الرشد صلاح الدين والمال، أما إذا قلنا بالوجه الشاذ إنه صلاح المال فقط وهو
مذهب الثلاثة، وأفتى به ابن عجيل والحضرمي وغيرهما فيقع بالمسمى اهـ. قلت: وقد
تقدم في الحجر توجيهه.
(مسألة: ش): بذلت صداقها على صحة طلاقها فطلقها دون ثلاث، ثم ادعت جهلها
بالصداق، فإن قلنا: إن صيغة البذل ليست صيغة خلع فرجعي مطلقاً، وإن قلنا: خلعاً
فبائن بمهر المثل للجهل. وحاصل المعتمد عندي في مسألة البذل أنه كناية خلع، فإذا
نوت ببذلت وهبت فكأنها قالت: أبرأتك من صداقي على طلاقي لصراحة لفظ الهبة في
الإبراء، فإن أجابها: بأنت طالق على ذلك فقبلت بانت بمهر المثل، وإن لم يكن سوى
مجرد البذل، والجواب بنحو أنت طالق فرجعي بشرطه، سواء علم عدم صحة بذلها أم جهله،
إذ البذل ليس له عرف شرعي، إذ لم يرد لشيء واحد يطلق عليه يسمونه صريحاً فيه، وله
عرف لغوي وهو الإعطاء والجود، وذلك فعل لا قول، ومورده العين لا الدين، فلو اطرد
استعماله في الدين في ناحية في مقابلة الطلاق فهو عرف خاص في أمر خاص، يحتمل كونه
كناية إن قصد معنى الهبة وليس صريحاً مطلقاً، إذ الصريح عند النووي ما ورد به
الشرع من الألفاظ فقط اهـ. وعبارة ك: طلبت الطلاق فقال: أبرئيني، فقالت: بذلت
صداقي على صحة طلاقي، فقال: أنت طالق، فإن قصد تعليق الطلاق على صحة البراءة
والعوض من المهر وقع بائناً إن صحت البراءة، وإلا فلا طلاق ولا براءة، وإن لم يقصد
شيئاً وقع رجعياً.
(مسألة: ش): أفتى الأصبحي والشاشي وغيرهما أنه يقع الطلاق بائناً بمواطأة
أحد الزوجين الآخر بالإبراء ثم الطلاق وعكسه، وأفتى علماء اليمن كبني عجيل
والناشري والمزجد وابن زياد والريمي والأزرق والخلي والطنبداوي والرداد وغيرهم
بأنه يقع الطلاق بائناً في مسألة البذل، فحينئذ لو قال لها: أبرئيني من دينك
وأطلقك فأبرأت ظانة أن البراءة واقعة في مقابلة الطلاق، ثم بذلت صداقها على صحة
طلاقها فطلق، جاز للقاضي والمفتي الحكم بالبينونة اعتماداً على ما ذكر، وخصوصاً
إذا كان الزوج مخادعاً لتصح البراءة وإن كان فيه خلاف، إذ القصد إنما هو كون وقوع
الطلاق بائناً، وجهاً قوياً يسوغ الحكم به.
(مسألة: ش): وكلت أباها في بذل صداقها على طلاقها فقال للزوج: بنتي بذلت
صداقها الخ فطلق، وقع رجعياً مطلقاً لعدم صحة صيغة الخلع، لأنها وكلته في الإنشاء
وأتى بصيغة الإخبار عنها بأنها بذلت ولم تبذل فيصير الوقوع لا في مقابلة عوض.
التعليق بالإبراء والنذر
(مسألة: ب): شرط صحة الإبراء والطلاق المعلق به فيما لو قال لزوجته: إن أو
إذا أبرأتيني من مهرك مثلاً فأنت طالق، أن تبرئه في مجلس التواجب بأن لا يتخلل
بينهما كلام أجنبي ولا طول فصل في الحاضرة وبعد بلوغ الخبر في الغائبة، نعم لا
يشترط الفور في التعليق بنحو متى، بل متى أبرأته طلقت، وأن تكون مطلقة التصرف لا
سفيهة وأمة وغير مكلفة، ومعلوم أن الرشد على المذهب أن تبلغ مصلحة لدينها ودنياها،
فحينئذ يندر الرشد في غالب نساء العصر وقبله بأزمنة، بل في غالب الرجال، فيصعب
الجري على جادة المذهب، لكن اختار ابن عبد السلام وجمع من العلماء أن الرشد صلاح
الدنيا فقط، فعليه يصح إبراؤها إن كانت كذلك، وأن لا يتعلق بالمبرأ منه زكاة لم
تؤد، وأن يعلم كل منهما بالمبرأ منه المعلق عليه الطلاق ولو ضمناً مهراً وكسوة
وغيرهما على المعتمد، وإن كان الشرط في الإبراء علم المبرىء فقط لا المبرأ لأنه
هنا معاوضة، نعم قال السمهودي وأبو مخرمة: لا يشترط علم الزوج ولكن يقع مع جهله
رجعياً، فمتى وجدت هذه الشروط الأربعة طلقت بائناً وإلا فلا، نعم لو علق الإبراء
من جميع ماتستحقه وأراد معيناً من نحو دين أو مهر وعلماً قدره برىء وطلقت، وطريق
الإبراء من المجهول وهو المراد بقولنا ضمناً أن تبرئه من قدر من جنس المبرأ منه
يقطع فيه بأنه لا يبلغه، كمائة قهاول ذرة ومثلها من الثياب، فتحصل البراءة ضمناً،
وتبين كما لو طلب منها الإبراء من مائة هي صداقها ولم يبق لها إلا خمسون فتبين
بذلك أيضاً، وبالجملة فمسائل الخلاف لا سيما في الأبضاع ينبغي الاحتياط فيها اهـ.
وفي (ي ش ك) نحو هذه الشروط، وزاد ش: ثم إن كان إبراؤها بعد علمها بتعليقه طلقت
بائناً وبرىء، أو قبل علمها برىء أيضاً ووقع رجعياً على المعتمد من ثلاثة أوجه،
وألفاظ الإبراء: أبرأت، وعفوت، وأسقطت، وتركت، ووضعت، وحللت، وملكت، ووهبت.
(مسألة: ي): قال لها: إن أبرأتيني من مهرك فقد طلقتك فأبرأته، والحال أنه
قد أعطاها بعضه برىء مطلقاً، ثم إن كان ذاكراً لما أعطاها وقع بائناً علم الباقي
أو جهله، أو ناسياً له لم يقع سواء كان ذاكراً للباقي أم لا، ولا بد من علمها بقدر
المهر أو اعتقادهما أنه أكثر.
[فائدة]: أفتى الأصبحي
وغيره بأن قوله: أنت طالق على تمام البراءة مثل قوله: إن أبرأتيني فأنت طالق،
وحينئذ لو قال ذلك لمن أبرأته فإن لم تتلفظ بالبراءة فلا وقوع، وكذا إن تلفظت على
الأصح، نعم إن قصد التعليق على مجرد التلفظ بالبراءة وقع جزماً، اهـ فتاوى ابن
حجر.
(مسألة: ك): قالت: طلقني، فقال: أبرئيني من صداقك، فقالت: أنت بريء منه أو
مما أستحقه عليك، فقال: أنت طالق، فإن لم يقصد شيئاً أو قصد أنه في مقابلة تلفظها
بالبراءة وقع رجعياً بشرطه صحت البراءة وظن صحتها أم لا، أوقع الطلاق لظنه سقوط ما
أبرأته عنه أم لا، لأنه أطلق صريح طلاق منجز، ولم يعلقه بصحة الإبراء لفظاً أو
قصداً، وإن قصد تعليق الطلاق على صحة البراءة والعوض عما برىء منه مما كان لها في
ذمته تعلق بصحة البراءة، فإن صحت بشروطها المارة وقع بائناً، وإلا فلا طلاق مطلقاً
ولا براءة إلا فيما تعافت به زكاة، فيصح فيما عدا قدرها، ولا يشترط الفور في تلفظه
بالطلاق، فلو مكث زماناً طويلاً بعد طلبها وإبرائها، أو قال: حتى يحضر فلان، فلما
حضر قال: أنت طالق ونوى جوابها طلقت بائناً بالمسمى، ولو ادعى التعليق لفظاً بصحة
البراءة وأنكرته صدق بيمينه، وإن قال الشهود: لم نسمعه يتكلم ما لم يقولوا رأينا
فمه منطبقاً عقب تلفظه بالطلاق، وهذا كما لو قال لها: إن أبرأتيني من صداقك فأنت
طالق، فقالت له: أنت بريء من صداقي العاجل والآجل ومن جميع المطالب، فيقع بائناً
بالشروط المذكورة أيضاً ولا تضر زيادتها على ما ذكر، لأن الموافقة إنما تجب في صيغ
المعاوضات، أما التعاليق فالمدار فيها على وجود المعلق عليه، فمتى وجد وقع وإن وجد
معه زيادة.
(مسألة: ك): قال لها: أبرئيني من صداقك، فقالت: أبرأتك من 450 محمدية إلا
إحدى عشر، فقال لها: إن صح إبراؤك فأنت طالق بالثلاث، والحال أن الصداق 450 لكن قد
مضى عليها حول فوجب فيها زكاتها إحدى عشر وربع لم يقع الطلاق لأن الإبراء وقع عن
الربع الذي للفقراء مع الإحدى عشر المستثناة ولا يصح الإبراء عنه فلغا الطلاق، إذ هو معلق بصحة الإبراء عن جميع ما سمته
الزوجة، نعم لو قالت: أبرأتك عما ذكر إلا إحدى عشر ونصفاً مثلاً وقع الطلاق وبقي
لها ربع.
(مسألة: ب): قال: إذا
أبرأتني زوجتي من مهرها طلقتها، فجاء أبوها فقال: أبرأتك فطلقها، ثم أنكرت الإبراء
وخاصمت الأب، فإن كانت المخاصمة مما تؤدي إلى عدم قبول الشهادة صدقت بيمينها، إذ
لا تقبل شهادة الأب عليها حينئذ اهـ. وعبارة (ك): قال لزوجته الغائبة: إن أبرأتني
فلانة فهي طالق فلا بدّ من إبرائها فوراً عند بلوغ الخبر على المعتمد، فلو قال
أبوها: أبرأتك فأنكرت صدقت بيمينها ما لم تقم بينة بذلك، ولو أبرأه الأب فقال: إن صح
إبراؤك فابنتك طالق لم يقع إن لم يحصل منها توكيل فيه كما لو كانت سفيهة.
(مسألة: ش): قال لها:
إن أبرأتني من صداقك فأنت طالق بعد شهر فأبرأته فوراً برىء مطلقاً، ثم إن عاش إلى
مضيّ الشهر طلقت بائناً وإلا فلا، لأن البراءة وقعت منجزة يقيناً ولا نظر إلى أنها
إنما أبرأت طمعاً في الطلاق ولم يقع لأن المقصود حصل بالموت، فلو علقت الإبراء على
الطلاق بعد تعليقه الطلاق على الإبراء لم يقع شيء، أما طلاقه الأوّل فلأنه معلق
بالإبراء ولم يوجد، وأما الإبراء فلأنه معلق وهو لا يصح تعليقه وجدت الصفة بأن طلق
ثانياً أم لا، وأفتى الأصبحي والشاشي وغيرهما بأنه يقع الطلاق بائناً بمواطأة أحد
الزوجين بالإبراء، ثم الطلاق وعكسه والمعتمد خلافه اهـ. وعبارة (ك): قالت له:
أبرأتك من صداقي على أن تطلقني أو على الطلاق، أو بشرط أن تطلقني لم تصح البراءة
لتعليقها بالطلاق ويقع طلاقه حينئذ رجعياً، نعم إن قصدت جعل الإبراء عوضاً عن
الطلاق فقال: أنت مطلقة على ذلك بانت، وإن اقتصر على أنت مطلقة فقط وقع رجعياً
مطلقاً قاله ابن حجر، واعتمد (م ر) أنه إن أعلم الزوج عدم صحة التعليق فرجعي أو ظن
صحته فبائن، واعتمد الشيخ زكريا الوقوع بائناً بمهر المثل، وجزم القاضي بوقوعه
رجعياً.
[فائدة]: قالت له: إن طلقتني فأنت بريء فطلق وقع رجعياً كما في الإرشاد
والتحفة وأبي مخرمة ولا براءة، واعتمد في الفتح وقوعه بائناً بمهر المثل، وفصل في
النهاية بين علمه بالفساد فيقع رجعياً وإلا فبائن بمهر المثل.
(مسألة): قال لها:
أبرئيني وأطلقك، أو إذا أبرأتني أطلق فأبرأته صحت البراءة ولا يلزمه الطلاق، وإن
قالت: إنما أبرأته بظن أن يطلق على المعتمد، فإن طلق وقع رجعياً مطلقاً صحت
البراءة أم لا، نعم إن قصد تعليق الطلاق على صحة البراءة والعوض عما برىء منه وقع
بائناً إن صحت وإلا فلا، ولو بقي لها بعض المهر فقالت: أبرأتك فقال: أنت طالق برىء
وطلقت رجعياً، ولو قال لها: إن أبرأتني فأنت طالق طلقة رجعية فأبرأته برىء ووقع
رجعياً، كما قاله في القلائد وأبو مخرمة وابن حجر في المحرر من الآري قال: لأن
التصريح بالرجعة سلخ التعليق عن شائبة المعاوضة، فأشبه ما لو قال: طلقتك بألف على
أن لي الرجعة فيقع رجعياً بقبولها ويلغي ذكر العوض، لأن ذكر العوض واشتراط الرجعة
تنافيا فألغينا ذكر المال اهـ، ورجحه (م ر) و (سم) قال: وإن نقل عن ابن حجر خلافه.
(مسألة: ب): قال: متى أبرأتني فلانة من جميع ما تستحقه فهي طالق، فنذرت له
بذلك، فإن أراد خلاصه من عهدة المهر وسقوطه عن ذمته بانت بذلك وبرىء، إذ النذر هنا
حكمه حكم الإبراء فلا بد من شروطه على المعتمد، وإن أراد التعليق بلفظ الإبراء أو
أطلق صح النذر ولا طلاق فيهما كما قاله الأشخر، واقتضاه كلام التحفة إذ المتبادر
من قوله: إن أبرأتني إبراؤها بلفظ الإبراء أو بمرادفه كلفظ الهبة والتمليك، ولم
يقل أحد إن النذر من صيغ الإبراء بخلاف الهبة، نعم رجح ابن حجر في فتاويه أن النذر
كالهبة، فحينئذ يقع به الطلاق عند الإطلاق نظراً إلى استوائهما في المعنى.
(مسألة: ي ش ك): أفتى ابن حجر تبعاً للرداد بأن النذر من صيغ الخلع
كالإبراء والإعطاء مع تضمن كل للمعاوضة التقديرية، فلو قال: إن نذرت لي بصداقك
مثلاً فأنت طالق، فنذرت به عالمة بقدره وهي ممن يصح نذرها وقع بائناً، وقال أبو
مخرمة وابن زياد تبعاً للسمهودي: يقع رجعياً لأن النذر لا يقبل المعاوضة إلا من
الله تعالى اهـ. قلت: وحينئذ يقع الطلاق وإن جهلاً أو أحدهما المنذور به، بل لو
علق بإبرائها من المهر وهي تجهله فنذرت به نفذ الطلاق وصح النذر، قاله أبو مخرمة
في فتاويه.
(مسألة): تواطأ هو
وزوجته على أن تنذر له بنخل معين ويطلقها، وأنه إن بان النخل مستحقاً فلا طلاق،
فنذرت له بالنخل ثم طلقها ثلاثاً من غير قيد، فإن قصد تعليق الطلاق على صحة النذر
المذكور وقع بائناً به على المعتمد. وقال أبو مخرمة: رجعياً هذا إن صح النذر، فإن
لم يصح بأن كانت غير رشيدة أو بان زوال النخل أو بعضه عن ملكها حال نذرها فلا
طلاق، وإن قصد الطلاق في مقابلة تلفظها بالنذر أو لم يقصد شيئاً وقعت الثلاث صح
النذر أم لا، ويصدق بيمينه في قصده، كما يصدق فيما لو قال: علقته لفظاً بصحة النذر
وأنكرته، وإن قال الشهود لم نسمعه تلفظ بذلك، بخلاف ما لو قالوا: رأينا فمه
منطبقاً فلا يصدق حينئذ.
(مسألة): فلانة طالق أو مطلقة ثلاثاً أو بالثلاث، فلما علمت الزوجة قالت:
هو بريء على براءة أخي ونذرت له بنذره فالطلاق نافذ على كل حال، وقول الأخ المذكور
لاغ لا يلزمه به شيء مما التزم، نعم إن أراد بقوله: وما لحقك من أختي من خالص مالي
التزام مثل ما يلزم الزوج من دعوى غير ما ذكر كالمتعة والنفقة وغيرهما لزمه ذلك
كالذي قبله إن أراد التزام مثل ذلك بذمته أيضاً، وإن برىء الزوج من ذلك بنذرها له،
لأن هذا التزام مثله لا عينه، وقول المرأة: برىء على براءة أخي ونذرت له بنذره
صحيح، فكأنها قالت: نذرت بما نذر به
أخي وهو الذي تستحقه عليه من الحقوق، فيبرأ من جميع ما يلزمه سابقاً ولاحقاً وإن
لم يعلماها إذ ليس هنا معاوضة، ويلزمها رد ما أعطاها من الناقتين والمصاغ.
(مسألة: ش): علق
الطلاق الثلاث بإبرائها أو نذرها بالمهر فأبرأت أو نذرت، ثم ادعت الجهل بالمهر
صدقت إن أمكن كأن زوجت صغيرة أو لم تستأذن فيه كما هو الغالب، ثم إن صدقها الزوج
فلا طلاق ولا براءة، وإن كذبها وقع الثلاث ولا براءة مؤاخذة له بإقراره، نعم إن
رجع وأمكن خطؤه قبل، وإن لم يمكن كأن قال: سمعتها تذكره قريباً أو عند البراءة فلا، وإن ادعى الزوج الجهل بالمهر صدق أيضاً إن
أمكن ولا طلاق، ثم إن صدقته فذاك وإلا فهو مقرّ بالمهر وهي تنكره فلا مطالبة لها
إلا إن رجعت، وأنشأ هو إقراراً آخر، ولو عرفا أن المهر ألف ولم يعرفا كم هي لم يصح
الإبراء إلا إن قطع بكذبهما.
التعليق بنحو الإعطاء والضمان
والإقباض
(مسألة: ك): قال لزوجته: إن أعطيتني مائة محمدية فأنت طالق وأطلق فلم يقصد
شيئاً، والحال أن المحمدية تطلق على نوع من الفضة، وعلى عشرين غوازي صفر حمل على
الفضة، كما لو أطلق الدراهم في الخلع، لأن إطلاق المحمديات والدراهم على غير الفضة
من التوسع، فإن نويا أحدهما صح وبانت بإعطائه فوراً في الحاضرة وعند بلوغ الخبر في
غيرها، وإن اختلفت نيتهما وتصادقا لم يقع لعدم وجود المعلق عليه، وإن قال أردت
الفضة، فقالت: بل الفلوس بلا تصادق وتكاذب فسد المسمى ووجب مهر المثل، كما لو
طلقها على أن تعطيه جميع حقه فأعطته ما وصل إليها منه من مهر وصوغة فأبى وقال:
أردت جميع ما أنفقته في العرس من وليمة وغيرها، أما لو صدّق أحدهما الآخر على ما
أراده وكذبه الآخر فيما أراده فتبين ظاهراً ولا شيء له لإنكار أحدهما الفرقة، نعم
إن عاد المكذب وصدق استحق الزوج المسمى.
(مسألة: ك): قال لها: إن أعطيتني الورقة فأنت طالق وهي لا تساوي ربع ديوني
ولكن فيها مكتوب صداقها الآجل فأعطته إياها طلقت بائناً وإن قلت قيمة الورقة، إذ
يصح الخلع بأقل متمول كالصداق والمبيع، فما زاد على حبة البر يصح جعله ثمناً ونحوه
اهـ. قلت: وانظر لو أراد الزوج بالورقة ما كتب فيها كورقة البيت مراداً بها نفس
البيت، والظاهر أنه إن اتفقا على ذلك وعلماه وقع بائناً بذلك وإلا فيأتي ما مر.
(مسألة): قال: متى أو
نهار تعطيني أو أعطتني أو مدت لي فلانة كذا فهي طالق ثلاثاً أو بالثلاث، طلقت
ثلاثاً بإعطائها ذلك ولو بعد مدة، إذ لا يشترط الفور في نحو متى، ولا يحتاج إلى
تجديد طلاق بعد الإعطاء، فلو أبى من قبول المال فطريق الخلاص أن تضعه عنده بحيث
يعلمه ويقدر على تناوله فيملكه حينئذ وتبين، نعم لا بد من إعطائها بنفسها، فلو
أعطاه غيرها فإن كان بإذنها مع حضورها كفى وإلا فلا كما في التحفة اهـ. وفي (ك)
قال لها: إن أو متى أعطيتني ألفاً فأنت طالق، فلا بد من إعطائها الألف بنفسها، فلو
بعثت به مع وكيلها أو أعطته عنه عوضاً كنخل أو قالت له: اقطعه مما في ذمتك لي لم
تطلق، نعم لو قالت لوكيلها سلمه له فسلمه وهي حاضرة طلقت.
(مسألة: ك): قال لها: إن أعطيتني مائة درهم إلى شهر فأنت طالق، فأعطته بعد
مضي الشهر يقع لعدم وجود المعلق عليه، لأن إلى لانتهاء الغاية، فلا يفيد الإعطاء
المقيد بها إلا إن وقع في اللحظة المتصلة بالشهر اهـ. قلت: فلو أعطته قبل مضيّ
الشهر فهل تبين أم لا حرره.
(مسألة: ي): قال لها: إن أعطيتني عشرة وأنفقت على بنتي سنة فأنت طالق، فلا
بد من الإعطاء فوراً، وأما الإنفاق فيكفي فيه قبولها باللفظ فتطلق حالاً، أو
بالفعل وهو مضي السنة فتطلق بعدها، قاله ابن حجر وأبو مخرمة وأبو قشير، لا بد من
مضيّ السنة مطلقاً، كما أنه لو كان الأب معسراً لا تلزمه نفقة البنت لم تطلق إلا بمضيها
مطلقاً اتفاقاً، وإذا أنفقت رجعت عليه بها إن لزمته، ورجع هو عليها بقسط النفقة من
مهر المثل مطلقاً، فينسب إلى العشرين قدر النفقة، فلو كان قدرها عشرة رجع بثلث
المهر اهـ. وعبارة (ش) قال لها: إن احتملت بنفقة ابنك فأنت طالق، فقالت: احتملت لم
يقع به شيء لأن مراده بالاحتمال الالتزام بذلك، وقولها احتملت لا التزام فيه، فإن
عين مدة كأن احتملتها سنتين مثلاً فلما انتهت تلك المدة طلقت رجعياً، كما لو قال
لها: إن أخرت دينك سنة، أو إلى الخير أي وقت أخذ الغلة فصبرت إلى مضيّ تلك المدة
فتطلق رجعياً أيضاً، لأن المعلق عليه وجود ما ذكر لا تلفظها به.
(مسألة: ك): قال لها: إن أعطيتني مالي فأنت طالق، فقالت له: أيّ شيء مالك؟
فقال: كذا وكذا، فأعطته له فوراً بانت، ثم لو قال بعد التفرق: بقي لي شيء لم يقبل
ظاهراً، لأن كلامه الثاني يفيد رفع الطلاق الذي حكم به كلامه الأوّل، أما باطناً
فالمدار على ما في نفس الأمر، فإن قصد الكل وإنما حصل له نحو نسيان عند ذكر الأوّل
فلا طلاق إلا بإعطاء الجميع. ولو قال لها: إن أعطيتني باكر الصبح كذا فأنت طالق،
فأعطته بعد الطلوع إلى ارتفاع الضحى طلقت، ولو طلبت منه الطلاق فقال: أعطيني الذي
أعطيتك كله، فقال أبوها: نعم نعطيك فسلم له بعض الدراهم وحليّاً وغيره، ثم قالت له
الزوجة: طلقني، فقال لها: أبرئيني من حقوق الزوجية من الحضانة وغيرها، فقالت:
أبرأتك على أن تطلقني، فقال: أنت مطلقة وقع رجعياً، وما أخذه الزوج سابقاً من مال
الزوجة لا يملكه وإن شملته صيغة الطلاق، إذ ليس للأب تمليك مال بنته، حتى لو أبرأ
الزوج من صداقها بعد تعليقه طلاقها على البراءة لم يقع لعدم وجود البراءة.
(مسألة): طلقها طلقتين أو ثلاثاً على تمام الحي والضائع، ومراده بالحي
المهر وبائع ما أنفقه في الوليمة يعني
ردّ ما ذكر، فإن ردّت جميع المهر ومثل الضائع طلقت بائناً وإلا فلا، ولو شرط
شروطاً كإبراء وردّ مال ثم قال: أنت طالق على هذه الشروط كان تعليقاً على الإتيان
بذلك، فلا بد للوقوع من الإتيان بجميعها.
(مسألة): قال لها: أنت
طالق بشرط أو على أن لي عليك عشرة حجزة يعني إلى أجل معلوم لديهما إن أديتها نفذ
طلاقك وإلا فلا، فنذرت له بذلك، فقال لها: أنت طالق ثلاثاً إن أديت العشرة في ذلك
الأجل، كان الأول صيغة التزام فلا بد من قبولها فوراً بنحو قبلت أو ضمنت فتقع به
واحدة بائناً وإن لم تؤد المال ولا يلحقها الثاني، فإن لم تقبل كذلك بل نذرت لم
تطلق، وحينئذ فتعليقه الثاني يقع بأداء العشرة، فإن أدتها ولو قبل الأجل لا بعده
نفذت الثلاث وإلا فلا.
(مسألة: ك): قالت له: خذ هذا على الطلاق فأخذه وقال: أنت طالق بانت به وإن
لم يقل على ذلك، كما لو قالت: خذ هذه الألف على أن تطلقني غداً فطلق ولو على
التراخي في غد أو قبله لا بعد الغد فتبين لكن بمهر المثل في هذه، ولا يشترط في
جانب الزوج أن يذكر في طلاقه أنه على ذلك المال، بل الشرط أن لا يقصد في طلاقه
الابتداء، وإلا وقع رجعياً ويصدق بيمينه في قصده.
(مسأة: ك): قال لها:
إن رجعت لي أو
أتيتني أو وهبتني و فعلت أو رددت أو جئت لي بكذا فأنت طالق، كان الكل بمعنى أعطيت
فتبين بذلك، لكن لا بد من نحو الإعطاء فوراً في مجلس التواجب في الحاضرة وعند بلوغ
الخبر في غيرها ولا رجوع له، ولا يشترط القبول لفظاً.
(مسألة: ك): أصدقها
نخلاً وزاوية ثم تشاجرا فقال لها: إن أرجعت عليَّ النخل وتكون الزاوية وقفاً على
أولادي فالطلاق حاصل، فقالت: أرجعت النخل عليك والزاوية وقف على أولادك طلقت
بائناً به، ولو قالت له ذلك ابتداء على أن يطلقها فقال: أنت طالق ولو بعد مدّة
بقصد جوابها طلقت بائناً بذلك أيضاً، ولا تشترط إعادة ذكر النخل والزاوية.
(مسألة): علق الطلاق بغيبته عن بلده أو بجلوسه في موضع كذا ثلاث سنين،
وإعطاء أو ضمان فلان له قرشاً مثلاً، فلا بد من وجود الغيبة المذكورة والإعطاء
ويقع بائناً، ويشترط الفور في الإعطاء إن علق بإن أو إذا لا بنحو متى، ولا ينحلّ
التعليق بغيبته أقل من المدة المذكورة، بل لا تنحل إلا بوجود المعلق عليه وهو
الغيبة أو الجلوس المذكوران وبطلاقها بائناً وإن أعادها فوراً، إذ التعليق لا يمكن
الرجوع فيه نفياً أو إثباتاً كما هو معلوم، نعم إن قال: إن غبت في سفري هذا فسافر
ثم رجع ولو من سفر قصير انحلت اليمين.
(مسألة): قال لها: أنت طالق إن ضمنت لي ألفاً وقع بائناً بقولها ضمنت أي
ألفاً أو ألفين، لا بنحو قبلت أو رضيت أو شئت أو إعطائها بلا لفظ فلا يقع، كما لو
لم تجبه فوراً، كما قاله في التحفة والفتح.
(مسألة: ك): قال لها:
إن أقبضتني أو قبضتني كذا فأنت طالق كان مجرد تعليق بصفة، فلا يشترط الفور في
الإقباض مطلقاً، فمتى وجد الإقباض منها مختارة ولو بوضعه بين يديه وقع الطلاق،
بخلاف ما لو قال: إن قبضت منك فلا بد من تناوله ولو من وكيلها بنحو يده ولو مكرهة
هنا، وإذا وقع الطلاق وقع رجعياً في جميع الصور، إذ لا يملك الزوج ما قبضه، نعم إن
دلت قرينة على أن المراد بالإقباض التمليك، كأن طلبت طلاقها قبل التعليق المذكور،
أو قال فيه: إن قبضتني لنفسي أو لأصرفه في حوائجي كان الإعطاء فيعطى حكمه.
الطلاق
(مسألة: ج): لا يثبت الطلاق منجزاً أو معلقاً إلا بشهادة رجلين سمعا لفظه
من الزوج أو وكيله، ولا يقبل قول الوكيل على الزوج لو أنكر الشاهد أو لم يجزم
بشهادته، وإذا ادعى الزوج عدم الطلاق ولو بعد موتها وقد علم تزوجه بها صدق بيمينه
إلا إن أقام ورثتها بينة بطلاقه.
(مسألة): ادعت الطلاق
الثلاث أو الخلع فقال: بل ثنتين أو بلا عوض صدق بيمينه، كما لو قال: أبرأتني
مجاناً وطلقت بلا عوض، فقالت: بل على الطلاق، فإن نكل حلفت المردودة وبانت، كما لو
أقامت بينة بذلك، قاله في التحفة وأبو مخرمة.
(مسألة): طلق زوجته في مرض موته، فإن كان رجعياً ومات وهي في العدة انتقلت
لعدة الوفاة وورثته وإلا فلا، نعم رجح الأئمة الثلاثة أنها ترثه مطلقاً وإن طلقها
ثلاثاً، بل قال مالك: إنها ترثه وإن تزوجت بغيره.
(مسألة): ادعى الطلاق
الثلاث منذ أزمنة، فأنكرته، فلا بد من بينة لسقوط المؤن، كما لو ادعى الخلع
فأنكرته فتبين فيهما ولها المؤن في الأولى ونفقة العدة في الثانية، قاله محمد بن
زياد في فتاويه.
(مسألة): إذا ملك أحد الزوجين الآخر انفسخ النكاح بينهما لتضادهما، وحينئذ
لو هرب عبد وأريد فسخ نكاح زوجته منه، فإن كانت حرة ملكها إياه سيد العبد بنذر أو
بيع ونحوهما فينفسخ النكاح حالاً، وإن ردّته له، وإن كانت أمة أعتقها سيدها أو
كاتبها ثم ملكها العبد سيد سواء كان سيدها أو غيره فينفسخ وإن فسخت الكتابة بعد،
وتعتد عدة الطلاق بعد انفساخ النكاح.
(مسألة: ش): الدور
المعروف وهو أن يقول:إن طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثاً لا يعد من مذهب الشافعي، فلو
حكم به حاكم نقض حكمه إلا إن كان متبحراً وأتى به، فإذا طلق زوجته ثلاثاً وادعى
أنه معلق عليها الدور لم يقبل قوله ولا بينته لبطلان الدور بل يقع الثلاث.
(مسألة: ش): المعتمد فيما إذا ألقى حصاة أو أشار إلى أصبعه وقال: أنت طالق،
أو طلقتك أو ذه أو ته أو هذه طالق وزوجته حاضرة أنه يقع عليها الطلاق مطلقاً
ظاهراً، وكذا باطناً في الأصح، ولا تقبل إرادته نحو الحصاة، وكلفظ الطلاق بقية
ألفاظه وصريحها وكنايتها، سواء قاله ابتداء أو بعد طلب المرأة ببدل ودونه، وإن
واطأ الشهود قبل على إرادة ذلك، أو علم الحاكم أن مراده حكاية طلاق سابق، أو أن
يسمي زوجته ومراده غيرها وصدقته المرأة وتوفرت القرائن عليه لأن فيه حق الله تعالى،
ولأن الوقوع منوط بوجود اللفظ وصدوره من أهله مع قصد معناه ليخرج تكرار نحو المدرس
والحاكي: أنت طالق فلا يقع على امرأته ولو حاضرة طلاق، كما لو قال: طلقت الحصاة أو
أصبعي، أو قال في غيبة الزوجة، هذه الحصاة أو زينب طالق، أو أنت يا حصاة أو يا
أصبعي طالق ولم يكن اسمها كذلك وإلا فتطلق أيضاً، وسيأتي عن التحفة أنه يدين إن
أراد غيرها، نظير ما لو قال لزوجته ودابة أو رجل إحداكما طالق فيقع على الزوجة
مطلقاً، والفرق بين هذا وما لو قال أنت طالق بعد أن حلها من وثاق، وقصد ذلك أن لفظ
الطلاق كما يصدق على الحل المعنوي أي حل عقد النكاح حقيقة شرعية يصدق على الحل
الحسي أي حل الوثاق حقيقة لغوية،فحقيقته مشتركة باعتبارين، فأثر فيه تخصيص النية
وهو منتف هنا، نعم يحتمل تصديقه، فيما إذا طلبت منه الطلاق بمال فأوقعه مع وضع
الحصاة وقال: أردتها لقرينة إعراضه عن جوابها بعدم ذكر المال اهـ. ونحوه في (ي)
وزاد: نعم لو ادعى أنه قال: قد طلقت فلانة سابقاً وأسر بقد وسابقاً، فإن صدقته
الزوجة أو أثبت ببينة لم يقع وإلا حلفت وطلقت، كما لو قال شاهدان حضرا تلفظه إنه
لم يأت بذلك بخلاف ما لو قالت أو قالا لم نسمع ذلك فيصدق هو بيمينه، ويشترط لجواز
دعواه وحلفه أن يتحقق أنه أتى بلفظ الطلاق قاصداً به حال التلفظ حكاية طلاقه
السابق والإتيان بقوله سابقاً قبل فراغه منه، وإلا لم تجز لها الدعوى والحلف، بل
هذه هي اليمين الغموس، وهو زان إن وطئها فيما بينه وبين الله تعالى اهـ. وعبارة
(ك) قال: أنت طالق وادعى أنه أراد إن دخلت الدار أو شاء زيد دين إن نوى ذلك قبل
فراغه، ومعنى التديين أنها إن غلب على ظنها صدقه بقرينة وجب عليها تمكينه وحرم
النشوز، لكن يفرق بينهما الحاكم إن رآهما مجتمعين، وإن استوى التصديق وعدمه كره
تمكينه، وإن ظنت كذبه حرم التمكين، ولها في هذه الحالة أن تنكح بعد العدة من لم
يصدقه، وإن زعم أنه أتى بقوله إن دخلت الدار لفظاً، فإن صدقته فذاك وإلا حلفت
وطلقت، كما لو قال الشاهدان إنه لم يأت به لأنه نفي محصور، بخلاف ما لو قالت أو
قالا لم نسمعه فيصدق الزوج بيمينه.
[فائدة]: الطلاق البدعي المحرم أن يطلقها في نحو حيض أو طهر وطىء فيه أو في
حيض قبله ولا حمل بيِّن أو قد ظلمها في قسم، وإن سألته الطلاق إلا إن كان بعوض
منها فلا حرمة، كما لو بذله أجنبي في مسألة الوطء في الطهر لإشعار الزوج بعدم
الندم، قاله في التحفة والفتح.
صرائح
الطلاق
(مسألة): صرائح الطلاق ثلاث: الطلاق والفراق والسراح لا غيرها، وإن اشتهر
في عرف محلة وذلك كطلقتك وأنت مطلقة، وإن أبدل الكاف شيناً كطلقتش، فلو أسقط
المفعول فقال: طلقت فقط، أو المبتدأ فقال: طالق فقط يقع الطلاق وإن نواه، نعم إن
سبق سؤالها أو سؤال غيرها الطلاق فأجابها بذلك وقع نص عليه في شرح السراجية وفتاوى
ابن حجر وهو ظاهر عبارة التحفة والقلائد وغيرهما.
(مسألة: ك): قوله:
عليّ الطلاق، أو يلزمني الطلاق، أو الطلاق واجب عليّ صريح على المعتمد، وقيل
كناية، وقيل لاغ، فإن قيده اعتبر وجود الصفة، ولو قال: طلاقك بخروجك من بيتك وقع
بخروجها رجعياً، ولو قال: عليّ الطلاق من فرسي أو سيفي مثلاً فظاهره كناية وباطنه
صريح ما لم ينو من فرسي قبل فراغ لفظ اليمين.
(مسألة: ي): قيل له: أطلقت زوجتك؟ فقال: نعم، فإن قصد السائل طلب الإيقاع
من الزوج فصريح، وإن قصد الاستخبار عن طلاق سابق أو جهل قصده فإقرار به، إن كان قد
طلق صح وإلا فلا اهـ. قلت قال (سم): ولو قيل له: طلقت زوجتك؟ فقال: نعم طلقت لأن
تقدم الطلب جعل التقدير نعم طلقتها بمعنى الإنشاء اهـ جمل.
(مسألة): قال لزوجته
ابتداء أو بعد سؤالها الطلاق واسمها زينب واسم أجنبية أيضاً وقال: أردت الأجنبية
لم يقبل ظاهراً بل يدين لاحتماله كما في التحفة. ولو قيل له: طلقت فلانة؟ فقال:
طلقتها الثلاث حكم عليه بالطلاق ظاهراً وباطناً، إن قصد إنشاء الطلاق أو سبق منه
طلاق وإلا فظاهراً فقط ويدين، فحينئذ إن لم يبلغ الحاكم وصدّقته الزوجة على ذلك
جاز لها تمكينه، وجاز للشهود أن لا يشهدوا عليه كما في نظائر المسألة، كما أفهمه
كلام أبي مخرمة وباجمال وترغيب المشتاق، وفي التحفة: معنى التديين أنه إن غلب على
ظنها صدقه وجب عليها تمكينه، وإن ظنت كذبه حرم، وإن استوى الأمران كره، ولها إذا
كذبته أن تنكح من لم يصدقه، ولا يتغير الحال بحكم الحاكم بالتفريق أو عدمه، إذ
العبرة بالباطن فلا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً.
(مسألة): قال لها: اذهبي أنا إلا مطلقش طلقت واحدة، ولو قال لها: أنت طالق
الطلاق القطع بريئة من كل شرط، فقال له آخر: لا تقل بريئة الخ. فأعاده كذلك طلقت
ثنتين إلا إن أراد بالثاني التأكيد للأول، أو ظن عدم وقوعه به فأتى بالثاني فتقع
واحدة، نعم إن أراد بقوله الطلاق القطع الثلاث وقعن.
[فائدة]: من صرائح
الألفاظ قوله: طلقك الله، ومثله ما لو قال لغريمه: أبراك الله، أو لأمته: أعتقك
الله، بخلاف ما لو قال: باعك الله أو أقالك فإنه كناية، إذ القاعدة أن كل ما استقل
به الشخص وأسنده لله تعالى يكون صريحاً لقوته بالاستقلال، وما لا يستقل به يكون
كناية، وقد نظم ذلك بعضهم بقوله:
ما فيه الاستقلال بالإنشاء
>< وكان مسنداً لذي الآلاء
فهو صريح ضده كناية ><
فكن لذا الضابط ذا دراية
اهـ إقناع وباجوري.
(مسألة: ش): قال لها:
أنت من رقبتي أو من رجلي أو مني طالق وقع مطلقاً، إذ الطلاق حل عقد النكاح، ويلزم
من انحلاله عن بعض أعضاء الزوج انحلاله عن كلها، ويدل عليه وقوعه بإيقاعه على جزئها المتصل،
إذ العلة عدم اختصاصه بجزء دون جزء لئلا يلزم التبعيض.
(مسألة: ش): قال لها:
طلق أو طلقا أو طلقوا طرفاك أو طرفيك طلقت ولا عبرة بلحنه، إذ الطرف بفتح الراء
يطلق على اليدين والرجلين والرأس، وبإسكانها تثنية طرف الذي هو العين، نعم إن أراد
بالطرفين بالفتح جانبيها المنفصلين واشتهر عرفهم بذلك، أو بالطرف بالسكون غير
العين دين، ولو قال: طلقت رقبتك أو طلقت رقبتك بالنصب في الأولى والرفع في الثانية
عكس إعرابهما طلقت ولا يضر لحنه أيضاً، بخلاف انطلق رقبتك فإنه كناية.
(مسألة: ش): قال لها:
إن لم تتزوَّجي فلاناً فأنت طالق وقع حالاً على المعتمد، خلافاً للأصبحي ولا
يلزمها مهر مثل للمطلق إذا تزوّجت خلافاً للأزرق، ولو طلق رجعياً ثم قال: يصير
تطليقي ثلاثاً إن لم تفعلي كذا لغا ولم تحرم عليه مطلقاً، سواء وصله ونوى به
الحال، وأنه من تتمة الأول أم لا على المعتمد، لأن ذلك كلام مستأنف لا يصلح لذلك،
وبه فارق قوله ثلاثاً بعد أنت طالق، فإنه تقع به الثلاث إذا نوى أنه من تتمة الأول
ولم يطل الفصل، نعم إن قصد بأنت طالق الثلاث وقعن.
(مسألة: ك): كرر صرائح الطلاق أو كناياته ولو مع اختلاف ألفاظه أو أكثر من
ثلاث مرات، كأنت طالق، طلقتك أنت مطلقة، أو أنت طالق مفارقة مسرحة، أو أنت بائن
اعتدّي اخرجي، فإن قصد التأكيد فواحدة، وإن قصد الاستئناف أو أطلق تعدد، وهذا كما
لو أصمت عن الكلام مع بقاء الشعور فقيل له ثلاث مرات: نشهد عليك أن فلانة طالق من
عقدك آخر جزء من حياتك، فقال كل مرة: أها أي نعم، فتقع الثلاث أيضاً لكن بقصد
الاستئناف لا إن أطلق أو قصد التأكيد اهـ. قلت: ومحل عدم التعدد بقصد التأكيد إن
أتى بالألفاظ فوراً لا إن فصل بفوق سكتة التنفس والعيّ وإلا تعدد مطلقاً، كما أن
محل ذلك أيضاً في غير المعلق، أما هو فلا تعدد فيه إلا إن قصد الاستئناف كما في
التحفة وغيرها، وعبارة (ي): ولو قال أنت طالق إن دخلت الدار وكرره مراراً ولو متراخياً،
فإن قصد بالثاني طلاقاً ثانياً تعدد أو الاستئناف أو أطلق وقع الأول فقط ويصدق
بيمينه اهـ. ونحو ذلك كله في (ش) وزاد: وهذا في مدخول بها، أما غيرها فتقع واحدة
مطلقاً منجزاً أو معلقاً، والظهار كالطلاق إلا في حالة الإطلاق فيحمل على التأكيد
مطلقاً.
(مسألة: ك): ونحوه (ش) قال لها أنت مطلقة فقيل له طلق بالثلاث فقال
وبالثلاث فإن لم يفصل بينهما سكتة التنفس والعي وقعت الثلاث وإن فصل ولم تنقطع
نسبته عنه ونوى أنه من تتمة الأوّل وبيان له فكناية وإلا لم يؤثر مطلقاً.
(مسألة: ش): طلقها ثلاثاً، ثم ادعى أنه فصل بين طالق وثلاثاً فاصل مضرّ،
فإن صدقته أو شهدت له بينة بالفصل ولم تعارضها أخرى بالاتصال فواحدة، وإن كذبته
صدق بيمينه ما لم يصدر منه إقرار بالثلاث ولو بعد أن حلف وراجع، فتقع الثلاث
مؤاخدة له بإقراره، ولا تقبل دعواه أنه إنما أقر بظن الطلاق، كما لو نكل عن اليمين
فحلفت المردودة، أو أقامت هي بينة فقط، أو تعارضت بينتها بالاتصال وبينته بضده،
فتقدم بينتها لأن معها زيادة علم بالاتصال الذي هو خلاف الأصل فتكون حينئذ نافلة.
(مسألة: ش): سألته الطلاق فقال: متى من رقبتي أنت طالق بالثلاث حكم عليه
بها، إلا إن أراد بمتى الاستفهام ولم يأت بالفاء قبل أنت الخ فيصدق بيمينه، لأن
أسلوب كلامه يحتمله، فكأنه قال: متى تصيرين مطلقة ثلاثاً، فإن أتى بالفاء لم يصدق
ظاهراً، كما لو ادعى أنه أراد التعليق بالبراءة ولا قرينة كمنعه من التلفظ بذلك
على المعتمد.
(مسألة: ش): قال لها:
أنت طالق عدد المشي وأطلق فواحدة لأن المشي اسم جنس إفرادي لا تعدد في ماهيته،
بخلاف ما لو نوى عدد أنواعه أو مرّاته أو تلفظ بذلك فتقع الثلاث، كما لو قال: أنت
طالق عدد أنواع أو أجناس أو أصناف الطلاق أو عدد ضراط إبليس.
(مسألة: ب): طلقها ثلاثاً في مجلس واحد وأراد تقليد القائل وهو ابن تيمية
بأنها تحسب واحدة لم يجز له ذلك، وقد غلطه العلماء وأجمعوا على عدم جوازه وهو من
تجري جهلة العوام اهـ. وعبارة (ش) طلق ثلاثاً فسئل عن مذهبه فقال: شافعي، ثم غاب
أياماً وعاد وقال: قد راجعتها وأنا إسماعيل لم يقبل قوله مطلقاً لتكذيبه نفسه، بل
وإن صدق في دعواه الثانية وحكم له حاكم بذلك، وهذا كما لو طلقت ثلاثاً ثم ثلاثاً
ثم ثلاثاً وادعى أنه زيدي فاستفتى الزيدية فقالوا: تقع بالثلاث واحدة لأنه بكل
ثلاث تقع واحدة، بل لو فرض أن الكل بمجلس واحد فتقع الثلاث أيضاً، ولا عبرة بقول
الزيدية لخرقهم الإجماع الفعلي من البينونة الكبرى بالثلاث مطلقاً، فيجب نقض الحكم
في هذه كالتي قبلها على كل من قدر عليه، بل من قدر على نقضه وردّه فلم يفعل فهو
فاسق باعتقاده المنكر معروفاً لا سيما والزوجان شافعيان، ولو ثبت تلفظه بالثلاث ثم
ادعى أنه لم يشعر بذلك لم يتلفت إليه لثبوته بالبينة وهو الآن ناس أو متناس، ويبعد
أن يزول حسه أو ينام بعد تلفظه بالطلاق قبل الثلاث.
كنايات الطلاق
(مسألة): وكل من يكتب له الطلاق ونوى هو لم يقع إذ لا تصح النية إلا من
الكاتب، فإن وكله في النية والكتابة فكتبه ونوى وقع، ويجري ذلك في سائر العقود
التي تنفذ بالكتابة، فلا بد من نية الكاتب، سواء عن نفسه أو غيره، قاله ابن حجر في
فتاويه ونحوه التحفة والنهاية.
(مسألة: ش): اتهمته
زوجته بأخذ شيء فأنكر فقالت بلى، فقال لا وإلا فعليك مائة طلقة، كان كناية تقع به
الثلاث حالاً إن نواه أي الطلاق ولم يقصد بإلا شيئاً، فإن قصد بها إن الشرطية
المركبة مع لا النافية كان معلقاً على أخذه ما ادعته، فإن ثبت بشاهدين ولو حسبة أو
بيمينها المردودة وقع.
(مسألة: ش): أقرّ بأنه قد أخرج زوجته كان كناية طلاق، وإن اشتهر عندهم أنه
صريح فيه وفي الثلاث، إذ لا عبرة بالاشتهار عند النووي، بل لا صريح إلا ما ورد في
الكتاب العزيز من لفظ الطلاق والفراق والسراح وما اشتق منها، وحينئذ فإن نوى به
إنشاء الطلاق أو والثلاث وقع ما نواه، وإن قصد الإقرار بالثلاث فقد غلظ على نفسه
أو بواحدة صدق بيمينه.
(مسألة: ك): انتهر
زوجته أو أمته مع قولها: طلقني أو أعتقني فقال: انطلق رأسك أو بطنك، فإن لم ينو
شيئاً فلغو، وإن نوى الطلاق أو العتق احتمل إلغاءه واحتمل الوقوع وهو الأحوط، كما
قاله ابن زياد فيمن قالت له زوجته: طلقني، فقال: طلقت رجلك أنه كناية، وصرح في
التحفة والنهاية فيمن قالت له: أنا مطلقة؟ فقال: ألف مرة، أو هل هي طالق؟ فقال:
ثلاثاً بأنه كناية في الطلاق والعدد، ومثله ما لو طلبت الطلاق فقال: اكتبوا لها
ثلاثاً، فإن لم يسبق طلبها فلغو مطلقاً.
(مسألة: ي): كتب إلى آخر: وإن طلبت الزوجة كلمتها فأنت وكيل من طرفنا، كان
ذلك كناية في الطلاق، ويصح تعليق التوكيل لعموم الإذن.
(مسألة: ب): قوله
لزوجته: اسرحي كناية يقع به الطلاق مع النية، كما لو قال لها عند الخصام: أنت قالة
شيطانة مسرحة ولم يقصد الطلاق فلا يقع بلا شك للقرينة، إذ لا يستعمل لفظ السراح في
جهتنا في الطلاق، بل لا يعرف صراحته إلا الخواص، ومع ذلك لا يخطر ببال من تلفظ به
الطلاق قط لاستعمالهم في الحقيقة اللغوية والعرف مطرد بذلك، بل غالب العوام لا
يعرفون مدلوله الشرعي، فيكون حينئذ كالأعجمي الذي لقن لفظ الطلاق ولم يعرف مدلوله
فلا يقع طلاقه، وهذا الذي نعتمده كما أفتى به ابن حجر وابن زياد.
(مسألة: ك): قال لها إن جئتك جئت أمي، أو أنت عليَّ حرام إن وطئتك مثل أمي
أو أختي، فإن نوى به طلاقاً وقع أو ظهاراً فكذلك وإلا فكفارة يمين اهـ. وفي (ج)
قال: عليَّ الحرام في بيني يعني زوجته ما يخرج فلان من الدار وكرره ثلاثاً كان
كناية طلاق يقع من النية، فتطلق حينئذ ثلاثاً بوجود المعلق عليه وهو خروج فلان
اهـ. قلت وقوله: تطلق ثلاثاً أي إن قصد بكل الاستئناف كما مر.
[فائدة]: قال: عليَّ فيش بالحرام الثلاث إن زدت ذكرتيها أن قدها طلاقش
فذكرتها طلقت ثلاثاً إن نوى الطلاق بقوله عليَّ فيش لأنه كناية اهـ عبد الله الخطيب.
ولو قال: أنت عليَّ من السبع المحرمات، أو أنت عليَّ حرام، فإن نوى طلاقاً أو
ظهاراً فما نوى أو تحريم عينها فكفارة يمين، كما لو لم ينو شيئاً ويصدق بيمينه،
اهـ بامخرمة ومثله السمط اختصار فتاوى ابن حجر.
الألفاظ التي يقع بها الطلاق
وما يحتمل التأويل
(مسألة: ج): قال لزوجته بالحرام بالثلاث إن تزوجت فلانة أو إن خرجت إلى
مكان كذا إن قدها طريقك، فهذه صيغة قسم والطلاق لا يقسم به، فتكون لغواً لا يقع به
الطلاق بوجود المعلق عليه، وإن نوى الطلاق هذا مذهبنا ومذهب مالك وأكثر الأصحاب،
ولم ينقل عن أحد ما يخالفه للنهي عن الحلف بغير الله تعالى، والنهي يقتضي الفساد،
ولا فرق بين فتح الهمزة وكسرها من نحوي وغيره فيما يظهر، وفي المسألة خلاف وهذا
معتمدنا، وإن أوهمت عبارة النهي أنه كناية، نعم عليه كفارة يمين والإثم والتعزير،
ولو قال: عليَّ في زوجتي بالطلاق الثلاث إن فعلت كذا، رجح جانب الالتزام مع الفتح
فيقع الطلاق حالاً، وجانب الحلف مع الكسر فيلغى، وأما ما اقتضته عبارات الفقهاء من
أن الحلف بالطلاق يؤاخذ به الحالف ليس المراد به القسم بالطلاق، بل مرادهم بذلك ما
اقتضى منعاً من شيء أو حثاً عليه أو تحقق خبر اهـ. وعبارة (ب ك): قال لزوجته
بالحرام بالثلاث وعلق ذلك على فعل شيء أو تركه، فالذي يصرّح به كلام التحفة والفتح
والفتاوى في نظير المسألة أنه لغو، وكلام النهاية وعلي بايزيد يقتضي أنه كناية،
زاد (ب): وما نقل عن العلامة سقاف وابن محمد الصافي من وجوب كفارة يمين فهو من باب
الاحتياط اهـ. وخالفهم في (ي) فقال لأمه المزوّجة بالحرام بالثلاث أو بالطلاق
الثلاث في زوجتي لا تدخلي داري إلا إن قنعت من هذا الرجل أو طلقتك، فقوله بالحرام
الخ كناية إن نوى بها الطلاق الثلاث وقعن بدخول أمه إذا لم تقنع من زوجها ولم
يطلقها، لكن لا يتحقق ذلك إلا باليأس، فحينئذ للابن الاستمتاع بزوجته، وإن دخلت
الأم داره ما لم تمت الأم أو زوجها قبل الطلاق والقناعة فيقع الثلاث على المعلق
حينئذ.
(مسألة: ب): قال لأجنبية: أنت محرّمة عليَّ لا أتزوّج بك، لم يلزمه بذلك
شيء ويجوز له التزوّج بها، كما لو حرم على نفسه طعاماً أو شراباً فلا يحرم ولا
كفارة، وإنما وجبت في تحريم الزوجة احتياطاً في الأبضاع، ومثله ما لو قال لنحو
ولده أو والده: وجهي من وجهك حرام فلا شيء فيه.
(مسألة: ي): طلبت
الطلاق فرماها بشيء، ثم أعادت الطلب ثانياً وثالثاً فأعاد هو الرمي لم يقع برميه
المذكور شيء وإن نواه وتعارفه أهل جهته، لأن إشارة الناطق وإن أفهمت لا يقع بها
شيء، ولو قالت هذه يعني الرمي طلاقي؟ فقال: نعم لم يقع أيضاً، سواء قصدت استخباره
أم جهل قصدها، لأن قصده الطلاق بالرمي لاغ، فلغي الإقرار به، ولا يتأتى هنا وقوع
الطلاق بقصدها الطلب لأن لفظها لا يحتمله، إذ قولها هذا إشارة إلى فعله وهو الرمي،
والمجيب بنعم حاك لكلام السائل فكأنه قال نعم هذا الرمي طلاقك.
(مسألة: ك): قالت: بذلت صداقي على طلاقي، فقال: إذا أتيتني بثلاثمائة زبدية
نملاً أو كناناً في مكان كذا يكيلها فلان ولا يطير منها نملة فأنت طالق، أما بذلها
المذكور فلغو لأنه في مقابلة طلاق منجز ولم يقع، وأما تعليقه بما ذكر فمستحيل عادة
فلا يقع، إذ لا يمكن جمع مثل هذا النمل وكيله من غير أن يطير منه نملة، فإن فرض
إمكان ذلك وقع رجعياً بشرطه.
[فائدة]: قال لها: أنت طالق إن شاء الله، أو إن لم يشأ الله لم يقع إن قصد
التعليق، بخلاف ما لو قاله تبركاً أو سبق لسانه أو بلا قصد فيقع اهـ شرح السراجية.
(مسألة: ش): قال لها:
أنت طالق بمشيئة الله أو إرادته لم تطلق للتعليق، فكأنه قال إن شاء الله بخلاف
لمشيئة الله فيقع حالاً لأن اللام للتعليل.
[فائدة]: قال فلانة يعني
زوجته طالقة ثنتين من مهري، فأخبره بعض من حضره بأن الصيغة فاسدة، فأعادها بقوله:
فلانة طالقة ثنتين من عقدي نفذت الأوليان ولُغي قوله من مهري لا المتأخرتان فلا
تبين بهما لظنه أن الأوليين لم يقعا وقصده تصحيح الأول، نعم إن نوى بهما إنشاء
طلاق ثان ضمتا إلى الأوليين وبانت، اهـ فتاوى الشيخ محمد باسودان.
(مسألة: ش): قال لزوجتيه: كل امرأة لي غيركم طالق لم يقع عليهما شيء، نعم
إن أراد بغير معنى إلا الاستثنائية وفهَّمه وقع للاستغراق ولا أثر للحنه بحذف ألف
التثنية، كما يقع بقوله: كل امرأة لي طالق غيركم مثلاً، إلا إن أراد بغير الوصف
وأنه أخره عن تقديم، أو دلت قرينة على إرادته كأن قالت: تزوّجت فقال ما ذكر وحيث
لم يقع، فقالت: احلف بالثلاث، فقال: بالله عشرين مرة لم يقع به شيء وإن نوى به
الطلاق إذ لا يصلح كناية له.
(مسألة: ش): قالت له: طلقني وإلا طلقت نفسي، فقال: طلقي نفسك فطلقت، ثم
ادعى أنه إنما قاله على سبيل التهكم أي ليست قادرة بلا إذن مني صدق يمينه ظاهراً
للقرينة القوية، إذ لو حلها من وثاق وقال: أنت طالق ثم قال: أردت من الوثاق صدّق،
فإذا أثرت القرينة في المقصود وهو لفظ الطلاق الصريح فلأن تؤثر في الوسيلة وهو التوكيل
أو التفويض من باب أولى، ومحل عدم النظر إلى القرائن مع الصريح إذا ضعفت جداً،
وقول الأزرق وغيره لا يصدق
ظاهراً بل بدين مردود كما علمت.
(مسألة: ي): طلق إحدى
زوجتيه معينة ثم نسيت وتعذرت معرفتها أو مبهمة ولم يبينها ومات وقف حصتهن حتى
يصطلحن ولو بتفاوت لا بأخذ مال من إحداهن ليس من التركة، ويفسح الصلح هنا مع
الإنكار، ثم إن كان الطلاق مبهماً كأن قال: طلقت واحدة من زوجاتي ولم يعينها قبل
موتها لم يمكن التداعي، وإن عينت حال الطلاق أو بعده ثم نسيت وادعت بعضهن على
ضرتها أنها المطلقة وأثبتته بشاهدين أخذت المال، فإن لم تثبت حلفت المنكرة
واصطلحن، وإن نكلت حلفت المدعية المردودة وحرمت الناكلة الإرث.
الإكراه على الطلاق
(مسألة): شرط عدم وقوع الطلاق بالإكراه ستة: قدرة المكره بكسر الراء على
تحقيق ما هدد به عاجلاً من نحو حبس أو ضرب أو إتلاف مال يتأثر به، وعجز المكره
بفتح الراء عن دفعه بنحو فرار أو استغاثة وظنه أنه لو امتنع فعل ما خوفه به
ناجزاً، وأن لا يكون الإكراه بحق كطلاق المولى، وكأن قال مستحق القود: طلق زوجتك
وإلا قتلتك بقتلك أبي فطلق فيقع فيهما، وأن لا تظهر منه قرينة اختيار كأن قيل له:
طلق ثلاثاً فوحد أو عكسه، وأن لا ينوي الطلاق بل يتلفظ به لمجرد الإكراه لكن لا
تلزمه التورية كأن ينوي به طلاقاً سابقاً أو حلها من وثاق، نعم هي مندوبة إن
أمكنت.
(مسألة: ش): تخاصم هو وزوجته بمحضر جمع فطلقها حياء منهم أو غيظاً وقع،
وليس من الإكراه في شيء، بخلاف ما لو خوّفته بالشتم القبيح وهو من ذوي الأقدار،
وذلك كأن تنازعه الطلاق وتقول: إن لم تفعل لأشتمنك بين الناس شتماً قبيحاً وهو ذو
مروءة ويعلم قدرتها ويغلب على ظنه فعلها، وكذا لو قالت له بملأ من الناس كلاماً
قبيحاً وتعين اندفاعها بالطلاق، هذا إن لم يظهر منه قصد اختيار كأن طلبت الطلاق
فثلث أو الثلاث فوحد وإلا وقع، ويظهر ضبط الشتم بأنه كل ما يصلح أن يعزر على فعله
كمعصية ليس لها وقع ولا عبرة، بكون الشخص قد يسب بتلك الرذائل فلا يكترث بها، ولا
يعدّ عرفاً أنه حط لرتبته، فلا شك أن ذلك كثير ممن يعدّ من ذوي الأقدار، لكونه
يصدر على سبيل المزح والمجانة، ولو صدر على سبيل الجد لعدّ حطاً عن تلك المكانة،
والمكره لا شك جادّ لا هازل، فيعد بالنسبة لذوي القدر محذوراً مناسباً من غير نظر
إلى حال المزح، أما الأراذل فالسب لهم مطلقاً لا يشين، فليس محذوراً بالنسبة إليهم
لملابستهم له أخذاً وعطاء في كل حين وضابط، كون الشخص من ذوي الأقدار العرف،
ويختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة والأحوال، فربّ شخصين يسبان بسب واحد
فيعد حطاً لرتبة أحدهما فقط، ورب ملبوس يلبسه شخص في زمنين أو حالين أو مكانين،
فيعدّ حطاً لرتبته في أحدهما فقط، وليس من الإكراه التخويف بالله تعالى، إذ لا يجب
إبرار القسم به، بل وسنيته مقيدة بعدم ترتب الضرر والمفسدة، بل ولو قلنا بوجوبه
فليس بإكراه أيضاً اهـ. قلت: وهل يلحق بالتخويف بالله تعالى قول الوالد لولده:
فارق زوجتك وإلا فأنا غير راض، وتغيظ غليه وغضب بسبب ذلك، أي فيقع به الطلاق أو
يلحق ذلك بالكلام القبيح لذوي المروءات فيكون إكراهاً، فلا يقع طلاقه حينئذ،
خصوصاً إذا كان الابن يؤثر رضا والده على المال محل نظر وتأمل، ولو قيل بالثاني
بقيده لم يبعد.
(مسألة: ش): طلق زوجته ثم ادعى إكراهها إياه، فإن وجد منها ما هو إكراه كأن
تمسك ثوبه فلا تفكه إلا بالطلاق، أو تغلق عليه الباب، أو تتوعده بالضرب الشديد
والكلام القبيح وهو من ذوي المروءات، وكانت قادرة على ذلك، ولم يمكنه الهرب
والاستغاثة عليها بغيرها فطلق حينئذ لم يقع، ومتى ادعى ذلك وثم قرينة صدق بيمينه،
فإن نكل فحلفت المردودة وقع، وهذا حيث لا بينة لأحدهما وإلاَّ قضى بها، فإن
تعارضنا قدمت بينة الإكراه، لأن معها زيادة علم ما لم نقل بينة الاختيار زال
الإكراه وطلق مختاراً وإلا قدمت.
(مسألة: ش): اتهمه ذو شوكة بأنه يؤوي اللصوص فأنكر فقال له: احلف بالطلاق
الثلاث وإلا أخذت مالك، فحلف ثم بان أنه يؤويهم، فإن كان الأمر ممن يخاف سطوته
لكونه مشهوراً بذلك فأمره منزل منزلة الإكراه، فيكون تخويفاً بإتلاف المال فينظر،
فإن كان يسيراً كخمسة دراهم لموسر لم يكن إكراهاً، وإن كان قدراً يؤثر العاقل
الإتيان بما أمره به صيانة لذلك كان إكراهاً لأنه محذور مناسب، فإذا حلف كما أمره
من غير ظهور قصد اختيار فلا طلاق.
(مسألة: ش): أخذت
دابته ففداها فمنعه الغاصب أن يفكه أو يستلمها إلا إن حلف بالطلاق أن لا يخبر
أحداً بالفداء فمكره بشرطه، فلا يقع الطلاق إذا أخبر به، كما لو حبسه حتى يحلف
بالطلاق، أما إذا فداها فدفعوها إليه وحلفوه أن لا يخبر أحداً بالمأخوذ فحلف من
غير تهدد، ثم أخبر عامداً وقع، ولا عبرة بقوله حينئذ، إنما أخبرت بعض الناس الذين
لم يكن للغاصب بهم غرض إذ النكرة في سياق النفي للعموم، نعم إن دلت قرينة تغلب ظن
الحالف على أن الغاصب أراد واحداً مخصوصاً فينبغي تصديقه بيمينه.
(مسألة: ك): أخذه اللصوص وادعوا أنه دس شيئاً
من ماله فأنكر، فحلفوه بالطلاق الثلاث أنه لم يدس والحال أنه قد دس وقع الثلاث،
وليس هذا بإكراه على المعتمد، لأنه خير بين بيان ما دسه من المال والطلاق، كما لو
أخذه السلطان بسبب غيره فطالبه به أو بماله فقال: لا أعرفه أو لا شيء عندي، فحلفه
بالطلاق فحلف كاذباً فيقع، وهذا بخلاف ما لو أخذه اللصوص وقالوا: لا نخليك حتى
تحلف بالطلاق أن لا تذكر ما جرى، فحلف فلا يحنث إذا ذكره لأنهم أكرهوه على الطلاق
هنا، فلو رجع عن إقراره في الأولى وادعى أنهم إنما حلفوه على عدم خروجه من البيت
بشيء غير هذا لم يقبل ظاهراً إلا بقرينة، ومن القرينة شهادة عدلين على ما ادعاه
ثانياً، وسماع شهادتهم إنما هو لكونهم قرينة تدل على ما رجع إليه الحالف، وإلا
فالقاعدة أن من أقر بشيء ثم ادعى بما يناقض ذلك الإقرار لا تسمع دعواه ولا بينته
بذلك، كما صرح به في التحفة في الدعوى، ولو ادعى سبق لسانه بطلاق بلا قصد لم يصدق
إلا بقرينة أيضاً لتعلق حق الغير به، أما باطناً فيصدق ولها قبوله إن ظنَّت صدقه
بأمارة، ولمن ظن صدقه أن لا يشهد عليه.
(مسألة: ك): طلق ثلاثاً ثم ادعى أنه سكران حال الطلاق، فإن كان متعدياً
بشربه وقع عليه الطلاق، وإن ادعى الجهل بكونه خمراً أو بتحريمه وعذر صدق أو
الإكراه أو زوال العقل، فإن دلت قرينة
كحبس أو مرض أو اعتياد صرع صدق أيضاً، كما لو شهدت بينة بذلك وإلا فلا، وله تحليف
الزوجة أنها لا تعلمه.
(مسألة: ك): أمره
الحاكم بالطلاق فطلق لم يقع وإن لم يتهدده، لأن الأئمة ألحقوا حكم الحاكم
بالإكراه، ولا فرق بين قدرة الحاكم على إجباره حساً أم لا، إذ هو إكراه شرعاً،
ومنه ما لو حلف ليطأنها الليلة فغلبه النوم بحيث لا يستطيع ردّه ولم يتمكن قبل
غلبته بوجه فلا يحنث كما لو وجدها حائضاً، وشرط عدم وقوع الطلاق بالإكراه أن لا
يكون بحق كما في المولى، وأن لا توجد قرينة اختيار من المطلق، كأن أكره على ثلاث
فوجد وأن لا ينوي الطلاق.
(مسألة: ش): قال لها: إذا أو متى مضى شهر رمضان ولم أكسك فأنت طالق، أو
يلزمني الطلاق لأكسونك في شهر رمضان، فتعذرت الكسوة حساً بأن لم يجدها أو ثمنها أو
شرعاً بأن لم تبع إلا بأكثر من ثمن المثل في جميع الشهر لم تطلق لأنه مكره شرعاً،
وإن تمكن منها في جزء منه ولو أوله فقط طلقت، بخلاف ما لو قال: إن مضى شهر رمضان
ولم أكسك فلا يقع الطلاق إلا إن تمكن منها آخره ولم يفعل، ولا عبرة بقدرته أثناء
الشهر.
تعليق الطلاق والحلف به
(مسألة: ب): الحروف التي تستعمل في الطلاق للتعليق بالصفات سبعة: إن، وإذا، ومتى، وما، وأيّ وقت، وأيّ حين،
وأيّ زمان، فإن تجردت عن العوض ولم تدخل عليها لم كانت الجميع للتراخي، وكذا إن
دخلها العوض أيضاً، غير إن ومثلها إذا على المعتمد فعلى الفور، وإن دخلت عليها لم
فكلها على الفور، إلا إن على المعتمد دخلها العوض أم لا اهـ. قلت: وسئل عنها ابن
الوردي شعراً بقوله:
أدوات التعليق تخفى علينا
>< هل لكم ضابط بكشف غطاها
فأجاب بقوله:
كلما للتكرار وهي ومهما
>< إن إذا أي متى من معناها
للتراخي مع الثبوت إذا لم
>< يك معها إن شئت أو أعطاها
أو ضمان والكل في جانب النفـ
>< ـي لفور لا إن فذا في سواها اهـ..
(مسألة: ي ش ك): علق الطلاق بشيء وكرره متوالياً أو متراخياً لم يتكرر إلا
إن قصد بالثاني طلاقاً ثانياً، لا إن قصد التأكيد أو أطلق زاد، ولا طريق للرجوع عن
الطلاق المعلق بل يقع عند وجود الصفة، ولا تدخل كفارة اليمين في باب الطلاق أصلاً،
وإنما سموا العلق يميناً لأن المطلق إنما يأتي به غالباً لتحقيق شيء أو حثّ عليه
أو امتناع منه، كما أن اليمين يأتي بها الحالف كذلك.
(مسألة: ي): ونحوه ش
ك: المخلص من اليمين في الطلاق المعلق أن يخالعها ثم يجدد بإذن ومهر، ويفعل
المحلوف عليه بعده أو في حال
البينونة وهو الأولى خروجاً من الخلاف، أو يطلقها ثلاثاً، وكذا رجعياً إن جدد بعد
انقضاء العدة اهـ. زاد ش: وليست هذه الحيلة محرمة بل ولا مكروهة لعدم المفسدة،
بخلاف الحيلة التي تجرّ إليها اهـ. وزاد: (ي) وهذا في التعليق بالدخول المطلق كإن
دخلت الدار، وكذا في الحلف على النفي مطلقاً أشعر بالزمان أم لا، كلا أدخل دار زيد
أو لا أكلمه هذه الليلة وإلا فأنت طالق، أو الإثبات بما لا إشعار له بالزمان كان
لم أدخل دار زيد فأنت طالق، أما الحلف على الإثبات بما يشعر بالزمان، كإذا لم أدخل
داره أو لأقضينه غداً فلا تنحلّ اليمين بالبينونة، بل يقع الطلاق المعلق عليه
وتبطل البينونة على المعتمد، كما في التحفة والنهاية وزكريا اهـ. قلت: عبارة
الشرقاوي وأصل الخلع مكروه إلا في صور منها أن يحلف بالطلاق الثلاث على عدم فعل
شيء لا بد له من فعله كدخول الدار فيخالعها ليخلصه من الطلاق ثم يفعله، فهو مخلص
من الطلاق الثلاث في الحلف على النفي المطلق، كقوله: عليّ الطلاق الثلاث لا أفعل
كذا، والمقيد كلا أفعل كذا في هذا الشهر، أوالإثبات المطلق كلأفعلن كذا، وأما
المقيد كلأفعلن كذا في هذا الشهر ففيه خلاف، والمعتمد أنه يخلص فيه أيضاً بشرط أن
يخالع، والباقي من الوقت زمن يسع المحلوف عليه وإلا لم ينفعه قطعاً، وقال بعضهم:
لا ينفعه أي الخلع إن فعله بعد التمكن من فعل المحلوف عليه، فإذا مضى الوقت المعلق
عليه وقعت الثلاث لأنه فوّت البرّ باختياره اهـ ملخصاً. وقوله: وقال بعضهم الخ هو
معتمد النهاية و سم وع ش.
(مسألة: ش): تخاصم هو وآخر فقال: أهب فلانة بالطلاق الثلاث إما أن تقضي
الدراهم أو لأحرقنّ عليك البيت الآن، فإن أراد بقوله أهبها الخ أصيرها أو أجعلها
متصفة بالطلاق احتمل الوعد بتطليقها عند انتفاء الإعطاء والتحريق فلا يقع بمجرّده
شيء مطلقاً إذ شأن المضارع الاستقبال غالباً والأصل دوام النكاح، واحتمل إنشاء
التعليق في الحال على كلا الخصلتين، فإن أقرّ بإرادته ذلك وأخذ به فتقع الثلاث
بانتفائهما، ولا يكفي إعطاء أجنبي الدراهم إلا إن أذن له المدين في دفعها ودفعها
بحضرته، فيكون كإعطائه لأنه يملك الدراهم بالقرض الحكمي ويصير الدافع وكيلاً عنه.
(مسألة: ش): حلف بالطلاق أنه ما لزم جاريته وكان قد أمسكها بيده وقع إن كان
حال حلفه ذاكراً متعمداً، ولا يقبل منه إرادة الجماع، لأن لفظة لزم تطلق على الإمساك
باليد وضعاً لغوياً وعرفاً مطرداً، فإن لم يمسكها هو بل أخذت هي بيده فلا طلاق.
(مسألة: ش): أخبر برعي
دواب زيد لزرعه فادعى عليه فأنكر، فحلف بالثلاث ظاناً صدق مخبره فبان كذبه وأنها
لم ترعه لم يحنث على المعتمد، كما لو حلف على شيء ففعله ناسياً، بخلاف ما تيقن عند
الحلف عدم رعيها أو قال: يلزمني الطلاق أنها رعته صدق المخبر أو كذب فيقع حالاً.
(مسألة: ك): قال: حنثت
من أهلي أن الشيء الفلاني لم يقع ونوى بذلك الطلاق، فالظاهر من احتمالين أنه
كناية، فإذا وقع الشيء المحلوف به كان كمن حلف على أن الشيء الفلاني لم يكن أو كان
أو سيكون، أو إن لم أكن فعلت، أو إن يكن فعل، أو في الدار ظناً منه أنه كذلك، أو
اعتقاداً لجهله أو نسيانه، ثم تبين خلاف ما ظنه أو اعتقده، فإن قصد به أن الأمر
كذلك في ظنه أو اعتقاده أو فيما انتهى إليه علمه أي لم يعلم خلافه لم يحنث، وكذا
إن لم يقصد شيئاً في الأصح، وإن قصد أن الأمر كذلك في نفس الأمر بأن قصد به ما
يقصد بالتعليق حنث قاله في التحفة.
(مسألة: ك): علق الطلاق على فعل نفسه أو غيره كقوله: عليّ أو يلزمني الطلاق
إن ساكنت زيداً، أو لا أفعل كذا، أو لا تفعلي كذا، لم يحنث إلا بفعل، أو لأفعلنه
حنث بالترك، ثم فيما إذا قيده بفعله إن قصد التعليق بمجرد صورة اللفظ، وكذا إن
أطلق كما في التحفة خلافاً لـ (م ر) وقع بوجود الصفة مطلقاً، وإن قصد منع نفسه
فيشترط أن يفعله متعمداً مختاراً عالماً أنه المعلق عليه، وفيما إذا قيده بفعل
غيره من زوجة أو غيرها، فإن لم يبال المعلق على فعله بتعليقه مطلقاً، أو يبالي ولم
يقصد إعلامه لمنعه علم بخلفه أم لا، أو قصده وتمكن من إعلامه ولم يعلمه أفعله
الغير متعمداً مختاراً وقع الطلاق في الكل، وإلا بأن كان يبالي بتعليقه، وقصد
الحالف منعه وعلم به ذلك الغير، فلا حنث بفعله ناسياً أو مكرهاً أو جاهلاً بالمعلق
أو المعلق به، ويقبل قوله نسيت إن أمكن، ومعنى يبالي بحلفه أن تقضي العادة أو
المروءة بأن لا يخالفه ويبرّ يمينه لنحو حياء أو صداقة أو حسن خلق اهـ. قلت: قال
في الفتح: وينبغي لمن حلف بالطلاق أن لا يخرج إلا بإذن زيد أن يشهد على إذنه لأنها
المصدقة في نفيه بيمينها اهـ.
(مسألة: ك): قال: عليّ الطلاق ما يأتي الصبح وفي البيت حاجة من حوائجك،
فيحتمل أن مراده رفع حوائجها قبل الصبح، وأنه إن أتى الصبح وقد بقي شيء من ذلك وقع
الطلاق، ويحتمل أن مراده إذا أتى الصبح يخرج حوائجها بعد إتيانه بحيث لا تبقى لها
حاجة، ثم يحتمل أيضاً أن المراد إخراج الحوائج قبل خروج وقت الصبح أو عدم التقييد
بذلك، فإن أراد شيئاً من ذلك عومل به، إذ اللفظ محتمل وكل محتمل يرجع فيه إلى قصد
قائله، وإذا قصد أن إخراجها يكون بعد إتيان الصبح ولم يقصد زمناً معيناً كان ذلك
على التراخي، ولا يقع الطلاق إلا باليأس منه بموت أحدهما.
(مسألة: ش): قال: يلزمني الطلاق الثلاث ما أرضى على أختي إلا وقد جزيت
رأسها أو حلقته، كان معلقاً على وقوع الرضا قبل حلقها، فإن قال: رضيت عنها لفظاً
وإن خالف ما في القلب قبل حلق جميع رأسها حنث، فإذا أراد عدم الوقوع وترك الحلق
المحرم فلا يقل رضيت، وإن عاملها معاملة الراضين كالدخول والانبساط، نعم إن قصد
بالرضا لازمه أدين عليه.
(مسألة): قال لها: أنت طالق إن لم تصلي اليوم، طلقت بغروب الشمس إن لم تصلّ
صلاة ما ولو ركعتين نفلاً لا نحو جنازة وركعة واحدة، بل إن أراد بالصلاة الفرض أو
دلت عليه قرينة قوية لم يبرّ إلا بصلاتها فرضاً، وإن لم يقيد باليوم لم تطلق إلا
باليأس بموت أحدهما أو جنونه المتصل بالموت.
(مسألة: ك): قال لها:
إن لم تأخذي من مالي شيئاً فأنت مطلقة، ثم ادعى أنها أخذت وأنكرته صدقت بيمينها
حيث لا بينة تشهد بالأخذ، إذ كل ما تمكن إقامة البينة عليه لا يصدق مدعيه إلا
بببينة، وإذا لم يقيد الأخذ بزمن طلقت باليأس.
(مسألة: ش): علق الطلاق بدخول نحو طفل أو بهيمة فدخل مختاراً حنث الحالف،
إذ لا يبالي من ذكر بحلفه، وإن أكره على الدخول فلا، إذ فعله مع الإكراه غير منسوب
إليه، بخلاف البالغ العاقل إذا علق بفعله وهو ممن يبالي بحلفه فيحنث بدخوله ولو
مكرهاً، ومحل ذلك ما لم يطرد العرف أن الحالف إنما حلف حاثاً لنفسه أو مانعاً لها،
وإلا فهو حلف على فعل نفسه لا فعل غيره، لا سيما إن دلت قرينة ظاهرة كالمخاصمة،
فحينئذ لو تنازع شخص وأمه على تربية طفل، فحلف بالطلاق ما بقي يدخل بيتها لم يحنث
إلا إن دخل الطفل وعلمه وسلمه مختاراً، وإلا فلا حنث على الراجح، كما لو تنازع
رجلان على بئر فحلف أحدهما بالطلاق لا بقيت تركبها، فإذا ركبها المحلوف عليه مع من
لا يستطيع الحالف أن يسطو عليه معه لم يقع الطلاق.
(مسألة): حلف بالطلاق الثلاث أن لا يبيت هذه الليلة في البلد وأن يسافر،
برّ بسفره بمجاوزة ما تشترط مجاوزته في صلاة المسافر نية السفر، لأنه يسمى مسافراً
لغة وشرعاً وعرفاً، كما في التحفة والنهاية في الأيمان. قال ع ش: أي فلا بد من
كونه قاصداً محلاً يعد قاصده مسافراً عرفاً وإن رجع قبل وصوله، ولا يكفي مجرد
خروجه عن السور بنية أن يعود منه إذ لا يسمى مسافراً.
(مسألة: ش): قال لها: أنت طالق إن خرجت بلا إذن أو خف أو غير لابسة الحرير،
فخرجت غير ممتثلة أمره طلقت أو ممتثلة فلا، وانحلت اليمين فيهما بمرة، بخلاف ما لو
علق بكلما، وعبارة العباب هنا تحتاج إلى تحرير.
(مسألة: ش): حلف
بالطلاق لا يدخل الدار ثم دخلها فسئل عن حلفه هل قلت: يلزمني الطلاق الثلاث، قال:
نعم ثم ادعى أنه سبق لسانه لم يقبل، لأن نعم ونحوها كأجل وأي إذا وقعت جواب
الاستفهام كان إقراراً بما وقع الاستفهام عنه ودعواه سبق اللسان، وأنه لا يميز بين
الواحدة والثلاث لا تسمع ويدين، نعم إن دلت قرينة على عدم قصده تصديق المستفهم
كعجلة ودهشة صدق بيمينه أنه سبق لسانه، وكذا إن لم يعرف معنى الثلاث ولم يميزها عن
الواحدة من كونها محرمة للمرأة إن أمكن خفاؤه لقرب عهده بالإسلام أو بعد محله عن
العلماء، كما لو لقن لفظ الطلاق ولم يعرف معناه لا يقع وإن قصده.
(مسألة: ك): تشاجر هو وزوجته فقال لها: إن خرجت فأنت مطلقة ثلاثاً، فبقيت
نحو يوم ثم أذن لها في الخروج فخرجت، وادعى أنه أراد خروجها تلك الساعة صدق ظاهراً
بيمينه للقرينة، كما لو قيل له: كلم زيداً اليوم فحلف لا أكلمنه وقصد اليوم فيصدق
حيث وصل كلامه بكلام السائل، ولو قال لها: إن دخل عليك زيد فأنت طالق طلقت بدخوله
عليها في أي مكان وحدها أو مع غيرها، لا نحو حمام ومسجد مما لا يختص به عرفاً، ولو
أعارت حماره بغير إذنه فقال لها: إن جاءني الحمار مرفعاً فأنت طالق، لم يقع الطلاق
إلا إن وصل إليه مرفعاً، إلا إن أنزل المتاع عنه قبل وصوله إليه، وإن وصل البلد
كذلك، بل لو أتي به إليه مرفعاً ولم يجتمع به لم تطلق أيضاً على خلاف وتردد في
التحفة، نعم إن قال: إن جاء البلد مرفعاً وقع بوصوله أول البلد كذلك.
[فائدة]: حلف بالطلاق الثلاث ما يفعل كذا وله زوجتان ولم يقصد واحدة ثم
قال: ولو قبل الحنث عيّنت فلانة لهذا الحلف تعينت ولم يصح رجوعه عنها وليس له
توزيع العدد عليهما اهـ تحفة.
[فائدة]: شرط أبو الزوجة على الزوج مسكة فغضبت، فحلف أبوها بالطلاق في
زوجته أن لا تخرج بنته من بيته إلا بمسكتها، فتعليق الأب المذكور باطل، إذ ليس لها
مسكة بذمة الزوج وإن شرطت عليه، نعم إن نذر بالمسكة في ذمته صح تعليق الأب ولم
يتخلص إلا بخلعها، اهـ فتاوى القاضي علوي بن سميط علوق.
التوكيل في الطلاق
(مسألة: ك): لا يصح التوكيل في تعليق الطلاق
وإنما يصح في تنجيزه، فلو ادعى الزوج
تعليق الطلاق في التوكيل وأنكره الوكيل صدق الزوج للقاعدة أن من كان القول قوله في
أصل الشيء كان القول قوله في صفته.
(مسألة: ش): ونحوه ي
قال: إذا أبرأتني فلانة من كذا فقد وكلتك بطلاقها فسد التوكيل للتعليق، لكن إن
أبرأته براءة صحيحة فطلق نفذ لعموم الإذن وكان رجعياً، لأنه لم يوكل في الطلاق على
الإبراء بل علق الوكالة به.
(مسألة: ج): ونحوه (ك)
وكل آخر في طلاقها فليس له أن يخالع، لأنه وإن أفاده مالاً فقد فوت عليه حق
الرجعة، ولأنه ليس للوكيل أن يطلق بعوض بلا إذن، هذا إن أمكنت مراجعتها بأن دخل بها ولم تكن الثالثة وإلا
جاز، ولو وكله في طلاقها وأطلق فطلق الوكيل ثنتين، فإن نوى الموكل ثنتين أو ثلاثاً
وقعت ثنتان، وإن لم ينو شيئاً وقعت واحدة.
(مسألة: ش): قوله لها:
أنت وكيلة نفسك في طلاقك لغو، إذ ليس ذلك تفويضاً ولا تمليكاً ولا توكيلاً، إذ لا
تملك طلاق نفسها، كما لو قال لغيره: أنت وكيل نفسك في بيع مالي، وإنما الصحيح أن
يقول مثلاً: أنت وكيلتي في طلاق نفسك، نعم إن قال: أردت توكيلها في طلاق نفسها وقع
تغليظاً عليه.
الرجعة
[فائدة]: قال بج: يصح ارتجاع كل مكلف ولو بتطليق الحاكم في حق المولى فخرج
به الفسخ فلا رجعة فيه لأنه شرع لدفع الضرر، ويسن الإشهاد عليها سواء بلفظ صريح أو
كناية أو إقرار، إذ لا يصدق في الرجعة ولا يقرّ على الزوجية بعد علمنا بتطليقه
وانقضاء العدة إلا ببينة وهذا فائدة الإشهاد اهـ. ونظم بعضهم شروط الرجعة فقال:
شروط الارتجاع تعدّ سبعاً
>< فهاك السبع في نظم مجاد
طلاق غير مستوف لعد ><
وقبل مضي وقت الاعتداد
وبعد دخولها ووجود وطء ><
بلا عوض يكون ولا ارتداد
(مسألة: ج) ادعى الرجعة لم يصدق إلا ببينة تشهد بأنه راجع قبل انقضاء
العدة، فإن لم تكن بينة صدقت هي كوارثها بيمينها على نفي العلم.
(مسألة): تحصل الرجعة بقوله: راجعت ورجعت وارتجعت ومراجعة ومرتجعة، وتشترط
إضافتها إليها أو إلى ضميرها أو الإشارة، كراجعت فلانة، أو راجعتها، أو راجعتك أو
هذه، أو أنت مراجعة، ولا تشترط إضافتها إليه كإليّ أو إلى نكاحي بل هو سنة، فهذه
صرائح ومثلها رددتها أو أمسكتها لكن بشرط الإضافة إليه، وتحصل أياً بالكناية مع
النية كتزوّجتها ونكحتها ولو بصورة العقد.
(مسألة: ب): علق
الطلاق بصفة وشك في وجودها فراجع ثم بان وجودها صحت مراجعته كما رجحه النووي ومال
إليه ابن حجر، ومثله لو شك في لفظ أيقع به طلاق أم لا؟ فراجع احتياطاً وإن بان
وقوعه، لأن العبرة في العقود بما في نفس الأمر فقط.
الإيلاء والظهار واللعان
[فائدة]: جرى في التحفة والنهاية والفتح والإمداد على أن المرأة المولي
عنها زوجها، يعني الحالف عن وطئها مطلقاً أو أكثر من أربعة أشهر، مخيرة بين
مطالبته بالفيئة أي الوطء وتكفير يمينه أو الطلاق، وجرى في المغني كالحاوي على
أنها تطالبه بالفيئة أوّلاً فإن امتنع فبالطلاق.
[فائدة]: الأعضاء
الباطنة كالظاهرة في حكم التشبيه بها في الظهار سواء المشبه والمشبه به، قاله في
الفتح والإمداد، لكن اعتمد في التحفة والنهاية عدم صحة الظهار بالتشبيه بها، سواء
المشبه والمشبه به أيضاً إلا القلب، فاستوجه في التحفة أن تشبيهه كناية ظهار،
واعتمد في التحفة والنهاية والمغني والروض وشرحه، حرمة الاستمتاع بالمظاهر منها
كالحائض يعني بما بين السرة والركبة، ورجح في الفتح والإمداد تبعاً للمنهاج حرمة
الجماع فقط.
(مسألة: ي ش): نكح حاملاً من الزنا فولدت كاملاً كان له أربعة أحوال، إما
منتف عن الزوح ظاهراً وباطناً من غير ملاعنة، وهو المولود لدون ستة أشهر من إمكان
الاجتماع بعد العقد أو لأكثر من أربع سنين من آخر إمكان الاجتماع، وإما لاحق به
وتثبت له الأحكام إرثاً وغيره ظاهراً، ويلزمه نفيه بأن ولدته لأكثر من الستة وأقل
من الأربع السنين، وعلم الزوج أو غلب على ظنه أنه ليس منه بأن لم يطأ بعد العقد
ولم تستدخل ماءه، أو ولدت لدون ستة أشهر من وطئه، أو لأكثر من أربع سنين منه، أو
لأكثر من ستة أشهر بعد استبرائه لها بحيضة وثم قرينة بزناها، ويأثم حينئذ بترك
النفي بل هو كبيرة، وورد أن تركه كفر، وإما لاحق به ظاهراً أيضاً، لكن لا يلزمه
نفيه إذا ظن أنه ليس منه بلا غلبة، بأن استبرأها بعد الوطء وولدت به لأكثر من ستة
أشهر بعده وثم ريبة بزناها، إذ الاستبراء أمارة ظاهرة على أنه ليس منه لكن يندب
تركه لأن الحامل قد تحيض، وإما لاحق به ويحرم نفيه بل هو كبيرة، وورد أنه كفر إن
غلب على ظنه أنه منه، أو استوى الأمران بأن ولدته لستة أشهر فأكثر إلى أربع سنين
من وطئه، ولم يستبرئها بعده أو استبرأها وولدت بعده بأقل من الستة، بل يلحقه بحكم
الفراش، كما لو علم زناها واحتمل كون الحمل منه أو من الزنا، ولا عبرة بريبة يجدها
من غير قرينة، فالحاصل أن المولود على فراش الزوج لاحق به مطلقاً إن أمكن كونه
منه، ولا ينتفي عنه إلا باللعان والنفي، تارة يجب، وتارة يحرم، وتارة يجوز، ولا
عبرة بإقرار المرأة بالزنا، وإن صدقها الزوج وظهرت أماراته.
(مسألة): قذف زوجته بالزنا وادعى أن الحمل ليس منه لزمه الحدّ، ولم يبرأ
إلا بعفوها أو باللعان، ويلحقه الولد ويرثه ما لم ينفه حال اللعان، ويلزمه نفيه
فوراً إن تحقق أنه ليس منه، وقد ألحقه الشرع به كما تقدم، وإذا لاعن أو أقرت
بالزنا ولم ترجع عن إقرارها لزمها الحد وهو الرجم للحرة الموطوءة في نكاح صحيح،
وإلا فجلد مائة وتغريب عام إلى مسافة القصر للحرة ونصفهما لمن بها رق ما لم تلاعنا
أيضاً.
العدد
(مسألة): عدة الطلاق بائناً أو رجعياً، والفسخ ووطء الشبهة والوفاة للحامل
بوضع الحمل المنسوب لذي العدة حرة كانت أو أمة، وأما غير الحامل فللوفاة بأربعة
أشهر وعشر للحرة، ونصفها للأمة، ولغير الوفاة بثلاثة أقراء للحرة، وقرءين لغيرها،
والقرء طهر بين دمين أي ولو حيضاً ونفاساً، كما اعتمده في التحفة والنهاية
والدميري والناشري وغيرهم، خلافاً للنووي في الروضة والفتاوى والبغوي وأبي مخرمة
والأسنى، وحينئذ فمن طلقت ولم تر حيضاً أصلاً وقد رأت دم النفاس اعتدت بالأقراء
على الأوّل المعتمد وبالأشهر على الثاني، أما لو ولدت ولم تر دماً أصلاً فتعتد
بالأشهر اتفاقاً، هذا إن كانتا من ذوات الأقراء، وإلا كصغيرة وآيسة فثلاثة أشهر
لحرة ونصفها لأمة.
(مسألة: ك): عدة الفسخ كعدة الطلاق لا الوفاة، وحكم المفسوخ نكاحها حكم
البائن في وجوب السكنى واستحباب الإحداد.
(مسألة: ش): فورقت غير
حامل وهي من ذوات الأقراء، فانقطع حيضها لعارض يعرف كرضاع ومرض وجوع، لم يحل لها
التزويج بغير ذي العدة قطعاً حتى يعاودها الدم، فتعتد بالأقراء أو تبلغ سنّ اليأس
فتعتد بالأشهر، ولا يبالى بطول مدة الانتظار، كما نقل عن إجماع الصحابة، وأطبق
عليه المتقدمون والمتأخرون، وإن انقطع لا لعلة فكذلك على المذهب الجديد، وبه قال
أبو حنيفة وفي القديم، وبه قال مالك وأحمد، وأفتى به جمع متأخرون أنها تتربص تسعة
أشهر ثم تعتد بثلاثة أشهر، فإن قضى به شافعي لرجحانه عنده أو مساواة الجديد أو
لضرورة كالاحتياج للنفقة وفيه أهلية الترجيح نفذ قضاؤه وصح العقد قطعاً وإلا نقض،
ويجوز الإفتاء لمن هو كذلك، مع بيان أنه ليس من مذهب الشافعي ليقلد المستفتي ذلك
اهـ، ونحوه (ب) وزاد: وقضى به سيدنا عمر، واختاره البلقيني، وأفتى به ابن عبد
السلام والبارزي والحضرمي وابن شكيل وابن كبن وأبو حميش وابن مطير، وكفى بهؤلاء
أسوة وقوّة، فالأولى لمن ليس لها ولي خاص ولم تجد حاكماً يرى ذلك أن تحكم عدلاً
بشرطه.
(مسألة: ش): تجب العدة بوطء الصبي والخصي اكتفاء بالسبب وهو الوطء، لأن
اشتغال الرحم الذي شرعت العدة لاستبانته أمر باطن، فاعتبر سببه وهو غيبة الحشفة أو
قدرها، كما ذلك شأن الشرع الشريف من تعلق الحكم بالوصف العام الظاهر المنضبط الذي
هو مظنته، كتعليق الإسلام بكلمته الظاهرة ولو مع الإكراه لنحو حربي، دون الاعتقاد
الذي به حصول النجاة، وتعليق النقض باللمس والنوم اللذين هما مظنة الخروج، وتعليق
القصر بالسفر الذي هو مظنة المشقة وعكسه بالإقامة، مع أن المغلب في هذا الباب
التعبد، فمن ثم وجبت العدة، وإن تيقن براءة الرحم كأن طالت غيبة الزوج كثيراً ثم
فارق فتجب العدة حينئذ. والحاصل أن العدة أربعة أقسام: تعبد محض كعدة من تيقن
براءة رحمها بفراق صبي يقطع بأنه لا يولد له، وصبية يقطع بأنها لا تحمل، ومن مات
زوجها قبل الدخول، ومعنى محض كعدة الحامل، واجتماع الأمرين والمعنى أغلب، كموطوءة
يمكن حبلها ممن يولد لمثله، فإن معنى براءة الرحم أغلب من التعبد بالعدد بالنسبة
للزوجة لا الأمة إذا اكتفى فيها بحيضة أو شهر واجتماعهما، والتعبد أغلب كمعتدة
الوفاة المدخول بها وأقراؤها تنقضي قبل عدتها، فالعدد الخاص أغلب في التعبد.
(مسألة): يجب الإحداد على المتوفي عنها زوجها، وهو ترك الطيب والدهن
كالمحرم، فيحرم عليها لغير ضرورة أو حاجة ما يحرم عليه من الطيب في الثوب والبدن
والطعام ودهن نحو الرأس، نعم يلزمها إزالة طيب عليها حال الشروع في العدة، ولا
كفارة عليها باستعماله بخلافه فيهما، ولها استعمال نحو أظفار عند طهرها من نحو حيض
والحلي وكل صبوغ لزينة واكتحال ولو بصبر لا لرمد، فتكتحل ليلاً وتمسحه نهاراً،
قاله في الفتح. ويندب الإحداد للبائن وفي قول يجب، وكذا للرجعية ما لم تظن عود
الزوج لها وخرج بما ذكر نحو
غسل الرأس ولو بسدر وامتشاطه والاستحداد وقلم الأظفار فلا يحرم وبالزوج غيره فيحرم
فوق ثلاث مطلقاً، وكذا دونها لغير قريب وعالم وصالح، ويجب على كل معتدة مطلقاً
ملازمة المسكن بإجماع الأئمة الأربعة، بل تركه كبيرة لقوله تعالى: {ولا يخرجن} كما
في الزواجر.
(مسألة): طلقت حرة
فادعت انقضاء عدتها قبل مضي شهر وتزوجت كانت كاذبة بدعواها فاسقة بتزوجها، إذ أقل
إمكان انقضاء عدة الحرة ذات الأقراء غير الحامل والمتوفى عنها زوجها اثنان وثلاثون
يوماً، ولحظتان إن طلقت في طهر، وخمسة وأربعون ولحظة في حيض، وفي الأمة ستة عشر
يوماً ولحظتان إن طلقت في طهر، فإذا ادعت المرأة الانقضاء لإمكانه كما ذكرنا صدقت
بيمينها، وإن اتهمت وخالف عادتها المستمرة إذ هي مؤتمنة على رحمها.
(مسألة): فورقت موطوءة وأحست بالحمل فمكثت سنة ولم تر حيضاً، ثم تزوّجت آخر
فوطئها جاهلاً بالحمل فولدت كاملاً، كان النكاح الثاني باطلاً لوقوعه في عدة
الأوّل، وأما الولد فإن أمكن كونه من الأول فقط بأن ولدته لدون أربع سنين من آخر
إمكان الاجتماع، ودون ستة أشهر من إمكان اجتماع الثاني، فللأول أو من الثاني فقط
بأن عكس ذلك، فللثاني أو منهما بأن ولد لدون الأربع في الأول، وفوق الستة في
الثاني عرض على القائف، وهو مكلف حر ذكر عدل مجرّب بعرض أصناف، فإن ألحقه بأحدهما
لحقه، ولا ينتفي عنه إلا باللعان، وإن ألحقه بهما أو نفاه عنهما أو تحير، أو لم
يوجد قائف ترك حتى يبلغ، فينتسب إلى من يميل إليه طبعه، ثم إن لحق بالأول انقضت
عدتها بوضع ذلك، واعتدت للثاني بثلاثة أقراء أو بالثاني فبالعكس، ولو مات زوجها
فاعتدت بالأشهر، ثم تزوجت فظهر بها حمل وولدته لدون ستة أشهر من نكاح الثاني لم
يلحقه الولد، ووطؤه شبهة يوجب المهر لا الحد، ويلحق الأول بقيده المذكور وإن أقرت
بالزنا، وتعتد للثاني بعد الوضع.
(تنبيه): ينبغي بل يتعين في هذا الزمان الذي عم فيه التساهل مع الجهل
للعالم كالقاضي، إذا حضر مجلس عقد النكاح أن يبحث ويفتش عن مقتضيات النكاح، كالعدة
والبلوغ وكيفية مجيء الحيض والإذن والولاية ونحوها مما يغلب جهل العامة به، لئلا
يقعوا في مثل هذه المخازي.
(مسألة): تنقضي عدة
الحامل بوضعه ولو ميتاً أو مضغة، قال القوابل: إنها مبدأ خلق آدمي، ولو مات في
بطنها واستمر أكثر من أربع سنين لم تنقض إلا بوضعه أيضاً، وإن تضررت وخافت الزنا
ولم تسقط نفقتها، كما لو استمر حياً في بطنها حيث ثبت وجوده ولم يحتمل وضع ولا
وطء، ولا ينافي ذلك قولهم أكثر مدة الحمل أربع سنين لأنه في مجهول البقاء، حتى لا
يلحق المطلق إذا زاد على الأربع، وكلامنا في معلومه زيادة على الأربع، هذا هو الذي
يظهر وهو الحق إن شاء الله تعالى، قاله سم. وقال ع ش وهو ظاهر: لكن يبقى الثبوت
بماذا؟ لأنه حيث علم أن أكثر مدته أربع سنين، وزادت المدة كان الظاهر من ذلك
انتفاء الحمل، وأن ما تجده في بطنها من نحو الحركة ليس مقتضياً لكونه حملاً، نعم
إن ثبت بقول معصوم كعيسى عليه السلام وجب العمل به اهـ. ولو شكت حال العدة في
الحمل لنحو ثقل وحركة حرم نكاحها حتى تزول الريبة بأمارة قوية، فلو تزوّجت بعد
انقضاء العدة مع بقاء الريبة، ثم بان أن لا حمل صح النكاح، خلافاً لـ (م ر) وإن
شكت بعد انقضائها سنّ لها التوقف.
(مسألة: ش): ونحوه (ب): تزوج مطلقة غيره في العدة لم يصح، ثم إن وطئها
عالماً بالفساد فزان أو جاهلاً فشبهة، فإن وقع بعد قرءين مثلاً قطع عدة الطلاق
لصيرورتها فراشاً له، فمن ثم لم تحسب مدة افتراشه، بل تتم بقية عدة الطلاق بعد
تفريق الحاكم بينهما، أو اتفاقهما على الفرقة، أو طلاقها على ظن الصحة، أو موته،
فلو تأخر التفريق إلى سنّ اليأس أتمت عدة الطلاق بشهر، وحينئذ تتبعض عدة الطلاق من
الأقراء والأشهر، لأنها لما كانت بدلاً عن الأقراء كان الشهر بدلاً عن قرء، ثم
تعتد للفاسد بالأشهر أيضاً، ويفرق بين هذا وما لو حاضت ذات أشهر قبل انقضائها
فإنها تستأنف العدة بالأقراء بأن الأشهر بدل، وإنما أصالتها حيث لم يسبقها حيض،
والأقراء أصل مطلقاً والقدرة عليه قبل فراغ البدل، إذا لم يتصل بالمقصود تبطله،
كرؤية المتيمم الماء قبل الشروع في نحو الصلاة، بخلاف العجز عن الأصل في الأثناء
مع القدرة على البدل لا يبطل ما مضى منه، كمن وجد ماء لا يكفيه فاستعمله، فإن
قدرته على التراب لا تبطل ما مضى، بل يتيمم عن الباقي، فلو قدر على الماء بعد بطل
تيممه لا غسله، ولو وطئت بشبهة معتدة أتمت الأولى ما لم تحمل للثاني، وإلا اعتدت
له ثم أتمت الأولى، لأن الحمل لا يقبل التأخير، وللزوج الرجعة قبل الوضع وبعده إلى
انقضاء عدته، لا في حال فراش واطئها، كما ليس له تجديد النكاح قبل الوضع، وليس
للزوج الاستمتاع بالمعتدة عن شبهة ولو بنحو نظر بلا شهوة، أو منكوحة فاسداً وقد
وطئها الأول فشرعت في عدة الثاني قبل التفريق لعدم تأثرها بمحض المخالطة بشبهة، ثم
فرق بينهما أتمتها ثم اعتدت للفاسد، وهذا بخلاف ما لو وطئت بشبهة في نكاح صحيح
وشرعت فيها ثم فورقت فتنتقل له إن لم تحمل من الشبهة لقوته.
[فائدة]: قال سم: قوله منيه المحترم العبرة في الاحترام بحال خروجه فقط،
حتى لو خرج منه منيّ بوجه محترم، كما لو علا زوجته فأخذته أجنبية عالمة بأنه مني
أجنبي واستدخلته كان محترماً تجب به الغرة ويلحق أباه، ومثله ما لو ساحقت امرأته
التي نزل فيها ماؤه أجنبية فنزل في الأجنبية، أو استنجى بحجر فخرج منه منيّ عليه
فأخذته امرأة وأدخلت ما عليه فرجها.
الاستبراء
(مسألة: ب): قال المزني وابن شريح وصاحب التقريب: لا يجب استبراء البكر
والصغيرة ومن لم توطأ نظراً للمعنى، قال
الروياني: وأنا أميل لهذا، قال السيوطي: وهو المختار عندي لصحة الحديث به، ونقله
البخاري عن ابن عمر اهـ. وعن الليث جوازه ممن لا تحمل مثلها، ويجوز تقليد هؤلاء
بشرطه المار اهـ. قلت: والحيلة عند الحنفية فيمن لم يطأها بائعها بعد طهرها، أو
كانت لامرأة أو صبي، أو كانت هي صبية، أن يكاتبها مشتريها بألف مثلاً، ثم تختار
الرق وتفسخ فيحل وطؤها حالاً من غير استبراء، اهـ من خط العلامة علوي بن أحمد
الحداد.
(مسألة): دبر أمته
ومات عتقت بموته، ولزمها الاستبراء حينئذ بوضع الحمل ولو من زنا إن كانت حاملاً،
وإلا فبحيضة إن كانت من ذوات الحيض، فإن لم تكن فبشهر هذا إن لم يستبرئها قبل
موته، وإلا فلا استبراء وتتزوّج حالاً.
(مسألة: ش): ادعت الأمة أنها حامل من سيدها، فإن أنكر الوطء صدّق بلا يمين،
وإن أقرّ به وادعى الاستبراء، فإن صدقته أو حلف على أن الحمل ليس منه لا على سبيل
الاستبراء فقط انتفى عنه الولد ما لم تضعه لدون ستة أشهر من الاستبراء وإلا لحقه
الولد مطلقاً، كما لو نكل عن اليمين، ولا ترد عليها على الراجح، ولا على الولد لو
نكلت أيضاً اهـ. وذكر نحوه ك لكن قال: فإن نكل السيد عن اليمين فوجهان: أحدهما
ورجح أنه يتوقف اللحوق على يمينها، فإن نكلت فيمين الولد بعد بلوغه اهـ.
(مسألة: ش): باع أمته فادعت أنها حامل منه، فإن حاضت بعد وطئه انتفى عنه
الحمل مطلقاً لانقطاع فراشه بالحيض الذي يدل غالباً على براءة الرحم، فحينئذ تصير
فراشاً لمشتريها إن وطىء، فيلحقه الحمل وتصير به أم ولد ما لم تضعه لدون ستة أشهر
من وطئه وإن لم تحض بين وطئهما فإن ولدته لدون الستة من وطء الثاني، ودون أربع
سنين من وطء الأوّل، لحق الأوّل أو بالعكس لحق الثاني، أو ما بينهما من الوطأين
عرض على القائف، فإن عدم بمسافة القصر أو تحير أو ألحقه بهما أو نفاه عنهما انتسب
بعد بلوغه إلى من يميل إليه طبعه.
النفقات
(مسألة: ي): لا تستحق الزوجة المؤن، ويباح لها الفسخ بالإعسار، إلا إذا لم
تخرج عن طاعة الزوج بنحو خروجها من البيت بغير إذنه، ومنعه من التمتع الجائز، وغلق
الباب قدامه، وكأن تلزمها عدة شبهة وغصب ظالم لها، وحبسها مطلقاً، وسفرها بلا إذن
أو لحاجتها، ودعواها الطلاق كذباً، وترك إجابتها للسفر معه بحراً أو براً، مع أمن
الطريق وغلبة السلامة، وصومها بلا إذن فرضاً موسعاً، أو نفلاً غير عرفة وعاشوراء،
واشتغالها بنحو تعليم بنات يستحي من أخذها بينهن، وتطويلها صلاة الفرض، والراتبة
على أدنى الكمال بلا إذن، ومنعه من لمسها، وتغطية وجهها وتلويته منه وإن مكنته من
الجماع، وعدم تسليم الأمة نهاراً، وترك إجابته إلى المسكن اللائق بها وردتها،
وإجارتها عينها قبل النكاح مع بقاء المدة بعده، وإكراه نحو أبيها على خروجها من
الطاعة، ولا يضر خروجها من البيت بإذن الزوج، أو ظن رضاه لجريان العرف الدال على
رضا أمثاله، هذا إن لم ينهها عنه ولم تعلم غيرته على الخروج، كما لا يضر الخروج
لإشراف البيت على الخراب أو الخوف على نفسها أو مالها، وتصدق فيه بقرينة أو لطلب
حق، أو تعلم فرض عين أو استفتاء في واقعة لها إن لم يعلمها ولم يسأل لها، أو إخراج
معير أو ظالم أو تهدده لها، وتصدق بيمينها فيما لا يعرف إلا منها ولو نشزت والزوج
حاضر يتمتع بها لم تسقط المؤن، أو نشزت فغاب أو وهو غائب ثم عادت للطاعة، فلا بد
لعود المؤن من إعلامه بعودها، أو إعلام الحاكم، ثم الإشهاد، هذا إن لم تخرج من
بيته، وإلا فلا بد أيضاً من مضيّ زمن مجيئه أو وكيله بعد بلوغ الخبر، ولم يعذر في
عدم التوكيل، وعلم الحاكم محله، وثبوت نكاحها وإقامتها بمسكنه، وخلفها على
الاستحقاق، فإن لم يعرف محله بحث الحاكم عنه، واستحقت لعودها مع علم الحاكم إن
وجد، وإلا أشهدت على العود واستحقت، ومتى ثبت تمكينها بعلم الحاكم أو ببينة أو
إقرار الزوج أو وليه أو حلفها المردودة لم تسقط المؤن، فلو ادعى النشوز صدقت هي.
(مسألة): تصدق المرأة بيمينها في عدم النشوز أي بعد التمكين، وعدم تسليم
النفقة، نعم لو ادعت نفقة وكسوة ماضية وكذا نفقة اليوم، كفاه في الجواب لا تستحق
عليّ شيئاً، قاله في القلائد والتحفة.
(مسألة: ش): خرجت من
بيت زوجها على سبيل النشوز، فلا بد لعود المؤن من عودها إليه، ولا يكفي قولها:
رجعت عن النشوز فليأت إليّ، ولا يكلف الزوج الإتيان إليها وإن أمكنه، وكانت عادة
البلد وهي من ذوي الأقدار، هذا هو المذهب الذي لا ريب فيه كما أفتى به القلعي، لكن
ينبغي الإتيان إليها إذا طلبت منه ذلك، لما يترتب عليه من جبر القلوب والوفاء بحسن
العشرة والمصاحبة بالمعروف، لا سيما إذا كانت رفيعة القدر يلحقها العار بعودها
بنفسها، وحيث لم تعد سقطت مؤنها وإن طال مكثها، وترد ما أخذته من نفقة يوم النشوز
وكسوة فصله، إذ يملكه الزوج بمجرد نشوزها، فتغرم ما تلف عندها بالأقصى، وما نقص
بأرشه، وما لبسته بأقصى الأجر، فإن عادت للطاعة عادت مؤنها للمستقبل من اليوم
والفصل لا الحال كما قاله الشيخان، وقال ابن عجيل: تعود لها كسوة الفصل الحاضر
بالتوزيع، ويردّ لها ما أخذه من ذلك، ولا بأس بالفتيا به للإضرار اللاحق لها بسقوط
كسوة كل الفصل بنشوز لحظة، بخلاف نفقة اليوم لا إضرار في سقوطها، وإن امتنعت من
العود إلا بتسليم الصداق، فإن كان حالاً ولم تقبض منه شيئاً ولم يطأها الزوج وقد
سلمت له فغير ناشزة، إذ لها الحبس حينئذ، ولو بالخروج من منزله على المعتمد
لتقصيرها بعدم التسليم، فإن أعسر فلها الفسخ، وإن انتفى شرط أو امتنعت عبثاً
فناشزة تجبر على العود ولو بالضرب لأنه حق لزمها، كما يجبر هو على تسليم مهرها
الحال إن كان موسراً، وإن ادعى النشوز فأنكرته صدقت إن كان بسبب ظاهر كخروج لسهولة
البينة، فإن كان بخفي كمنع مضاجعة أو أطلق صدق اهـ. قلت وقوله: وإن ادعى النشوز
الخ. تقدم في (ي) تصديقها بعد ثبوت التمكين أي مطلقاً، وهو كذلك في فتاوى ابن حجر
والتحفة والقلائد كما مر، فليحمل كلامه هنا على ما إذا لم يثبت التمكين وعدمه.
(مسألة: ش): تزوّج امرأة بشرط أن لا يخرجها من بيت أهلها لم يلزم الشرط،
سواء كان في صلب العقد أم قبله، على الجديد والقديم، كمذهب مالك صحة الشرط النافع
لها، نعم إن التزم ذلك بالنذر لزمه حيث ظهرت فيه القربة، كجبر خاطرها أو خاطر أمها مثلاً، لأن فيه إدخالاً للسرور
على مسلم وهو مطلوب.
(مسألة: ش): خرجت
بإذنه أو تيقن رضاه لزيارة الصالحين سقطت مؤنها وقسمها ولا إثم، أو بغيره سقطا
وأثمت وعادا للمستقبل بعودها، ولا سقوط بالعزم على الخروج حتى تخرج وإن أثمت
بالتصميم على المعصية.
(مسألة: ش): خافت في
بيت زوجها من سارق أو فاسق، فخرجت أو خرج بها وليها أو أمها لم يكن نشوزاً، وتصدق
في دعوى الخوف بيمينها، ويستبد بذلك الولي حيث تعذرت مراجعة الزوج، وهذا ما لو كان
الزوج يقيم عند ضرّتها القديمة أو الحادثة بعد سفره أكثر من ثلاثة أيام فخرجت هي
بسبب ذلك فلا يكون نشوزاً، إذ الراجح حرمة الزيادة على الثلاث، وإن تفرقن في
البلاد، وقولهم: لو منعها الزوج حقها كقسم لزم القاضي توفيته محله حيث أمكن، أما
إذا كان في بلد أخرى بحيث تحتاج مراجعته إلى مدة فجواز خروجها بسبب ذلك ظاهر.
(مسألة: ج): امرأة من أهل المدن تزوّجها رجل من أهل البوادي، وشرط عليه أن
تكون في بلدها، فسكن معها زماناً ثم طلبها للبادية في محل غير لائق بأمثالها،
لكونه يغشاه الرجال ويختلطون بالنساء، ولا يمكنها التحرز عنهم، ويحصل منها
الابتذال لم يلزمها إجابته، لا للشرط المذكور لفساده بل لأن إجابتها والحال ما ذكر
مفسدة أي مفسدة، والشرع مبني على درء المفاسد وجلب المصالح، فإذا تعارضتا قدمت
الأولى، وحينئذ لا تسقط نفقتها، فيلزمه مدان لليسار وإدام نحو حرف من الدراهم
والكسوة كل سنة شتاء وصيفاً، ومؤنة الخادمة إن كانت تخدم.
(مسألة: ج): مزوّجة إذا دخلت على زوجها
اعتلاها ضيق وكرب وصياح، وإذا خرجت عن داره سكن روعها، لم يلزمها تسليم نفسها
للضرر لكن تسقط مؤنها، ولا يلزم الزوج الخروج من بيته إلى بيت آخر لو فرض أنه لم
يعتلها ما ذكر، فحينئذ يرشدهما الحاكم إلى الخلع ولا كراهة فيه.
(مسألة: ش): طلبها
للسفر معه لزمها مع أمن الطريق والمقصد ولو في البحر الملح حيث غلبت السلامة ولم
يخش منه مبيح تيمم، أو مشقة لا تحتمل لمثلها عادة، فحيث امتنعت مع الوجوب فناشزة
يسقط قسمها ونفقتها، لكن لا يقوم علمه بامتناعها مقام طلبه لها، بل لا بد للسقوط
من تحقق الامتناع.
(مسألة): خطب امرأة فأجابت على أن ينفق على بنتها معها إلى أن تتزوّج، وأن
المرأة تجلس في بيتها إلا إن رضيت أن تتبعه إلى مكانه، فسكن عندها مدة ثم طلبها
دون بنتها لزمها أن تتبعه، ولا عبرة بالمواطأة المذكورة، نعم إن التزم بالنذر أن
لا ينقلها عن بيتها إلا بفرخها لزمه ذلك كما قاله ابن زياد، وتقدم في ش: كما أن
نفقة البنت لا تلزمه أيضاً إلا إن نذرها، وتلزم نفقة الزوجة بالتسليم التام ليلاً
ونهاراً، ويحرم على وليها المنع من دخول الزوج بيتها وعدم تسليمها، بل ذلك مسقط
لمؤنها.
(مسألة: ي): طلق امرأته ولم يعلمها به أثم وبرىء عن المؤن ظاهراً وباطناً
وإن قصد عدم إعلامها، نعم إن كانت رجعية أو حاملاً لزمه مؤنها مدة العدّة اهـ.
قلت: لكن مر أول الطلاق عن ابن زياد أنه لا بد من يمينه لسقوط المؤن عنه إن لم
تصدقه فليحمل ما هنا على ذلك.
(مسألة): طلق زوجته
رجعياً أو بائناً حاملاً لزمه جميع مؤنها غير نحو الطيب وآلة التنطيف ما لم تكن
ناشزة حال الطلاق، وإلا فلا وجوب كالزوجة الناشزة، فلو مات وهي في العدة استمرت
نفقة الحامل لا الرجعية، بل تنتقل لعدة الوفاة وتنقطع نفقتها وترثه.
(مسألة: ب ش): قولهم: تجب الكسوة لكل فصل شتاءً وصيفاً، مراده حيث كانت
العادة جارية بذلك، فلو جرت عادة محل أن الكسوة لكل سنة أو أكثر عمل بها.
[فائدة]: نظم بعضهم
الحقوق الواجبة للزوجة على زوجها فقال:
حقوق النكاح الواجبات لزوجة
>< على الزوج بالتمكين سبع لوازم
طعام وأدم ثم سكنى وكسوة
>< وآلة تنظيف متاع وخادم
(مسألة): أراد سفراً طويلاً، كلف طلاقها أو توكيل من ينفق عليها من مال
حاضر، قاله في التحفة، وقال (م ر) في شرح الإيضاح: هذا فيما بينه وبين الله تعالى،
أما الحاكم فلا يجبره
[فائدة]: قال محمد بن سراج: ولا تجب القهوة على الزوج مطلقاً وإن اعتادوها،
لكن نقل (ع ش) عن (م ر) وجوبها، ونحوها من الفواكه المعتادة لأمثالها، قال: ويؤخذ
منه وجوب ما يعتاد من الكعك في عيد الفطر، واللحم في عيد الأضحى، ولا يجب عمله
عندها إلا إن اعتيد ذلك، قال: وهل يجب إعلام الزوجة بعدم وجوب خدمته مما جرت به
العادة من الطبخ والكنس ونحوهما؟ الظاهر نعم، لأنها إذا لم تعلم بعدم وجوب ذلك ظنت
وجوبه، وأنها لا تستحق المؤنة بتركه، فصارت كأنها مكرهة على الفعل، وحينئذ هل تجب
لها أجرة؟ يحتمل لا لتقصيرها اهـ.
(مسألة): امتنع الزوج أو القريب من تسليم المؤن الواجبة عليه أو سافر ولم
يخلف منفقاً، جاز لزوجته وقريبه أخذها من ماله ولو بغير إذن الحاكم، كما أن للأم
وإن علت أن تأخذ للطفل من مال أبيه الممتنع أو الغائب أيضاً، لكن يتعين الأخذ من
جنس الواجب فيهما إن وجد، فإن لم يكن له مال أنفقت الأم من مالها أو اقترضت ورجعت
على الطفل، أو على من لزمته نفقة إن أذن القاضي لها في ذلك، أو أشهدت على نية
الرجوع عند فقده وإلا فلا رجوع، وإن تعذر الإشهاد على الأوجه لندرته، وكالأم فيما
ذكر بقيده قريب محتاج وجد لطفل غاب أبوه أو امتنع، ولأب أو جدّ أخذ ما وجب له من
مال فرعه غير المكلف، وله إيجاره لذلك لما يطيقه، لا أم من مال فرعها، ولا ابن من
مال أبيه المجنون إلا بالحاكم، وتستقرّ نفقة القريب بفرض القاضي، وكذا بإذنه في
الاستقراض، فتصير ديناً في ذمّة القريب حينئذ لا بدون هذين، بل تسقط بمضي الزمان
إلا نفقة خادم القريب حيث وجبت لأنها في مقابلة الخدمة، كما أن نفقة الزوجة
المطيعة ولو زوجة أصل تستقرّ بمضي الزمان دون فرض الحاكم اهـ من فتح الجواد. وأفتى
أحمد الرملي فيما إذا فرض الحاكم للزوجة وأولادها دراهم في مقابل مؤنتها ومؤنهم
عند غيبة الزوج، وأذن لها في إنفاق ذلك عليها وعليهم، وفي الاستدانة عند تعذر الأخذ
من ماله مع الرجوع عليه، بأن ذلك صحيح للحاجة الداعية إليه والمصلحة المقتضية له،
بل يجب عليه ذلك عند طلبها، كما لو قدّر الزوج لزوجته نظير كسوتها دراهم فتلزم ما
داما متراضيين اهـ..
فسخ النكاح بالإعسار
(مسألة: ي): في فسخ النكاح خطر، وقد أدركنا مشايخنا العلماء وغيرهم من أئمة
الدين لا يخوضون فيه، ولا يفتحون هذا الباب لكثرة نشوز نساء الزمان، وغلبة الجهل
على القضاة وقبولهم الرشا، ولكن نقول: يجوز فسخ الزوجة النكاح من زوجها حضر أو غاب
بتسعة شروط: إعساره بأقل النفقة، والكسوة، والمسكن لا الأدم، بأن لم يكن له كسب
أصلاً، أو لا يفي بذلك، أو لم يجد من يستعمله، أو به مرض يمنعه عن الكسب ثلاثاً:
أو له كسب غير لائق أبى أن يتكلفه، أو كان حراماً أو حضر هو وغاب ماله مرحلتين، أو
كان عقار أو عرضاً أو ديناً مؤجلاً أو على معسر أو مغصوباً، وتعذر تحصيل النفقة من
الكل في ثلاثة أيام، وثبوت ذلك عند الحاكم بشاهدين أو بعلمه، أو بيمينها المردودة
إن ردّ اليمين، وحلفها مع البينة أنها تستحق النفقة، وأنه لم يترك مالاً،
وملازمتها للمسكن، وعدم نشوزها، ورفع أمرها للحاكم، وضربه مهلة ثلاثة أيام لعله
يأتي بالنفقة، أو يظهر للغائب مال أو نحو وديعة، وأن يصدر الفسخ بلفظ صحيح بعد
وجود ما تقدم، إما من الحاكم بعد طلبها، أو منها بإذنه بعد الطلب بنحو: فسخت نكاح
فلان، وأن تكون المرأة مكلفة، فلا يفسخ وليّ غيرها، ولو غاب الزوج وجهل يساره
وإعساره لانقطاع خبره، ولم يكن له مال بمرحلتين فلها الفسخ أيضاً بشرطه، كما جزم
به في النهاية وزكريا والمزجد والسنباطي وابن زياد و (سم) الكردي وكثيرون، وقال
ابن حجر وهو متجه مدركاً لا نقلاً، بل اختار كثيرون وأفتى به ابن عجيل وابن كبن
وابن الصباغ والروياني أنه لو تعذر تحصيل النفقة من الزوج في ثلاثة أيام جاز لها
الفسخ حضر الزوج أو غاب، وقواه ابن الصلاح، ورجحه ابن زياد والطنبداوي والمزجد
وصاحب المهذب والكافي وغيرهم، فيما إذا غاب وتعذرت النفقة منه ولو بنحو شكاية، قال
(سم): وهذا أولى من غيبة ماله وحده المجوّز للفسخ، أما الفسخ بتضررها بطول الغيبة
وشهوة الوقاع فلا يجوز اتفاقاً وإن خافت الزنا، فإن فقدت الحاكم أو المحكم أو عجزت
عن الرفع إليه كأن قال: لا أفسخ إلا بمال وقد علمت إعساره وأنها مستحقة للنفقة
استقلت بالفسخ للضرورة، كما قاله الغزالي وإمامه، ورجحه في التحفة والنهاية
وغيرهما، كما لو عجزت عن بينة الإعسار وعلمت إعساره ولو بخبر من وقع في قلبها صدقه
فلها الفسخ أيضاً، نقله المليباري عن ابن زياد بشرط إشهادها على الفسخ اهـ. وذكر
غالب هذه الشروط في تعذر النفقة بغيبة الزوج في (ج) وفي (ش) أيضاً نحو ما مر وزاد:
فحينئذ إذا قضى بالفسخ بتعذر النفقة بالغيبة والامتناع شافعي لترجيحه عنده، لكونه من
أهله أو لكونه رأى تضرر المرأة نفذ ظاهراً وكذا باطناً فلا يجوز نقضه، ويجوز
الإفتاء والعمل به للضرورة، إذ المشقة تجلب التيسير، وليس هذا من تتبع الرخص، نعم
لو ادعى الزوج بعد أن له مالاً بالبلد خفي على بينة الإعسار، وأن الزوجة تعلمه
وتقدر عليه وأقام بذلك بينة بان بطلان الفسخ إن تيسر تحصيل النفقة منه لا كعقار
وعرض.
(مسألة: ش): إذا سلمت الأمة نفسها للزوج ليلاً ونهاراً فلها جميع المؤن،
فإن أعسر فلها بالغة عاقلة الفسخ، كما أن لسيدها الفسخ بالمهر قبل الوطء وقبض
البعض لا بالنفقة.
(مسألة: ي): ونحوه ج :
الطريق في فسخ نكاح أمته من عبده أن يعتقها أو يكاتبها كتابة صحيحة ثم يملكها
العبد بنحو نذر وإن فسخت الكتابة بعد، لأن النكاح ينفسخ بملك أحد الزوجين الآخر
ولو جزءاً منه.
نفقة الأقارب
(مسألة: ج): لا يجوز بيع الأولاد لاحتياجهم للنفقة لحرمة بيع الحر، فلو باعهم
الأب أو غيره كان ثمنهم متعلقاً بذمة البائع، وليس لمشتريهم عليهم يد، ونفقتهم في
بيت المال ثم مياسير المسلمين.
(مسألة: ش): تجب على
الفرع الموسر نفقة الوالد المحتاج وكسوته وغيرهما، وهي ما يقوم به بدنه وحاله،
ويسن متأكداً أن يشبعه، بل يكره الاقتصار على القوام بلا عذر، فإن استوى اثنان فأكثر
في درجة وزعت على الرؤوس ذكرهم كأنثاهم، وحدّ اليسار أن يفضل عن حاجته، وما لا
يستغنى مثله عنه كمسكن وملبس وفرش وماء طهارة، وعن حاجة حليلته، وإن تعددت يومه
وليلته التي تليه، ويباع فيها ملكه كالدين، وتجب أيضاً نفقة حليلة الوالد وأمته
لاستمتاع وخدمة إذ يجب إعفافه وخدمته، وينبغي للولد أن يمون ولد أبيه خروجاً من
خلاف من أوجبها.
[فائدة]: قال ابن حجر:
وأفتى بعضهم في أخ أنفق على أخيه الرشيد وعياله سنين وهو ساكت ثم أراد الرجوع عليه
بأنه يرجع أخذاً من مسألة النقوط وفيه نظر بل لا وجه له، لعدم العادة بالرجوع في
ذلك، وعدم الإذن من المنفق عليه اهـ ع ش. وفي باعشن: وللوالد منع ولده من السفر
حتى يترك له نفقة أو منفقاً حيث وجبت مؤنته.
الرضاع والحضانة
[فائدة]: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، ويستثنى من ذلك ست صور وهي:
جواز تزوج الشخص جدة ابنه، وأخت ابن أخيه، وأمهات أخيه، وعمه وخاله من الرضاع لا
النسب في الكل، كما تتزوج المرأة أخا ابنها منه أيضاً، اهـ من خط الشيخ علي بن أبي
بكر علوي.
[فائدة]: مذهبنا أنها
لا تحرّم إلا خمس رضعات، وقال أبو حنيفة ومالك: تحرم رضعة واحدة فليتنبه لذلك
والاحتياط لا يخفى.
(مسألة): أرضعت امرأة طفلة بشرطه، صارت أمها وصار أولاد المرضعة المتقدمون
على الرضاع والمتأخرون عنه إخوان تلك البنت، فلو أتت البنت المذكورة بولد صارت
المرضعة جدته، وصار أولادها أخواله وخالاته، ولو أرضعت إحدى زوجات رجل بلبنه طفلاً
صارت أمه والرجل أباه، وأولاده منها ومن غيرها أخواته، وبقية زوجاته موطوءات أبيه.
(مسألة): تزوّج شخص
بنتاً صغيرة دون الحولين، فأرضعتها أمه رضاعاً محرماً بشروطه أو أخته، وكذا زوجة
أبيه أو ابنه أو أخيه، والحال أن اللبن لزوجها المذكور في الثلاث الصور، انفسخ
نكاحها في الجميع وحرمت عليه مؤبداً، لأنها صارت محرمة، كما لو أرضعتها زوجته
الكبيرة، فينفسخ نكاحهما ويحرمان عليه مؤبداً أيضاً، نعم لو لم يدخل بالكبيرة لم
تحرم الصغيرة مؤبداً، فيجوز له نكاحها ثانياً، إذ لا تحرم الربيبة إلا بالدخول ولو
أرضعتها أم زوجته الكبيرة أو بنتها أو أختها، أو زوجة أبي الكبير أو زوجة ابنها
بلبنهما، انفسخ أيضاً نكاح الصغيرة والكبيرة لأنهما صارتا ممن يحرم الجمع بينهما
في عقد شخص ابتداء، فيفسخ النكاح إذا طرأ عليه انتهاء، ويفرق بين هذا وما لو نكح
أختاً على أختها، حيث لم ينعقد نكاح الثانية، بأن هذه لم تجتمع مع الأولى أصلاً،
لوقوع عقدها فاسداً من أصله، فلم يؤثر في بطلان الأولى، بخلاف الكبيرة هنا فإنها
اجتمعت مع الصغيرة فبطلتا إذ لا مرجح، وله نكاح من شاء منهما فليتنبه لذلك فإنه
مما يغفل عنه، وطريق الخلاص لمن أراد أن تصير الأجنبية له محرماً أن يعقد على
الصغيرة، ثم بعد أن يطلقها ترضعها أخت زوجته أو زوجة أبيها مثلاً فتحرم المرضعة،
ويحل النظر والخلوة بها بشرطه أنها صارت أم زوجته، ولو كان الرضا بعد فراقها، كما
نص عليه الأئمة في المختصرات فضلاً عن المبسوطات، وحيث انفسخ نكاحه فيمن لم يدخل
بها ولم يكن بفعلها، كأن دبت إلى نائمة لزم المرضعة نصف مهر مثل الصغيرة لزوجها،
ولزم للصغيرة نصف المسمى، أو فيمن دخل بها لزم المرضعة له مهر المثل، ولزم للمدخول
بها المسمى ولغيرها نصفه إن لم يكن بفعلها.
(مسألة: ك): أقرت امرأة أنها ارتضعت من فلانة، أو أن فلاناً أخوها مثلاً من
الرضاع، قبلت إن أمكن حساً وشرعاً، بالنسبة لحرمة التناكح بينهما في حقها فقط، وإن
لم تذكر شروط الرضاع، لا في حق أصولها وفروعها إلا من صدقها، فيحرم تناكحهما
ظاهراً وباطناً إن صدقت وإلا فظاهراً، ولا في ثبوت المحرمية من نظر ومس، وإن أقرت
أنها أرضعت غيرها قبلت شهادتها إن لم تطلب أجرة على الرضاع، ولا تكفي شهادتها
وحدها، بل لا بد من عدلين أو رجل وامرأتين أو أربع نسوة هي إحداهما أو إحداهنّ،
ولا بد أيضاً من تفصيل الشهادة بذكر الزمان والعدد والسنّ والحياة ووصل اللبن
الجوف، وحيث لم يثبت لنحو فسق الشهود، ولم تصدق المرضعة، كره التناكح كراهة شديدة
للشبهة.
(مسألة): محل تقديم الأم وأمهاتها وتخيير المميز في الحضانة ما لم تنكح من
لا حضانة له فلا تستحقها المنكوحة، ولو من أقارب الطفل ممن لا حضانة له، كأبي الأم
والخال على المعتمد، بخلاف من له حضانة في الجملة وإن لم يستحقها الآن، قاله في
التحفة والفتح والأسنى، ومحله أيضاً إذا أقام الأب ونحو الأم ببلد واحد، أما لو
أراد أحدهما سفر الحاجة كحج وتجارة ونزهة، فالمقيم أولى بالمميز وغيره حتى يعود
الآخر لخطر السفر مع توقع العود، نعم بحث الزركشي وغيره أن الأم لو كانت هي المقيمة،
وكان في مقامه معها مفسدة أو ضياع مصلحة، كتعليم قرآن أو حرفة، وهو ببلد لا يقوم
غيره مقامه، مكن الأب من السفر به لا سيما إن اختاره الابن، قاله في الإمداد، وخرج
بالحاجة سفر النقلة، كما لو كان الأب كغيره من العصبات ببلد آخر غير بلد الزوجة
فله السفر به مميزاً أو غيره ولو بحراً، وتسقط حضانة الأم حينئذ، ما لم تصحبه بشرط
أمن الطريق والمقصد احتياطاً لحفظ النسب ولمصلحة التعليم والصيانة وسهولة الإنفاق،
نعم لو كان هناك أحد العصبات وإن بعد كان أولى به، فلا ينقله الأقرب حينئذ، كما
رجحه في التحفة والنهاية، لكن اسثتنى في الإمداد والتحفة والفتح الأب والجد،
فاعتمد أن للأب نقله وإن كان الجد كغيره مقيماً، وللجد وإن أقام غيره من العصبات،
بل رجح في الإمداد أيضاً أن سائر العصبة مثلهما، فللأقرب نقله مع وجود الأبعد ببلد
الأم.
كتاب الجنايات
(مسألة): قتل زوجته الحامل لزمه القود إن تعمد كغيرها بشروطه الثلاثة: وهي
أن لا يكون المقتول كافراً ولا عبداً، والقاتل مسلماً أو حراً، ولا أصلاً للمقتول،
فإن عفا أحد ورثتها أو كان فيهم فرع للقاتل سقط القصاص ووجبت الدية إن عفي عليها،
ولا عبرة بكون المقتول امرأة أو صغيراً أو دنيء النسب والقاتل بضده، نعم شرط
القاتل أن يكون مكلفاً مختاراً عامداً ملتزماً للأحكام لا كافراً حربياً، ويجب
أيضاً على عاقلة القاتل وهم قرابته من النسب دية الجنين، وهي غرة عبد أو أمة قيمته
خمس من الإبل إن خرج ميتاً، فإن لم يخرج لم يجب شيء، ويجب أيضاً على القاتل كفارة
عتق رقبة ثم صيام شهرين متتابعين، ويحرم عليه الامتناع والتعزز عن إقامة الحد، نعم
إن كان لطلب العفو المحمود فينبغي للوارث إسعافه.
(مسألة: ش): طعن رجل وأخرجت شبكة بطنه فبقي يوماً وليلة، فجيء له بطبيب
يعالجه فقال: لا يمكن إدخال الشبكة لكونها يبست فقطعها فمات بعد أيام، فإن تعمد مع
علمه بأن القطع يقتل غالباً ومات بالفعلين، أو قطعها بلا إذن من المجروح الكامل
وولي الناقص، فعلى كل من الطاعن ولو سكران تغليظاً عليه، إذ هو في حكم المكلف،
والطبيب كان ماهراً بأن لا يخطىء إلا نادراً أولا القصاص بشرطه، ولا عبرة بإذن الوارث، وإن قطع الماهر على
وفق معرفته فموته محال على فعل الطاعن، فعليه القصاص فقط، لأن الواقع من الطبيب
محض معالجة، وإن أخطأ الماهر فمات المطعون بالفعلين بقول عدلين خبرين، فعلى الطاعن
هنا وفيما يأتي حيث لا قصاص نصف دية مغلظة في ماله لتعمده، وليس على الماهر شيء إن
أذن له في عين ما فعله، فإن قال له: داوني وأطلق، أو قال الماهر: جهلت القطع وحلف،
فعلى عاقلته نصف دية مغلظة مثلثة إن صدقوه وإلا فعليه، كما لو قطعها غير الماهر
ظناً أن ذلك يجدي، لأنه قصد إنساناً بما لا يقتل غالباً في ظنه، وكما لو ألقاه على
حديدة لا يعلمها، نعم إن أذن له المجروح في عين القطع فلا ضمان.
(مسألة: ك): يحرم التسبب في إسقاط الجنين بعد استقراره في الرحم، بأن صار
علقة أو مضغة ولو قبل نفخ الروح كما في التحفة، وقال (م ر): لا يحرم إلا بعد
النفخ، واختلف النقل عن الحنفية في الجواز مطلقاً وفي عدمه بعد نفخ الروح، وهل هو
كبيرة؟ الأحوط أن يقال: إن علم الجاني بوجود الحمل بقرائن الأحوال وتعمد فعل ما
يجهض غالباً وقد نفخ فيه الروح ولم يقلد القائل بالحل فكبيرة وإلا فلا.
(مسألة): لا قصاص على
قاتل تارك الصلاة والزاني المحصن ببينة أو إقراره، ولم يرجع عنه إلا إن كان مثله، كما
في التحفة والنهاية لكن يأثم، نعم إن قصد نحو وليه بقتله الحد ودفع العار لعدم
الوالي أو تساهله بالحدود كما هو المعهود فيحتمل جوازه، وعبارة أبي مخرمة قتل تارك
الصلاة أو الزاني المحصن عمداً تشهياً، فإن كان حين إقدامه جاهلاً إهداره أثم إثم
المجترىء على المعاصي لا إثم القاتل، أو عالماً فإثم الافتيات على الإمام لا غير،
وإن قتل تارك الصلاة في مدة الاستتابة أو قبلها أثم إثماً زائداً على الافتيات
ويعزر في الكل، ولا قود إلا إن كان مثله اهـ.
(مسألة: ب): يجوز
الشلي وهو الفصد المعروف عند ظهور الجدري بأن يؤخذ شيء من المدرة ويوضع في محل
الفصد في نحو اليد لمن لم يظهر به أثر الجدري ولو بنحو صبي، لما عرف بالتجربة
الصحيحة والاستقراء من حصول التخفيف بذلك جداً، وقد جوّز العلماء أكثر من ذلك في
نظير المسألة، وقد علمنا بذلك نحن وغالب من عاصرناه من العلماء ومن قبلنا، وأفتى
بجوازه جماعة كابن زيادة والعلامة طاهر بن محمد علوي، بل صرح هذا بوجوبه.
الدية والقسامة
(مسألة: ش): قال الجاني المستحق القصاص: بعتك هذه العين بما تستحق عليّ، لم
يصح لأن البيع مقابلة مال بمال، والقصاص أصالة ليس بمال، نعم هو كناية في العفو،
فإذا قصد به التماس العفو بالعين وقبل المستحق أو ولي المجنون الفقير ولو صبياً
سقط القصاص وملك المستحق العين، كما لو قالت: بعتك هذه العين بطلاقي، إذ كل منهما
بذل مال في مقابلة ما استحق عليه شرعاً وهو القصاص أو سلطة الزوج.
[فائدة]: لو أشرفت سفينة على الغرق إن لم يطرح متاعها كله أو بعضه وجب طرح
ما احتيج إليه، وإن لم يأذن مالكه لنجاة راكب محترم، فإن لم يغلب جاز بإذن المالك،
ويجب إلقاء متاع لإبقاء ذي روح، والدواب لإبقاء آدمي لا قنّ لحر، ويضمن ما ألقاه
بغير إذن مالكه، وإن قال خوف غرق لا على الملقى فقط: ألق متاعك وأنا ضامن له أو
ضامنه لا ضامن فقط ضمن، أو وأنا وهؤلاء ضامنون، فحصته أي القائل باعتبار الرؤوس لا
هم وإن رضوا، ولو قال: أنا وهم ضامنون كل منا على الكمال، أو وأحصله من مالهم أو
مالي لزمه الجميع، كما لو باشر الإلقاء بعد قوله: أنا وهم ضامنون بإذن المالك اهـ
فتح. وأفتى الشيخ زكريا بأنه لو كان شخص له خبرة بقطع الظفرة من أعين الدواب فقال
له آخر: اقطع ظفرة عين ثوري فقطعها فعميت لم يضمن اهـ.
(مسألة: ش): أعتق العبد جماعة حملوا عنه كل سنة في ديه نحو الخطأ ما يحمله
المعتق الواحد وهو نصف دينار إن كانوا أغنياء، وربعه إن كانوا متوسطين، يقسم بينهم
على قدر حصصهم، خلافاً لما توهمه نسخ العباب.
(مسألة: ش): جنى أحد الإخوة على بعض الآخرين خطأ كان كل الأرش على عاقلة
الجاني الذين هم بقية الإخوة غير المجني عليه، فلا يلزمه شيء من الأرش، إذ لو لزمه
لكان له، والشخص لا يثبت له في ذمة نفسه شيء ابتداء ولا دواماً، كما لو زوج السيد
أمته بعبده لا يلزم العبد مهر، إذ لو لزم لكان لسيده، والسيد لا يثبت له في ذمة
عبده دين.
(مسألة: ش): دعوى
البكر أن شخصاً افتضها دعوى جرح، فاليمين فيه في جانب المدعى عليه ككل دعوى، سواء
كان لوث كأن وجدا في خلوة وصاحت حال الإكراه أم لا، إذ اليمين لا تكون في جانب
المدعي مطلقاً إلا في القسامة في القتل فقط، مع وجود اللوث المغلب للظن اقتصاراً
على الوارد، فحينئذ إن أوجبت الدعوى قصاصاً، كأن ادعت امرأة على أخرى أنها أزالت
بكارتها عمداً، فلا بد من شاهدين أو مالاً بأن كانت خطأ أو عمداً من رجل كفى فيها
رجل وامرأتان، أو يمين المدعي، أو أربع نسوة، إذ لا يطلع على ذلك إلا النساء
غالباً، وصفة الشهادة أن يقول: أشهد أن فلاناً أزال بكارة فلانة عمداً أو شبهة أو
خطأ على وفق الدعوى، ولا يشترط تعرضه لما أزيلت به البكارة من ذكر أو نحو أصبع،
فإن لم تكن بينة فالقول قول المنكر فيحلف خمسين يميناً، لأن حلف الجرح كالنفس وإن
قل واجبه، ولم تكن ديته مقدرة، فإن نكل حلف المدعي المردودة خمسين أيضاً وثبت
الواجب قصاصاً أو غيره.
أحكام البغاة والإمامة العظمى
(مسألة): لقاضي الخوارج المتغلب حكم قاضي السنة، فحيث نفذ قضاء قاضينا بأن
لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً نفذ قضاء قاضيهم، وحيث لا فلا، لأن
هؤلاء ونحوهم من فرق المبتدعة الذين لا يكفرون ببدعتهم بغاة لوجود الشروط فيهم،
وشهادة البغاة مقبولة، وقضاء قاضيهم نافذ، كما ينفذ قضاء الفاسق ونحوه للضرورة.
(مسألة: ك): تنعقد الإمامة إما ببيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء
ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم، أو باستخلاف إمام قبله، أو باستيلاء ذي الشوكة
وإن اختلت فيه الشروط كلها، فحينئذ من اجتمعت فيه الشروط التي ذكروها في الإمام الأعظم
فهو إمام أعظم، وإلا فهو متولّ بالشوكة، فله حكم الإمام الأعظم في عدم انعزاله
بالفسق، فيزوّج بناته وإن لم يكن لهنّ وليّ خاص غيره كبنات غيره بالولاية العامة
وإذا قلنا لم يؤثر الفسق في حقه فيوكل غيره، لكن يشترط في وكيله وقاضيه ما يشترط
في وكيل غيره، وإلا لم تصح توليته، ولا تنفذ أحكامه على الراجح، نعم إن ولاه مع
علمه بفسقه أو فسق بعد وعلمه الإمام نفذت للضرورة، وأمراء البلدان يسمعون إماماً
أعظم لما ذكر في انعقاد الإمامة.
(مسألة: ي): لا تزول ولاية السلطان الذي انعقدت ولايته ببيعة أو عهد متصل
بمن انعقدت ولايته بزوال شوكته، حتى يخلع نفسه أو يخلع بسبب، أو يأسره الكفار
وييأس من خلاصه، أما من كانت ولايته بتغلب أو عهد متصل بمتغلب كغالب ولاة الزمان
فنفوذ ولايته مدة بقاء شوكته ولو ضعيفة لا بعد زوالها، فلو بقيت في بعض البلاد
نفذت فيما بقيت فيه فقط، وحيث قلنا بنفوذ ولايته فهو مقدم على أهل الحل والعقد إن
كان مسلماً، بل لا تنفذ توليتهم نحو القضاء من غير إذنه إلا إن تعذر فتنفذ مدة
التعذر، ومعنى ذي الشوكة انقياد الناس وطاعتهم وإذعانهم لأمره، وإن لم يكن عنده ما
عند السلطان من آلة الحرب والجند ونحوهما مما تقع به الرهبة، كرؤساء البلد، ورئيس
الجماعة، وصاحب الحوطة المطاع على وجه الاعتقاد والاحتشام، فسبب الانقياد لهم مقتض
لصحة نصب القضاة والنوّاب وإن لم تكن شوكة، أما ذو الشوكة الكافر، فإن كان منقاداً
لأمر نائب البلد المسلم خوفاً أو وفاء بعهد أو احتشاماً، فتولية القضاء بإذن ذلك
النائب أو الكافر الذي عهد إليه تولية القضاء تصريحاً أو تلويحاً، وإن لم يكن
منقاداً لأمر النائب فتولية القضاء لأهل الحل والعقد، ولا يتوقف على إذن الكافر إذ
هم مأمورون بخلعه ولا تلزمهم طاعته، بل لا يجوز الانقياد له اختياراً، ويلزمهم
إقامة إمام يخرجه، نعم لو ولى الكافر قاضياً ولم يمكن إلا طاعته للخوف نفذت توليته
للضرورة.
الردة
[فائدة]: صرح الأئمة بتكفير من قال لكافر جاء ليسلم: اذهب فاغتسل، أي إن
كان ممن لا يخفى عليه، بل يلزمه قطع الصلاة لذلك قياساً على إنقاذ الغريق، بل هذا
أعظم لأن فيه إنقاذاً من الخلود في النار اهـ باجوري.
(مسألة: ش): حكم عليه حاكم فتبرم فقال استهزاء: ليس هذا الشرع بشيء قط كفر،
كما لو قال لفتوى: أيّ شيء هذا الشرع، أو قيل له احضر مجلس العلم فقال: ما هذا
بشيء، أو قال: قصعة من ثريد خير من العلم، فحينئذ تجري عليه أحكام المرتدين من الاستتابة
وغيرها، نعم إن قال: لم أرد الشرع بل أردت الحكم عليّ ظننته غير مستند إلى جهة
تقتضيه عزر تعزيراً بليغاً زاجراً لمثله عن إطلاق مثل هذا القول، ومن تأمل أحوال
أهل الزمان لم يشك في استخفافهم بالشرع وحملته وبالفقه وخدمته.
(مسألة: ي): حاصل ما
ذكره العلماء في التزيي بزي الكفار أنه إما أن يتزيا بزيهم ميلاً إلى دينهم
وقاصداً التشبه بهم في شعائر الكفر، أو يمشي معهم إلى متعبداتهم فيكفر بذلك فيهما،
وإما أن لا يقصد كذلك بل يقصد التشبه بهم في شعائر العيد أو التوصل إلى معاملة
جائزة معهم فيأثم، وإما أن يتفق له من غير قصد فيكره كشد الرداء في الصلاة.
(مسألة: ش): المبتدعة
قسمان: قسم يكفر ببدعته كمنكري علم الله بالجزئيات، ومعتقدي قدم العالم والمجسمة،
وكالإسماعيلية المعتقدين كون الرسالة لعليّ وعدم براءة عائشة ومكفري الصحابة رضي
الله عنهم، فهؤلاء لهم حكم الكفار فلا تحل مناكحتهم ولا ذبيحتهم. وقسم لا يكفرون
كالمعتزلة والقدرية والزيدية، وفرقة من الحنابلة اعتقدوا التجسيم لكن ليس كسائر
الأجساد فتكره مناكحتهم خروجاً من خلاف من حرمها.
(مسألة: ك): رجل ألزم الأمة متابعته، وادعى الاجتهاد المطلق وكفر من خالفه،
واستحل دمه وعرضه، فهذا المدعي قد تعرض لخطر عظيم بتكفيره للمسلمين، فقد صح عنه
عليه الصلاة والسلام: "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها
أحدهما". وقال الشيخان وغيرهما: "إذا قال لمسلم يا كافر بلا تأويل
كفر" لأنه سمى الإسلام كفراً، بل قضية كلام الغزالي وأبي إسحاق وابن دقيق
العيد وغيرهم أنه لا فرق بين أن يؤول أم لا، واستحلاله الدم والعرض أقبح لما صح
أنه قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله" الحديث،
فكيف ساغ لهذا الرجل استحلال ما لم يحل له عليه الصلاة والسلام وقد قال: "ما
أمرت أن أشق على القلوب". ومن أثبت الشرك والكفر في المدينة المنوّرة بل أو
في جزيرة العرب عامة فإثمه ظاهر وأمره مخطر، بل يخشى عليه الكفر كما قدمناه فيمن
كفر مسلماً، وإجماع المسلمين حجة، قال الله تعالى: {ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله
ما تولى} الآية، فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية من الغنم، ومن شذ فهو في
النار.
(مسألة: ك): جعل الوسائط بين العبد وبين ربه، فإن صار يدعوهم كما يدعو الله
في الأمور ويعتقد تأثيرهم في شيء من دون الله تعالى فهو كفر، وإن كان نيته التوسل
بهم إليه تعالى في قضاء مهماته، مع اعتقاد أن الله هو النافع الضارّ المؤثر في
الأمور دون غيره، فالظاهر عدم كفره وإن كان فعله قبيحاً.
(مسألة: ش): انهمك
الحاكم في المعاصي وأكل الرشا فسق وانعزل ولا يكفر إلا إن استحل مجمعاً على تحريمه
معلوماً من الدين بالضرورة، فحينئذ ينفسخ نكاحه ويوقف على انقضاء العدة إن كانت،
والقول بتكفير أهل الكبائر رأي الخوارج وكثير من الظاهرية وليس من شأن أهل السنة،
وأما قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} فمحمول على كفر
النعمة أو المستحل، وينبغي للمفتي أن يحتاط في التكفير ما أمكنه، لأن الإيمان محقق
فلا يرتفع إلا بيقين.
الحدود والتعزير
(مسألة: ك): لا تتوقف توبة الزاني أو القاتل على تسليم نفسه للحد وإن تحتم
بثبوته عند الحاكم، بل لا تتوقف حتى في حق الآدمي الواجب تسليم نفسه، فإذا ندم صحت
توبته في حق الله تعالى، وبقيت معصية حق الآدمي، وهي لا تقدح في التوبة بل تقتضي الخروج منها،
وينبغي لمن أتى معصية الستر حيث لم يعلم القاضي وإلا ندب له تسليم نفسه للحد.
(مسألة): ملخصة مع
زيادة من الإكسير العزيز للشريف محمد بن أحمد بن عنقاء في حديث: الولد للفراش الخ،
إذا كانت المرأة فراشاً لزوجها أو سيدها فأتت بولد من الزنا كان الولد منسوباً
لصاحب الفراش لا إلى الزاني، فلا يلحقه الولد ولا ينسب إليه ظاهراً ولا باطناً وإن
استلحقه، ومن هنا يعلم شدة ما اشتهر أنه إذا زنى شخص بامرأة وأحبلها تزوّجها
واستلحق الولد فورثه وورّثه زاعماً سترها، وهذا من أشد المنكرات الشنيعة التي لا
يسع أحداً السكوت عنها، فإنه خرق للشريعة ومنابذة لأحكامها، ومن لم يزله مع قدرته
بنفسه وماله فهو شيطان فاسق ومداهن منافق، وأما فاعله فكاد يخلع ربقة الإسلام لأنه
قد أعظم العناد لسيد الأنام، مع ما ترتب على فعله من المنكرات والمفاسد، منها
حرمان الورثة وتوريث من لا شيء له مع تخليد ذلك في البطون بعده، ومنها أنه صير ولد
الزنا باستلحاقه كابنه في دخوله على محارم الزاني، وعدم نقض الوضوء بمسهنّ أبداً،
ومنها ولايته وتزويجه نساء الزاني كبناته وأخواته ومن له عليها ولاية من غير مسوغ
فيصير نكاحاً بلا وليّ، فهذه أعظم وأشنع، إذ يخلد ذلك فيه وفي ذريته، ويله فما
كفاه أن ارتكب أفحش الكبائر حيث زنى حتى ضم إلى ذلك ما هو أشد حرمة منه وأفحش
شناعة، وأيّ ستر وقد جاء شيئاً فرياً، وأحرم الورثة وأبقاه على كرور الملوين، وكل
من استحل هذا فهو كافر مرتدّ خارج عن دين الإسلام، فيقتل وتحرق جيفته أو تلقى
للكلاب، وهو صائر إلى لعنة الله وعذابه الكبير، فيجب مؤكداً على ولاة الأمور زجر
فاعلي ذلك وتنكيلهم أشد التنكيل وعقابهم بما يروعهم، وقد علم بذلك شدة خطر الزنا
وأنه من أكبر الكبائر.
(مسألة: ي): حملت امرأة وولدت ولم تقرّ بالزنا لم يلزمها الحد، إذ لا يلزم
الحد إلا ببينة أو إقرار أو لعان زوج، أو علم السيد بالنسبة إلى قنة، إذ قد توطأ
المرأة بشبهة أو وهي نائمة أو سكرانة بعذر أو مجنونة أو مكرهة، أو تستدخل منياً من
غير إيلاج، ونحو ذلك فتحبل منه ولا يوجب حداً للشبهة، فعلم أن كل امرأة حملت وأتت
بولد إن أمكن لحوقه بزوجها لحقه ولم ينتف عنه إلا باللعان، وإن لم يمكن كأن طالت
غيبة الزوج بمحل لا يمكن اجتماعهما عادة، كان حكم الحمل كالزنا بالنسبة لعدم وجوب
العدة وجواز إنكاحها ووطئها، وكالشبهة بالنسبة لدرء الحد والقذف واجتناب سوء الظن،
نعم إن كانت قليلة الحياء والتقوى، كثيرة الخلوة بالأجانب والتزين لهم وتحدث الناس
بقذفها، عزرها الإمام بما يزجر أمثالها عن هذا الفعل.
[فائدة]: زنى كافر ثم أسلم حد على المعتمد عند (م ر) خلافاً لابن حجر
والخطيب حيث قال بسقوطه اهـ بج.
[فائدة]: يحرم على
الشخص سرقة مال غيره على وجه المزج لأن فيه ترويعاً لقلبه اهـ ح ل.
(مسألة: ي): من سبّ
أحداً من أهل البيت النبوي بنحو يا بانصت فسق واستحق التعزير الشديد، بل إن أراد
بذلك سبّ جميع قبيلته الشامل لجميع بني هاشم كفر وقتل بكفره، فإن رجع للإسلام تحتم
تعزيره، بل قال أبو حنيفة وأحمد: يتحتم قتله مطلقاً وإن تاب، وذلك لأنه سبّ النبي
واجترأ على منصبه الشريف وهو كفر بالإجماع.
(مسألة: ب): لطم رقيق آخر كان التعزير على العبد اللاطم لا سيده بما يراه
الحاكم أو المحكم من حبس أو ضرب أو إركابه حماراً معكوساً ونحوه، ولا يتولاه
المظلوم، ولا يجوز التعزير بأخذ المال عندنا، هذا إن ثبت ببينة، وإلا فعلى العبد
لا سيده أيضاً يمين الإنكار حيث لم يقرّ.
(مسألة: ك): ليس إتيان
الحليلة في دبرها بزنا ولا لواط، بل هو صغيرة لا يفسق مرتكبه إلا إن تكرر منه، ولم
تغلب طاعته معاصيه، ولا يعزر عليه إلا إن نهاه الإمام.
[فائدة]: قال في النهاية: لو استقل المقذوف بالاستيفاء للحد ولو بإذن
الإمام لم يقع الموقع، نعم لو تعذر عليه الرفع إلى السلطان استوفاه إن أمكن مع
رعاية المشروع ولو بالبلد كما قاله الأذرعي اهـ. وقوله السلطان أي أو من يقوم
مقامه، وخرج بالحد التعزير فلا يستوفيه مستحقه مطلقاً لاختلافه باختلاف الناس إذ
ربما يتجاوز الحد اهـ ع ش.
الصيال وإتلاف البهائم
[فائدة]: قال المحب الطبري في كتابه التفقيه: يجوز قتل عمال الدولة
المستولين على ظلم العباد إلحاقاً لهم بالفواسق الخمس، إذ ضررهم أعظم منها، ونقل
الأسنوي عن ابن عبد السلام أنه يجوز للقادر على قتل الظالم كالمكاس ونحوه من
الولاة الظلمة أن يقتله بنحو سمّ ليستريح الناس من ظلمه، لأنه إذا جاز دفع الصائل
ولو على درهم حتى بالقتل بشرطه فأولى الظالم المتعدي اهـ.
(مسألة: ش): يجرم ترويع المسلم وغيره ولو على وجه المزاح لما ورد من النهي
عنه اهـ. وفي الحديث الحسن: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يروّعن
مسلماً" اهـ بج.
(مسألة): عضت يده
خلصها بفك لحي فبضرب فم فسلّ يد فعض ففقء عين فقلع لحي فعصر خصية فشق بطن، فمتى
انتقل لمرتبة مع إمكان أخف منها ضمن نظير ما مر، نعم إن ظن أنه لو رتب أفسدها
العاضّ قبل تخليصها من فيه فبادر فسلها فندرت أسنانه فهدر لما في الصحيحين أنه قضى
في ذلك بعدم الدية، والعاضّ المظلوم في هدر أسنانه كالظالم لأن العض لا يجوز بحال،
ولو تنازعا في أنه أمكنه الدفع بشيء فعدل لأغلظ منه صدق المعضوض كما جزم به في
البحر، قال الأذرعي: وليكن الحكم كذلك في كل صائل، نعم لو اختلفا في أصل الصيال لم
يقبل قول نحو القائل إلا ببينة أو قرينة ظاهرة، كدخوله عليه بالسيف مسلولاً،
وإشرافه على حرمه، قاله في التحفة والنهاية.
(مسألة: ش): صالت بهيمة على زرعه، فأمر آخر بربطها مع أخرى، فكسرتها الأخرى
بسبب الربط، لزم رابطها أرشها ما بين قيمتها صحيحة ومكسورة لا الآمر، إلا إن أكره
المأمور، أو أمر غير مميز، أو أعجمياً يرى وجوب طاعة آمره فعليه فقط، وعلى مالك
البهيمة لصاحب الزرع قيمة ما أتلفته إن سرحها ليلاً والزرع في الصحراء، ولم يقصر
مالكه بفتح محوط إن كان، وكذا نهاراً وهو معها مع غيبة صاحب الزرع، وإلا فلا ضمان
للعادة الغالبة، فلو انعكست بأن حفظ الزرع ليلاً والدابة نهاراً انعكس الحكم، كما
لو جرت العادة بحفظها فيها ضمن فيهما، وقياسه لو جرت بعدم حفظها فيهما لم يضمن،
ويضمن بإرسال الدابة في البلد مطلقاً.
[فائدة]: قال في الفتح في مبحث متلف البهيمة: وخرج بسرحها ما لو سرحت
بنفسها بلا تقصير، بأن انهدم الجدار، أو فتح لص الباب، أو قطعت الحبل المحكم فلا
يضمن متلفها مطلقاً.
الجهاد وفروض الكفاية
(مسألة: ي): اختلف العلماء في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال
أحمد: إنه كفر، وقال بعض أئمتنا: إنه كبيرة، وفصل بعضهم فقال: إن كان ترك المعروف
وفعل المنكر كبيرة فالترك حينئذ كبيرة وإلا فصغيرة، فعليه من رأى تارك صلاة فلم
يأمره، أو زانياً فلم ينهه، فقد ارتكب كبيرة اتفاقاً، ومن رأى مستعمل الحرير
والنقدين استعمالاً محرماً فلم ينهه فقد ارتكب كبيرة عند من يرى أنه كبيرة وهو ابن
حجر في الزواجر و ع ش، وصغيرة عند من يراه كذلك وهو المعتمد في التحفة في باب
الردة، ورجحه المناوي ولم يقيد حرمة لبس الحرير بالمداومة على كلا القولين، لكن
إذا قلنا إنه صغيرة فإنما يفسق مستعمله، وتارك النهي إن داوم عليه مداومة زادت
بنفسها، أو مع صغائر أخرى على نوافل طاعاته، وليس لعامي يجهل حكم ما رآه أن ينكره
حتى يعلم من فاعله أنه حال ارتكابه حتى يعلم أنه مجمع عليه أو في اعتقاد الفاعل،
ولا لعالم أن ينكر مختلفاً فيه حتى يعلم من فاعله أنه حال ارتكابه معتقد تحريمه
لاحتمال أنه قلد من يرى حله أو جهل حرمته.
(مسألة: ج): ونحوه ي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قطب الدين، فمن قام
به من أيّ المسلمين وجب على غيره إعانته ونصرته، ولا يجوز لأحد التقاعد عن ذلك
والتغافل عنه وإن علم أنه لا يفيد، وله أركان: الأوّل المحتسب وشرطه الإسلام
والتمييز، ويشترط لوجوبه التكليف، فيشمل الحر والعبد، والغني والفقير، والقوي
والضعيف، والدنيء والشريف، والكبير والصغير، ولم ينقل عن أحد أن الصغير لا ينكر
على الكبير وأنه إساءة أدب معه،
بل ذلك عادة أهل الكتاب، نعم شرط قوم كونه عدلاً، ورده آخرون، وفصل بعضهم بين أن
يعلم قبول كلامه أو تكون الحسبة باليد فيلزمه وإلا فلا وهو الحق، ولا يشترط إذن
السلطان. الثاني: ما فيه الحسبة وهو كل منكر ولو صغيرة مشاهد في الحال الحاضر،
ظاهر للمحتسب بغير تجسس معلوم، كونه منكراً عند فاعله، فلا حسبة للآحاد في معصية
انقضت، نعم يجوز لمن علم بقرينة الحال أنه عازم على المعصية وعظه، ولا يجوز التجسس
إلا إن ظهرت المعصية، كأصوات المزامير من وراء الحيطان، ولا لشافعي على حنفي في
شربه النبيذ، ولا لحنفي على شافعي في أكل الضب مثلاً. الثالث: المحتسب عليه ويكفي
في ذلك كونه إنساناً ولو صبياً ومجنوناً. الرابع: نفس الاحتساب وله درجات:
التعريف، ثم الوعظ بالكلام اللطيف، ثم السب والتعنيف، ثم المنع بالقهر، والأولان
يعمان سائر المسلمين، والأخيران مخصوصان بولاة الأمور، زاد ج: وينبغي كون المرشد
عالماً ورعاً وحسن الخلق، إذ بها تندفع المنكرات وتصير الحسبة من القربات، وإلا لم
يقبل منه، بل ربما تكون الحسبة منكرة لمجاوزة حدّ الشرع، وليكن المحتسب صالح
النية، قاصداً بذلك إعلاء كلمة الله تعالى، وليوطن نفسه على الصبر، ويثق بالثواب
من الله تعالى.
إذا علمت ذلك فتقول: حكم أهل الحرف والصناع والسوقة في اختلاطهم الرجال
بالنساء مع حرفهم، وفي الأسواق والطرق مع كشف الوجوه وبعض الأبدان من النساء، من
المنكرات المألوفة في العادة على المعتمد عند النووي، وغيره، فحينئذ يجب على
الوالي أو منصوبه إنكارها بحسب المراتب المتقدمة، فيعرّف أولاً بأن ذلك حرام لا
يجوز فعله بكلام لطيف إن أجدى، ثم بالسب والتعنيف نحو: يا جاهل يا فاسق، وليتوعده
بالعقوبة ثم يعاقبه بالضرب، ولا يبلغ به جداً، فلا يبلغ الحرّ أربعين سوطاً
والأولى عشرة، وإن أراد التعزير بالحبس وذلك حيث كانت المعاقبة لترك واجب كترك
التعلم يحبس حتى يتعلم، وإلا فلا يزيد على ستة أشهر، والأوسط شهر، والأقل ثلاثة
أيام، ويجتهد ما بين ذلك حسب المنكر، ويعاقب كلاً بما يليق به، فيكفي التهديد لذوي
الهيئة، ويغتفر له المرة والمرتان لحديث: "أقيلوا ذوي الهيئات" الخ،
المراد بهم في هذا الزمان من غلبت طاعاته سيئاته، فإن لم يجد عزر في مكان لائق به
بحيث لا يعير به، فإن أصر عزر بالإشهار، وأما غير ذوي الهيئة فيعزر بالضرب غير
المبرح أو الحبس، والأول أولى بجنس المنهيات، والثاني لترك المأمورات، ويقطع مادة
ذلك أن يأمر الوالي النساء بستر جميع بدنهن، ولا يكلفن المنع من الخروج إذ يؤدي
إلى إضرار، ويعزم على الرجال بترك الاختلاط بهنّ لا سيما في الخلوة، وعلى الوالي
وجوباً حمل الناس على إقامة الجمعة والجماعة في المكتوبات، إذ هما من أعظم شعائر
الدين، ولا يأثم من تخلف عن الجماعة إن قام الشعار بغيره إلا من حيث مخالفة أمر
الوالي، فيعاقب بحسب ما يقتضيه حاله، وعليه أيضاً حمل أهل الحرف ونحوهم على تعلم
ما لا بد من فروض الصلاة، إذ أكثرهم لا يحسنونها ولا يعرفون ما تصح به وما لا،
ويلزمهم بذلك بأجرة منهم لمن يعلمهم إن لم يوجد متبرع، إذ هي أهم أركان الإسلام،
ولا فرق بين من يصلي ولا يحسن ومن يتركها، ولا يكلفون حضور مجالس الذكر والتذكير
إذا عرفوا الواجب، من كل مأمور به أو منهي عنه من أركان الإسلام وغيرها، فكم من
واجب تاركيه، وحرام مرتكبيه، كالسرقة والربا الذي فشا، وتسلط به المعاملون على
الضعفاء والمساكين، وهل أقبح من هذا الذنب وأشدّ منه؟ وكالتحاكم إلى الطاغوت في
الأمور التي تنوبهم وتعرض لهم من غير إنكار ولا حياء من الله تعالى ولا من عباده،
وهذا أمر معلوم، ولا يقدر أحد على إنكاره، ولا شك أن هذا كفر بالله تعالى
وبشريعته، وكقطع بعض الورثة عن إرثه، وأكل الأوقاف ووضعها في غير موضعها، فيجب على
الوالي خاصة وكل قادر عامة منابذتهم حتى يرجعوا إلى حكم الله تعالى، ومعلوم أن من
جرد نفسه لجهاد هؤلاء، واستعان بالله، وأخلص له النية، فهو منصور وله العاقبة، كما
في غير آية من الكتاب العزيز، فإن ترك من هو قادر على ذلك جهادهم تعرض لنزول
العقوبة به وبهم، كما هو مشاهد من تسلط الكفر على أهل الإسلام، وتسلط الظلمة، بسبب
عدم التناهي بينهم، وعلى الوالي أيضاً تفقد العامة وكل من لا يشتغل بالعلم، حكمه
حكم العامة في دينه، بل هو واحد منهم، وإن كان له نسب شريف وبيت رفيع، وربما يظن
هذا بنفسه أنه داخل في الخاصة، متعلق بشيء من الولايات، وهو يخبط خبط عشواء، ويظلم
العباد والبلاد جهلاً أو تجاهلاً، وجزاؤه على الله تعالى، فالواجب على الولي
افتقاد هؤلاء، والبحث عن مباشرتهم وكيفية معاملتهم، ومن يتولون عليه، بل لو كان
المتولي على ذلك من أهل العلم فلا بد من تفقده والنظر فيما هو مسؤول عليه، إذ ليس
معصوماً، لا سيما إذا خالفه غيره من أهل العلم فالحق مع أحدهما، فليرجع إلى سؤال
العلماء الظاهرين بالولاية الشائع عنهم ترك الدنيا.
[فائدة]: قال ابن حجر في الجوهر المنظم في زيارة القبر المعظم: تنبيه يتعين
على من كان بمسجد رسول الله ومن ببلده الشريف أن يزيل ما أمكنه من منكر يراه لا
سيما ما فيه ترك الأدب معه مما يؤدي إلى محذور، فإن من علامات المحبة غيرة المحب،
وأقوى الناس ديانة أعظمهم غيرة، وما خلا عن الغيرة أحد إلا لخلوّه عن المحبة
وامتلائه بالمخالفة، فيخشى عليه الحرمان والقطيعة والخسران، أعاذنا الله من ذلك
بمنه وكرمه آمين اهـ.
(مسألة: ك): من الحقوق الواجبة شرعاً على كل غني وحده من ملك زيادة على
كفاية سنة له ولممونه ستر عورة العاري وما يقي بدنه من مبيح تيمم، وإطعام الجائع،
وفك أسير مسلم، وكذا ذمي بتفصيله، وعمارة سور بلد، وكفاية القائمين بحفظها،
والقيام بشأن نازلة نزلت بالمسلمين وغير ذلك، إن لم تندفع بنحو زكاة ونذر وكفارة
ووقف ووصية وسهم المصالح من بيت المال لعدم شيء فيه أو منع متوليه ولو ظلماً، فإذا
قصر الأغنياء عن تلك الحقوق بهذه القيود جازه للسلطان الأخذ منهم عند وجود المقتضى
وصرفه في مصارفه.
[فائدة]: نظم زين الدين العراقي مسقطات رد السلام فقال:
سلامك مكروه على من ستسمع
>< وفي غير ما أبدى يسنّ ويشرع
مصلّ وتال ذاكر ومحدّث ><
خطيب ومن يصغي إليهم ويسمع
مكرر فقه جالس لقضائه ><
ولاعب شطرنج عسى هو يرجع
ودع كافراً أيضاً ومكشوف عورة >< ومن هو في حال التغوط
أشنع
ودع آكلاً إلا إذا كنت جائعاً
>< وتعلم منه أنه ليس يمنع
وقال آخر في الأحوال المكروه فيها السلام:
ردّ السلام واجب إلا على
>< من في صلاة أو بأكل شغلا
أو شرب أو قراءة أو أدعية
>< أو ذكر أو في خطبة أو تلبية
أو في قضاء حاجة الإنسان
>< أو في إقامة أو الأذان
أو سلم الطفل أو السكران
>< أو شابة يخشى بها افتتان
أو فاسق أو ناعس أو نائم
>< أو حالة الجماع أو محاكم
أو كان في الحمام أو مجنوناً
>< فهي اثنتان قبلها عشرونا
[فائدة]: أفتى الشيخ زكريا بندب السلام على المشتغل بالوضوء ووجوب الرد
عليه في مختصر الأنوار، ويصح السلام بالأعجمية إن فهمها المخاطب وإن قدر على
العربية، ويجب الجواب، ومن لا يستقيم نطقه يسلم كيف أمكنه، ويحرم على أهل الذمة
ويندب عند المفارقة ويجب به الرد.
(مسألة: ب): لا يندب السلام على نحو المصلي، ولا على نائم انتبه بين
حاضرين، ولا منه عليهم أيضاً.
[فائدة]: يسن إرسال
السلام إلى الغائب، ويجب به الرد فوراً باللفظ في الرسول، وبالكتابة بالكتاب، ويسن
الرد على المبلغ فيقول: وعليه وعليك السلام، والظاهر أنه لو قدم وعليك لم يكف
ويحتمل خلافه اهـ إمداد. وفي التحفة فيقول: وعليك وعليه السلام، وقوله بالكتابة في
الكتاب ظاهر عبارة التحفة الاكتفاء باللفظ أو الكتابة في ذلك اهـ.
(فرع): إذا أرسل السلام مع غيره إلى آخر، فإن قال: سلم لي على فلان، فقال
الرسول: فلان يقول: السلام عليك أو السلام عليك من فلان وجب الرد، وحاصل ذلك أنه
لا بد في الاعتداد به لوجوب الرد من صيغة من المرسل أو الرسول، فلو قال المرسل:
سلم لي على فلان، فقال الرسول لفلان: زيد يسلم عليك، فلا اعتداد به ولا يجب به
الرد، نقله (م ر) عن والده، وهل يجب استفصاله أم لا؟ ونقل المحشي عن (م ر) أنه يجب
الرد على من قال: فلان يسلم عليك حملاً له على إتيانه بصيغة سلام شرعية، ومحل عدم
الوجوب إذا علم أنه لم يأت بها، ويلزم الرسول الإبلاغ وله رد المتحمل بحضرة المرسل
لا غيبته إذ لا يعقل حينئذ، نعم لو جاءه في كتاب: سلم لي على فلان، فله رده فوراً
لأنه لم يحصل منه تحمل اهـ سم اهـ جمل.
(مسألة: ش): لا يجب قتال الكفار حيث لم يتعين بدخول بلد الإسلام إلا بشرط
أن لا يكون له عذر، وأن يحضر الصف، وأن لا يزيد العدوّ على الضعف زيادة مؤثرة
كمائة شجاع بضعفها وواحد بخلافها بضد الشجعان، فلا أثر لزيادة الواحد والاثنين من
العدو حينئذ، ومن العذر فقد آلة الحرب، فلا يلزمه الثبات في الصف فضلاً عن غيره،
ويعتبر في الآلة بحيث تحصل بها مقاومة العدوّ عرفاً، فلا أثر للحجر مع من يرمي
بالبندق، ويجوز الهرب قبل التصافّ مطلقاً، ولو فرض قهر الكفار لمن لا يملك من أمره
شيئاً فمعذور، فإن أمكنه الدفع حرم الاستسلام، إلا إن توقع من الأسر السلامة ولو
بالفداء، ولم يخف نحو زنا به فهو أولى من القتال بلا فائدة، وأولى منه الهرب وإن
فرض أن معه سلاحاً.
(مسألة: ش): أسلم الأسير الكافر عصم دمه، وإن اختار الإمام قتله قبل
الإسلام إجماعاً، كما أن رجوع الزاني عن إقراره بعد حكم الحاكم برجمه يسقطه لما في
الأحاديث الصحيحة المتواترة، إذ هي نص في أن قتال الكافر وقتله ملغيان بوجود
إسلامه حربياً أو مرتداً، ولو بقذف نبيّ على المعتمد، على أن اختيار الإمام قتله
إنما هو بإيجاده، فمن ثم لا يحتاج إلى لفظ كالمنّ، بخلاف الاسترقاق والفداء، فتحصل
أن إسلام الأسير لا أثر له في اختيار منّ أو رقّ أو فداء قبله، بل يتعين ذلك
المختار، وأن إسلامه يلغي اختيار قتله فقط.
الأمان والهدنة والجزية
(مسألة: ي): كل محل قدر مسلم ساكن به على الامتناع من الحربيين في زمن من
الأزمان يصير دار إسلام، تجري
عليه أحكامه في ذلك الزمان وما بعده، وإن انقطع امتناع المسلمين باستيلاء الكفار
عليهم ومنعهم من دخوله وإخراجهم منه، وحينئذ فتسميته دار حرب صورة لا حكماً، فعلم
أن أرض بتاوي بل وغالب أرض جاوة دار إسلام لاستيلاء المسلمين عليها سابقاً قبل
الكفار.
(مسألة: ك): إقامة
المسلمين بدار الكفر على أربعة أقسام: إما لازمة بأن قدروا على الامتناع من الكفر
والاعتزال عنهم ولم يرجوا نصرة المسلمين، لأن موضعهم دار إسلام، فإذا هاجروا صارت
دار حرب، أو مندوبة بأن أمكنهم إظهار دينهم ورجي ظهور الإسلام هناك، أو مكروهة بأن
أمكنهم ولم يرجوا ذلك، أو حرام بأن لم يمكنهم إظهار دينهم، فحينئذ إذا كان في إظهار
الدين وأحكام المسلمين من حدود وغيرها هلاك البلاد وقتل المسلمين بسبب أنه يتعاطاه
الوالي الكافر ولا يفوضه إلى حكم الإسلام، حرمت الإقامة عندهم ووجبت الهجرة إلا
لعاجز لا يقدر عليها فيعذر، بل لو لم يأمن منهم في حاله وماله إلا بإعطائهم شيئاً
كل سنة كالجزية عكس القضية جاز الإعطاء للضرورة، بل وجب إن خيف ضرر على المسلمين،
ومن ظلمه كافر بأخذ شيء منه قهراً جاز له أخذ قدر ظلامته من ماله على التفصيل في
مسألة الظفر.
(مسألة: ج ك): استدان من أهل الحرب بعد أن دخل بلادهم بأمانهم استقرّ بذمته
ولزمه رده ولو بأجرة، كما تحرم حينئذ سرقتهم واغتيالهم، كأسير أطلقوه بشرط أمنه
على نفسه، بل أولى بخلاف ما لو أقرّ بغير أمان أو دخل مختفياً، فما يأخذه بأي نوع
سرقة أو اختلاساً أو غيرهما يكون غنيمة مخمسة، زاد ج: ومثل دين الكافر المبتدع
كرافضي بل هذا مسلم لا يشترط فيه الأمان، بل لا يجوز أخذ مال هذا بالحيلة
والاغتيال والسرقة، لأن الصحيح أن أهل البدع كالمجسمة مسلمون، وقبلتنا من أمّها لا
يكفر.
(مسألة: ك): أطلق السلطان عقد الأمان حمل على أربعة أشهر، فلو زاد عليها
فإن كان مع امرأة وخنثى صح مطلقاً، أو مع ذكر صح فيها وبطل في الزائد، نعم إن كان
بنا ضعف جازت الزيادة بنظر الإمام إلى عشر سنين لا فوقها، وإن دعت إليه حاجة وحيث
انتفى العقد بلغ المأمن، ولم يجز اغتيالهم وإرقاقهم قبل ذلك، إذ حكم فاسد العقود
كصحيحها، ولو دخل الكفار بلادنا لتجارة وأقاموا سنين وعلم السلطان وسكت فلم ينههم
ولا أمرهم لكنه نهى عن ظلمهم وقتلهم، فالذي يظهر أنه حيث دخلوا معتمدين على العادة
المطردة من منع السلطان من أخذ أموالهم وقتل نفوسهم وظنوا أن ذلك عقد مأمن صحيح لم
يجز اغتيالهم ولو بسبب دين عليهم، بل يجب تبليغهم المأمن، وإن انتفى شرط من ذلك
جاز الاغتيال والإرقاق مطلقاً.
(مسألة: ك): يجوز عقد الجزية مع اليهود
والنصارى والمجوس، ومن تمسك بدينهم قبل نسخه، ومن أحد أبويه كتابي، ومن زعم أنه
ممن تعقد له الجزية، لا الوثني والفلسفي والمعطل ونحوهم فلا يقبل منهم إلا الإسلام
أو السيف، فلو عقدها الإمام لهم فعقد فاسد يلزم به كل سنة دينار، إذ هو أقلها على
كل ذكر بالغ كعقد الجزية الفاسد، بخلاف ما لو بطل كأن عقدها الآحاد فلا يلزم به
شيء، وحكم هؤلاء الكفار حكم المؤمنين لا يجوز التعرض لهم حتى يبلغوا المأمن، وما
أخذ منهم فله حكم الفيء، فلمن أعطي
منه شيئاً قبوله إن كان ممن يستحق من الفيء وإلا فلا، ومذهب الحنفية تعقد لكل مشرك
كالوثني بشرط كونه عجمياً، وقال مالك: مطلقاً إلا من قريش خاصة فلا تعقد لهم
فليقلدهما الإمام لكن يصرفها على مذهبهما.
الصيد والذبائح
(مسألة: ب): القنيص المعروف بحضرموت من أكبر البدع المنكرات والدواهي
المخزيات
لكونه خارجاً عن مطلوبات الشرع، ولم يكن في
زمن سيد المرسلين والصحابة والتابعين صلى الله عليه وعليهم أجمعين ومن بعدهم من
الأئمة، ولم يرجع إلى أساس ولم يبن على قياس، بل من تسويلات الرجيم وتهويسات ذي
الفعل الذميم، والعقل الغير المستقيم، لأن من عاداتهم أنه إذا امتنع عليهم قتل
الصيد قالوا بكم ذيم، فيذبحون رأس غنم على الطوع يعني العود الذي تمسك به الشبكة
تطهيراً للقنيص من كل شك ووسواس، فالذبح على هذه الصفة لا يعجل قتل ما لم يحضر
أجله، إذ الأجل كالرزق والسعادة والشقاوة له حدّ ووقت مقدر كما قال تعالى: {لكل
أجل كتاب} وفي الحديث: "فرغ الله من أربع من الخلق والأجل والرزق
والخلق" ثم الذبح على مثل هذه الحالة يتنوّع إلى ثلاثة أمور: إما أن يقصد به
التقرب إلى ربه ولم يشرك معه أحداً من الخلق طامعاً في رضاه وقربه وهذا حسن لا بأس
به. وإما أن يقصد به التقرب لغير الله تعالى كما يتقرب إليه معظماً له كتعظيم الله
كالذبح المذكور بتقدير كونه شيئاً يتقرب إليه ويعوّل في زوال الذيم عليه فهذا كفر
والذبيحة ميتة. وإما أن لا يقصد ذا ولا ذا بل يذبحه على نحو الطوع معتقداً أن ذلك
الذبح على تلك الكيفية مزيل للمانع المذكور من غير اعتقاد أمر آخر، فهذا ليس بكفر
ولكنه حرام، والمذبوح ميتة أيضاً، وهذا هو الذي يظهر من حال العوامّ، كما عرف
بالاستقراء من أفعالهم، كما حقق هذه الصور الثلاث أبو مخرمة فيمن يذبح للجن، هذا
بخلاف ما يذبح للكعبة أو للرسل لكونها بيت الله أو لكونهم رسل الله، وكذا للعالم
أو للسلطان أو للعروس استبشاراً بقدومهم أو رضا غضبان فهو جائز من هذا الوجه.
[خاتمة]: اعلم أن هذا القنيص قد صار في قطرنا وسيلة لقبائح كثيرة وفضائح
شهيرة، ولو لم يكن في ذلك إلا ما ذكر من الذبح لكان كافياً في الإضلال، فكيف مع ما
ينضم إليه من التفاحش في الأقوال والأفعال، وتضييع الفرائض والأموال، واختلاط
النساء بالرجال، فهل يرضى بمثل هذه المخازي عاقل؟ ومع هذا يرون هذه الأفعال من
الحسنات لا من الأمور المحرمات، ولكن كما في الحديث: "بدأ الدين غريباً"
الخ، وما ذاك إلا من موت الدين واستيلاء
الظلمة الفاسقين، حتى لا يرى من ينكر على ذي فعل فعله لخوف من البيات أو جهل أو
مداهنة في الإيمان نسأل الله العافية.
(مسألة): يحرم رمي الصيد بالبندق المعروف الآن، نعم إن علم حاذق أنه يصيب
نحو جناح كبير فيثبته فقط احتمل الحل اهـ تحفة، ولو أبان عضواً من حيوان نادّ لم
يحل إلا إن كان بجرح مذفف أي مهلك بسرعة، فإن كلاً من البعض المبان والباقي حلال،
كما لو رمى صيداً فأبان منه بالجراحة المذففة عضواً أو قدّه نصفين اهـ إسعاد وتحفة
ونهاية، قالا: ولو أبانه بغير مذفف ولم يقدر على الصيد حتى مات حل دون العضو وقيل
حلاّ اهـ.
[فائدة]: اعتمد في التحفة حل الذبيحة، فيما إذا رفع يده لنحو اضطرابها أو
انفلتت شفرته فردها فوراً فيهما، وكذا لو ذبح بشفرة كالة فقطع بعض الواجب ثم أدركه
آخر فأتمه بسكين أخرى قبل رفع الأوّل، سواء أوجدت الحياة المستقرة عند شروع الثاني
أم لا اهـ. ومثله ع ش. ولو جرح ذئب شاة فقطع بعض حلقومها وبقيت حياة مستقرة فذبحت
في موضع الجرح وأتمها حلت، قاله أبو مخرمة اهـ قلائد.
(مسألة: ك): تعرف
الحياة المستقرة بأمارة كحركة شديدة بعد القطع، أو الجرح، أو تفجر الدم أو تدفقه،
أو صوت الحلق، أو بقاء الدم على قوامه وطبيعته، وتكفي الأولى وحدها، وما يغلب على
الظن إبقاؤها من الأخيرات فإن شك فكعدمها قاله في التحفة.
[فائدة]: لا يسنّ قطع ما وراء الودجين لكن لو قطع الرأس كفى وإن حرم
للتعذيب، والمعتمد عند (م ر) و (ع ش) الكراهة، قال: ولو شك هل مات الجنين بذكاة
أمه أو لا؟ فالظاهر عدم حله، وقال الشوبري: يحل لأنها السبب في حله والأصل عدم
المانع اهـ.
[فرع]: يحرم ذبح
الحيوان غير المأكول ولو لإراحته كالحمار الزمن مثلاً، ولو اضطر شخص لأكل ما لا
يحل أكله فهل يجب ذبحه لأنه يزيل العفونات الأقرب لا لأنه لا يزيد على قتله؟ نعم
هو أولى لأنه أسهل لخروج الروح اهـ ع ش.
(مسألة: ش): الزرع النابت في الأرض لا يخلو أن تكون سنابله مما يعرض عنه
غالباً كسنابل الحصادين، والمعرض مطلق التصرف وهو المكلف الحر الرشيد، فهذا يزول
الملك عنه بالإعراض على الأصح في الروضة، فتكون غلته حينئذ ملك صاحب الأرض، أي من
له اليد عليها من مالك أو مستأجر أو مستعير أو غيرهم، كموقوف عليه وموصى له
بالمنفعة ومنذور له بها، أو مما لا يعرض عنه غالباً لكثرته أو لعدم شيوعه في تلك
الجهة، فهو باق على ملك صاحب البذر قطعاً، كما لو كان المحجور عليه مطلقاً، فلو
ادعى صاحب الأرض الإعراض فأنكر مالك البذر صدق بيمينه، ثم إن لم تكن لصاحب البذر
يد على الأرض فلصاحبها قطعه مجاناً لأنه لم يأذن فيه، كما لو انتشرت أغصان شجرة في
هواء ملكه فيجبر على إزالتها وتسوية الأرض بلا أجرة مدة التسوية لعدم تعديه، فإن
رضي صاحب الأرض ببقائه فالغلة لمالك البذر، وإن كانت اليد حال نباته بإجارة ولو فاسدة
أو إعارة أو مخابرة ولو باستصحاب ما كان عليه قبل فالبذر والحادث منه له، ولو علم
حدوث الزرع مما يزول عنه الملك بالإعراض ومما لا ولم يتميز كان مشتركاً بين مالكي
البذر والأرض، فلا يستقل أحدهما بالتصرف بلا إذن الآخر لعدم تحقق ملكه، وهذا كما
لو اختلط حمامهما أو انصبّ طعام أو مائع على مثله، فيبيع أحدهما من صاحبه بشرط
القطع، أو يبيعا من ثالث بشرطه المعروف، ولو اختلفا في أن البذر يسير يزول عنه
الملك بالإعراض أم كثير راجعا عدلين خبيرين من كم يأتي هذا الزرع من الحب، وليس
هذا من الخرص الغير المتأتي في الزرع، بل أمر مشاهد لمن له أدنى خبرة.
الأضحية والعقيقة والعتيرة
[فائدة]: عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أنه يكفي في الأضحية إراقة
الدم ولو من دجاجة وأوز" كما قاله الميداني، وكان شيخنا يأمر الفقير بتقليده
ويقيس على الأضحية العقيقة، ويقول لمن ولد له مولود: عق بالديكة على مذهب ابن عباس
اهـ باجوري.
(مسألة): مذهب الشافعي ولا نعلم له مخالفاً عدم جواز التضحية بالشاة عن
أكثر من واحد، لكنها سنة كفاية عندنا، بمعنى سقوط الطلب عن أهل البيت بفعل واحد لا
حصول الثواب، بل هي سنة لكل أحد، والمراد بأهل البيت من تلزمه نفقته كما في
النهاية، نعم قال الخطيب و (م ر) وغيرهما: لو أشرك غيره في ثواب أضحيته كأن قال:
عني وعن فلان أو عن أهل بيتي جاز وحصل الثواب للجميع، قال ع ش: ولو بعد التضحية
بها عن نفسه، لكن قيد في التحفة جواز الإشراك في الثواب بالميت قياساً على التصدق
عنه، قال بخلاف الحيّ ولو ذبح شاة ونوى بها الأضحية والعقيقة أجزأه عنهما قاله (م
ر) وقال ابن حجر: لا تتداخلان.
[فائدة]: يكفي إخبار البائع بسن الأضحية إن ولدت عنده، وإلا فيرجع لظنون
أهل الخبرة ولو اشترى سبع بدنة للأضحية، ثم إن مالك الباقي وقفه فلا سبيل إلى
ذبحها، بل لو لم يقفه لم يجبر على الذبح ولا على البيع للناذر اهـ فتاوى بامخرمة.
(مسألة: ب): ظاهر
كلامهم أن من قال: هذه أضحية أو هي أضحية أو هدي تعينت وزال ملكه عنها، ولا يتصرف
إلا بذبحها في الوقت وتفرقتها، ولا عبرة بنيته خلاف ذلك لأنه صريح، قال الأذرعي:
كلامهم ظاهر في أنه إنشاء وهو بالإقرار أشبه، واستحسنه في القلائد قال: ومنه يؤخذ
أنه إن أراد أني أريد التضحية بها تطوعاً كما هو عرف الناس المطرد فيما يأخذونه
لذلك حمل على ما أراد، وقد أفتى البلقيني والمراغي بأنها لا تصير منذورة بقوله:
هذه أضحيتي بإضافتها إليه، ومثله: هذه عقيقة فلان، واستشكل ذلك في التحفة ثم ردّه،
والقلب إلى ما قاله الأذرعي أميل.
(مسألة: ب): اعتمد ابن حجر في الفتح عدم جواز التضحية بالحامل وإن زاد به
اللحم لأنه عيب، واعتمد أبو مخرمة
جوازه إن لم يؤثر الحمل نقصاً في لحمها، ومال إليه في القلائد قال: والظاهر المنع
بظهور النقص وإن لم يفش، وبه أخذ السمهودي وهو وجيه.
(مسألة): قال أبو
حنيفة: تجوز التضحية بالمقطوعة الأذن إن قطع أقل من الثلث، بل قال أبو يوسف: أقل
من النصف، قال البغوي: وكان القاضي حسين يفتي به لتعذر وجود صحيحة الأذن، قال
الأذرعي في شرح المنهاج: نعم يتنبه لدقيقة وهي أن أبا حنيفة قائل بعدم جواز
التضحية آخر يوم في أيام التشريق، فمن أراد تقليده في المقطوعة الأذن فليلتزم
مذهبه في هذا كسائر شروط التقليد المتقدمة.
(مسألة): يجب التصدق في الأضحية المتطوّع بها بما ينطلق عليه الاسم من
اللحم، فلا يجزي نحو شحم وكبد وكرش وجلد، وللفقير التصرف في المأخوذ ولو بنحو بيع
المسلم لملكه ما يعطاه، بخلاف الغني فليس له نحو البيع بل له التصرف في المهدي له
بنحو أكل وتصدق وضيافة ولو لغني، لأن غايته أنه كالمضحي نفسه، قاله في التحفة
والنهاية، وجوّز (م ر) أن يكون المراد بالغني من تحرم عليه الزكاة، قال باعشن:
والقول بأنهم أي الأغنياء يتصرفون فيه بما شاءوا ضعيف وإن أطالوا في الاستدلال له.
[فائدة]: قال في
التحفة في مبحث العقيقة: نعم ما يهدى هنا لغني يملكه ملكاً تاماً ويتصرف فيه بما
شاء وبحث فيها كالفتح حصول سنة العقيقة قبل انفصال الولد لكن بعد نفخ الروح اهـ
حاشية الكردي. وسن طبخ العقيقة ولو منذورة بحلو، نعم رجلها اليمنى من أصل الفخذ
تعطاها القابلة نيئة اهـ تحفة وشوبري. وبحث الزركشي كالأذرعي أنه يتصدق بلحم
المنذورة نيئاً، ونظر فيه في شرح الروض، وبحث بعض علمائنا من الأولياء عدم كراهة
تكسير عظام العقيقة تفاؤلاً بأن المولود يكسر عظام أهل الشرك والبدعة.
[فائدة]: قال ابن حجر ومثله ش ق: لا تستحب العقيقة كالتسمية عن السقط إلا
إن نفخت فيه الروح، إذ من لم تنفخ فيه لا يبعث ولا ينتفع به في الآخرة اهـ.
[فائدة]: قال في التحفة: العتيرة بفتح المهملة وكسر الفوقية وهي ما يذبح في
العشر الأول من رجب، والفرع بفتح الفاء المهملة والراي وبالعين وهو ما يذبح أوّل
نتاج البهيمة رجاء بركتها مندوبتان لأن القصد التقرب إلى الله تعالى بالتصدق
بلحمهما، فلا يثبت لهما أحكام الأضحية كما هو ظاهر اهـ. وأفتى أحمد الشهيد بأفضل
بأن الذبح أوّل رجب سنة مأثورة، ونص على ندبها الشافعي وغيره، ووقت ذبحها العشر
الأول وتسمى الرجبية والعتيرة اهـ.
الأطعمة
(مسألة: ك): قال في التحفة: حيوان البحر ما يعيش فيه بأن يكون عيشه خارجه
عيش مذبوح أو عيش حي لا يدوم اهـ. والذي يظهر أن مراده بعدم دوام حياته، إما لأن
تكون حياته في البر كحياته في البحر بحيث لو زادت في البحر على حياته في البر يصدق
عليه أنه لم تدم حياته في البر.
[فائدة]: روي عن سيدنا
عمر رضي الله عنه أن جرادة وقعت بين يديه فإذا مكتوب على جناحها بالعبرانية:
"نحن جند الله الأكبر ولنا تسع وتسعون بيضة ولو تمت المائة لأكلنا الدنيا وما
فيها" اهـ حياة الحيوان. وأفتى ابن حجر بجواز إحراق الجراد لأكله كأكله حياً
اهـ.
(مسألة: ش): ركز أعواداً في جانب البحر و ترك منها قدر الباب ليدخل الصيد،
وجعل عليه شبكة ملك الصيد الداخل ذلك الموضع بشرط أن لا يكون لأحد على المكان يد
بنحو سده، وأن يكون ضيقاً بحيث يسهل أخذ الحوت منه وإلا فمتحجر يكون أحق به من
غيره، وهذا كما يملك الصيد ببطلان عدوه أو طيرانه أو إلجائه لمضيق لا ينفلت منه
ولو مغصوباً، وكذا واسع إن كان ملكه ولم يكن محرماً.
(مسألة: ك): روى أبو
داود "أنه نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصرد"
والمعروف حمل النهي على النمل الكبير السليماني الطويل الذي يكون في الخراب فيحرم
قتله على المعتمد، إذ الأصل في النهي التحريم، وخروجه عنه في بعض المواضع إنما هو بدليل
يقتضيه، أما النمل الصغير المسمى بالذر فيجوز بل يندب قتله بغير الإحراق لأنه مؤذ،
فلو فرض أن الكبير دخل البيوت وآذى جاز قتله اهـ. قلت: ونقل العمودي في حسن النجوى
عن شيخه ابن حجر أنه إذا كثر المؤذي من الحشرات ولم يندفع إلا بإحراقه جاز اهـ.
[فائدة]: نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن في كل رمانة حبة من رمان
الجنة، ونقل الدميري أنه إذا عدت الشرفات التي على حلق الرمانة، فإن كانت زوجاً
فعدد حب الرمانة زوج وعدد رمان الشجرة كذلك، وإن كان فرداً فهما فرد اهـ ق ل. وورد
في حديث إسناده قوي أن الباذنجان لما أكل له. وقال الإمام محمد الباقر: الباذنجان
شجرتنا أهل البيت، أي موافق لطبائعنا ومزاجنا، اهـ من الغرر في مناقب بني علوي.
ورد عنه عليه الصلاة والسلام: "تفكهوا بالبطيخ وعضوه فإن ماءه رحمة وحلاوته
حلاوة الجنة، فمن أكل لقمة منه كتب الله له سبعين ألف حسنة ومحا عنه سبعين ألف
سيئة ورفع له سبعين ألف درجة" اهـ من كتاب البركة للحبيشي.
[فائدة]: قال في التحفة: وينبغي للإنسان أن يتحرى في مؤنة نفسه وممونه ما
أمكنه، فإن عجز ففي مؤنة نفسه، ولا تحرم معاملة من أكثر ماله حرام ولا الأكل منه،
وتردد البغوي في شاة غذيت بحرام، ورجح ابن عبد السلام والغزالي عدم الحرمة وإن
غذيت عشر سنين لحل ذاتها وإنما حرم لحق الغير اهـ. ولو مسخ آدمي بقرة. قال
الطحاوي: حلّ أكله، وقضية مذهبنا خلافه، ونقل عن المزجد حرمته عملاً بالأصل اهـ
شوبري.
(مسألة): شجرة تقطع في بعض الجهات، فيطلى عليها أبوال الإبل وأرواثها ثم
تغلى في طشت حتى تنضج ثم يزال ما عليها من أثر النجاسة وتؤكل، فإن غسلت حتى لم يبق
على ظاهرها شيء من وصف النجاسة ولم تضر بعقل ولا بدن حل أكلها، وإن تشربت النجاسة
كما لو نقع حب أو أغلي لحم في بول فيكفي غسل ظاهرهما فقط.
(مسألة: ش): يحرم تناول البنج القيبي وهو نبت يوجد بجبال مكة قليله وكثيره
لأن جنس ذلك يخدر، أما الأفيون والحشيشة والعنبر والزعفران وجوزة الطيب فيحرم
الكثير من ذلك بحيث يخدر غالب الناس منه غالباً، وإن فرض أن هذا الشخص لا يخدره
ذلك القدر بخلاف القليل من ذلك، ومن قال إن الجوزة لا تخدر فهو جاهل أو متجاهل،
وأما الجوز المذكور في باب الربا مقروناً باللوز فهو القعقع يكسر فيوجد وسطه أربع
زوايا فيها لبّ يشبه في طعمه اللوز له دهن كاللوز.
(مسألة: ك): قال: لم يرد في التنباك حديث عنه ولا أثر عن أحد من السلف، وكل
ما يروى فيه من ذلك لا أصل له، بل مكذوب لحدوثه بعد الألف، واختلف العلماء فيه
حلاً وحرمة، وألفت فيه التآليف، وأطال كل في الاستدلال لمدعاه، والخلاف فيه واقع
بين متأخري الأئمة الأربعة، والذي يظهر أنه إن عرض له ما يحرمه بالنسبة لمن يضره
في عقله أو بدنه فحرام، كما يحرم العسل على المحرور والطين لمن يضره، وقد يعرض له
ما يبيحه بل يصيره مسنوناً، كما إذا استعمل للتداوي بقول ثقة أو تجربة نفسه بأنه
دواء للعلة التي شرب لها، كالتداوي بالنجاسة غير صرف الخمر، وحيث خلا عن تلك
العوارض فهو مكروه، إذ الخلاف القوي في الحرمة يفيد الكراهة.
(مسألة): التنباك معروف من أقبح الحلال إذ فيه إذهاب الحال والمال، ولا
يختار استعماله أكلاً أو سعوطاً أو شرباً لدخانه ذو مروءة من الرجال، وقد أفتى
بتحريمه أئمة من أهل الكمال كالقطب سيدنا عبد الله الحداد والعلامة أحمد الهدوان،
كما ذكره القطب أحمد بن عمر بن سميط عنهما وغيرهم من أمثالهم، بل أطال في الزجر
عنه الحبيب الإمام الحسين ابن الشيخ أبي بكر بن سالم وقال: أخشى على من لم يتب عنه
قبل موته أن يموت على سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى. وقد أشبع الفصل فيه بالنقل
العلامة عبد الله باسودان في فيض الأسرار وشرح الخطبة وذكر من ألف في تحريمه
كالقليوبي وابن علان وأورد فيه حديثاً، وقال الحساوي في تثبيت الفؤاد من كلام
القطب الحداد أقول: ورأيت معزواً لتفسير المقنع الكبير قال النبي : "يا أبا
هريرة يأتي أقوام في آخر الزمان يداومون هذا الدخان وهم يقولون نحن من أمة محمد
وليسوا من أمتي ولا أقول لهم أمة لكنهم من السوام" قال أبو هريرة: وسألته :
كيف نبت؟ قال: "إنه نبت من بول إبليس، فهل يستوي الإيمان في قلب من يشرب بول
الشيطان؟ ولعن من غرسها ونقلها وباعها" . قال عليه الصلاة والسلام:
"يدخلهم الله النار وإنها شجرة خبيثة" اهـ ملخصاً اهـ. ورأيت بخط
العلامة أحمد بن حسن الحداد على تثبيت الفؤاد: سمعت بعض المحبين قال: إن والدي
يشرب النتن خفية وكان متعلقاً ببعض أكابر آل أبي علوي، فلما مات رأيته فسألته: ما
فعل الله بك؟ قال: شفع فيَّ فلان المتقدم إلا في التنباك فهو يؤذيني وأراني في
قبره ثقباً يجيء منه الدخان يؤذيه وقال له: إن شفاعة الأولياء ممنوعة في شرب
التنباك. وقال لي بعضهم: رأيت والدي وكان صالحاً لكنه كان ينشق التنباك، فرأيته
بعد موته قال: إن الناشق للتنباك عليه نصف إثم الشارب فالحذر منه اهـ. وقال الولي
المكاشف للشريف عبد العزيز الدباغ: أجمع أهل الديوان من الأولياء على حرمة هذا
النتن الخ.
[فائدة]: قال السيوطي في الأشباه والنظائر: قال بعضهم مراتب الأكل خمس:
ضرورة، وحاجة، ومنفعة، وزينة، وفضول. فالضرورة بلوغه إلى حدّ إذا لم يتناول
الممنوع هلك أو قارب وهذا يبيح تناول الحرام. والحاجة كالجائع الذي لو لم يجد ما
يأكله لم يهلك غير أنه يكون في جهد ومشقة وهذا لا يبيح الحرام. والزينة والمنفعة
كالمشتهي الحلوى والسكر والثوب المنسوج بالحرير والكتان. والفضول كالتوسع بأكل
الحرام والشبهات.
الأيمان
(مسألة: ك): الحلف بغير الله تعالى لا يكون كفراً إلا إن قصد الحالف تعظيم
ذلك الغير كتعظيم الله تعالى، وعليه حمل خبر: "من حلف بغير الله تعالى فقد
أشرك" وحيث لم يقصد ذلك فالمعتمد الكراهة.
(مسألة: ك) حلف لا
يسكن أرض فلان فزال ملكه عنها أو بعضها لم يحنث بسكناها حينئذ، إلا أن يريد أيّ
أرض جرى عليه ملكه أو أشار إليها في الحلف فيحنث بالإشارة ما لم يرد ما دام ملكه
فلا يحنث بعد زواله أيضاً.
(مسألة: ك): حلف لا
يدخل مكان كذا وقد قصد منع نفسه فدخله ناسياً فظن أنه حنث بذلك فدخله عامداً
ثانياً وثالثاً لم يحنث بدخوله المذكور اعتماداً على الحنث بدخوله الأوّل ناسياً
مطلقاً عند (م ر) وقال ابن حجر: لا بد من وجود قرينة، وهذا كما لا يحنث لو فعله
جاهلاً أنه المعلق عليه أو مكرهاً ولو بحق لكن لا تنحل اليمين على المعتمد، نعم إن
قصد التعليق بمجرد الفعل وكذا إن أطلق خلافاً لـ (م ر) حنث بالدخول مطلقاً.
(مسألة: ش): حلف لا يكلم أباه أو غيره، فإن كان القصد ردعه عن نحو المعصية
وارتكاب مفسق جاز، بل قال القرطبي: إن الهجر لأجل المعصية والبدعة واجب أي متأكد
استصحابه حتى يتوب، وإذا جاز مكافحة نحو الأب بكسر العود المحرم، وإراقة المسكر،
وردّ المغصوب، فترك مكالمته أولى، وإن كان لغير ذلك فيحرم فوق ثلاث لا دونها
مطلقاً، نعم نقل عن ابن العماد حرمة هجر الوالد ولو دون ثلاث ووجهه ظاهر، وإذا حرم
الهجر لزمه الحنث بالتكليم ويكفر، فلو أكرهه قاض على التكليم لم يحنث بما به
الإكراه، كما لو أكره على كلام غيره الذي ليس بواجب فلا حنث أيضاً لأنه إكراه
بباطل لكن اليمين بحالها، فلو زاد على ما أكره عليه حنث، ولا يجوز التحكيم في ذلك
خلافاً لما توهمه عبارة التحفة.
[فائدة]: حلف لا يلبس شيئاً حنث بلبس الخاتم لأنه يسمى لبساً في العرف اهـ
ع ش. وقال الفشني: وجعل صاحب الكافي من لغو اليمين ما إذا دخل على صاحبه فأراد أن
يقوم له فقال: لا والله وهو مما عمت به البلوى اهـ.
[فائدة]: حلف لا يخرج إلا بإذنه، فأذن له بحيث لا يسمعه لم يحنث بخروجه وإن
ظن عدمه اعتباراً بما في نفس الأمر اهـ فتح، وفيه تتمة الغداء والعشاء أن يأكل فوق
نصف الشبع، ووقت الأوّل من الفجر إلى الزوال، والثاني من الزوال إلى نصف الليل، ثم
منه إلى الفجر سحوراً، والغدوة من الفجر إلى الاستواء، والضحوة من زوال وقت
الكراهة بعد الطلوع إلى الاستواء، والصباح من طلوعها إلى الارتفاع.
النذر
[فائدة]: قال في النهاية: والأصح أنه يعني النذر في اللجج مكروه وعليه يحمل إطلاق المجموع، وغيره قال: لصحة
النهي عنه، وفي التبرر عدم الكراهة لأنه قربة سواء المعلق وغيره إذ هو وسيلة لطاعة
اهـ، ومثلها التحفة قال: ومن ثم أثيب عليه ثواب الواجب اهـ.
شروط النذر وما ألحق بها
(مسألة): شرط النذر الإسلام والاختيار وإطلاق التصرف إن كان بمال معين،
فيصح نذر سفيه عبادة، وكذا بمال في الذمة كما في النهاية.
(مسألة: ب) نذرت
امرأة لولديها بجميع ما تملكه وتحملا لها بنفقتها مدة حياتها، فإن كانت حال النذر
مكتسبة قوية على الكسب أو تصبر على الإضاقة جائزة التصرف صح نذرها، وإلا لم يصح
بالجميع، وإن تحمل الولدان بالنفقة وإذ صح النذر بشرطه، فلو مات أحد الإبنين لم
يلزم وارثه شيء لأنه لم يلتزم شيئاً في عين ماله وقد خربت ذمته بالموت.
(مسألة): خطبت فعضلها وليها إلا أن تنذر له بكذا فنذرت فالنذر باطل اهـ
بامخرمة.
(مسألة: ب) تواطأ هو
وزوجته على أن تنذر له بجميع ما انجرّ لها من الإرث في أبيها وينذر لها في قبل ذلك
بثلاثمائة قرش، فإن صدر النذران منهما حالة الاختيار ونفوذ التصرف والعلم بمعنى
النذر ولو من وجه كأن يعلما أنه نوع عطية صحا، وإن كان المنذور به مجهولاً وغائباً
وغيره مقدور عليه ويلزم كلاّ ما التزمه لتنجيزه، وليس لأحدهما الرجوع عنه ولا
إبطاله.
(مسألة): ادعت أنه نذر لها بناقتين فأنكر صدق بيمينه، نعم إن أقامت بينة
ولو شاهداً ويميناً ثبت، كما لو نكل عن اليمين فحلفت المردودة ولا تمكن إقامة
البينة من الناذر بعدم النذر لأن ذلك نفي غير محصور كما هو ظاهر، فحينئذ يجيء
التعارض هنا.
[فائدة]: نذر أن لا
يقرأ إلا متطهراً لم ينعقد نذره، إذ معناه عدم القراءة إذا كان محدثاً وليس ذلك
قربة، وبتقدير انعقاده هو لم يلتزم القراءة إذا كان متطهراً، فقراءته مع الحدث لم
تفوّت شيئاً التزم فعله حتى يستقر في ذمته، فحينئذ يشرع له سجود التلاوة ولمن سمعه
اهـ ع ش.
(مسألة: ش): نذر صوم سنة مطلقة، كلله عليّ صوم سنة سنّ له الشروع في صومها
عقب النذر وتتابعها، وتكفيه هلالية حيث تابعها أو فرقها بالأشهر، وإلا كمل كل
منكسر بأن ابتدأ أثناءه ثلاثين كشوّال والحجة وإن ابتدأ من أوّلهما، ويقضي رمضان
بشهر هلاليّ أو ثلاثين يوماً، وخمسة أيام عن العيدين وأيام التشريق، أو معينة كسنة
خمس وتسعين، أو سنة من أوّل شهر كذا أو من الغد لم يجب قضاء رمضان والأيام الخمسة،
فإن نذر التتابع فيهما وكذا إن نواه على ما في الإرشاد والعباب لزمه وانقطع بما
ينقطع به صوم الكفارة، لكن لا يلزمها قضاء أيام الحيض مطلقاً في الأظهر أو هذه
السنة أو السنة كفاه باقيها إلى المحرم، أو السنة التي يقدم فيها زيد فقدم قبل فجر
أوّل يوم من المحرم أو بعده وقد بيت النيَّة بظن قدومه صامها أو أثناءها أو آخرها،
لزمه قضاء يوم القدوم وصوم ما بعده إلى آخرها، وفي قضاء ما سبق منها الخلاف
المشهور.
(مسألة: ب): رأت أن أخواتها غرقوا فقالت: إن سلم أخواتي فلله عليّ صوم سنة
كاملة لزمها صوم ثلاثمائة وستين يوماً ولو متفرقة في سنين، ولا يجزئها الإطعام ما
دامت قادرة على الصوم، ولا يمنعها الزوج حينئذ اهـ. قلت وقوله: ولا يمنعها الزوج
في الإرشاد وله منعها من صوم نذر مضيق أو موسع تأمل.
(مسألة: ب): نذر أن يبني مسجداً بمحل كذا صح نذره، ولا يجزئه البناء في غير
ما عينه لاختلاف الأغراض باختلاف المحالّ كما أفتى به ابن حجر وغيره.
(مسألة): وكله جماعة
يشتري لهم طعاماً من بلدة فلقي بها آخر معه طعام، فتوافقا على أن ينذر له بمائة
جزلة من الطعام، وينذر له الوكيل بمائة قرش بذمته ثم تناذرا، كذلك صح النذران ولزم
الوكيل تسليم المائة من ماله وكان الطعام ملكه، نعم لو نذر له بمائة معينة من
دراهم موكليه لم يصح نذره إذا لم يأمروه بالنذر، بل وإن أمروه بذلك لعدم صحة
التوكيل فيه، كما لا يصح شرط المعاوضة، كنذرت لك بشرط أن تنذر، أو على أن تنذر لي
بكذا، أو في مقابلة نذرك بكذا، إذ النذر لا يقبل العوض إلا من الله تعالى، كما
قاله ابن حجر وأبو مخرمة، ولو قال: نذرت لك بهذا البعير في قبيل الناقة وقصد
المعاوضة لم يصح أيضاً.
(مسألة: ب): تواطأ اثنان على أن يشتري أحدهما من الآخر طعاماً بدراهم مؤجلة
وينذر له بخنجر، فإذا أدى ثمن الطعام تحمل له الآخر بعهد الله أن يردّ له الخنجر
بنذر، ثم حصل منهما ذلك يصيغة صحيحة وقع من الشراء والنذر المذكورين صحيح يلزم
العمل بمقتضاه، فمتى حل الأجل لزم المشتري تسليم الثمن، ويملك البائع الخنجر ملكاً
تاماً، وينبغي له الوفاء بالعهد الذي تحمله للناذر، وهو ردّ الخنجر بعد تسليم
الثمن، فيرده بتجديد ملك بنذر أو هبة ونحوهما، ثم لو ادعى ثالث أن الخنجر المذكور
قد نذر له به صاحبه قبل هذا النذر بلغة مهرية حاصلها: نذرت لك بالخنجر قبيل خمسة
قروش إلى أن يجيء السنبوق وتصادقوا على ذلك، فهذا النذر باطل من وجهين: أحدهما أن
الصيغة صيغة معاوضة أو شبهها وهي تنافي مقتضى النذر، إذ هو يصان عن ذلك لأنه
التزام قربة، فاقترانه بصيغة المعاوضة يخرجه عن مقتضاه فيلغى. ثانيهما: أن قوله
قبيل خمسة قروش الخ يقتضي توفيت النذر إلى مجيء السنبوق، وهذا أيضاً ينافي النذر
بالعين لأنها متى زالت عن ملك الناذر لم تعد إليه إلا بتمليك جديد.
(مسألة: ب): تواطأ هو ومقرضه على أن يقترض منه دراهم وينذر له بكذا في ذمته
عن كل سنة ما دام الدين، فأفتى جماعة بالصحة وخالفهم آخرون قالوا: لأن النذر حينئذ
شبيه بالمعاوضة، والطائفتان متكافئتان والاحتياط لا يخفى، واستوجه ابن حجر في
الفتاوى بأنه إن أتى بهذا النذر على قصد الوفاء بما تواطآ عليه لم يصح نذره، لأن
كل ما لو صرّح به أبطل إذا أضمر كره، وحينئذ لا فرق بين كون الدائن فقيراً والداين
حالاً وأن لا، وإن قصد القربة والإهداء إلى المقرض كل سنة من غير أن يجعله في
مقابلة مواطأة ولا غيرها صح النذر وإن أطلق، فالذي يفهمه كلامهم الصحة اهـ. وعبارة
ش: اشترى نخلاً ونذر بعد لزوم البيع للبائع بكذا وكذا تمراً كل سنة ما دام المبيع
لم ينفسخ صح النذر، ولم يبطل بموت الناذر ولا المنذور وله على المعتمد كما لو نذر
المقترض بمنفعة أرضه مدة بقاء الدين، نعم إن قصد بنذره التوصل إلى الربا بطل كما
قاله شيخنا ابن حجر، لا إن جعله في مقابلة ربح القرض أو اندفاع المطالبة بل أو
أطلق على الأوجه اهـ. قلت وقال أبو مخرمة: نذر له بدينار كل شهر ما دام دينه
بذمته، فمات أحدهما انقطع بالنسبة لغير شهرموته لأن النذر يلزم بأوّله، نعم لو نذر
له بثمر بستانه عشر سنين لم ينقطع بموته. لو قال: مالي صدقة إن لم يكن الأمر كذا
فبان خلاف قوله خير بين التصدق بماله وبين كفارة يمين اهـ.
(مسألة: ش): باعه أرضاً ونذر له بعد لزوم البيع بكذا إن خرج المبيع مستحقاً لم يصح
النذر، كما أفتى به الغزالي وأقرّه في الروضة، ثم إن خرج بعض المبيع مستحقاً رجع
به من الثمن على بائعه وخير في الباقي إن جهل، ولزمه أجرة المثل نقداً إن زرع
الأرض لمستحقها، إذ المنافع متقومة وقيم المتلفات النقد، وإن كانت العادة أنهم لا
يؤجرون الأرض إلا مشاركة، كما أفتى به ابن عجيل وإن خالف بعضهم، فإن تناذرا صح
النذر، وإن قال البادىء: إن نذرت لي بمتاعك نذرت لك بمتاعي، ولو خرج بعض المنذور
به أو كله مستحقاً بطل فيه وصح في الباقي، ولا خيار ولا رجوع لأحدهما على الآخر.
(مسألة: ي): باع أرضاً
ثم نذر بها للمشتري، فإن صح البيع بأن عرفا حدودها الأربعة، فإن كان في زمن الخيار
انفسخ البيع وصح النذر فيلزمه رد الثمن، أو بعد زمن الخيار لغي النذر، وإن لم يصح
البيع صح النذر مطلقاً لصحته بالمجهول علم الناذر بطلان البيع أم لا.
(مسألة: ش): ونحوه ك : اشترى داراً ونذر لبائعه أن يفسخ للبيع أو يقبله إن
أتاه بمثل عوضه، فإن وقع ذلك في صلب العقد أو زمن الخيار بطلا يعني البيع والنذر
للنهي عن بيع وشرط، ولأن الواقع في زمن الخيار كالواقع في صلبه أو بعده صحا ولزمه
إما الإقالة أو الفسخ وإن لم يقيد الناذر مجيء البائع بكونه نادماً تغليباً للأصل
وهو الندم، هذا إن ندم البائع وكان المشتري يحب إحضار عوضه لأن ذلك نذر تبرر، فإن
لم يحب ذلك كان نذر لجاج، وينبغي الاكتفاء بنذر الإقالة، وإن استوت رغبة البائع في
إحضار الثمن وعدمه، فلو تصرف المشتري فيه طلب الإقالة مطلقاً أو بعدها ولم يندم
البائع باعترافه أو بقرينة كحقارة المبيع في جنب الثمن، أو كان النذر لجاجاً صح
تصرفه وبطل النذر ما لم يعد إلى ملك المشتري، ويصير بالتصرف في نذر اللجاج مختاراً
للكفارة، وهذا كما لو قال: إن شفى الله مريضي فعلي عتق هذا العبد ثم باعه قبل
الشفاء، وإن تصرف بعد طلب الإقالة المندوبة لم يصح تصرفه لأنه بالطلب المذكور تعين
عليه الوفاء بها.
[فائدة]: اشترى سلعة ونذر لبائعها بالإقالة متى جاءه نادماً، ثم مات البائع
قبل طلب الإقالة فليس لوارثه طلبها حينئذ لتعليق الإقالة بمجيء البائع نادماً لا
وارثه، اهـ فتاوى أحمد الحبيشي.
(مسألة: ي): قال
لدائنه: نذرت لك بعبدي وانقطعت عن جميع الدعاوى التي لي عليك إن لم أوفك الدين،
فإن قيده بمدة كشهر أو حلول أجل أو نواه لزمه عند انقضاء الشهر أو الحلول، وإن
أطلق لم يلزمه إلا باليأس من الوفاء وهو بقاء الدين قبل موت أحدهما بزمن لا يسع
الوفاء، ثم إذا لزم النذر في الصورتين فهو نذر لجاج يخير بين الوفاء به وكفارة
يمين إن قصد حث نفسه على الوفاء ومنعها من تركه، فإن قال رغبة في تركه وبقاء الدين
بذمته فنذر تبرر يلزمه عند وجود المعلق عليه، ولا يسقط عنه شيء من الدين، وقوله:
وانقطعت الخ كلام لغو فله الدعوى بما فيه دعوى.
(مسألة): تناذرا بعيراً بعشرة رؤوس غنم ثم قال صاحبها: نذرت بمائة إن تخبث
البعير يعني استحق للغير، فقال: نذرت صح الكل، وكان الأخير نذر لجاج فيما يظهر،
كما أفتى به عبد الله بلحاج، وهو ظاهر كلام النهاية حيث قال في مبحث نذر اللجاج:
والحال أن الفرق بين نذر اللجاج والتبرر أن الأوّل فيه تعليق بمرغوب عنه، والثاني
بمرغوب فيه، ومن ثم ضبط بأن يعلق بما يقصد حصوله اهـ. نعم نقل الشيخان عن الغزالي
فيما إذا نذر للمشتري بكذا إن خرج المبيع مستحقاً بأن ذلك لغو، قاله في فتاوى ابن
حجر، وأفتى ابن مزروع بلزوم ما التزمه، لأن ذلك نذر معلق على شرط، فتحصل أن في
المسألة ثلاثة آراء، وإذا قلنا إنه نذر لجاج فيلزمه عند وجود الصفة وهو تخبث
البعير، إما كفارة يمين أو الوفاء بما التزمه وهو المائة ويفسرها بما أراد، فإن
ادعى المنذور له أنه أراد معيناً كالدراهم حلف أنه لم يردها، وإذا التزم المعسر
نذراً بقي بذمته.
[فائدة]: نذر أنه إن رزقه الله تعالى ولداً سماه بكذا هل ينعقد نذره؟
والظاهر أنه إن نذر بما تستحب التسمية به كمحمد وأحمد أو عبد الله انعقد نذره،
وأنه حيث سماه بما عينه برّ وإن لم يشتهر ذلك الاسم وهجر اهـ ع ش .
(مسألة: ش): ادعى
الناذر أو وارثه اشتمال النذر على مبطل سمعت دعواه، وإن كان بعد قبول وقبض المنذور
له وثبوته لدى الحاكم، فإن أقاما بينة أو أقر المدعي عليه أو نكل فحلف المردودة
بعد نكوله حكم ببطلانه، وإن حلف المدعى عليه نفي العلم بالمبطل أو نكل ولم يحلف
المدعي المردودة فالنذر باق بحاله.
الصيغة
(مسألة: ش): قوله: ألزمت ذمتي، أو يلزمني، أو لازم لي، أو ألزمت نفسي، أو
أوجبت عليها، صيغ نذر كما قاله القاضي مجلي وأقره في العباب وغيره، كما أن نذرت لك
صريح نذر خلافاً للرداد فيهما، وفي التحفة أن أنذرت من العامي صريح.
(مسألة): المعتمد أن
نذر من صرائح النذر، ولا فرق بين نذر لك أو عليك، والأولى لمن أراد أن ينذر لغيره
بمال أن يقول: لله علي أن أعطيك كذا، أو هذا، أو أتصدق عليك به، قاله ابن حجر في
فتاويه.
(مسألة: ش): تساوما في
بيع غائب ثم قال كل منهما لصاحبه: ألقني في مكان كذا، فإن لم ألقك سلمت لك أجرة
سيرك لذلك المحل لم يلزمه شيء لأنه وعد، نعم إن التزم ذلك بنذر صحيح نحو: إن جئت
إلى محل كذا فلم تلقني فلله عليّ أن أتصدّق عليك بكذا صح لأنه قربة، إذ الجائي إلى
ذلك المحل إذا لم يجد صاحبه تلحقه مشقة وخسارة، فالتصدّق عليه حينئذ مندوب.
(مسألة: ي): قال: إن
شفاني الله من مرضي فأنا أريد أن أتصدّق أو تصدّقت بدراهم، وإن قدمت من سفري أو
زرت فلاناً الولي فأنا أذبح أو ذبحت شاة، فإن نوى بجميع ذلك النذر صح ولزمه ما
التزمه لأن ذلك كناية فيه، لكن لا بد في الذبح من ذكر مصرف مباح فيه قربة أو نية
ذلك وإلا لم ينعقد، أما ما نذره من التصدّق فيصرف للفقراء والمساكين عند الإطلاق.
(مسألة): تواطأ اثنان على أن ينذر أحدهما لأخيه بناقته، وينذر له الآخر
بناقته وعشرة قروش، ثم قال الأوّل للثاني: نذرت لي الناقة والعشرة القروش؟ فقال:
نذرت، وقال هو: وأنا نذرت، لزم الأوّل ما نذر به وتواطأ عليه، وكذا الثاني إلا إن
ادّعى أني لم أرد بذلك شيئاً فيصدق بيمينه.
[فائدة]: سئل الشيخ
زكريا عما يفعله بعضهم من قوله: إن حصل لي الشيء الفلاني فلك يا سيدي كذا فهل
يلزمه؟ فأجاب: بأنه لا يلزمه شيء بذلك إذ ليس فيه صيغة نذر اهـ
(مسألة: ش): تلفظ عامي بنحو نذر أو وقف أو طلاق، ثم ادّعى أنه لا يعرف
معناه أصلاً، فهذا مدّع أنه لم يقصد لفظ نحو النذر بحروفه، فينظر أيمكن ذلك لكونه
أعجمياً أو بغير لغته وليس مخالطاً للعلماء، فيصدق حينئذ بيمينه ويلغى أثر لفظه أم
لا، بأن عرف له معنى ولو حكماً من أحكامه حتى يصح قصد لفظه وإن جهل بقية معانيه
ولا يصدق، لأن اللفظ إذا صح استتبع آثاره وإن جهلها المتلفظ، وعلى الأوّل يحمل
كلام ابن عبد السلام، وعلى الثاني كلام الزركشي اهـ. قلت: وافقه في التحفة.
المنذور له
(مسألة: ش): النذر للنبيّ إن قصد به تمليكه لغي لكونه لميت إجراء على
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحكام الموتى في الدنيا، وإن كانوا أحياء يصلون
ويصومون ويحجون وتجري عليهم أعمال البرّ، وإن أراد الصرف في مصالح الحجرة الشريفة
أو تمليك الخدام صح وعمل بقصده، وإن لم يقصد شيئاً عمل بالعرف والعادة المطردة حال
النظر، لأن ذلك منزلة الشرط فيه كالوقف، فإذا كان عادة أهل بلدة أن رجلاً من أهل البيت
يأتيهم لقبض نذور النبي فكأن الناذر نذر لذلك الرجل، وإن جهل مراد الناذر، ولا
هناك عرف مطرد، فالقياس صرفه لمصالح المسلمين، فيدفعه للوالي العدل إن كان، وإلا
صرفه من هو تحت يده للمصالح الأهمّ فالأهمّ، حتى في بناء مسجد إن لم يكن أهم منه
اهـ. وعبارة (ك) النذر للولي إن كان بقصد تمليكه لغي، وإلا اتبع فيه العادة
الجارية في ذلك المحل إن انتفع به حيّ أو ميت من الصرف في عمارته، وإعطاء القاطنين
عنده، والصرف في مصالحه، ولا يتقيد بورثته وأقاربه، ومن المعلوم أن الناذرين
للمشايخ والأولياء لا يقصدون تمليكهم لعلمهم بوفاتهم، وإنما يتصدقون عنهم أو يعطون
خدامهم، فهو حينئذ قربة، لأن النذر عندنا لا ينعقد إلا في القرب والمندوبات التي
ليست بواجبة.
(مسألة): أفتى بصحة النذر المقيد بالأشراف محمد بن زياد، وفرق بينه وبين
النذر المطلق، ووافقه إبراهيم باغريب المكي وجماعة من العلماء المتقدّمين
والمتأخرين. وعبارة (ي) النذر للأشراف أهل البيت النبوي صحيح بلا خلاف، وأما ما
يوجد في بعض المصنفات من أن النذر لا يصح لهم فليس على إطلاقه لأن النذر ثلاثة
أقسام: الأوّل المطلق وهو كل نذر لم يقيده الناذر بصفة ولا بمعين كقوله: لله عليّ
أن أتصدّق بألف. الثاني: المقيد بصفة الفقر أو المسكنة كلله عليّ ألف للفقراء أو
أتصدّق بها على مساكين بلد كذا، فهذان القسمان لا يصح صرفهما لبني هاشم والمطلب
على المعتمد عند ابن حجر والخطيب و (م ر) وغيرهم، وهما المراد بقولهم كالزكاة كل
واجب كنذر وكفارة ودماء نسك، وقال كثيرون بجواز صرف هذين القسمين لفقرائهم.
الثالث: المقيد ببني هاشم والمطلب فهذا يصح لهم بلا خلاف عندنا، فمتى قيد الناذر
بأهل البيت بلفظه أو قصده أو اطرد العرف بالصرف لهم صح النذر، سواء كان القيد
خاصاً ذاتياً كفلان وبني فلان، أو صفاتياً كعلماء بلد كذا وهم منهم، ودليل صحة
النذر المذكور على هذا التفصيل من عشرة وجوه: كون صلتهم قربة غير فرض عيني، وكل
قربة كذلك تجب بالنذر بلا خلاف، وأن من المعلوم لمن له أدنى مسكة أن كل ما خص
الشارع صرفه بأهل الزكاة كالنذر المطلق والمقيد بالفقراء حرام على أهل البيت
كغيرهم ممن لا تحل له الزكاة كغني وذمي، ومن تلزم الناذر نفقته ونحو المسجد ومالاً
كالمقيد بغير الفقراء جائز لمن قيد به ما لم يكن معصية، فحينئذ يحلّ لأهل البيت
ومن بعدهم ما قيد بهم منه، فقولهم كالزكاة كل واجب أي خصه الشارع بأهل الزكاة، لا
كالنذر المخصوص بهم فلا بد من هذا القيد، وإنما تركوه لفهمه من كلامهم وعلمه بما
فعلوه هنا من كون المقيد بوصف يجب أن يؤتى به بذلك الوصف، إذ يلزم من ترك ذلك
القيد فساد كبير، وأن كلامهم هذا ليس في حكم انعقاد النذر، بل في حكم نذر قد انعقد
وصح، وفي النذر المطلق فهم من كلامهم التعميم حتى في المقيد مطلقاً كـ (ع ش) وغيره
فهو فهم فاسد، وانتقال من عدم جواز الصرف لأهل البيت من نذر قد انعقد إلى أن النذر
لا ينعقد لهم، وشتان ما بينهما، وأن النذر المقيد بوصف غير مطلوب يصح الإتيان به
بذلك الوصف، وإن خالف حكم واجب الشرع كالنذر للغني والذمي كما مر، وكنذر التضحية أو
التصدّق بمعيب، وكشرط الناذر خروجه من صلاة وصوم واعتكاف لحاجة، وصرفه ما نذر
التصدّق به لحاجته إن احتاجه، وأن المقيد بوصف مطلوب يجب الإتيان به بذلك الوصف
اتفاقاً، وإن خالف واجب الشرع كنذر التصدّق على العلماء والأرحام ونحوهما، فتقييد
النذر بأهل البيت إن لم يكن من المطلوبات فليكن من الجائزات، فكيف يعود التقييد
بهم الذي هو في معنى الصلة التي حثّ عليها الحقّ جلّ وعلا ورسوله على النذر
بالإبطال؟ ما هذا إلا هوس وخبط، وما في الإيعاب: لو نذر التصدق وأطلق لم يجز صرفه
لغني وكافر، وإن نذر لأهل المذمة لزمه على الأوجه، ولا ينافيه عدم جواز وضع
المنذور فيهم لأن ذلك في مطلق النذر اهـ. وما في حاشية المعجم للشيخ قش في حديث
الصدقة على الآل قال: وأما النذر فإن كان على معين فيجوز، كأن نذر لشريف فقد
استحقه بموجب القربة، وأما إذا نذر على الإطلاق كأن نذر أن يتصدق فإنه يجري به مجرى
الواجب فلا يعطى الآل منه كما يؤخذ من كلام (م ر) اهـ، فتأمل ذلك تعلم يقيناً أن
القاعدة المذكورة صريحة في حرمة النذر المطلق فقط، وأن كل عبارة صرحت بتحريم النذر
عليهم مرادهم به النذر المطلق، وما في فتاوى ابن حجر وأبي مخرمة وابن زياد وغيرهم
من المسائل الكثيرة في صحة النذر للنبي عليه الصلاة والسلام والشيخ الفلاني
الشريف، وما في القاعدة المشهورة أن إعمال كلام المكلف ما وجد له محمل صحيح أولى
من إعماله، وأنها قد وقعت نذور لا تحصى لأهل البيت ورفعت إلى الحكام الورعين
فحكموا بصحتها كما هو مشهور في سيرهم.
(مسألة: ب): نذر أو أوصى لأولاده الموجودين ومن سيوجد، فالمعتمد الذي يُفهم
من كلام التحفة في الوصية الصحة للمعدوم تبعاً للموجود، وحكم النذر حكم الوصية،
واعتمد أبو مخرمة أنا نتوقف فيهما، فإن حدث له أولاد تبين الصحة في قسط الموجودين
فقط، وإلا كان النذر والوصية باطلين، وعليه لا يمتنع تصرف الناذر وورثة الموصي في
المعين المنذورة أو الوصي بها، لأنا لم نتحقق الاستحقاق، ثم إن تبين الاستحقاق بطل
التصرف في القدر الذي تبين استحقاقه اهـ. قلت: وأفتى عبد الله بن أحمد مخرمة وابن
الطيب الناشري وأبو زرعة بالبطلان مطلقاً، وأفتى ابن جمعان ومحمد بلعفيف بالصحة في
نصفه قال: وهذا الذي ينبغي اعتماده والفتوى عليه، لا سيما وقد مال إلى ترجيحه ابن
حجر في فتاويه ووافقه (م ر) جازماً به وعبد الله بلحاج فضل اهـ فتاوى محمد
باسودان.
(مسألة: ب): اختلفوا فيمن نذر لبعض أولاده دون بعض، فقال الفتى والرداد
وابن زياد والقماط لا يصح إذ شرط النذر القربة وهذا مكروه، كما صوبه النووي في
تنقيح الوسيط، نعم
إن خصص لفضيلة زائدة يقتضيها التفضيل كذي حاجة وفضل صح، ورجح ابن حجر وأبو مخرمة
ويوسف المقري الصحة مطلقاً قالوا: إذ الكراهة لأمر خارج كصوم الدهر اهـ. قلت: وهذا
كما ترى فيمن خص بعض أولاده، أما لو نذر لبعض الورثة دون بعض مع اختلاف الجهة كمن
نذر لأولاده دون أبويه أو زوجه فيصح باتفاق الجماعة ولو بقصد الحرمان خلافاً
للقماط، نعم لا يخلو عن كراهة خصوصاً إذ ظهر منه قصد الحرمان بل الحرمة باطناً
فتنبه، وعبارة (ش) نذرت لإخوتها بجميع ما جره الإرث إليها من أبيها من صامت وناطق
صح النذر، وإن صرحت بأن ذلك بقصد حرمان وارثها، لكن فصل في (ي) فقال: نذر أو أوصى
لبعض أولاده الصغار وزوجته في مقابل ما أعطى بقية الأولاد وما سقط عنده للزوجة
فللمنذور لهم في أربع حالات: درجة الورعين الذين غلب عليهم الخوف وهو التنزه عنه
بالكلية وعدم أخذه وإن طابت به الصدور. ودرجة العدول الأخيار التاركين للعار، وهو
أن يجمعوا الورثة ويعلموهم بأن الناذر فعل هذا في مقابلة ما معكم من العطايا وما
انتفع به من مال الزوجة، فإن طابت نفوسهم وإلا قسموه تركة ودرجة من غلب عليهم حب
الفانية وقصرت هممهم، لكن بقيت معهم مروءة وهو الصلح على البعض وإبطال البعض.
ودرجة السفلة الحمقاء الأراذل المحبين جمع الحطام ولو بخرم المروءة والخصام، وهو
أن يطلبوا حكم الظاهر ويعرضوا على السرائر والضمائر، نعم إن علمت الزوجة تحقيقاً
أن لها عند الزوج شيئاً فلها الدعوى به.
[فائدة]: يعرف قصد الحرمان كما قاله ابن زياد في النذر القرائن الدالة على
قصد الحرمان، أو إقرار المدعى عليه أو نكوله وحلف المدّعي، وحينئذ يأتي خلاف
العلماء، والوجه تخيير المفتي والقاضي اعتماد أيّ القولين كما قاله البصري، وعندنا
أننا نفتي بالتخيير ونقضي بما رأيناه راجحاً بالمصلحة والتوسط بالإصلاح فيما
يجاذبه الاختلاف أصوب اهـ
فتاوى الشيخ عبد الله بن أبي بكر الخطيب.
المنذور به
(مسألة): يصح النذر بالمجهول والمعدوم والغائب، فلو نذر بجارية بذمته فإن
ثبت ولو بشاهد ويمين أنه وصفها بصفة وجبت بتلك الصفة، وإلا حلف أنه لم يصفها ولزمه
جارية ما، كما أن وارثه يحلف على نفي العلم بذلك.
(مسألة: ب): يصح النذر
بالدين ولو لمسجد فيملكه المنذور له، ما عدا قدر الزكاة على تعدد السنين الماضية
إن وجبت فيه ولم يزكه الدائن، فحينئذ متى قبض الناذر شيئاً منه لزمه إعطاؤه
المنذور له بعد إخراج قدر زكاته، ويبرأ المدين بتسليمه للمنذور له كنائب المسجد، هذا إن كان نذر تبرر كنذر لجاج لم
يختر الناذر كفارة اليمين ويأثم المدين بالمماطلة حيث لا عذر بنحو إعسار.
(مسألة: ش): باع ربع
نصيبه من أبيه ثم نذر بنصف ما ورثه من الأب، فهذه من ذوات الحصر والإشاعة، والأصح
فيها وفي نظائرها الحصر فيما يملكه، فيحصر النصف المنذور به في الثلاثة الأرباع
الباقية، فحينئذ يكون المنذور به ثلثي الباقي بعد الربع المبيع وهو نصف الجميع،
كما لو ملك نصف عبد فقال لآخر: بعتك نصف هذا العبد فينصرف إلى نصفه المملوك بكل
الثمن، ورجح البغوي الإشاعة ومحل الخلاف حيث لم يقصد أحدهما وإلا عمل بقصده
اتفاقاً اهـ. قلت: وظاهره أنه يصدق بيمينه فيما قصده لو تنازعا، ووافقه في التحفة
قال: وألحقوا به الهبة والإقرار والوصية، ورجح ابن زياد الإشاعة.
(مسألة: ش): يصح النذر بالمرهون إن علق بصفة وجدت بعد انفكاكه أو معه وإلا
فلا.
(مسألة): ليس للوالد
الرجوع في المنذور به المنجز لولده على المعتمد ولو طفلاً تحت حجره وإن لم يقبضه
الولد، بخلاف الهبة والعطية فيجوز الرجوع فيهما مطلقاً، ما لم يزل ملك الولد عنهما
وإن عاد إليه، وبخلاف النذر المعلق ففيه الخلاف الآتي.
(مسألة: ي): نذر لبعض
بناته بالحلي الذي
عنده، ولبقية الأولاد بما معه من النقد نذراً معلقاً بقبل مرض موته بثلاثة أيام إن
مات بمرض، وبساعة إن مات فجأة، صح النذران وتناول ما كان من النقد بملك الناذر يوم
النذر لا ما حدث بعده، إلا إن أراد دخول الموجود والحادث، فإن لم يرده أو جهل قصده
لم يدخل وفارق الوصية في أن اعتبار المال فيها بحال الموت لأنه وقت اللزوم فيهما
اهـ. قلت: وقوله يوم النذر أي حال التعليق لا حال وجود الصفة المعلق عليها، يعني
الثلاثة الأيام واللحظة قبل الموت فليعلم.
(مسألة: ب): له أخوان
لأبيه وابن أخ، فنذر لابن الأخ بمثل نصيب أحد عميه نذراً معلقاً بقبل مرض موته
بثلاثة أيام إن مات من مرض، وبساعة إن مات فجأة، فمات أحد العمين قبل الناذر، ثم
مات الناذر عن زوجة وأخ، فأفتى بعضهم بأن المنذور له يستحق نصف الباقي بعد فرض
الزوجة، فتكون المسألة حينئذ من ثمانية: اثنان للزوجة، وثلاثة للأخ الموجود،
وثلاثة لابن الأخ وأفتى آخر بأن العبرة بحال الموت، فيأخذ المنذور له مثل الحي،
فتكون مسألتهم من سبعة: للزوجة واحد، وللأخ ثلاثة، ولابن الأخ ثلاثة. وأفتى ثالث
بأنه يستحق مثل نصف أحد الأخوين الحي والميت بتقدير حياته، إذ العبرة بحال النذر
لا حال الموت، فتكون المسألة من ستة عشر، ووجه رجوعها لما ذكر أن أصلها من أربعة:
للزوجة سهم وللعمين ثلاثة، وللمنذور له سهم ونصف إذ هو مثل نصيب أحد العمين، فإذا
أخرجته بقي من التركة سهمان ونصف فحصل الكسر على جميع الرؤوس، فتضرب في أصل
المسألة تبلغ ستة عشر: للزوجة أربعة، ولكل واحد من العمين والمنذور له أربعة،
فيأخذ المنذور له أربعة من رأس المال، تبقى اثنا عشر تركة، للزوجة ثلاثة والباقي
للعم الموجود، والذي يظهر لنا أن المعتمد بل الصواب هو هذا الأخير كما لا يخفى على
الفقيه، وفارقت هذه المسألة نظيرها من الوصية في بعض الأحكام لما فرقوا به بين
النذر والوصية في جمل منها الالتزام في النذر حالاً بخلافها فإنه نيط الالتزام
فيها بالموت، ومنها توقفها على الإجازة فيما إذا كانت لوارث أو زاد على الثلث
مطلقاً ولا كذلك، وهو منها صحتها بالموجود والمعدوم والطاهر والنجس، ولا كذلك هو
في بعض الصور. ومنها أن الاعتبار بالمال بيوم الموت في الوصية على الراجح حتى يعرف
قدر الثلث، فيشمل كل ما حدث بين الوصية والموت، ولا كذلك النذر فإنه إنما يعتبر ما
كان موجوداً حال النذر فحسب، ولو في النذر المعلق بما قبل مرض الموت فلا يتناول ما
حدث بعده، وإذ قد فرقوا في البابين فيما هو المقصود فيهما وهو المال ففي التوابع
أولى، ولا فرق بين أن يأتي الناذر كالموصي بلفظ مثل كما هنا، أو بحذفها فيقول
بنصيب الخ، ولا يشترط إرث العمين ولا أحدهما بالفعل، بل الشرط عدم المانع من نحو
كفر ورقّ، نعم لو ادعى المنذور له أن الناذر أراد بنصيب أحد العمين حال الموت لا
النذر سمعت دعواه لتحليف العم على نفي العلم اهـ، وخالفه (ي ج) فقالا: لا شك في
هذا النذر أنه نصيب معدوم مجهول لا تعلم جزئيته ولا كميته إلا بموت الناذر، بصريح
كلام التحفة والقلائد وفتاوى أبي مخرمة لأنه شبهه بمعدوم، إذ لا نصيب للوارث ما
دام مورثه حياً، وإذا كان معدوماً حال النذر فالمنذور به معدوم، كما لو نذر لزيد
بمثل ما تأخذه الدولة، فلا تمكن معرفة الملتزم إلا بعد أخذته الدولة منه شيئاً،
فإذا أخذه لزمه مثله للمنذور له، فمتى مات الناذر أو أخذ الدولة وجب المنذور به
لوجود الصفة، زاد ي: وإذ قد تبين أن هذا النذر من النذر بالمعدوم المجهول الذي لا
يوجد ولا يعلم إلا بموت الناذر واستحقاق أحد أخويه نصيباً من تركته، وأنهم قاسوه
على الوصية قياساً أولوياً، تحققت أن القسمة واعتبار العدد هنا كما في الوصية،
فحينئذ تكون المسألة من سبعة: للزوجة سهم، وللأخ ثلاثة، ولابن الأخ ثلاثة، إذ بموت
الناذر وجد حق ورثته وهما زوجة وأخ ومسألتهما من أربعة، ويزاد مثل ما للأخ للمنذور
له، فمن جعل المسألة من ثمانية مع عدم اعتبار الأخ الميت وجعل للزوجة الربع فقد
أخطأ في عدم إدخال النقص عليها، لما صرح به الفقهاء أنه إذا كان النذر أو الوصية
بنصيب وارث فصحح مسألة الوارث ثم انظر ما خرج للوارث المشبه بنصيبه فيزاد مثل
سهامه للموصى أو المنذور له، فيلزم من ذلك إدخال النقص على جميع الورثة، كما أن من
اعتبر الأخ الميت وجعل المسألة من ستة عشر فقد أخطأ أيضاً من وجهين: اعتباره الأخ
المذكور لما حققناه من عدم الاعتبار، وجعله القسمة من ستة عشر إذا لحق فيها لو
قدرنا حياة الميت أنها تكون من أحد عشر أصلها أربعة، واحد للزوجة وثلاثة للآخرين
منكسرة عليهما، تضرب اثنان في أصلها بثمانية، اثنان للزوج وستة حصة الآخرين للأخ
الموجود، ويزاد ثلاثة كحصة أحدهما للمنذور له، ولا خلاف في أن النذر يخرج من رأس
المال ولا يحتاج إلى إجازة إذ هو منجز، غير أن المقدار غير معلوم، وأنه إنما
يتناول ما كان من المال حال النذر لا حال الموت عكس الوصية.
(مسألة: ب ك): اختلف العلماء في جواز التصرف في النذر المعلق بصفة قبل
وجودها، فجوّزه الشيخ زكريا وتبعه (م ر) وأبو مخرمة، ووافقهم ابن حجر في الإيعاب،
وموضعين من التحفة، وموضع من الفتح، وفي أحد جوابيه وأبو يزيد، وقال في القلائد
وهو الظاهر: وأفتى به ابن عجيل وعبد الله بلحاج والفتى والردّاد، ويقوي ذلك بطلانه
بموت الناذر قبل وجودها، وممن أفتى بمنع التصرف عبد الله بن أحمد مخرمة وابن عبسين
وابن زياد وابن حجر في بعض الفتاوى، وعبد الله بن أبي بكر الخطيب ونقله عن التحفة
اهـ. قلت: وعبارة التحفة: ولو علق النذر بصفة كإشفاء فهل يصح نحو بيعه قبل وجودها؟
اختلف فيه المتأخرون، والأوجه كما علم مما مر أوائل الباب عدم الصحة، نعم إن بان
عدم الشفاء كأن مات تبين صحة البيع، وبهذا يجمع بين كلامهم اهـ ملخصاً.
(مسألة: ب): ويبطل النذر المعلق بموت المنذور له قبل وجود الصفة، فلو قال
لولده: إن ختمت القرآن نذرت لك بكذا لشيء معلوم أو في الذمة، اشترط أن يختم الولد
في حياة الأب.
(مسألة ش): نذر بمنفعة
نفسه لكافر لم يصح مطلقاً وكذا لفاسق، بما تحصل به مخالطة وإيناس لعدم القربة
فيهما بخلافه بما لا تحصل بها، كما يصح لغيرهما مطلقاً لترغيب الشارح في قضاء
حاجات المسلم، بل إن اتصف المنذور له بالمنفعة المذكورة بنحو علم مع الصيانة، أو
زهد أو شرف، كان نفعه بنحو الخدمة من أعظم القرب، وقد كان جرير البجلي يخدم أنساً
في الصغر مع كونه أصغر سناً منه رضي الله عنهما، نعم إن نذر الفاضل كذي علم وزهادة
خدمة ذي دنيا لم يصح صيانة للعلم كما لا يخفى، وحيث صح النذر فإن قيده بزمن معلوم
تقيد به، وإن أطلق بأن قال: نذرت بخدمتي أو بمنفعتي تأبد، ويتناول كل خدمة تكون
قربة بحيث لو نذرها بعينها صح نذره، نعم يستثنى كل وقت لا يجب على الأجير العمل
فيه.
(مسألة: ش): نذر أو أوصى بمنفعة عين لشخص مدة حياته، كان ذلك مجرد إباحة
لزمت بالنذر أو الموت مع القبول لا تمليكاً، فليس له إجارتها وإعارتها، كما لو نذر
له أن يسكن الدار أو يخدمه العبد، وكذا باستخدامه على المعتمد، فإذا مات المنذور
له عادت للناذر، فوارثه كالوصية بذلك، بخلاف النذر بالمنفعة والخدمة والسكنى
والركوب مع الإطلاق أو التقييد بمدة معلومة، فيملكه المنذور له ويؤجر ويعير ويوصي
به ويورث عنه، وأما النذر والوصية بعين الشخص مدة معلومة كسنة فلغو، لأن تأقيت
الأعيان فاسد ومفسد، بخلاف تأقيتها بمدة حياته فتصح ويملكها المنذور له أبداً
كالمعمرى والرقبى للحديث الصحيح فيهما اهـ. وعبارة ب : نذر له بشيء أو وهبه مع
الإقباض، على أنه إن مات قبله رجع له صح بشرطه وملك المنذور له أو المتهب مؤبداً
ولُغي الشرط كما في العمرى والرقبى، فيصح عقدهما لا شرطهما، كما أفتى به ابن حجر
فيما لو أوصى لآخر بشيء وقال: إن مات قبل البلوغ عاد لوارثي، وكما لو نذر له بكذا
مدة حياته فيتأبد كما في التحفة.
[فائدة]: نذر بقطعة أرض محفوفة بأملاكه صح على الأوجه، وللمنذور له المرور
في أي جانب ما لم يتصل بملكه أو شاع، فليس له المرور في ملك الناذر حينئذ فيما
يظهر، اهـ فتاوى ابن حجر.
(مسألة: ش): نذر له
ببطن سيل سابغ ينتفع به في أرضه، فالمتبادر من ذلك أنه ما يزرع أو يغرس على السيل
فينبت وينمو نموّ مثله ويجفّ بسبب جفاف رطوبته فينزل عليه ذلك حيث لم يرد غيره،
لأن نموّه بسبب سيل آخر، ولولاه لكان قد جفّ، لم يشمله النذر بل مدة النذر
المجهولة انتهت بالجفاف المقدور ويعرف بالعادة، فلو اعتاد نحو العطب بقاءه على ذلك
السيل أربع سنين مثلاً بالنسبة إلى تلك الأرض فما بعدها لم يشمله النذر لكنه مغروس
بحق، إذ ليس فيه تقصير من المنذور له، فحينئذ لا يكلف مالكه القلع، بل يتخير مالك
الأرض بين القلع بالأرش والإبقاء بالأجرة والتمليك بالقيمة، وأما الزرع كالذرة
فيتعين إبقاؤه إلى الحصاد أو القطع بلا أجرة.
باب القضاء
[فائدة]: حكم العرف والعادة حكم منكر ومعارضة لأحكام الله ورسوله، وهو من
بقايا الجاهلية في كفرهم بما جاء به نبينا محمد عليه الصلاة والسلام بإبطاله، فمن
استحله من المسلمين مع العلم بتحريمه حكم بكفره وارتداده، واستحق الخلود في النار
نعوذ بالله من ذلك اهـ فتاوى بامخرمة. ومنها يجب أن تكون الأحكام كلها بوجه الشرع
الشريف، وأما أحكام السياسة فما هي إلا ظنون وأوهام، فكم فيها من مأخوذ بغير جناية
وذلك حرام، وأما أحكام العادة والعرف فقد مرّ كفر مستحله، ولو كان في موضع من يعرف
الشرع لم يجز له أن يحكم أو يفتي بغير مقتضاه، فلو طلب أن يحضر عند حاكم يحكم بغير
الشرع لم يجز له الحضور هناك بل يأثم بحضوره اهـ.
(مسألة: ب): تولية القضاء أي الحكم بين الناس فرض كفاية، يعني قبوله من
متعددين صالحين من الإمام أو مأذونه أو من أهل الحل والعقد أو بعضهم برضا الباقين
عند فقد الإمام بإيجاب، كوليتك أو قلدتك القضاء، وقبول لفظاً فوراً في الحاضر،
وعند بلوغ الخبر في غيره، نعم اكتفى بعضهم بعدم الردّ، ولا يجوز إخلاء مسافة
العدوى عن قاض اهـ. وعبارة ي: إذا لم يكن للبلد سلطان ولا ذو شوكة نافذ التصرف،
لزم أهل الحل والعقد أن يولوا القضاء صالحاً له حسب الزمان والمكان، ويلزمهم
الاجتماع على من يولونه، فلو خالف بعضهم فإن انحاز المولون بجانب نفذت توليتهم في
جانبهم فقط تفريقاً للصفة إلا نفذت في الكل، إذ المراد بأهل الحل والعقد من يتيسر
اجتماعهم، فالممتنع حينئذ لم يتيسر اجتماعه فلا يقدح في التولية، ولا يشترط كون
المولين المذكورين نافذي التصرف، بل ولا بصفات العدالة حيث لم يمكن ذلك، بخلاف ما
لو صدرت التولية من سلطان أو ذي شوكة، فلا بد أن يكون نافذ التصرف ومن اجتماع
أرباب الشوكة فيما لو تعددت، وإلا لم تصح إلا إن استقل بعضهم بجانب فتصح في جانبه
فقط، والفرق أن من شأن ذوي الشوكة قلتهم فيسهل اجتماعهم بخلاف غيرهم، ويشترط
الإيجاب في التولية لا القبول على الراجح ويستفيد ما خص به، نعم إن قال: وليتك
قضاء بلد كذا استفاد جميع ما يصلح للقاضي فيها، ووليتك كعادة من قبلك استفاد جميع
ما صحت التولية فيه لمن قبله، ولا يكفي قول المولي هذا القاضي أو فلان القاضي وإن
نوى به التولية اهـ. قلت: وقوله لا القبول خلاف ما مر عن ب، وقوله: وإلا نفذت في
الكل الخ خالفه أيضاً ب ش وعبارتهما نصب نفسه للحكم بين الناس من غير تولية، أو
ولاء أهل البلد من غير إذن الإمام مع وجوده، أو قال له ذو الشوكة: توسط بين الناس
مجرداً عن نية التولية أو بها ولم يقبل بناء على اشتراط القبول لم يصح كونه
قاضياً، كما لو قلده بعض أهل البلد بغير رضا الباقين، نعم إن قلده أحد جانبي البلد
صح في حقهم فقط، وإن توسط برضا الخصمين كان محكماً وحكمه معروف، أو بغير رضاهما
فحكمه باطل، وقال الروياني: يفسق.
(مسألة: ش): محل ولاية الحاكم ما عين له ونهي عن الحكم خارجه، فيحكم بمحل
لا يقصر فيه المسافر، فإن أطلق التولية كاقض بموضع أو في موضع أو محل أو جهة كذا
دخل المعين، وما دلت القرينة العرفية على إرادته من بساتين ومزارع وقرى حول ذلك
المحل دون ما تدل عليه القرينة.
(مسألة: ي): الذي يظهر أن الإيصاء بالقضاء من قاض لآخر لا ينفذ ولا تنعقد
به ولاية القضاء، لما صرحوا به من أن جهات تولية القضاء إنما نصب الإمام الأعظم أو
ذي الشوكة أو أهل الحل والعقد فقط، بل إن لم يأذن له من ولاه في الإيصاء لم يصح
جزماً، إذ لم يعهد في الشريعة أن من ولي أمراً بتولية غيره أن يولي غيره بإذن
موليه إلا الإمام الأعظم، فما في الأنوار والعباب من قياس القاضي عليه ضعيف، إذ
منصب الإمامة أعلى وأقوى من منصبه لاستقلاله، ولهذا لا ينعزل بالفسق، وتنفذ أحكامه
ولو متغلباً، ويجوز له الاستخلاف مطلقاً، ولا ينعزل نوابه بموته بخلاف القاضي في
الكل اهـ. قلت: وقوله بخلاف القاضي الخ نعم في عزل نوابه تفصيل يعلم من كلام
التحفة وهو أنه إن قال: استخلف عني لم ينعزل بعزله وإن قال عنك أو أطلق انعزل اهـ.
(مسألة: ب): ونحوه ي: شرط القاضي كونه أهلاً للشهادة مجتهداً عارفاً بأحكام
الكتاب والسنة والقياس، ولسان العرب لغة ونحواً وصرفاً وبلاغة، وأقوال العلماء،
نعم قال ابن الصلاح: اجتماع ذلك كله إنما هو شرط للمجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الفقه، أما مقلد لا يعدو مذهب إمام
خاص فليس عليه غير معرفة قواعد إمامه، وليراع فيها ما يراعي المطلق، ولا يجوز له
العدول عن نص إمامه، فإن ولى السلطان ولو كافراً أو ذو الشوكة شخصاً غير أهل
للقضاء كمقلد جاهل وعبد وامرأة وفاسق لكن مع علمه بفسقه فيما يظهر، قاله ابن حجر
وجزم بعدم الفرق نفذت توليته للضرورة إن وافق الصواب، وإن كان ثم مجتهد عدل على
المعتمد لئلا تتعطل مصالح العباد، أما لو لم يكن ثم صالح بأن تعذر أو تعسر نفذت
تولية المقلد والفاسق قطعاً ولو من غير ذي الشوكة، لكن يتعين تقديم الأمثل
فالأمثل، ولا ينعزلان حينئذ بزوال الشوكة اهـ. زاد ب : ويلزم قاضي الضرورة وهو من
فقد فيه بعض الشروط بيان مستنده في سائر أحكامه إن لم يمنع موليه من بيانه، ومثله
المحكم بالأولى فلا ينفذ قولهما، حكمنا بكذا من غير بيان لضعف ولا يتهما.
(مسألة؛ ش): القضاة المنصوبون من ولاة الشوكة إن تأهلوا للقضاء فذاك وإلا
نفذ حكمهم للضرورة ولو فسقة، نعم يجب على ذي الشوكة مراعاة الأقل فسقاً عند عمومه
كنظيره من الشهود، وحينئذ فإن حكم بموجب الكتاب والسنة والإجماع فهو عاص من حيث فقد
بعض الشروط وهو العدالة، وإنما لم ينظروا إليه من حيث تنفيذ الأحكام للضرورة وهو
تعطيل الأحكام، وإن حكم بما ينقض فيه قضاء القاضي فلا شك في عدم نفوذه وزيادة
فسقه، لا سيما إن أكل الرشوة وانهمك في المظالم، ولا يكفر إلا إن استحل مجمعاً على
تحريمه معلوماً من الدين بالضرورة.
(مسألة: ي ش): تعارض في القضاء فقيه فاسق وعامي دين، فإن كان فسق الفقيه
لحق الله تعالى اتجه تقديمه، أو بنحو الظلم والرشا فالدين أولى ويراجع العلماء.
(مسألة: ك): تشترط
العدالة في نائب الحاكم كما تشترط فيه وفي نحو الوصي وينعزلون بالفسق، وإن لم
يعزلوا لزوال الأهلية لكن محله عند تيسر غيرهم، فلو عدمت العدالة تعين تقديم أقلهم فسقاً، إذ لا سبيل
لجعل الناس فوضى، وبحث في التحفة في قاض فاسق ولاه ذو شوكة مع علمه بفسقه أنه لا
يؤثر إلا طروّ مفسق أقبح لأن موليه قد لا يرضى به.
(مسألة: ي): إذا صحت
ولاية الحاكم لم يجز عزله إلا لظهور خلل، ككثرة الشكوى منه، أو ظن ضعفه، أو زوال
هيبته من القلوب، أو لمصلحة كوجود أفضل منه، وكذا مساويه ودونه، وفي توليته تسكين
فتنة أو جمع كلمة، فيجوز حينئذ للإمام كذي الشوكة وأهل الحلّ والعقد عزله، فإن لم
يكن خلل ولا مصلحة حرم ونفذ من الإمام وذي الشوكة لا من أهل الحلّ والعقد، لأن ما
أبيح لضرورة يقدّر بقدرها، ولا يجوز الاعتراض على القاضي بحكم أو فتوى إن حكم
بالمعتمد أو بما رجحوا القضاء به، بل يجب منع المعترض الجاهل غير المتأهل للقضاء،
والفتوى عن الخوض في مسائل العلم، وتعزيره إن لم يمتنع، وإشهار أمره، فإن صدر
الاعتراض عن متأهل لم يعزر لأنه لم يقل ذلك إلا لشبهة قامت عنده، نعم إن عرف
الوالي عناده ولدده وأنه لا مطلب له إلا إبطال الأحكام الشرعية بلا شبهة زجره عن
ذلك بعد مراجعة العلماء الورعين، لأن كلام هذا العالم كقيام بينتين، فالحكم
بتجهيله من غير شهادة بذلك غلط.
(مسألة: ك): طلب للحكم بينه
وبين آخر فامتنع أثم ولم يكفر لكن يعزره الحاكم، ونقل في التحفة أنه لا يجب الحضور
إلا بطلب الحاكم لا الخصم إلا إن قال: لي عليك كذا فاحضر، لا إن قال: بيني وبينك
خصومة، قال: وله وجه ولا إن وكل غيره فلا يجب الحضورحينئذ.
(مسألة: ش): امتنع
القاضي من سماع دعوى ثابتة أو سمع، ولم يطلب من المدعى عليه الخروج منها من غير
عذر أثم، ولا يحكم بفسق لاحتمال أن له عذراً وإن لم يبينه، وإذا امتنع عن الحكم
بعد وجود مقتضيه بلا عذر دخل في حيز كاتم العلم الموعود بالإلجام إذ هو من كتم
الفتوى.
[فائدة]: يحرم على
القاضي تلقين المدّعي الدعوى والمدعى عليه الإقرار والإنكار، وتجريه على اليمين،
والشاهد على الشهادة، ومنعه منها وتشكيكه فيها، وتعليمه كيفية الشهادة لقوّة
التهمة، فإن فعل اعتد بذلك، قاله في النهاية، وبحث في التحفة أن محله في شاهد
مشهور بالورع والديانة وإلا لم يعتد بشهادته حينئذ.
(مسألة: ش): اشترى حانوتاً وأقام حجة بين يدي القاضي وسجل له بها، ثم ادعى
آخر أنه ملكه وأن البائع باع ما لا يملكه، وأتى بالمشتري إلى القاضي المذكور،
فأظهر للقاضي السجل الذي بخطه فمزقه وقال: هذا باطل، فإقدام القاضي على تمزيق الخط
حرام، ويلزمه غرم قيمته إن كان له قيمة، وإن رأى ما يوجب التعزير على المشتري، إذ
لا يجوز عندنا بإتلاف المال على المعتمد، ولو أخذه القاضي منه وأعطاه المدعي من
غير حجة، فإن أقرّ بأنه انتزعه ظلماً فهو آثم بذلك، ويخشى عليه سوء الخاتمة، ولا
يحل لمدعيه أخذه، وإن قال: أنا أعلم أنه له وقد حكمت بعلمي فليس لمشتريه اعتراض
عليه، ولا يرجع بثمنه على البائع لدعواه أن القاضي ظلمه، والمظلوم لا يرجع على غير
ظالمه، بخلاف ما لو أخذه المدعي منه ببينة فيرجع، ولا تقبل دعوى الجور ومتابعة
الهوى على القاضي لأنه نائب الشرع، نعم له بعد عزله إقامة بينة عليه تشهد أنه حكم
بصحة البيع المذكور عند قاض آخر أو محكم بشرط رضاهما بحكم المحكم إلى فراغه.
(مسألة: ي): أرزاق القضاة كغيرهم من القائمين بالمصالح العامة من بيت
المال، يعطى كل منهم قدر كفايته اللائقة من غير تبذير، فإن لم يكن أو استولت عليه
يد عادية ألزم بذلك مياسير المسلمين، وهم من عنده زيادة على كفاية سنة، ولا يجوز
أخذ شيء من المتداعيين، أو ممن يحلفه أو يعقد له النكاح، قال السبكي: فما وقع
لبعضهم من الأخذ شاذ مردود متأوّل بصورة نادرة بشروط تسعة، ومعلوم أنه لا يجوز
العمل بالشاذ.
وجوب الحكم بالراجح ونقض الحكم وانعزال الحاكم وحكم
الخطوط
(مسألة: ب): ليس للقاضي أو المفتي العدول عن نص إمامه، فينقض حكم كل من
خالف إمامه، وألحق به في التحفة حكم غير متبحر، بخلاف المعتمد عند أهل مذهبه، ونقل
ابن الصلاح الإجماع على أنه لا يجوز الحكم بخلاف الراجح في المذهب، واعتمده
المتأخرون كابن حجر و (م ر) وابن زياد والخطيب والمزجد وأبي مخرمة وأبي قشير
والأشخر وغيرهم، وصرّح به السبكي بل جعله من الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، لأنه
أوجب على المجتهدين أن يأخذوا بالراجح، وأوجب على غيرهم تقليدهم فيما يجب عليهم
العمل به، نص على ذلك في التحفة والنهاية والمغني، ومعلوم أن المذهب نقل يجب أن
يتطوّق به أعناق المقلدين حتى لا يخرجوا عنه، وإن اتضحت مدارك المخالفين، وحينئذ
لا يجوز لحاكم ولا مفت العدول عن مرجح الشيخين النووي والرافعي ما لم يجمع من
بعدهم على أنه سهو وأتى به، بل لا يجوز العدول عن مرجح ابن حجر و (م ر) بل عن
التحفة والنهاية، وإن خالف بقية كتبهما، كما نقل الكردي عن نص شيخه الشيخ سعيد
سنبل، ونقل أيضاً عن السيد العلامة عبد الرحمن بلفقيه، أنه إذا اختلف ابن حجر و (م
ر) وغيرهما من أمثالهما فالقادر على النظر والترجيح يلزمه ذلك، وأما غيره فيأخذ
بالكثرة، إلا إن كانوا يرجعون إلى أصل واحد ويتخير بين المتقاربين، قال: فتأمل
قوله وغيرهما الخ، وكيف لا يجوز الإفتاء بكلام الشيخ زكريا والخطيب اهـ. وذكر نحوه
في (ي) وزاد: فالحق أن غير المتأهل كقضاة الزمان يتخير بين هؤلاء وكابن زياد وأبي
مخرمة والمزجد وأضرابهم بشرط مجانبة الهوى والطمع، والأولى بالمفتي أن ينظر، فإن
كان السائل من الأقوياء الآخذين بالعزائم أفتاه بالأشد، وإن كان من الضعفاء
فبالعكس، ويقال مثله في القاضي ما لم يشرط عليه لفظاً أو عرفاً القضاء بقول معين
منهم، وتعارضهم في البحوث كتعارضهم في النقول، نعم الغالب أن أهل مصر يعتمدون كلام
(م ر) وغيرهم من سائر البلاد كلام ابن حجر، وحينئذ إن كان حكم الحاكم وقع بالمعتمد
واجتمعت فيه الشروط ارتفع الخلاف ظاهراً إجماعاً وباطناً على المعتمد كما في التحفة
والنهاية، وكذا بالمرجوح الذي رجح المتأخرون القضاء به للضرورة، كولاية الفاسق،
وكون الرشد صلاح الدنيا فقط، وقبول شهادة الأمثل فالأمثل لعموم الفسق في الثلاث،
فلا ينقض قضاؤه بشرطه، ويرتفع فيها الخلاف أيضاً كما قاله أبو مخرمة والأشخر
وغيرهما.
(مسألة: ي): حكم حاكم من أهل المذاهب الأربعة بحكم مذهبه، والحال أنه مخالف
لمذهبه المحكوم له أو عليه نفذ ظاهراً، وكذا باطناً إن كان ظاهر الأمر كباطنه، ولو
في محل اختلاف المجتهدين على المعتمد، ولزم العمل بمقتضاه مطلقاً، وصار الأمر
متفقاً عليه، ومن ثم حل للشافعي طلب الحكم من الحنفي بشفعة الجوار وإن لم يقلد أبا
حنيفة، لأن من عقيدة الشافعي أن النفوذ باطناً يستلزم الحل، وجاز لقاض شافعي إمضاء
ما أنهي إليه من أحكام مخالفيه.
(مسألة: ج): صيغة بيع كتبها الحاكم وصورتها: باعت فلانة كذا حال كونها
رشيدة على أولادها بعد صحة رشادتها شرعاً، فاستمرت يد المشتري على البيع، وشهد
شاهدان بأن القاضي ثبت عنده ذلك، فعلى الحاكم الثاني المشهود عنده بذلك الحكم به،
وإن لم يسم الحاكم الأوّل شهود رشادة الأم، ولم يقل ثبت لديّ رشادتها، هذا إن كان
عدلاً عارفاً بشروط الحكم والثبوت لا غالب قضاة الزمان، وإذا لزم الحكم بذلك لم
تثبت دعوى الأولاد عدم رشادة الأم، بل ولا إقرارها بذلك لحكم الحاكم بها، والقاضي
في هذا الزمان ليس عليه إلا الحكم بظواهر الأمور، وخصوصاً إذا انضم إلى ذلك قرائن
الأحوال، كعدالة المشتري وتحرجه عن الحرام، وشرائه بحضرة القاضي، والحكم بصحة
الرشادة، وشهادة الشهود بذلك فلا ريبة حينئذ.
(مسألة: ش): حكم الحاكم في مسألة ذات عول بعدمه نقض حكمه، أي أظهر هو وغيره
وجوباً إبطاله، إذ ليس بصحيح حتى ينقض، لما صرح أئمتنا أنه لا يجوز العمل أي فضلاً
عن القضاء والإفتاء، بخلاف ما رجحه الأئمة الأربعة، بل نقل ابن الصلاح الإجماع على
ذلك، وقد اتفق الأربعة وغيرهم على ثبوت العول، وحكي منعه عن ابن عباس، وفي غير
الأكدرية عن زيد رضي الله عنهم، مع أن الذي استقر عليه رأي جمهور المتأخرين أن
القاضي المقلد لو حكم بمرجوح مذهبه فضلاً عن الخارج عنه نقض، كما قاله صاحب العباب
والسبكي، بل جعله من الحكم بغير ما أنزل الله تعالى يستحق فاعله أن يكون أحد
القاضيين الهالكين المتوعدين بالنار في الحديث الصحيح، ولو حكم بصحة الوصية للوارث
من غير إجارة، فإن كان يرى ذلك كزيدي ولاه ذو شوكة نفذ وإلا فلا، نعم لو فرض أن
نحو القاضي له أهلية الترجيح ورأى ترجيح غير الراجح في مذهبه بدليل جيد جاز ونفذ
حكمه به لا بالشاذ منه مطلقاً وإن ترجح عنده، وقال ابن الصلاح: لا يجوز لأحد في
هذا الزمان أن يحكم بغير مذهبه وإن لم يخرج عن المذاهب الأربعة، فإن فعل نقض لفقد
الاجتهاد في أهل هذا الزمان، وهذا في زمنه، فما ظنك بهذا الزمان الذي لم يقم أهله
بحق التقليد فضلاً عن الاجتهاد.
(مسألة: ج): أعتق عبداً ووعده بجارية أو ثمنها، فلما دخل بعض البنادر طلب
العتيق الجارية، فاشترى المعتق جارية وأعطاه إياها، فبقيت بيد العتيق يتصرف فيها
حتى مات السيد عن ابن، ومات الابن عن ورثة، ثم مات العتيق، فادعى ورثة الابن على
وارث العتيق أن الجارية تركة السيد، وادعى وارث العتيق أنها تركة مورثه، وأقام
شاهدين عند الحاكم بما ذكر، فقال الحاكم للشاهدين: أتشهدان بأن السيد تلفظ بصيغة
نذر أو هبة حال الإعطاء؟ فقالا، لا. فقال: هي تركة السيد، فحكمه بذلك باطل من
ثلاثة أوجه: أوّلها أن الحكم لم تتقدمه دعوى صحيحة، إذ شرطها ذكر الانتقال إليهم،
فلا بد هنا من التصريح في الدعوى بأن السيد مات وخلفها تركة ومات ابنه وخلفها تركة
أيضاً وإلا صارت الدعوى لغيرهم فلا تسمع. ثانيها: الظاهر أن مستند القاضي قول الشاهدين:
لا نشهد أن السيد تلفظ بصيغة نذر ونحوه، وهو شهادة على نفي غير محصور وهي غير
مقبولة. ثالثها: أن القاضي عكس قالب الحكم، فجعل البينة على صاحب اليد وهو الداخل،
والأصل في حقه اليمين، فلا يعدل عنها ما دامت كافية، وإنما البينة على المدعي وهو
الخارج، بل لو تعارضت البينتان لم تسمع بينة الداخل إلا بعد بينة الخارج، والظاهر
في هذه الجارية أنها ملك العتيق ووارثه، ودعوى ورثة السيد عدم انتقال ملك مورثهم
خلاف الظاهر فلا تسمع، نعم لو ادعوا أن العتيق غصب الجارية مثلاً وأن مورثهم مات
وهي تركة سمعت.
[فائدة]: قال الشيخ محمد باسودان: وقفت على حكم صدر من بعض القضاة في مال
مشترك بين أخوين شائع ذائع حكم به لأحدهما فأبطلته ونقضته لأمور: الأوّل إجماله
الحكم من غير شروطه المعتبرة، وقد نص في التحفة والنهاية على صحة إجمال الحاكم إلا
إن كان ثقة وأتى به الآن. الثاني: حكمه بأن المدعي لا يستحق ما ادعى به، فهذا من
الغلط الفاحش الذي لا يتعقل، فحقه أن يقول لم يثبت ما ادعى به. الثالث: أن اليمين
التي حلفها المدعى عليه لم تكن بطلب الخصم فلا يعتدّ بها حينئذ، لأن شرطها طلب
الخصم وتحليف القاضي والموالاة ومطابقة الإنكار. الرابع: تهوره في تعليله في رد
شهادة المرقيين بقرب المسافة مع أن المدعي حاضر لديه، فمن حقه أن يحلفه يمين
التكملة بعد شهادة شاهده الأصيل الحاضر لديه، وتعليله رد شهادة الأصيل بكونه لا
يعرف المشهود به وهو لا يشترط معرفته للمشهود به كما صرحوا به. الخامس: صدور الحكم
بغير حضور الخصم، وهذا مما يخل بالحكم ويبطله، لأنه من شروط الحكم كما صرح به في
التحفة اهـ.
(مسألة: ب): ادعى قطعة أرض من بئر ملك للمدعى عليه مرتبة يده عليها من
القطعة المذكورة فأنكره، ثم اتفقا بحضرة رجل يدعي المعرفة أنه متى أتى المدعي
بعدلين أن يقبلهما، ثم أتى المدعي بخط من رجل ذكر فيه أن القطعة ليست من البئر
المذكورة ولا أعلم لمن هي، فتنازعا ثم حضر الرجل المتوسط وقال: قد شهد عندي فلان
لحراث فاسق بترك الصلاة وغيرها وهذا الخط مقبول، وفصل بينهما بإعطاء القطعة
لمدعيها ففعله هذا قبيح بطل من أربعة أوجه وهي: أنه لا يصح حكم فضولي من غير تحكيم
لفظاً وقبول، وأن الشهادة بالخط من
غير حضور الشاهد باطلة، بل لو شهد هنا بما ذكره في خطه لم يكف، لأنه لم يثبت
للمدعي حقاً في الأرض، وأن شهادة الفاسق غير مقبولة، وإن قلنا بالمختار من قبول
شهادة الأمثل فالأمثل عند عموم الفسق، إذ ليس هذا من الأماثل، وأنه لا بد لصحتها
وصحة الحكم بها من حضور الخصم الغير المتعزز والمتواري.
(مسألة: ش): لا يثبت
بالخط إقرار ولو فرض أنه خط المقر، أو قاض موثوق به على المرجح في المذهب، فلو حكم
قاض بالخط في نحو دين نقض حكمه، لأن جواز اعتماد الخط قول شاذ، فحينئذ للمدين
الرجوع على المدعي وكذا على القاضي، وإن كان المدعي موسراً حاضراً بالبلد.
(مسألة: ك) لا يحتج بقوائم القسامة الممهورة بمهر القاضي حيث لم تشهد بما
فيها بينة، بل لا يجوز العمل بها لنفس كاتبها أو شاهد أو قاض إذا لم يتذكر الواقعة
بتفصيلها، وبه يعلم أن فائدة كتابة نحو الحجج والقوائم والتمسكات إنما هو لتكون
سبباً لتذكر ما فيها بالتفصيل، حتى يجوز الحكم والشهادة عليه لا غير اهـ. وعبارة س
: ليس للقاضي أن يقبل الشهادة أو يحكم بمجرد خط من غير بينة مطلقاً عن التفصيل،
بكونه خطه أو خط موثوق به أم لا، احتياطاً للحكم الذي فيه إلزام الخصم مع احتمال
التزوير، هذا مذهب الشافعي الذي عليه جمهور أصحابه، ولنا وجه أنه يجوز للحاكم إذا
رأى خطه بشيء أن يعتمده إذا وثق بخطه ولم تداخله ريبة، وأشار الإصطخري إلى قبول
الخط من حاكم إلى حاكم آخر من غير بينة، وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف: يجوز أن
يحكم بخطه إذا عرف صحته وإن لم يتذكر، قال الماوردي وهو عرف القضاة عندنا: ولا بأس
بترجيح الوجه القائل باعتماد خطه إذا كان محفوظاً عنده ولم تداخله ريبة، ومثل خطه
على هذا الوجه خط غيره، لأن المدار على كونه ظن ذلك ظناً قوياً مؤكداً، فمتى وجد
أنيط الحكم به من غير فرق بين خطه وخط غيره، ومذهب الحنابلة جواز الشهادة بخطه إذا
وثق به وإن لم يتذكر الواقعة. وحكي عن الحسن وسوار القاضي وعبد الله العنبري أن
للقاضي إذاكان يعرف خط الكاتب وختمه له أن يقبله، وحكاه في المهذب عن أبي ثور
والإصطخري وأبي يوسف، وإحدى الروايتين عن مالك، وقال في الخادم: وقد عمت البلوى
بالحكم بصحة الخط من غير ذكر تفاصيله، فإن كان عن تقليد المذهب الشافعي فممنوع
اهـ، وسبيل الاحتياط لا يخفى اهـ، وعبارة ي: لا يجوز لحاكم أن يحكم بمجرد الخط وإن
جوّزنا الحلف عليه بشرطه، كما عليه الشيخان ورجحه المتأخرون، إذ ليس ذلك بحجة
شرعية إذ القاضي لا يحكم إلا حيث يشهد، والأصل في الشهادة اعتماد اليقين أو الظن
القوي القريب من العلم المشار إليه بالظن المؤكد، بخلاف الحلف يكتفى فيه بمجرد
الظن على المعتمد، والفرق أن بابهما أضيق من باب الحلف وخطرهما أعظم، مع قوله عليه
الصلاة والسلام: "على مثلها" يعني الشمس، "فاشهد"، فعلم بذلك
أن القاضي أو الشاهد لو رأى خطه وفيه حكمه أو شهادته لا يجوز له أن يحكم أو يشهد
معتمداً عليه، وإن كان محفوظاً عنده حفظاً تاماً مقطوعاً أنه لا يمكن تزويره أو
شيء منه، بل وإن قطع بذلك حتى يتذكر الواقعة لضعف دلالته، ومثل خطه خط غيره
المجرّد عن القرائن المفيدة للعلم أو الظن القريب، وما نقل عن الإمام مالك من جواز
الشهادة والحكم بالخط فشاذ، بل قد ثبت رجوعه عنه، نعم مرّ في الصوم عن باجمال جواز
اعتماد خط الحاكم الثقة الذي لا يعرف تهوّره في قبول شهادة الفاسق، قال: وهو الذي
انشرح به الصدر بالمصادقة وعليه العمل لانتفاء التهمة.
الحكم بالصحة والحكم بالموجب
(مسألة: ب ش): الفرق بين الحكم بالصحة والحكم بالموجب، احتياج الأوّل إلى
ثبوت الملك واليد إلا في الإقرار فثبوت اليد فقط، ولا يحتاج إليهما الثاني، فحينئذ
الأوّل يتضمن الثاني ولا عكس، فالحاصل أن الحكم إما أن يرد على نفس المسألة
المختلف فيها مطابقة، فليس لحاكم يرى خلافه نقضه إجماعاً، كما لو حكم شافعي لمن
تزوّج امرأة بعد أن قال لها: إن نكحتك فأنت طالق ثلاثاً ببطلان التعليق، فليس
لحنفي الحكم بصحته، ووقوع الطلاق بوجود الصفة، وإما أن يرد عليها تضمناً كحكمة بعد
نكاح ذلك المعلق بموجبه، فكذلك أيضاً على المعتمد، بناء على أن الحكم بالموجب
كالحكم بالصحة في تناول الآثار المختلف فيها، إذ الحكم بالموجب صحيح، ومعناه الصحة
مصوناً عن النقض، كالحكم بالصحة لكنه دونه في الرتبة، فظهر أن الحكم بالصحة التي
هي المطلوبة بالذات حكم بالمطلوب مطابقة، وأن الحكم بالموجب حكم بها التزاماً
والمطابقة أقوى، فحينئذ إذا لم يوجد الشرط المعتبر في الصحة وهو ثبوت الملك واليد
امتنع الحكم بالصحة وجاز بالموجب، وإن وجد أوجب الحكم بها لكونه أحوط، زاد (ب):
والحاصل أن الحكم بالصحة يتضمن الحكم بالموجب ولا عكس، وذلك لأن الحكم بالموجب
يستدعي أهلية المتصرف، وصحة صيغته أي من حيث ذاتها لا خصوص هذه الصيغة، وكل منهما
رافع للخلاف، ويزيد الحكم بالصحة على ذلك كون التصرف صادراً في محله: أي يكون
حكماً بصحة هذه الصيغة بخصوصها، مثل من وقف على نفسه وحكم بموجبه حنفي كان حكماً
منه، بأن الواقف أهل للتصرف وأن صيغة وقفه صحيحة، فلا يحكم بإبطالها من يرى
الإبطال كشافعي، وليس حكماً بصحة وقفه على نفسه أي بصحة هذه الصيغة بخصوصها،
والحكم بالصحة حكم بذلك، فلمن يرى الإبطال نقضه فتأمل. وقال القليوبي: الحكم
بالموجب يستلزم الصحة، ويتناول الآثار الموجودة والتابعة، والحكم بالصحة يتناول
الموجودة فقط، لكنه أقوى من حيث استلزامه الملك، وأما الآثار المترتبة، فإن اتفق
عليها فواضح وإلا فشرط صحة الحكم بها، ومنع المخالف من نقضها أن يكون قد دخل
وقتها، كما لو حكم حنفي بموجب التدبير، ومن موجبه منع بيعه عنده، فليس لشافعي رفع
إليه الإذن في بيعه، فإن لم يدخل وقتها حين الحكم فهو إفتاء لا حكم منه، كما لو
علق طلاق أجنبية على نكاحه لها وحكم حنفي بموجبه، فإذا عقد بها ذلك المعلق كان
للشافعي الحكم باستمرار النكاح، لأن وقوع الطلاق على سبب لم يوجد حال النكاح، قاله
العراقي، وفي شرح شيخنا خلافه، وقد يستوي الحكم بالصحة والموجب، كما لو حكم حنفي
بالنكاح بلا ولي أو بشفعة الجوار، أو الوقف على النفس، أو شافعي بإجارة الجزء
الشائع من نحو دار، وقد يفترقان كمسألة التدبير، فللشافعي الحكم بصحة بيعه إن حكم
الحنفي بالصحة لا بالموجب، وكما لو حكم شافعي ببيع دار لها جاز، فللحنفي الحكم
بالموجب لأنه للاستمرار والدوام، وما لو حكم مالكي في القرض فيمتنع على الشافعي أن
يحكم بالرجوع في عينه إن حكم بالموجب لا بالصحة اهـ، وإذا أراد القاضي أن لا ينسب
إليه في الواقعة شيئاً قال: حكمت بما تقتضيه البينة، فيه، إن صحيحاً فصحيح، وإن
فاسداً ففاسد.
القضاء على الغائب ونحوه وحكم
أمواله
(مسألة): لا تسمع دعوى ولا بينة، ولا ينفذ حكم على غائب بالبلد ولو بعد
الدعوى بحضور الغائب وهو ممن يتأتى حضوره كمن بمسافة عدوى فما دونها، وهي التي
يرجع الخارج إليها بعد الفجر إلى موضعه أوّل الليل، يعني ما ينتهي إليه سفر الناس
غالباً، بل لا بدّ من إحضاره لئلا يشتبه على الشهود أو ليدفع عن نفسه إن شاء،
ولأنه ربما يقرّ فيغني عن البينة والنظر فيها، أو يمتنع الشهود إن كانوا كذبة حياء
أو خوفاً، نعم إن اضطرّ الشهود إلى السفر فوراً ولم يتيسر إحضار المدعى عليه جاز
سماع البينة في غيبته للضرورة، وإن أمكن أن يشهد على شهادته، كما لو قام بالشاهد
عذر منعه من الأداء فيرسل الحاكم من يشهد على شهادته أو يسمعها هو محل عدم سماع
البينة كما ذكر، إن لم يتغلب أو يتوار المدعى عليه ولو لزعمه جور الحاكم، وإلا
فتسمع ويحكم بعد ثبوت ذلك، وإن لم يحلفه يمين الاستظهار على المعتمد تغليظاً عليه
وإلا لامتنع الناس كلهم، فإن لم يكن للمدعي بينة جعل الآخر في حكم الناكل، فيحلف
المدعي يمين الرد ثم يحكم له، لكن لا بدّ من تقديم النداء بأنه إن لم يحضر جعل
ناكلاً، قاله في التحفة.
(مسألة: ش): حكم حنفي على غائب لم ينفذ، وإذا ورد على حنفي أبطله، إذ لا
ينفذ القضاء على الغائب عندهم ما لم يكن القاضي له أهلية الترجيح، ولم يشرط عليه
التزام مذهبه فلا ينقض حينئذ، وإن ورد على شافعي دعاهما إلى الصلح، فإن لم يتيسر
فإلى الدعوى ليسمع البينة فيحكم، فإن لم يتمكن أخبر المدعي بأن حكم الحنفي هذا غير
صحيح لأنه خلاف معتقده، وقياس المذهب إمضاؤه من الحنفي، لأن حكم الحاكم في مسائل
الخلاف يرفعه ويصير مجمعاً عليه.
(مسألة: ك): إذا غاب المدين إلى مسافة العدوى، وهي التي لا يرجع منها
الخارج إليها بعد طلوع الفجر إلى أوائل الليل، سمعت الدعوى عليه كما لو كان حاضراً
ولو بالبلد وتوارى أو تغلب فلم يحضر مجلس الحكم فيحكم عليهم بعد ثوبت ذلك بعلمه إن
كان يعلم ذلك، وإلا فبينته ولو شاهداً ويميناً مع يمين الاستظهار مطلقاً عند (م ر)
واستثنى في التحفة المتواري والمتعزز تغليظاً عليهما، ثم يقضيه من ماله إن كان له
ثم مال، وإلا فإن كان سأله الإنهاء إلى قاضي بلد الغائب وجب، فينهي إليه سماع
البينة ليحكم له بها، ثم يستوفي له الحق، أو ينهي حكمه إن حكم ليستوفي الحق.
(مسألة: ش): مات وعليه دين وله مال بمحمل ولاية القاضي ووارثه فوق مسافة
العدوى، فلذي الدين الدعوى عند الحاكم بأن مورث فلان الغائب مات ولي عليه كذا،
ويقيم البينة بذلك، فيسمعها الحاكم سواء نصب مسحراً ينكر علم الوارث أم لا، إذ ليس
نصبه شرطاً، ثم يحلفه يمين الاستظهار وجوباً بأنه لم يستوف دينه ولا أبرأه منه ثم
يوفيه من التركة، ولوارث على حجته يوم يحضر، فإن كان الوارث حاضراً أو بمسافة عدوى
بمحل ولاية الحاكم فالدعوى حقيقة، إنما هي على الميت، لكن لا تسمع لا في وجه
الوارث الكامل وولي غيره فيزيد لصحة الدعوى مع ما مر، وأنه يعني الوارث حصل في يده
من التركة ما يفي بديني أو بعضه ويبينه، وأنه يعلم الدين ويقيم بينة المال، ويحلفه
الحاكم يمين الاستظهار إن طلبها الوارث، فإن جهلها عرفه الحاكم بأن له اليمين، فإن
سكت حكم بالبينة، ولا أثر لطلبها بعد الحكم حتى لو غاب المدعي حينئذ ووكل بقضاء
الدين، فليس للوارث الامتناع لطلب اليمين لسقوطها، بخلاف ما لو غاب قبل أن يصرح
الوارث بالإسقاط، فله الامتناع حتى يحلف، وليس هذا كغائب، وكّل حاضراً إذا لم
تتوجه إليه اليمين، بخلاف هذا فإن اليمين توجهت إليه قبل غيبته.
(مسألة: ش): أرادت إثبات طلاق زوجها الغائب لم تسمع دعواها ولا بينتها، لأن
من شرط الدعوى كونها ملزمة، ودعواها على غائب لا يريد معاشرتها، والخلوة بها لا
إلزام فيها، بل وإن صرحت بأنها تخاف أن يتعرض لها على الأصح كدعوى الإبراء من
غائب، نعم الحيلة في إثبات طلاقها من زوجها الغائب أن تواطىء رجلاً على أن
يتزوّجها، وتطلب من القاضي أن يزوّجها منه، وتدعي طلاق زوجها الأوّل وتثبته، فيحكم
لها بأنها مطلقة منه بعد تحليفها يمين الاستظهار فيثبت الطلاق، وإن بدا للمواطىء
أن لا يتزوّجها بعد، لانبناء ذلك الحكم على دعوى وشهادة صحيحتين.
(مسألة: ش): أقرّ شخص
عند موته بأن جميع ما بيد رقيقه في السفر ملكه أي الرقيق، وليس له فيه حق وأشهد
على ذلك، فأراد المقرّ له إثبات ذلك لدى الحاكم ليسجل له به لم تسمع دعواه في
الأصح، إذ لا إلزام فيها، كدعوى الإبراء أو الطلاق أو الإكراه في الإقرار على
غائب، نعم له أن يحتال فينصب مسخراً يدعي ديناً الميت، وأن له على فلان أي المقرّ
له كذا، أو في يده أعيان، ويطلب من القاضي خلاص دينه مما في يد المقرّ له، فيدعي
أن ما بيده ملكه، وأن لا دين للميت عليه، وأنه أقرّ قبيل موته بما ذكره ويقيم
البينة، فيحكم له بصحة الإقرار، ثم للوارث تحليفه إن أقرّ الميت عن حقيقة، كما أن
لمدّعي الإبراء والإكراه نصب مسخر بالحوالة عليه من المبرىء أو المقر له، فيثبت
الإبراء والإكراه ويحكم له به.
(مسألة: ش): إذا ثبت على الغائب أو المفلس دين، فإن كان في ماله جنسه أوفاه
الحاكم منه، وإلا باع ماله بنظر المصلحة كالوكيل، وله البيع من أهل الدين
ومعاوضتهم حيث جازت بأن لم يكن دين سلم.
(مسألة: ش): يجوز للحاكم بيع مال الغائب إذا طالت غيبته ولم تمكن مراجعته،
هذا إن كان حيواناً خيف نقصه أو كثرت نفقته، وتعين البيع طريقاً لذلك، وإلا
فإجارته أولى، كغير حيوان خيف تلفه أو تلف معظمه بشرط أن يبيعه حالاً من نقد البلد
إن أمكن، وإلا فنسيئة من موسر أمين، ويرتهن ما يفي بالثمن إن لم يخف تلف الرهن
وإلا تركه، إذ قد يرفعه لحنفي يرى سقوط الدين بتلف الرهن، وأن يقصر الأجل ما أمكن،
قال بعضهم: وأن يشهد.
(مسألة: ش): الحاصل في
قبض الحاكم دين الغائب، أن المدين إن كان له غرض سوى براءة ذمته، كمكاتب يريد
العتق، وراهن يريد فك المرهون، ووارث يريد فك التركة، وضامن يريد فك ضمانه، وشفيع
يريد تسلم الشقص، وجب على الحاكم قبض الدين وإلا لم يجز له قبضه، لأن الأصلح
للغائب الذي صيرته الغيبة كالمحجور في مراعاة مصلحته ترك الدين في ذمة المقرّ
المليء، إذ هو خير من صورته أمانة بيد الحاكم، وخرج بهما الجاحد والمعسر، فيلزمه
الأخذ منهما قطعاً، وحيث جوز قبض الحاكم فليودعه عند ثقة يرتضيه ولا يتركه عنده
للتهمة، وهذا في القاضي الثقة. أما غيره فلا يجوز إقباضه، ولا يبرأ بذلك المدين،
ولا يحصل مقصوده من فك رهن ونحوه.
(مسألة: ش): غاب شخص غيبة طويلة ولم يعلم موته ولم يحكم به، وخيف الاستيلاء
على نحو أرضه من ظالم لم يكن لوارثه بفرض موته الدعوى على الظالم، إذ ليس مالكاً
ولا نائباً عنه وإن احتمل موته، لأن الأصل بقاء الحياة، ولا يقاس بمخاصمة المستأجر
والمرتهن إذ لهما حق المنفعة، فإذا ثبت موته طالب وارثه الغاصب بالعين وأقصى أجره،
ويكفي قول البينة كانت ملك مورثه ولا نعلم له مزيلاً، نعم إن علم قاضي ذاك المحل
ملك الغائب منع المستولي عليها، وله تأجيرها مع مراعاة مصلحة الغائب كيلا تضيع المنافع،
لأنا نعلم أنه يرضى بحفظ ماله، فإن
لم يعلمه جاز له على المعتمد أن ينصب من يدعي له على الغاصب ويسمع البينة.
القسمة
(مسألة: ي): قسمة المشترك إما إفراز وهو ما كان مستوي الأجزاء صورة وقيمة
مثلياً كان أو متقوماً، أو تعديل وهو مختلفهما صورة أو قيمة أو هما معاً، أو ردّ
وهو ما احتاج مع الاختلاف إلى رد مال أجنبي، ويجبر في الأوليين إن وجد النفع
المقصود من المقسوم لطالبها فقط لا عكسه، كما لا يجبر في الأخيرة مطلقاً، وحينئذ
لو اقتسما أرضاً نصفين ثم بان الغلط بزيادة أحد النصيبين بنحو الرّبع في الذرع،
فإن كان القسمة إفرازاً بأن جعل في مقابلة القطعة أخرى تساويها صورة وقيمة، ثم ظهر
خلاف ذلك، أجبرهم الحاكم أم لا. أو تعديلاً مجبراً عليها بشرطه وامتنع أحدهما فحكم
عليه الحاكم بالإجابة فعدلت بما يساويها في القيمة، ثم بان أنها تزيد على عديلتها
عند القسمة، بان بطلان القسمة في الصورتين، لكن في تينك القطعتين فقط لا في كل
المال، سواء ذكر ذرعها عند القسمة أم لا، وإن كانت تعديلاً ولم يلزمهم بها الحاكم،
بل اتفقا اختياراً على القسمة أو رداً مطلقاً فصحيحة، ثم إن ذكر ذرعها عند القسمة
ثبت الخيار لمن حصل عليه النقص منهما، وإن لم يذكر الذرع عندها فلا خيار، وإن كثر
التفاوت إذ هما بيع، ولا يؤثر فيه الغلط على الأصح، وثبوت النقص إما بإقرارهما أو
بعدلين أو علم القاضي أو اليمين المردودة.
[فائدة]: الأظهر أن قسمة المشتبهات إفراز لا مدخل للرّبا فيها لا بيع، ويدل
له أنه قرر قسمة اللحم رطباً، ومن ذلك قسمة الرطب والعنب على الشجر أو في الأرض
كيلاً، ولا يضر تعلق الزكاة بها فيزكي كل حصته، وكذا في الحبوب، ولا يتوقف جلّ حقه
وتصرفه فيه على إخراج الآخر ما عليه، اهـ فتاوى بامخرمة، ووافقه البكري في جواز
قسمة اللحم، وخالفه ابن حجر فقال: لا تجوز قسمته إلا وزناً بعد نزع ما يمنع معرفة
الأنصباء وإن اعتيد قسمته جزافاً، واتفق الأخيران على عدم صحة قسمة المشويّ
مطلقاً، اهـ اختصار المرعى الأخضر لابن قاضي.
(مسألة): لا تجوز قسمة الوقف من الملك إلا إن كانت إفرازاً، وإن كان فيها
رد من أرباب الوقف، بخلاف ما لو كان بيعاً فتمتنع مطلقاً، كما لو كان فيها رد من
المالك، كما في التحفة والنهاية، نعم نقل في القلائد اختيار الجواز مطلقاً عن
البحر قال: لتداعي بقاء الشيوع إلى الخراب، واختاره في الحلية وابن الصلاح والروضة
للضرورة، وقال في العباب: وحيث جازت أي القسمة أجبر صاحب الوقف بطلب المالك ولا
عكس، وتلزم في حق المتقاسمين لا باقي البطون، وتمتنع قسمة الوقف بين أهله وإن كانت
إفرازاً، فإن جرت وحكم بها من يراه لم ينقض اهـ.
(مسألة: ج): اقتسم الورثة وحجة الإسلام باقية بذمة الميت بأن استطاع في
حياته، فإن كانت القسمة إفرازاً صحت، ثم تباع الأنصباء وتصرف في الحجة إن لم يوف
الورثة من غيرها، وإن كانت تعديلاً أو رداً فهي بيع، فيفرق بين أن يعلموا وجوب
الحجة فتبطل أو لا فتصح إن أخرجوها وإلا نقضت، وهذا كدين ظهر بعدها، كما أفتى به
أبو مخرمة.
(مسألة: ك): عين بئر
بين شخصين، طلب أحدهما قسمتها أجبر الآخر إن أمكن بأن وسعت وأمكن أن يبني فيها
فتجعل بئرين، لكل واحدة بياض يقف فيه المستقي ويلقي فيه ما يخرج منها، كما تثبت
الشفعة في ذلك وإلا فلا.
(مسألة: ش): المشترك على جهة الشيوع كل جزء منه مشترك بين أهله بحسب
الاستحقاق، لا يمكن اختصاص أحد الشركاء منه بشيء حتى تقع قسمة صحيحة تمتاز بها
الأنصباء بأن يقاسم الشريك أو يغيب فيقاسم الحاكم بعد طلبها، نعم أفتى القفال بأنه
لو امتنع من قسمة المتماثل فللشريك أخذ حصته بلا قاض، وقيل يجوز الانفراد بالقسمة
في المتشابهات مطلقاً، فعليه يجوز لبقية الشركاء إذا خافوا أخذ متغلب حصة شريكهم
قبل القسمة تقليد هذا القول لئلا يتبعهما الشريك بحصته، لكن لو رفعهما إلى قاض
شافعي لزمه الحكم بالراجح من بطلان تلك القسمة، ولو طلب أحد الشريكين القسمة لزم
الآخر إجابته بشروطها المعروفة، فإن لم يجتمع لم يلزمه وينتفعان مهايأة أو يؤجران
العقار ويقتسمان أجرته.
(مسألة): طلب أحد الشريكين قسمة الأرض المشتركة، وأن تكون حصته بجانب أرضه
الخاصة أخبر الآخر، كما قاله ابن حجر و (م ر) والخطيب تبعاً للبكري، وقال أبو
مخرمة: لم يجبر الشريك على إعطاء الحصة المناسبة لشريكه، وفرق بينها وبين أسّ
الجدار المشترك.
(مسألة: ي): القسمة إن
وقعت على وفق الشرع، كما لو اختلف في مال الزوجين فقسم على التفصيل الآتي في
الدعوى من تقديم البينة ثم اليد ثم من حلف ثم جعله أنصافاً عند عدم ما ذكر فصحيحة،
وإن وقعت على خلاف الشرع بغير تراض بل بقهر أو حكم حاكم فباطلة إفرازاً أو تعديلاً
أو رداً، لأنها مقهور عليها فلا رضا، والقهر الشرعي كالحسي، وهذا كما لو وقعت
بتراض منهما مع جهلهما أو أحدهما بالحق الذي له، لأنها إن كانت إفرازاً فشرطها
الرضا بالتفاوت، وإذا كان أحدهما يعتقد أن حقه الثلث لا غير وله أكثر شرعاً فهو لم
يرض بالتفاوت، إذ رضاه بأخذ الآخر شيئاً من حقه ما يكون إلا بعد علمه بأنه يستحقه،
وإن كانت تعديلاً أو رداً فكذلك أيضاً لأنهما بيع وشرطه العلم بقدر المبيع، وقد
أفتى أبو مخرمة بعدم صحة البيع فيما لو باع الورثة أو بعضهم التركة قبل معرفة ما
يخص كلاًّ حال البيع وإن أمكنهم معرفتها بعد، وإن وقعت بتراضيهم ولم يكن فيهما
محجور مع علمهما بالحكم لكن اختارا خلافه صحت في غير الربوي مطلقاً، وفيه إن كانت
القسمة إفرازاً، لأن الربا إنما يتصوّر جريانه في العقود دون غيرها كما في التحفة،
وإن كان ثم محجور، فإن حصل له جميع حقه صحت وإلا فلا.
الشهادات
(مسألة: ش): لا خفاء أن كتمان الشهادة بلا عذر كبيرة ووعيدها شديد وهي
قسمان: إما شهادة حسبة فيجب على متحملها أداؤها فوراً إذا ترتب على تأخيرها مفسدة،
بل إن تأخر بلا عذر فسق وخرج عن أهلية الشهادة، إذ من رأى رجلاً وامرأة مجتمعين
على ظاهر الزوجية وعلم طلاق ذلك الرجل لها، أو رأى تصرفات مشتري أرض وعلم وقفيتها
وما بها من البائع لها قبل البيع ولو بإقرار الزوج والبائع بذلك فلم يبادر
بالشهادة فقد فسق بكتمان الشهادة، وترك إزالة المنكر بلسانه الذي هو مقدوره، وردت
شهادته لاعترافه بالفسق على نفسه، والشاهد متى اعترف بالجرح قبل الحكم ردت شهادته
وإن لم يفسر ما هو مجروح به، نعم يعذر في التأخير بنحو نسيان وجهل، وينبغي للحاكم
أن يستفصل عاصياً مشهوراً بالعدالة، إذ ربما ظن ما ليس بمفسق مفسقاً، فإن لم يقر
لم يحكم بفسقه بمجرد التأخير، لاحتمال أن له عذراً كنسيان أو جهل، بل لا يسأل عن
سبب التأخير حيث لم يرتب الحاكم فيه، وأما شهادة غير حسبة فإن كان من له الشهادة
بتحمل الشاهد فلا حرج في التأخير إلى طلب ذي الحق بل في المبادرة بها، وهذا محمل
ذمه في الحديث الصحيح، وإن لم يكن عالماً فعلى المتحمل إعلامه ليتمكن من طلبه للشهادة
في وقتها، وهو أو شهادة الحسبة محمل حديث: "خير الشهود من أدى شهادته قبل أن
يسألها" عملاً بالروايتين.
شروط الشاهد
(مسألة): من شروط الشاهد التيقظ وضبط ألفاظ المشهود عليه بحروفها من غير
زيادة ولا نقص، ولا تجوز الشهادة بالمعنى، ولا تقاس بالرواية لضيقها، ولأن المدار
هنا على عقيدة الحاكم لا الشاهد، فقد يحذف أو يغير ما لا يؤثر عند نفسه ويؤثر عند
الحاكم، نعم يجوز التعبير بأحد الرديفين عن الآخر حيث لا إبهام، قاله في التحفة
والنهاية. قال ع ش: قوله بالمعنى أي فلو كانت صيغة البيع مثلاً من البائع بعت، ومن
المشتري اشتريت فلا يعتد بالشهادة إلا إذا قال: أشهد أن البائع قال: بعت، والمشتري
قال: اشتريت، بخلاف ما لو قال: أشهد أن هذا المشتري هذا من هذا فلا يكفي فتنبه له
فإنه يغلط فيه كثيراً اهـ.
(مسألة: ي): يشترط في الشاهد برؤية الهلال وغيرها لدى الحاكم الإسلام،
والتكليف والحرية والرشد والنطق والبصر والعدالة والذكورة والمروءة وهي ترك ما
يزري بفاعله عرفاً، يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأماكن والأفعال، فمن المخلّ
بها إدامة ترك تسبيحات الصلاة وترك الوتر والرواتب، وإدامة تأخير الصلاة عن أول
وقتها، ونتف إبط وأنف، ومد رجل بحضرة الناس، وتكرر نتف لحية عبثاً وغيرها،
والعدالة ترك جميع الكبائر وغلبة الطاعات للصغائر، فمن ارتكب كبيرة وهي كل جريمة
تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين وقلة الديانة فهو فاسق غلبت طاعاته معاصيه أم لا،
ومن أصر على صغيرة أو صغائر داوم عليها أم لا، أو أكثر من الصغائر ولو من غير
إصرار، فإن غلبت طاعاته معاصيه بالنسبة لتعدد صور الطاعات والمعاصي فعدل، وإن غلبت
المعاصي أو استويا ففاسق اهـ. وعبارة ب: وبالجملة فقد تعذرت العدالة في زماننا،
لأن الفسق قد عم العباد والبلاد، كما قاله الإمام الغزالي والغزي، فلينظر المنصف
في نفسه وبلده بل في قطره، هل يجد أحداً من أهل عصره لم يرتكب كبيرة أصلاً ولم يصر
على صغيرة؟ فلو لم يكن من الكبائر إلا الوقيعة في العلماء بنحو غيبة أو نميمة أو
سعاية عند ظالم أو الاستماع إليها والرضا بها التي صارت كالفاكهة في مجالس الخاصة
والعامة من غير أن يروا به بأساً لكفى بها مفسقاً، وإن غلبت طاعاته للإجماع على
أنها كبيرة، وكالكبر والحسد والرياء والعجب، وأما الصغائر فلا تدخل تحت الحصر، ولو
لم يكن منها إلا الإصرار على نظر الأجنبيات ومصافحتهن والخلوة بهن، ومجالسة الفساق
إيناساً لهم المألوف لكفى.
(مسألة: ك): كل من ارتكب كبيرة فهو فاسق لا يصح
منه ما تتوقف صحته على العدالة، كولاية عقد النكاح والقضاء والشهادة، ومن الكبائر
ترك تعلم ما تتوقف عليه صحة ما هو فرض عليه من المسائل الظاهرة لا الخفية، إذ
العوام لا يكلفون بمعرفتها وإلا تساوى العلماء والجهال، فإن أتى بسائر ما تتوقف
عليه صحة العبادة، رجح ابن حجر أنه غير كبيرة لصحة عبادته مع ترك تعلمه، وما أفتى
به الشيخ زكريا من عدم قبول شهادة من لم يعرف نحو الأركان والشروط يحمل على ما إذا
لم يعلم ذلك ويخلّ به اهـ. وعبارة ب ي ش: إذا حكمنا بفسق الشخص ردت شهادته في
النكاح وغيره، نعم أفتى بعضهم بقبول شهادة الفاسق عند عموم الفسق، واختاره الإمام
الغزالي والأذرعي وابن عطيف دفعاً للحرج الشديد في تعطيل الأحكام، لكن يلزم القاضي
تقديم الأمثل فالأمثل، والبحث عن حال الشهادة، وتقديم من فسقه أخف أو أقل على
غيره، زاد ش: ويجوز تقليد هؤلاء في ذلك للمشقة بالشرط المذكور، على أن أبا حنيفة
قال: ينفذ حكم الحاكم بشهادة الفاسق إذا لم يجرّب عليه الكذب، فيجوز تقليده أيضاً
عند شدة الضرورة، بل جوّز النكاح برجل وامرأتين، كما جوّزه هو وأبو ثور بشهادة
الفاسقين، وهو رواية عن أحمد، ولو اطلع الحاكم على فسق الشاهد باطناً لم يعمل به،
إذ هو مأمور بالحكم بالظاهر، لأن الإلهام ليس بحجة عند الجمهور، وزاد ب: ويجوز
تقليد المذكورين، بل هو المتعين في هذا الزمان لفقد العدالة لكن بالنسبة للضروريات
كالأنكحة، بخلاف نحو الأهلة فلا ضرورة فيها، وقضاة الزمان لا يراعون هذا الشرط، بل
يقبلون شهادة الفاسق مطلقاً، فحينئذ لا يترتب عليها حكم اتفاقاً، ومن هنا تعلم
تحتم معرفة فن الفلك على أهله لا بالنظر إلى أصله، بل لما يترتب على شرب نهله
وعلله، وزاد ي: ومحل وجوب تحري الأمثل فالأمثل في الشهادة الاختيارية كالنكاح، ومع
هذا فلنا قول أنه لا تشترط العدالة فيه مطلقاً، وإذا تأملت عقود أكثر أهل الزمان
وجدتها لا تصح إلا على هذا القول، أما الاضطرارية كالغصب والسرقة فالشرط فيه أن
يكون معروفاً بالصدق غير مشهور بالكذب، فيجب على الحاكم كمال البحث، فإذا غلب على
قلبه صدقه قبله، ولو لم نقل بهذا لتعطلت الحقوق.
[فائدة]: لا يأثم من شهد لبعضه أو على عدوّه أو مع فسقه بما يعلمه ولا
المشهود له أيضاً، كما اختاره ابن عبد السلام، لأنه لم يحمل الحاكم على باطل بل
على إيصال حق إلى مستحقه اهـ إمداد. وتردد في الفتح المجمع عليه ثم اختار الجواز
إن كان لإنقاذ نحو بضع أو عضو.
(مسألة): تقبل شهادة
أحد الزوجين للآخر، وعليه كغيرها من القرابة غير الأصول والفروع وإن بعدوا، فلا
تقبل شهادتهم للمشهود عليه في غير النكاح، وتجوز منهم على الأصل والفرع.
(مسألة: ي): ضابط التشبه المحرم من تشبه الرجال بالنساء وعكسه ما ذكروه في
الفتح والتحفة والإمداد وشن الغارة، وتبعه الرملي في النهاية هو أن يتزيا أحدهما
بما يختص بالآخر، أو يغلب اختصاصه به في ذلك المحل الذي هما فيه.
(مسألة: ك): التصفيق
باليد وضرب الدف والرقص وضرب الصنج في حال الذكر ليس بمطلوب لا سيما حال القراءة،
إلا إن غلبه الحال وخرج عن الاختيار فلا لوم عليه، ونقل ابن حجر عن الطرطوشي ما
حاصله: أن مذهب السادة الصوفية أن الرقص وضرب الدف والشبابة بطالة وضلالة، وما
الإسلام إلا كتاب الله تعالى وسنة رسوله ، وأما الرقص والتواجد فأوّل من أحدثه
أصحاب السامري حين اتخذ لهم العجل فقاموا يرقصون ويتواجدون، وإنما كان مجلس رسول
الله مع أصحابه كأن على رؤوسهم الطير من الوقار، فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعوهم
من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم
أو يعينهم على باطلهم، هذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وغيرهم من أئمة المسلمين
اهـ. وما ذكره من التصفيق ما بعده فقد اختلف في تحريمه، أما التصفيق باليد خارج
الصلاة من الرجل فقال (م ر) بحرمته حيث كان للهو أو قصد به التشبه بالنساء، ومال
ابن حجر إلى كراهته ولو بقصد اللعب، وأما الضرب بالدف فصرح ابن حجر بأن المعتمد
حله بلا كراهة في عرس وختان وغيرهما وتركه أفضل، وأما الرقص بلا تكسر وتثنّ فالذي
اعتمده ابن حجر أنه مكروه ونقل عن بعض أصحابنا حرمته إن أكثر منه أما ما هو بتكسر
وتثنّ فحرام مطلقاً حتى على النساء، كما صرح به في كف الرعاع، وأما ضرب الخشب بعضه
على بعض فقد نقل سم حرمته كالضرب بالصفافتين وهما قطعتا صفر تضرب إحداهما على
الأخرى ويسمى الصنج، وأفتى ابن حجر بحرمة ضرب الأقلام على الصيني وضرب قطعة منه
على الأخرى، وبالجملة فكل ذلك إما حرام أو مكروه أو خلاف الأولى.
(مسألة: ش): ساومه رجل في بضاعة وهو يعلم مماطلته فقال له: قد بعتها ولم
يبق عندي شيء، فليس من الكذب المحرم كجحد نحو الوديع الأمانة خوفاً عليها من ظالم،
بل قد يجب وينبغي أن يورّي بأن يقصد بما عندي شيء أي حضرني إذ في المعاريض مندوحة
كما في الحديث، ولا إثم عليه في هذا الكذب الصوري، ولا يستحق إثم الخيانة الواردة
في الحديث.
(مسألة: ك): للتوبة
ثلاثة شروط: الندم على الفعل، والإقلاع في الحال، والعزم على عدم العود، ويزيد حق
العباد برد المظالم إليهم، فيلزمه تمكين المستحق من العقوبة أو استحلاله إلا أن لا
يمكن ذكره لأدائه إلى مفاسد لا يمكن تداركها، كزناه بحليلته فتبقى المظلمة بعنقه
فيجبرها بالحسنات، كما يجبر مظلمة الميت والغائب بذلك، وأما حقوق الله تعالى
كالزنا وشرب الخمر فالأولى في ذلك التوبة والستر على نفسه، بل وإنكار فعل ذلك
بالشروط المذكورة اهـ. وعبارة ي: زنى بامرأة مزوجة أو اغتابها أو لاط بشخص اشترط
في توبته إعلام الزوج بالزنا واللواط وبما اغتابها به وإحلاله، واستحلال أقارب
المزني بها أو الملوط به، إذ لا شك في أن الزنا وللواط إلحاق عار وأيّ عار
بالأقارب، وتلطيخ لفراش الزوج، فوجب استحلال الجميع، نعم إن خشي فتنة كما هو
الغالب تضرع إلى الله تعالى في أن يرضيهم وأكثر لهم من الدعاء، ولا وجه للاستحلال
حينئذ، ولا يكفي الاستحلال من غير تبيين، وقيل يبرأ مع الإبهام، ورجحه في الروضة،
ووافقه الحليمي وغيره، ويتعين ذلك عند خشية الضرر كما قاله في الإحياء.
شروط الشهادة وشهادة الحسبة
(مسألة: ب): ونحوه ك: ليس للشاهد تحمل الشهادة بالخط وإن اعترف به المشهود عليه حتى يقرأ عليه الكتاب
أو يقول: أنا عالم بما فيه ولا يكفي هذا خطي وما فيه وصيتي مثلاً. زاد ك: وقال
المروزي: يكفي الإشهاد عليه مبهماً اهـ. وفي ش: ولنا وجه أنه يجوز للشاهد إذا رأى
خطه بشيء أن يعتمده إذا وثق به ولم تدخله ريبة، وهو مذهب الحنابلة قالوا: وإن لم
يتذكر الواقعة، قال الماوردي: ولا بأس بترجيحه إذا كان الخط محفوظاً عنده ومثله خط
غيره، إذ المدار على كونه ظناً مؤكداً.
(مسألة: ش): أقام
المدعي بينة بأن العين التي اشتراها المدعى عليه من فلان ملكه، ولم يذكر الشاهد أن
مستنده تصرفه فيها ولا علمه القاضي قبلت، بخلاف ما لو صرح الشاهد باستناد شهادته
لما ذكر أو علمه القاضي، وأولى منه بطلانها بأن مورث المدعي كما يشركه إياها أي
يعامله عليها بالمخابرة أو يأذن له في عمارتها لعدم تصريحه بالملك، إذ المخابر
والمعير يحتمل أن يكونا مالكي المنفعة فقط.
(مسألة: ك) يكفي في الشهادة قول الشاهد: أشهد أن هذا مال فلان الآن، وإن
كان مستنداً في شهادته لحالة سابقة كما هو مقرر، نعم لو شهد بملك أمس ولم يتعرض
للحال لم يكف حتى يقول: ولم يزل ملكه، أو لا أعلم له مزيلاً، وقد تسمع الشهادة مع
استناد الملك إلى زمن سابق، وإن لم يتعرّض للملك حالاً، كأن شهدت بينة بإقرار
المدعى عليه أمس بالملك للمدعي فيستدام حكم الإقرار وإن لم تضر بالملك حالاً، إذ
لولاه لبطلت فائدة الأقارير، أو أنها أرضه زرعها، أو دابته نتجت في ملكه، أو هذا
الغزل من قطنه، أو الطير من بيضه أمس، أو بأن هذا ملكه أمس اشتراه من المدعى عليه،
أو أقرّ له به، أو ورثه أمس، إلى آخر ما أطال به في التحفة.
[فائدة]: يجب على شهود النكاح ضبط التاريخ بالساعات واللحظات، ولا يكفي
بيوم الجمعة مثلاً، بل لا بد أن يزيد عليه بعد طلوع الشمس بلحظة مثلاً، لأن النكاح
يتعلق به إلحاق الولد بستة أشهر ولحظتين من حين العقد، فعليهم ضبط التاريخ لذلك
اهـ سم.
(مسألة: ش): ادعى على آخر أنه وقعت يده على قدر معلوم من الذهب المسبوك،
وأقام شاهدين شهدا أن المدعى عليه وقعت يده على دارهم قدر هذا المبلغ، لم تقبل
الشهادة لمباينتها الدعوى، نعم إن رجعا فشهدا على وفق الدعوى قبلت، كما أفتى به
القفال فيما لو شهد أحد الشاهدين بالبيع والآخر بالإقرار به لم تلفق، فإن رجع
أحدهما وشهد بما شهد به الآخر قبل، إذ يجوز أن يحضر الأمرين سواء كان رجوعه في ذلك
لمجلس أو في مجلس آخر.
(مسألة: ج) إذا شهد
العدلان على من عرفا نسبها واسمها وهي منتقبة قبلت شهادتهما وصحت وجاز التحمل، بل
لا يجوز لهما كشف نقابها حينئذ، ومحل عدم جواز التحمل على المنتقبة حيث كان
الاعتماد على صوتها فقط، وله الاعتماد على قول عدل: إن هذه فلانة وإن لم يعرف
نسبها، والفتوى والعمل على ذلك.
(مسألة: ي): شرط شهادة الاستفاضة في نحو النسب جزم الشاهد لا نحو أسمع
الثقات أو استفاض عند الناس إلا إن ذكره لقوّة الخبر، فلو كانت امرأة تنسب إلى رجل
يقال له عقيل، ورجل ينسب إلى أخيه أحمد، فإن شهد اثنان بأن أحمد شقيق عقيل شقيق له
غيره من ذكور أخوته المعقبين ذكراً ودرجاً، نسب المرأة إلى عقيل والذكر إلى أحمد
وجزما بالشهادة كما ذكر، كان وليها الأقرب من ذرية أحمد المذكور، ويجوز للشاهد
الجزم بالشهادة، وإن كان مستنده السماع والاستفاضة، لكن إن سمع من جمع يؤمن
تواطؤهم على الكذب وحصل الظن القوي بصدقهم ولم يعارض المشهود به ما هو أقوى كإنكار
المنسوب إليه ولم يسمع طعن أحد فيما شهد به، نعم إن دلت قرينة على كذب الطاعن لم
يؤثر طعنه، وإذا جزم الشاهد بما تجوز به الشهادة بالتسامع لم يلجئه الحاكم إلى
بيان مستنده إلا إن كان عامياً فيلزمه سؤاله لجهله بشروطها اهـ. وفي ش عن
العمراني: أنه لا عبرة ببينة النسب ما لم تذكر كيفية الإدلاء إلى المنتسب إليه،
فلا يكتفي بكونه قريبه فقط.
(مسألة: ي): ضابط شهادة الحسبة كل حق لله تعالى، أو كل حق مؤكد لا يتأثر
برضا الآدمي، كما قاله في التحفة والنهاية.
(مسألة: ش): باعا أرضاً
ثم شهدت بينة حسبة بإقرار البائعين بوقفيتها منذ أزمنة حكم ببطلان البيع، وإن لم
يبادر الشهود بعد علمهما بالبيع، إذ ربما كان تأخيرهما لعذر، فحينئذ يرجع المشتري
بثمنه على البائع ثم تركته، ويلزمه أجرة المثل مدة بسطه على الأرض، بخلاف ما لو
اعترف الشهود بالتأخير بلا عذر، فلا ينفذ حكم الحاكم بالبطلان بل ينقض، إذ هم
حينئذ فسقة ما لم ير هو جواز شهادة الفاسق، كما أن محل قبول هذه الشهادة أيضاً إن
شهدا بإقرار البائعين المذكورين بأنها وقف فقط، وكذا وقف فلان ولم تستند
للاستفاضة، إذ لا بد في هذه من سماع لفظ الواقف ورؤيته، لا بأنها وقف علينا أو على
آل بالحاف مثلاً وهم هم، فلا يثبت بهاتين الوقف، ولو اتفق أن شهود الوقف وجدوا
شهوداً أيضاً في بعض مساطير الملك بتلك الأرض لم يقدح في شهادتهما بالوقفية حتى
يقرّا بما هو مناقض للشهادة فيقدح حينئذ، ما لم يرجعا فيشهدا بالوقف معتذرين في
شهادتهما بالبيع بنحو نسيان، كما أن من اشترى شيئاً من ذلك المال لا تقبل شهادته
بالوقف ما لم يعتذر بذلك أيضاً لاعترافه بالملك فيه لبائعه، لأن إقدامه على العقد
متضمن للاعتراف باجتماع شرائطه، وكما أن من أمه من الموقوف عليهم لا تقبل شهادته
بذلك أيضاً للتهمة، بخلاف نحو أخته لضعف التهمة، كمن شهد بمال لمورثه ولو مريضاً.
(مسألة: ش): شهادة الحسبة نوعان: متمحض حق لله تعالى كالزنا حيث لم تسغ
الدعوى به، فالشهادة به لا تكون إلا حسبة لأنها غير مسبوقة بدعوى وطلب من مدّع، بل
شهادة الشاهد احتساباً، إي طلباً للثواب وحمية لدين الله تعالى، فلا يؤثر فيها رضا
أحد، وغير متمحض كالزنا حيث ادعاه القاذف والطلاق، فإن سبقت الشهادة الدعوى كان
حسبة، وإن تأخرت وطلبها المدعي فغير حسبة، فمن ثم لو شهدت أمّ برضاع بين بنتها ومن
تزوّجت به أو ابنان بأن أمهما أرضعت زوجها، أو شهد على امرأة بأنها زوجة ابنه قبلت
الشهادة حيث سبقت الدعوى لكونها حينئذ حسبة، فإن سبقتها الدعوى والطلب من البنت في
الأولى والأم في الثانية والابن في الثالثة لم تسمع لخروجها عن الحسبة حينئذ.
الشهادة على الشهادة ورجوع
الشاهد
(مسألة: ش): شهادة الفرعين عن الأصل الذي استرعاهما محكوم بصحتها حتى يظهر
قادح، لكن إن كان معهما شاهد آخر أصل فلا بد من تأخر شهادتهما عن استشهاده، كمن
وجد ماء لا يكفيه فلا يتيمم حتى يستعمله، وشرط قبول شهادة الفرع الذي تحمل شهادة
غيره عدم حضور الشاهد الأصل، سواء من تحمل عنه وغيره، لأن شهادة الأصل أقوى من
شهادة الفرع من حيث ثبوث الحق وقلة الخلل، وهذا بخلاف الرواية لأن بابها أوسع،
والوكالة حيث يتصرف الوكيل لحضور الموكل، لأنه ربما يعجز عن تحصيل مقصوده، ولا
ترجيح بشهادة الأصل عند تعارض البينتين وإن صدق عليها بأنها أقوى، إذ كل ثبت بحجة
شرعية نظير ما لو كان متوضىء ومتيمم لا يلزمه القضاء يصح الاقتداء اهـ بكل منهما
مع أن طهارة المتوضىء أقوى.
(مسألة: ش): شهد الشاهد بخلاف الدعوى لم تسمع، فإن شهد بعد ذلك على وقفها
سمعت، ولا يكون ما صدر منه قادحاً فيه، ويحصل رجوع الشاهد عن شهادته برجعت عن
شهادتي أو صرفت نفسي عنها أو شهادتي باطلة لا أبطلتها أو فسختها أو رددتها، إلا إن
أراد بأبطلتها مثلاً أنها باطلة في نفسها، وقضية كلامهم أن إنكار أصل الشهادة
كقوله لا أشهد بذلك أو لا أعلمه ليس برجوع، كإنكار البيع والزوجية والطلاق وهبة
الفرع، إذ يحمل على نسيان أو عذر أو محض كذب.
الدعوى والبينات
[فائدة]: نظم بعضهم شروط الدعوى فقال:
لكل دعوى شروط ستة جمعت
>< تفصيلها مع إلزام وتعيين
إن لا تناقضها دعوى تغايرها
>< تكليف كل ونفي الحرب للدين
اهـ باجوري.
(مسألة): حاصل مسألة
الظفر أن يكون لشخص عند غيره عين أو دين، فإن استحق عيناً بملك أو بنحو إجارة أو
وقف أو وصية بمنفعة أو بولاية، كأن غصبت عين لموليه وقدر على أخذها فله في هذه
الصور أخذها مستقلاً به إن لم يخف ضرراً ولو على غيره، وإن لم تكن يد من هي عنده
عادية كأن اشترى مغصوباً لا يعلمه، وفي نحو الإجارة المتعلقة بالعين يأخذ العين
ليستوفي المنفعة منها، والمتعلقة بالذمة يأخذ قيمة المنفعة، ويقتصر على ما يتيقن
أنه قيمة تلك المنفعة، فإن خاف من الأخذ المذكور مفسدة وجب الرفع إلى القاضي وإن
استحق عند غيره ديناً، فإن كان المدين مقراً باذلاً طالبه به، ولا يحل له أخذ شيء،
بل يلزمه رده ويضمنه إن تلف، ما لم يوجد شرط التقاص أو مقراً ممتنعاً أو منكراً
ولا بينة للظافر، وكذا إن كان له بينة في الأصح أخذ جنس حقه من ماله ظفراً، وكذا
غير جنس حقه ولو أمة إن فقد الجنس للضرورة، نعم يتعين أخذ النقد إن أمكن، ولو كان
المدين محجوراً عليه بفلس أو ميتاً عليه دين لم يأخذ إلا قدر حقه بالمضاربة إن
علمها وإلا احتاط، ومحل أخذ المال المذكور إن كان الغريم مصدقاً أنه ملكه وإلا لم
يجز أخذه، ولو ادعى المأخوذ منه على الظافر أنه أخذ من ماله كذا جاز جحده والحلف
عليه، وينوي أنه لم يأخذ من ماله الذي لا يستحق الأخذ منه، وإذا جوزنا الأخذ ظفراً
فله بنفسه لا بوكيله، إلا لعجز كسر باب ونقب جدار للمدين ليتوصل للأخذ ولا ضمان
كالصائل، نعم يمتنع الكسر في غير متعد لنحو صغر وفي غائب معذور وإن جاز الأخذ، ثم
إن كان المأخوذ من جنس حقه وصفته ملكه بنفس الأخذ، أو من غير جنسه أو أرفع منه صفة
باعه ولو بمأذونه لا لنفسه ومحجوره بإذن الحاكم إن تيسر، بأن علمه الحاكم أو أمكنه
إقامة بينة بلا مشقة ومؤنة فيهما، واشترى جنس حقه وملكه وهو أعني المأخوذ من الجنس
أو غيره، مضمون على الآخذ بمجرد أخذه بأقصى قيمة، ولا يأخذ فوق حقه إن أمكن
الاقتصار على قدر حقه، فإن لم يمكن جاز ولا يضمن الزائد، ويقتصر على بيع قدر حقه
إن أمكن أيضاً، ويرد الزائد لمالكه، ولو لم يمكنه أخذ مال الغريم جاز له أخذ مال
غريم بالشرط المذكور وهو جحده أو امتناعه أو مماطلته، لكن يلزمه إعلام غريمه
بالأخذ حتى لا يأخذ ثانياً، ولا يلزمه إعلام غريم الغريم، إذ لا فائدة فيه إلا إن
خشي أن الغريم يأخذ منه ظلماً، وله إقامة شهود بدين قدر برىء منه ولم يعلموه على
دين آخر، كما يجوز جحد من جحده إذا كان على الجاحد مثل ما له عليه أو أكثر فيحصل
التقاصّ، وإن لم توجد شروطه للضرورة، فإن نقص ماله جحد بقدر حقه، اهـ ملخصاً من
التحفة والنهاية.
(مسألة: ش): شرط الدعوى كونها ملزمة، فلو ادعى بيتاً بيد آخر أنه كان
لمورثه وأنه وارثه وأقام بينة كذلك لم تصح، إذ لا يلزم من كونه لمورثه بقاء ملكه
إلى الموت حتى يورث عنه، فلا بد لصحتها أن يقول: إن هذا البيت ملكي ورثته من فلان،
وخصمي يمنعني منه، ويقيم البينة على وفق مقاله، فيحكم له به ما لم يقم ذو اليد
بينة بالملك وإلا رجحت، فلو قال المدعي: كان لمورثي إلى أن مات وتركه ميراثاً ولا
وارث له سواي وأقام بينة بذلك صرحت بأنها من أهل الخبرة الباطنة حكم به على النص،
فإن لم يقل ذلك ولم يعلم الحاكم انحصار الإرث في المدعي لم يحكم به حتى يثبته
فينزع من ذي اليد، ولا يلزم البينة ذكر اليد وسببها.
(مسألة: ش): شرط الدعوى كونها معلومة إلا في مسائل معروفة، فلو ادعى حصة
مجهولة في بيت لم تسمع، فإن عينها كربع سمعت على من بيده البيت وهو مشتريه الأخير
فيما إذا تعددت ملاكه، ولا يقدح في الدعوى إقرار المدعي بأن الحصة مرهونة عند غير
المشتري، وإن كانت اليد فيه للمرتهن لو فرض ثبوته فهو مخير بين أن يقول: ويلزمك
تسليمها إليّ، وبين قوله: إن لي في هذا البيت كذا، كأن رهنها مورثي من فلان، ويدك
عليها عادية فيلزمك ردها إليّ، فتسمع دعواه لأن يد المرتهن كيده، فإذا شهدت بينة
بما ادعاه حكم له بها وبأنها مرهونة ممن أقر له إن لم يكذبه، وحينئذ يرجع المشتري
على البائع بما خص تلك الحصة من الثمن إن أجاز، وبكله إن فسخ لتفريق الصفقة، فإن
ادعى الحصة المذكورة على البائع، فإن كذبه وحلف فذاك، وإن صدقه أو نكل فحلف المدعي
المردودة، فإن كان قبل لزوم البيع بطل فيها وسقط مقابله من الثمن وخير المشتري أو
بعده غرم للمدعي قيمة الحصة، وإن لم يقبض الثمن من المشتري على المعتمد، ولا يقبل
إقراره في حق المشتري، لأن إقرار الشخص غير مقبول فيما يضر غيره في تصرف سابق، وإن
أقر البائع المذكور برهنها يعني الحصة لغير المدعي، فإن قال: كانت مرهونة ففكت
فلغو، أو عند فلان بمائة لُغي إقراره بالرهن إن لم يصدقه المرتهن، ولزمته المائة
للمقر له إن لم يكذبه ما لم يثبت أداءها ببينة أو باعتراف المقر له أو نكوله عن
اليمين البت، ونكول وارثه من نفي العلم، وحلف هو المردودة أو بشيء لزمه تفسيره بما
يمكن أن يرهن فيه وإن قل، ولا يقدح إقرار البائع بالرهن كما تقرر في صحة بيع البيت
ما لم يدع أن له ديناً، وأن تلك الحصة مرهونة عنده بالدين رهناً سابقاً على البيع
ويثبت بذلك، أو يقر له المشتري أو ينكل فيحلف هو المردودة، ولا رجوع للمشتري حينئذ
لانفساخ البيع أثر إقراره، فلا يوجب له حقاً على غيره، فلو ادعى المشتري إذن
المرتهن في البيع حينئذ، فإن ثبت بحجة وإلا حلف أنه لم يأذن.
(مسألة: ش): اشترى بيتاً من آخر وقبضه، فادعى ثالث على المشتري أنه ملكه أو
ملك مورثه إلى أن مات ولا يعلم له مزيلاً، وأقام بينة كذلك حكم له به، ورجع
المشتري على بائعه بثمنه، كما لو أقر له المشتري أو نكل فحلف المدعي المردودة، لكن
لا رجوع للمشتري على البائع حينئذ لإقراره الصريح أو المنزل منزلته وهو يمين الرد،
نعم إن أقر البائع بتعديه بالبيع رجع عليه.
(مسألة: ش): دعوى ملك العين المبيعة بعد قبضها لا يكون إلا على مشتريها لا
بائعها، ولا تسمع دعوى العين على البائع، نعم لو أقر بها للمدعي حينئذ غرم قيمتها
وإن لم يقبضه، فلو صالح البائع على بعضها مع الإنكار لم يصح ولو بحضرة قاض، بل أو
مع الإقرار لما مر أنه لا أثر لإقراره بالنسبة لها، فلو استولى المدعي على شيء
منها بمحض الصلح وجب ردعه، فإن عاند عزر، وكذا القاضي، قال الإمام مالك: القاضي
أحق من أدب، قال ذلك في قضاة زمانه في صدر الإسلام فما ظنك الآن.
(مسألة ش): لا يشترط في دعوى النقد المغشوش ذكر قيمته بناء على الأصح من
جواز المعاملة به، بل لو ادعى مائة كبير من البقش الزبيدية مثلاً قبلت دعواه
وبينته، ثم إن كانت موجودة فليس له سواها، وإلا فله قيمتها وقت الطلب، فإن اتفقا
عليها وإلا حلف الغارم.
(مسألة: ش): ادعى
أرضاً غائبة لم تميز إلا بالحدود، فلا بد من ذكر حدودها الأربعة، نعم إن تميزت
ببعضها كفى ذكره فقط، إذ شرط الدعوى كونها معلومة ملزمة غير مناقضة، فلو تردّد في
حد مما لا تتميز إلا به في دعوى واحدة كقوله: يحدها من جهة كذا إما زيد وإما عمرو
لم يصح، بخلاف ما إذا تميزت بغيره فلا يضر التردد فيه، إذ لو لم يذكره لم يضر
للعلم بها دونه، ولو غلط فيه بما لا تتميز إلا به أيضاً كقوله: يحدها من جهة كذا
زيد، وهي من تلك الجهة لا يحدها إلا عمرو، فلا نقول الدعوى غير صحيحة، لكن لو قال
المدعى عليه: لا يلزمني تسليم هذه الأرض كان صادقاً وبحلفه بارّاً، ثم لو رجع
المدعي وادعى تلك الأرض وحدها على الصواب سمعت دعواه لأنها غير الأولى، كما لو
ادعى على زيد بعشرة مكسرة فأنكر وحلف، ثم ادعى عشرة صحيحة، فإن رجع قبل انقضاء
الأولى ويمين المدعى عليه كقوله: يحدها قبلياً زيد، ثم قال: يحدها قبلياً عمرو لم
يضر أيضاً، وإن كانت قبل مضي زمن يمكن انتقال الملك فيه، أو ذكره منفصلاً في
مجلسين فيما يظهر لاحتمال سبق لسانه، ولأن ذكر الحدود ليس مقصوداً، بل لو كانت
مشهورة كفي عن تحديدها.
(مسألة: ش): ادعى شخص في أرض معلومة بالاسم والحدود أنه ابتاع من مورث
المدعى عليه عشرة معاود مشاعاً منها بخمس عشرة أوقية، وأقرض مالكها خمس عشرة
أوقية، وارتهن بها في الأرض خمسة عشر معاود مشاعاً أيضاً، سمعت دعواه لصحة بيع
المشاع ورهنه الدالّ على كونه معلوماً، ولا يلزمه تعيين محل البيع والرهن لعدم
تصوره مع دعواه الإشاعة، بل يكفي تعيين الأرض، وحينئذ إن أقام بينة أو أقر له
الوارث أو نكل فحلف المردودة ثبت، وإن حلف الوارث على نفي العلم فلا، ومن باب أولى
لو حلف على البتّ.
[فائدة]: ادعى على من ذبح بعيره أنه دبحه حال حياته، وادعى الذابح موته،
صدق مدعي الحياة كما أفتى به ابن حجر وأبو مخرمة، خلافاً لبايزيد اهـ من خط
باوزير.
(مسألة: ش): سئل عن أرض فقال: كان مورثي باسطاً عليها ولا أعلم ترتيب يده
بملك أو غيره، ثم ادّعى أنها ملك مورثه إلى أن مات وخلفها له سمعت دعواه بشرطها،
ولا يقدح فيها قوله السابق، إذ يحتمل نسيانه أو جهله، بخلاف ما لو قال قبل: لم تكن
ملك مورثي أو هي ملك فلان ثم ادعاها لمورثه، فلا تسمع دعواه إذ من أقرّ قبل الدعوى
بشيء ووخذ بإقراره في المستقبل استصحاباً حتى يقول: هي ملكي انتقلت إليّ من المدعى
عليه بنحو شراء كهبة، بخلاف ما لو انتزعت منه عين بحكم ثم ادعى بها على المنتزع،
فتسمع دعواه وتقدّم بينته على بينته، لأنها بينة داخل لكون اليد كانت له.
(مسألة: ب ش): أحيا قطعة من أرض وترتبت يده عليها سنين، ثم ادعى آخر جميع
الأرض، وأن المحيي بسط على بعضها من غير مسوّغ، فإن أقام بينة مؤرخة الإحياء بأن
الأرض ومنها المدعي ملكه ورثها من آبائه مثلاً وليست مواتاً، بل لها آثار عمارة
وأن يده مترتبة عليها بلا منازع، أو أقر له المدعى عليه أو رد اليمين فحلف هو
المردودة، تبين أن يد المحيي عادية لكن لا إثم عليه لعذره، ويلزمه قلع ما فيها أو
تبقيته بأجرة إن رضي المدعي، ولزمه إيضاً أقصى الأجر مدة بسطه، نعم إن أثبت المدعي
بينة مطلقة لم يستحق أجرة على المحيي، لأن حكم الحاكم بالبينة المطلقة لا ينعطف
على ما مضى، بل إن كان للمحيي فيها عمل كزبر وحرث زادت به قيمتها شاركه فيها بنسبة
ما زادت به القيمة على الأصح، ولو ثبت أنها موات ملكها المحيي لترتب يده عليها.
(مسألة: ج): أرض موات في سفح جبل على أصلها من اشتباك الحصى بعضه بعضاً لم
تعمر بالحرث قطعاً وبغيره ظناً، وأسفل منها أرض معمورة وقف على مسجد، فأحيا ذلك
الموات شخص، ثم بعد مدّة ادعى قيم المسجد المذكور أنها من أرض الوقف المحددة
بالجبل المكتوبة بخطوط النظار المعتبرين، سمعت دعواه بشرط أن لا يذكر مستنده وهو
الخطوط المذكورة، وعمل الحاكم بما يقتضيه اجتهاده من الحكم بالشهادة أو القرائن
القوية المعوّل عليها، ويجوز العمل على خط الوقفة في الحدود إذا اعتضد بمرجحات
كاليد وعمل النظار، ما لم تعارض ذلك قرينة أقوى منها بضده، كأن توجد سقاية أو بئر
حادثة في ذلك السفح موقوفة أيضاً فيتساقطان ويبقى الموات على أصل الإباحة، لا يقال
إن نحو السقاية وضعت تعدياً لأنه خلاف الظاهر، أو أنه استؤجر لها الأرض لأن الوقف
لا يوقف ثانياً، ولعل ما ذكر من التحديد بالجبل أنه لدخول بعض البقاع المعمورة إلى
الجبل في غير هذا الموضع المحيا، إذ قد يتساهل في كتابة الصيغ، فإذا لم يتيقن
عمارة الأرض حكم بأنها موات.
(مسألة: ب): لا يحكم للمدعي بما ادعاه إلا بعد ثبوت البينة وتعديلها، فلو
ادعى غيبتها بعث الحاكم إلى قاضي تلك الجهة يستشهد الشهود وينهي شهادتهم بشرط، أو
بعث هو أو المدعي من يشهد على شهادتهم، فيشهد بها عنده أخذاً من قولهم: إذا قام
بالشاهد عذر مانع من الأداء جاز للحاكم أن يرسل من يشهد على شهادته، ولو طلب
المدعى عليه الإمهال بعد الحكم ليأتي بدافع أمهل ثلاثاً، لكن بكفيل ثم بالترسيم من
جهة الدولة إن خيف هربه ومكن من السفر ليحضر الدافع إن لم تزد المدة على الثلاث.
الحلف
(مسألة): طلب المدعي من المدّعى عليه يمين الإنكار مكن منها وإن كانت بينته
حاضرة، إذ المقصود من تلك اليمين الرجاء ممن طلبت منه أن يقر بالمدعى فيسلم المدعي
من إقامة البينة، وإلا فهي لا تحل حراماً ولا عكسه، بل العبرة بما في نفس الأمر،
وللمدعي إقامة البينة بعد حلف خصمه فتسمع حينئذ، وإن قال قبل: لا بينة لي، وهذا
بخلاف اليمين المردودة، وهي التي يحلفها المدعي بعد عرضها على الخصم ونكوله عنها
فإنها كالإقرار، فلا تنفع بعدها إقامة البينة من المدعى عليه بأداء أو إبراء أو غيرهما لأن في جانبه
اليمين، فإذا ردها على المدّعي فكأنه أقر له بما ادعاه فافهم.
[فائدة]: اشترى مائعاً
وأحضر ظرفه فصب فيه المائع فوجد فيه فأرة فادعى كل أنها كانت في ظرف الآخر صدق
البائع، سواء قال المشتري: كانت فيه عند البيع أم أطلق اهـ عماد الرضا.
(مسألة): قال لزوجته
المريضة: أنا بريء من المهر، فقالت: نعم صح الإبراء، نعم إن ادعت هي أو وارثها أن
الإبراء وقع وهي غائبة الحس، فإن ثبتت بينة بذلك لُغي، وإلا فإن عرف لها غيبة قبل
صدقت بيمينها وإلا حلف هو وبرىء، لكن إن ماتت من ذلك المرض كان حكمه حكم الوصية للوارث إن ورثها.
[فائدة]: لزيد دراهم
بذمة عمرو فتسلمها بحضرة أناس، ثم جاء بعد مدة ببعضها زيوفاً، فقال عمرو: ليست من
دراهمي ولم يشهد الحاضرون بشيء صدق زيد بيمينه، فإن نكل حلف عمرو وبرىء اهـ فتاوى
بامخرمة، وقد مرّ مثله في ج في القرض.
[فائدة]: من خط السيد
العلامة قاضي تريم علوي بن سميعا: إذ ادعى ناظر وقف على آخر عيناً وقعت تحت يده من
الوقف، فأنكر المدعى عليه وتوجهت عليه يمين الإنكار فردها على الناظر فهل يحلف
الناظر أم لا؟ الجواب صرح العلماء في باب الدعوى بأن الناظر لا يحلف، بل يحبس المدعى
عليه حتى يحلف أو يقر اهـ.
(مسألة: ج): مات عن أم وبنين ثم ماتت الأم، فادعى البنون أنها أوصت لهم
بنصيبها في أبيهم، فإن أقاموا بينة وإلا حلف وارثه على نفي العلم.
(مسألة: ش): قال
لورثته: اعتمدوا ما وجدتموه بخطي في دفتري فيما لي وعليّ، فما وجده الوارث بخط
مورثه مما له، ولم يحتمل أنه قد أوفاه فله المطالبة به، والحلف مع شاهد أو اليمين
المردودة اعتماداً على الخط الذي غلب على ظنه عدم تزويره، وما وجده مما عليه وجب
عليه اعتماد ما لا يحتمل أنه أوفاه بعد ذلك، سواء كان مجموعاً بمحل أو متفرقاً، إذ
المدار إنما هو على غلبة الظن أنه خط مورثه.
(مسألة: ك): كل من أخذ عيناً بإذن صاحبها لمصلحته يصدّق في دعوى التلف،
والردّ على مالكها كلاً وبعضاً بيمينه، وذلك كوديع ووكيل ومقارض ولو فاسداً، وكذا
مرتهن ومستأجر في التلف لا الردّ، إذ هما أخذا لغرض أنفسهما كالمستعير والغاصب،
وخرج بالمالك دعوى الرد على وارثه، فلا يصدّق إلا ببينة كدعوى وارث الأمين الرد
على المالك لأنهما لم يأتمناه على ذلك.
(مسألة: ب): ادعى على
زوجة الميت أن الصوغة التي بيدها ملك مورثه، فأقرت بالبعض وأنه ملكها إياه بنحو
نذر وسكت عن الباقي، فإن
أقامت بينة بالنذر بما يثبت به المنال وإلا صدق الوارث بيمينه بنفي العلم وكان
تركة، كما تصدق هي فيما لم تقر به بيمينها على البت أنه ملكها، إذ اليد دليل الملك
ما لم يقم الوارث بينة أنه عارية أو أمانة لمورثه، ولو استعار مصاغاً فباعه، فإن
أثبت صاحبه أنه ملكه أو أقر له المشتري، وحلف المدعي أنه لم يأذن في بيعه سلم ورجع
المشتري على البائع، ولا عبرة بإقرار البائع بالعارية أو الغصب، إذ لا يؤخذ الشخص
بإقرار غيره، ولأنه ربما كان حيلة ومكراً.
(مسألة: ي): ونحوه ك:
وضعت الزوجة يدها على شيء من أموال الميت وادعت أنه لها، وادعى الوارث أنه تركة،
أو اختلف الزوجان قبل الفرقة أو بعدها في الذي بيدهما، فإن أقر له صاحبه بما
ادعاه، أو أقام هو بينة بمقتضى ما ادعاه حكم له بها، فإن لم تكن أو تعارضتا صدق ذو
اليد بيمينه، فإن نكل حلف الآخر المردودة وأخذه، فإن نكل ترك لذي اليد، فإن لم تكن
يد أو كانت لهما حلف كل منهما للآخر وقسم بينهما نصفين، إذ لا مرجح كما لو نكلا
معاً، وإن حلف أحدهما فقط قضي له، ثم إن حلف البادىء على نفي استحقاق صاحبه النصف
فعليه اليمين المردودة بعد نكول الآخر، وإن امتنع المبدوء وحلف الثاني كفته يمين
واحدة، تجمع نفياً وإثباتاً، ووارث كل كهو، زاد ك: وإن صلح لأحدهما فقط قضى له به
حيث لا بينة، ومجرد وضع الزوجة يدها بعد الموت لا يؤثر إذا لم تكن لها يد سابقة
اهـ. قلت: وافقه ابن حجر في التحفة وخالفه في فتاويه.
تعارض البينات
(مسألة: ش): اشترى بيتاً فادعى آخر أنه ملكه وأقام بينة حكم له به، نعم إن
أقام المشتري بينة بأنه اشتراه من البائع وهو مالك له حالة البيع قدمت ما لم تقل
بينة المدعي: نشهد بأن البيت كان ملكه واليد له وإنما غصبه البائع مثلاً، وإلا
قدمت لأنه ثبت بشهادتها أنه صاحب اليد، وأن يد الآخرين عادية، وهذا إن شهدت بينة
المدعي بالملك، فإن شهدت باليد فلا أثر لها إذ قد تكون باستحقاق وقد لا، بل لو أقر
المدعي عليه بأنه كان في يد المدعي لم يؤاخذ.
(مسألة: ش): ادعى دابة في يد شخص أنها ملكه ضاعت عليه يوم كذا، فادعى ذو
اليد بأن الدابة التي ضاعت على المدعي ماتت، فإن كانت دعوى الخارج أن هذه دابتي
فقط وأقام بينة حكم له بها ما لم يقم الداخل وهو ذو اليد بينة بالملك فتقدم
لاعتضادها باليد، نعم إن شهدت بينة الخارج بالملك وأن يد الداخل غصب قدمت أيضاً،
ولا تعارضهما بينة المدعى عليه بموت الدابة، إذ المدعاة معينة، وإن كانت دعواه
وبينته أن هذه دابتي التي ضاعت عليّ يوم كذا ولم تضع لي دابة غيرها، فلذي اليد
دعوى علمه بموتها وتحليفه على نفي العلم، فإن أقرّ أو نكل فحلف المردودة سقطت
الدعوى، كما لو أقام بينة بموتها، لو رجع الخارج فادعى أنها ملكه فقط سمعت على
التفصيل المتقدّم لأنها لم تناقض الأولى.
(مسألة: ش): ادعى دابة بيد آخر أنها ملكه ضاعت
عليه منذ سنة وأقام بينة، فأقام ذو اليد بينة بأنها في يده منذ سنتين، قدمت الأولى
إذ الشهادة باليد لا أثر لها، لأنها قد تكون بالملك وبغيره، نعم يثبت بها كونه ذا
يد حتى إذا شهدت له بالملك تلك البينة أو غيرها قدمت على الشهادة بمجرد الملك،
وعارضت الشهادة بالملك واليد حيث لم تشهد إحدى البينتين بأن يد الخصم يد غصب.
(مسألة: ش): متى أثبت الداخل بينة بالملك وأن يده ثابتة عليها بحق، فأثبت
الخارج فانتقالها إليه بنحو شراء من الداخل أو مورثه، أو ممن انتقلت إليه من الداخل
أو بأنها ملكه، وأن الداخل غصبها أو استعارها أو استأجرها أو استودعها قدمت بينته
على الأصح، لأن معها زيادة علم وإن لم تشهد للخارج بالملك، بل تكون يد الداخل يد
غصب فقط قدمت بينة الداخل.
(مسألة: ش): ادعى على آخر أن له عيناً مرهونة عنده بدين، فإن قال: هذه ملكي
رهنتها في كذا عليّ أو على مورثي فمدّع للعين ومقرّ على نفسه بالدين، فإن أجابه
الآخر بأن العين ملكي وليس لي عليك شيء بطل الإقرار للتكذيب، وإن قال: لي عليك هذا
الدين أو سكت صحَّ الإقرار، وإن لم يقل عليّ أو على مورثي، فليس صريح إقرار لجواز
ملك المرهون لغير الراهن كالمعار، وأما العين فمن أقام بينة فالملك له، ولا يثبت
رهنها لتكذيب المدعى عليه، فإن أقام بينتين قدمت بينة ذي اليد لاعترافهما بأن اليد
له، لكن لا تسمع بينته إلا بعد بينة مدعي الملك لقوة جانبه باليد واليمين، ومدعي
الملك خارج والبينة في جانبه.
(مسألة: ش): ادعى كل من اثنين أنه أقرب إلى الميت قضي لمن أقام البينة، فإن
أقاما بينتين فللبينة كيفية القرب، بل أفتى العمراني وغيره أنه لا عبرة ببينة
النسب ما لم تذكر كيفية الإدلاء، فإن بينتا معاً أو أطلقتا فكما لو لم يقيما بينة،
لكل الدعوى على الآخر أنه يعلم كونه أقرب، فإن حلف كل على نفي العلم أو نكلا ولم
يحلفا المردودة أو حلفاها فكتعارض البينتين فيتساقطان إذ لا مرجح، وإن نكل أحدهما
فحلف الآخر المردودة ثبت كونه أقرب، وعند عدم المرجح يقسم بينهما نصفين، ولا عبرة
بيد أحدهما الباسطة بعد الموت للعلم بأن مستندها دعواه الأقربية.
(مسألة: ش): ادّعت امرأة على ميت النكاح، فإن كانت لأجل الصداق كفاها أن
تقول: تزوّجني وصداقي إلى الآن عليه أو لأجل الإرث، فلا بد أن تزيد: ومات وأنا
زوجته مثلاً، فإذا شهدت لها بينة على وفق الدعوى ثبتت الزوجية والإرث، فإن أثبت
الوارث طلاقها منجزاً أو مغلقاً بصفة وجدت قبل الموت قدمت على بينة النكاح، ولا
يكون تأخير الشهود الشهادة مفسقاً إذ قد يكون لعذر، أو أن الصفة المعلق عليها وجدت
قبيل الموت، فإن أقر قبل الحكم بعدم العذر ردّت شهادتهما، نعم لها الدعوى على
الوارث تعلمه بفسق الشهود بتأخير الشهادة بلا عذر، فإن حلف على نفي العلم وإلا
حلفت بتاً واستحقت.
(مسألة): إذا تعارضت البينتان رجح من تميز منهما بقوة جانبه، ومنه أن تكون
شهادة أحدهما بنقل الملك والأخرى باستصحابه، فتقدم الناقلة لزيادة علمها، وإنما
يعتقد بنقل معين لسببه من شراء أو هبة، فإن لم يتعين كأن قالت: انتقل إليه بسبب
صحيح لم يكف على خلاف فيه في الأصل، فالنقل كقتل ادّعاه وارث ميت وأقام به بينة
فتقدم على بينة موت بفراش، وكبينة شراء على بينة ملك مطلق، وبينة مرض أو جرح أو
جنون أو سفه أو إكراه أو إقراء أو يسار أو رقّ أو عتق، كل هذه على ضدها، ثم بيده
ويد مقره وإن زالت بينة خارج، ثم شاهدان على واحد ويمين، ثم بسبق تاريخ وبنتاج، ثم
بإضافة، ثم سقطتا كمطلقة ومؤرخة اهـ فتح.
العتق والتدبير
(مسألة): إذا أعتق السيد عبده، أو مات سيد أم الولد أو المدبر، أو جددت
الصفة في المعلق عتقه بها، أو أدى المكاتب النجوم صار كل ممن ذكر حرًّا تجري عليه
أحكام الأحرار، ويتولى ما يتولاه الأحرار من الولايات والشهادات وغيرهما، وولاؤه
لمن حصل منه نحو العتق، كما لو كانت أمة حرة أصلية أو عتيقة أو غرّ حر أو عبد
بحرية أمة فتزوّجها، فينعقد الولد حراً في الثلاث لكن لا ولاء على الأخيرين.
(مسألة: ب): أعتق عبده الآبق ليأسه من رجوعه أو لتسقط عنه فطرته، أثيب عليه
لكن دون ثواب غيره.
(مسألة: ب): قال لأمته وبناتها: أنتنّ حرائر وعليكن خدمة البيت حتى يتزوّجن
بناتي نفذ العتق مطلقاً، وأما الخدمة فإن أراد بذلك إلزامهن بها بمعنى أعتقكن على
خدمة البيت وصدقنه أو بعضهن في قصده رجع هو ووارثه بقيمة المصدقة منهن عليها
لاقتران عتقه بعوض فاسد وهو الخدمة للجهل بمدتها فيرجع للقيمة اهـ. وفي أخرى له:
لو قال عبدي معتوق وعليه قوت ولدي حتى يبلغ، فإن قبل العبد فوراً عتق ولزمه قيمته
لأنه علقه بعوض مجهول، كما لو أعتقه على أن يخدمه أو يخدم ولده.
(مسألة): مرضت امرأة ولها عبيد فقالت: مرادي عتق العبد ثم برئت، وإذا سئلت
عن العبيد تقول: بغيت أعتقهم بعد مغوية عيني، وربما قالت: قد هم معتقون، فهذه
الألفاظ تقتضي عتقهم بعد الموت، فيكون كناية كما قاله أبو مخرمة فيمن قال: آبى
لفلان كذا أنه كناية وصية، فإن علمت نيتها وإلا صدق الوارث بيمينه أنه لا يعلمه،
نعم قولها قد هم معتقون إقرار، فيحتمل أنها نجزت عتقهم، وأنها أرادت التدبير فتصدق
فيما أرادته، ويظهر تصديق وارثها أيضاً للقرينة وهو جهلها بالمعنى، وإذا ثبت
المنجز كان من رأس المال وإلا فمن الثلث.
(مسألة: ب): وهبت امرأة لبنتها أمة، ثم ماتت البنت فصارت الأمة المذكورة
بالقسمة لابنها، ثم ماتت الجدة فأظهرت الأمة كتاب عتق من الجدة عند موتها وعليه
شاب القاضي، فقال رجل للابن: ما قولك إن جدتك أعتقت هذه الأمة؟ فأجابه بقوله: لا
أغير ما فعلته جدتي، فعتق الجدة المذكورة لا يدل إذ هي فضولية، وقول الابن لا أغير
ما فعلته جدتي ليس إقرار بعتق الأمة، فلا تصير به عتيقة بل ولا كناية فيه لبعده
عنها، إذ الكناية كل لفظ يصلح لتخلية الرقيق بنية المعتق، كألفاظ الطلاق والإبراء وكياسيدي، وغاية هذا
أن ينوي بلا أغير الخ أي من العتق إن صح شرعاً وقد علمت عدم صحته، بل لو تلفظ
بصريح العتق على ظن صحة عتق الجدة لم يؤاخذ به.
(مسألة: ب): مريض قال لعبده: إن بلغن بناتي وتزوّجن فأنت حرّ بعد ذلك،
والحال أن العبد رأس ماله، فإن علم له لفظ أو نية بإرادة تعليق العتق ببلوغ البنات
وتزويجهنّ، سواء وجدا في حياة المعتق أم لا كان تعليقاً بصفة معلقة، والذي أفتى به
أو قضام آخراً ونقل عن الإمام بحرق صحة الوصية عملاً بإرادته، وعليه فينفذ العتق
بعد بلوغ البنات وتزويجهن في ثلث العبد إن لم تجز الورثة بشرطه، وإن لم يعلم لفظ
ولا نية بذلك فاستقرب أبو قضام الصحة أيضاً، ويؤيده قاعدة إعمال كلام المكلف أولى
من إهماله، ولتشوّف الشارع للعتق، وكلام التحفة كالمضطرب وبتأمله يميل إلى الصحة،
وأما إذا علم له لفظ أو نية بإرادة تعليق العتق بموته بشرط بلوغ البنات وتزويجهن،
أي إذا بلغن بناتي وتزوّجن فأنت حر بعد موتي فلا يعتق إلا إن وجد ما ذكر قبل
الموت، كما لو قال لعبده: إذا قرأت القرآن ومت فأنت حرّ، فلا بد من قراءة كل
القرآن قبل موت السيد وإلا فلا عتق.
(مسألة: ك): قال: عبدي مخير إن أراد العتق أو أراد الرق، فأراد العبد
العتق، فالذي يظهر أنه يعتق بإرادته ذلك من الثلث، لأن الراجح صحة تعليق الوصية
بشرط في الحياة أو بعد الموت، كأوصيت له بكذا إن تزوّج بنتي، أو إن رجع من سفره،
أو إن شاء زيد.
(مسألة): أعتق شريك حصته في مشترك سرى إلى باقيه وعتق كله إن أيسر به ولو
مديناً، كما لو أعتق جزء عبده فيسري إلى باقيه، نعم لو وكل بإعتاق العبد كله فأعتق
الوكيل جزءاً شائعاً لا معيناً عتق ذلك الجزء فقط اهـ شرح المنهج. قال بج: ولضعف
تصرف الوكيل لكونه غير مالك لم يقو على السراية، وهذا إذا كان الوكيل أجنبياً، فإن
كان شريكاً عتق ما أعتقه عن موكله وسرى عليه الباقي اهـ ومثله التحفة.
(مسألة): دبر بعض عبده أو ما يملكه من المشترك عتق بموته ولم يسر إلى
الباقي وإن خلف تركة لأنه الآن معسر، وقد انتقلت التركة إلى الورثة، ثم إن كان
الجزء المدبّر معيناً كنصفه عتق، أو مبهماً كبعضه عينه الوارث، وإن دبر نحو يده لم
يصح، نعم لو قال: إن مت فيدك حرة، فمات عتق كله، لأن هذا شبه العتق المنجز من حيث
لزومه بالموت.
(مسألة): قال لعبده: إذا مت أو إذا دخلت الدار أو مت فأنت حر، صار مدبراً
في الصورتين، يعتق بعد موته من الثلث بشرط أن يدخل قبل الموت، وإن قال: إذا مت ثم
دخلت الدار أو مضى شهر فأنت حر، أو علقه بصفة أخرى فليس بتدبير، بل تعليق عتق بصفة
فقط، فحينئذ يعتق من رأس المال إن جمل التعليق في الصحة، ولو قالا لعبدهما: إذا
متنا فأنت حر فلا يعتق إلا بموتهما، ثم إن ماتا معاً فهو مدبر، وإن تربى فنصيب
المتقدم معلق بصفة، ونصيب المتأخر مدبر للقاعدة، أن من علق عتقه بموت سيده أو به
وبصفة قبله له حكم المدبر، ومتى علق به وبصفة بعده له حكم المعلق عتقه بصفة،
وللوارث كسب العبد بعد الموت، وقبل وجود الصفة من الدخول ومضي أشهر وموت الشريك
لكن ليس له التصرف فيه، وكذا الوصي على المعتمد، قاله في الإقناع وحواشيه ونحوه في
التحفة.
(مسألة): أعتقت امرأة جارية وأولادها، كان ولاؤهم وإن سفلوا للمعتقة ثم
عصبتها الذكور، فيقدم الابن ثم ابنه ثم الأب إلى آخر العصبات، نعم يؤخر الجد هنا
عن الأخ وابن الأخ، فإن فقدوا فمعتق أبي الجارية فعصبته ثم معتق جدها ثم أمها كذلك.
(مسألة: ي): لا ولاء للسيد على أولاد عبده المحكوم بحريتهم، ثم إن كانوا من
حرة الأصل فلا ولاء عليهم لأحد، أو من عتيقة فولاؤهم من إرث ونكاح لموالي الأم
بشرط أن يمس أباهم الرق وأن لا يمسهم الرق، هذا إن لم يعتق الأب بعد، وإلا انجرّ الولاء أي انتقل
لمعتقه ولم يعد لموالي الأم أبداً.
أمهات الأولاد
(مسألة: ك): مات السيد فادعت أمته أنها حامل منه، فإن كانت فراشاً بأن ثبت
وطؤه لها أو دخول مائه المحترم بإقراره أو بينتة، وولدت لدون أربع سنين من وطئه
تبين عتقها بموته، فتملك أكسابها من حينئذ وخرج بذلك مجرد ملكه لها، فلا يلحق به
ولد إجماعاً وإن خلا بها وأمكن كونه منه.
(مسألة): من وطىء أمته ولو حراماً لكونها مزوجة مثلاً، فأتت بولد ولو
متخططاً صارت أم ولد وعتقت بموته كأولادها الحادثين بعد الاستيلاد من غير السيد،
وإن كان أبوهم رقيقاً، ولا ينقطع نكاح الأمة بوطء سيدها، نعم يحرم على الزوج وطؤها
ما دامت حاملاً، ويأثم السيد بوطئه الأمة المزوّجة بل يعزر كهي إن لم تعذر، وطريق
خلاص الأمة من زوجها الرقيق أن يعتقها السيد ثم تفسخ النكاح حالاً بعد علمها.
(مسألة: ج): وطىء أمته ثم زوجها فولدت بنتاً وزعمت أنها من السيد، لم تتوجه
عليه دعوى إلا إن ولدت لدون ستة أشهر من إمكان الاجتماع بالزوج، وحينئذ فإن أقر
بالوطء وعدم الاستبراء لحقته وثبتت أمية الولد، وإن أنكر الوطء أو ادعى الاستبراء
بعده صدق بيمينه وصار الولد رقيقاً مجهول النسب، أما لو ولدته لأكثر من ستة أشهر
ودون أربع سنين من إمكان الاجتماع بعد العقد فيلحق الزوج مطلقاً، ولم يحل نفيه بعد
أن وطئها إلا إن علم زناها فيجوز بطريق اللعان بشرطه، وأما إقرارها بالولد من
السيد فلا يترتب عليه حكم لتهمتها في دعواها أمية الولد اهـ. وعبارة ي: وطىء أمته
المزوجة أثم إثماً عظيماً وعزر، ثم لو ولدت بعد وطئها فإن أمكن كونه من السيد وحده
لحقه، أو من الزوج وحده فكذلك، كما لو أمكن كونه منهما، نعم إن ثبت وطء السيد لها
ببينة، أو بتصديق الولد بعد تكليفه، أو بتصادق السيد والزوجين عرض على القائف ولحق
بمن ألحقه به، وحيث لحق السيد فهو نسيب والأمة أم ولد، أو لم يلحقه عتق الولد
وصارت أمه أم ولد أيضاً مؤاخذة له بإقراره.
(مسألة: ي): وطء الأمة المشتركة من الكبائر، لكن لا حد به في الأظهر، بل
يعزر ويثبت به الاستيلاد في نصيب الواطىء، كنسب الولد وحريته وحصول السراية فيه،
حتى في نصيب الشريك فيلزمه قيمته حال العلوق، وإن كان موسراً وإلا ثبتت الثلاثة في
نصيبه فقط، نعم يلزمه حصة شريكه من المهر مطلقاً، فلو وطىء مشتركة أخرى أخت هذه
الأمة قبل خروج الأولى عن ملكه ثبت ما ذكر، غير أنه زاد معصية أخرى بجمعه بين
أختين في الوطء اهـ. قلت: يتأمل هذا الكلام لعل فيه نقصاً أو غلطاً من الناسخ، فإن
فيه بعض مخالفة لكلامهم الذي نص عليه في المنهاج والإرشاد وشروحهما والعباب
وغيرها، أن من أولد أمة له فيها شرك وإن قل سرى إيلاده إلى نصيب شريكه إن كان
موسراً، ويغرم حصة الشريك من القيمة ومهر المثل لا قيمة الولد، فإن كان موسراً
فعكسه أي فتلزمه حصة الشريك من قيمة الولد والمهر، وتصير مستولدة في حصته فقط،
وينعقد الولد حراً في الصورتين كما في العباد، والفرق بين الإيلاد حيث يسري في
الولد ولو من المعسر، وبين عتق الشريك حيث لا يسري إلا إن أيسر بحصة شريكه قوة
الشبهة.
[فائدة]: قال في النهاية: ولو أجر السيد أم الولد مدة ثم مات في أثناء
المدة عتقت وانفسخت الإجارة كالمعلق عتقه والمدبر، بخلاف ما لو أجر عبده ثم أعتقه،
فإن الأصح عدم الانفساخ، والفرق تقدم سبب العتق بالموت أو الصفة على الإجارة بخلاف
الإعتاق، ولهذا لو سبق نحو الاستئجار الاستيلاد ثم مات السيد لم ينفسخ لتقدم سبب
استحقاق المنفعة على سبب العتق اهـ حاشية الجمل.
{خاتمة الكتاب}: في فوائد شتى
وفضائل القرآن العظيم
(مسألة: ك): شخص أمكنه حفظ القرأن العظيم، وخاف هو ومعلمه تضييعه ونسيانه
المنهي عنه، فالذي يظهر أن الأولى التعلم والتعليم، والاستعانة بالله تعالى على
التوفيق للمنهج المستقيم، وليس هذا من قاعدة درء المفاسد، إذ المفسدة هنا غير
محققة بل متوهمة، وثواب حفظ القرآن محقق، والخير المحقق لا يترك لمفسدة متوهمة.
[فائدة]: مما ابتدعه الحجاج نقط المصحف وشكله لكنهما سنة. واعلم أن الذي
ابتدعه الحجاج بالنسبة لأسماء السور إنما هو الإثبات فقط أي إثباتها في المصحف،
وأما أسماء السور فهو بتوقيف من النبي ، وترتيبها وترتيب الآيات كل من هذه الثلاثة
بتوقيف منه عليه السلام، أخبره جبريل عليه السلام بأنها هكذا في اللوح المحفوظ.
وأما عدد الآيات فليس بتوقيف ولهذا اختلفوا فيه اهـ بج على الإقناع.
[فائدة]: قال الإمام الشعراني في زبد العلوم: وكان ابن عباس رضي الله عنهما
يقول: ما أنزل الله تعالى كتاباً إلا بالعربية إذ هي أوسع اللغات، ولكن جبريل عليه
السلام يترجم لكل نبي بلسانه، وليس في القرآن إلا لغة العرب، وربما وافقت اللغة
منه غير لغة العرب، والأصل عربي لا يخالطه شيء، ثم اعلم أنه لم يبلغنا عن الرسول
ولا عن الصحابة ما يتعاطاه الفراء الآن من قراءة كل آية بجميع ما فيها من اللغات
ثم ينتقل منها إلى الأخرى، لأن المقصود
الأعظم من إنزال الكتب الإلهية الاتعاظ والعمل بها وإلا فأي ثمرة لمن يقرأ بالمد
والإمالة والتفخيم والترقيق وغيرها وهو غافل القلب عن الله تعالى اهـ.
[فائدة]: قال إبراهيم الخوّاص: دواء القلوب خمسة أشياء: قراءة القرآن
بالتدبر، وإخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرّع عند السحر، ومجالسة الصالحين اهـ
أذكار النووي. وسويداء القلب هي نقطة سوداء منيرة كسواد باطن العين اهـ شرح دعاء
أبي حربة.
[فائدة]: يكره الاحتباء حال قراءة القرآن ومجالس العلم، إذ العلة إما جلب
النوم أو أنه هيئة تنافي الخشوع وهما موجودان هنا كمستمع الخطبة بل أولى، نعم إن
علم من نفسه أن الاحتباء يزيد في نشاطه فلا بأس به حينئذ اهـ فتاوى ابن زياد. وقال
الشوبري،
[فرع]: يطلق القرآن على أربعة أمور: على النقوش وهو المراد بقولهم: يحرم
على المحدث حمل المصحف. وعلى اللفظ وهو المراد بقولهم في الغسل: وتحل أذكاره لا
بقصد قرآن. وعلى المعنى القائم بالنفس وهو المراد بقولهم في الجماعة: ويقدم الأفقه
على الأقرأ. وعلى القائم بذات الحق سبحانه وتعالى، وكل الإطلاقات صحيحة اهـ.
[فائدة]: شخص يقرأ القرآن من غير إحسان بل يخل به إعراباً وأحكاماً لم يسم
قرآناً، فلا يحرم على الجنب قراءته كذلك، ولو حلف بنحو الطلاق بأنه لم يقرأ لم
يحنث، بل قال شيخنا اليمني بذلك فيمن لم يتغن بالقرآن اهـ فتاوى محمد خليل ملخصاً.
[فائدة]: قال الثعلبي في تفسيره: جميع آيات القرآن ستة آلاف وستمائة وستون
آية، ألف آية أمر، وألف نهي، وألف وعد، وألف وعيد، وألف قصص، وألف أمثال، وخمسمائة
تحل وتحرم، ومائة تسبيح وتهليل، وستون ناسخ ومنسوخ. وعدد حروفه ألف ألف وأربعة
وعشرون ألفاً، للقارىء بكل حرف حريرة في الجنة، ويجب على القارىء أن يشرك في
القراءة اللسان بتصحيح الحروف بنحو الترتيل، والعقل بتفسير المعاني، والقلب بالاتعاظ
والانزجار اهـ. (مسألة: ب): اختلف العلماء في سنّ البسملة لمن قرأ من أثناء سورة،
وعمل سلفنا ومن أدركناه من الفقهاء لا يبسلمون إلا أوّل السورة فقط وهو الأوفق.
[فائدة]: قال الحبيشي في كتاب البركة: من قرأ يس أربع مرات لا يفرق بينها
بكلام في موضع نظيف خال، ثم قال ثلاثاً: سبحان المنفس عن كل مديون، سبحان المفرّج
عن كل محزون، سبحان من أمره بين الكاف والنون، سبحان من إذا أراد شيئاً أن يقول له
كن فيكون، يا مفرّج الهموم، يا حيّ يا قيوم، صلّ على سيدنا محمد وآله وافعل لي كذا
وكذا، قضيت حاجته مجرب اهـ.
(مسألة: ك): إذا أطلقت المعوّذات كالواردة عند النوم فهي سورة الإخلاص، وقل
أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، كما صرّح به الأئمة.
(مسألة: ك): قول ابن عطاء الله: من قرأ قل هو الله أحد مائة مرة كان له من
الأجر كلما قال قل هو الله أحد ثواب سنة، يحتمل أنه ثواب سنة صيامها وقيامها لورود
التصريح به في بعض الأشياء، فيكون من باب حمل المطلق في كلام ابن عطاء على المقيد،
ويحتمل أن مراده غير ذلك، لكن مثل هذا يتوقف القول به على التوقيف من الشارع صلوات
الله وسلامه عليه ولو بسند ضعيف، إذ لا مجال للرأي فيه، والكشف لا يحتج به لا سيما
في مثل هذا الشأن، وأما خبر الصحيحين وغيرهما أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن،
وعدّه السيوطي من الأحاديث المتواترة، فقد اختلف العلماء في معناه، فحمله بعضهم
على أن الثلث باعتبار معاني القرآن، إذ هي أحكام وأخبار وتوحيد، والإخلاص مشتملة
على الأخير فتكون ثلثاً بهذا الاعتبار، وقيل: من عمل بما تضمنته من الإخلاص
والتوحيد كان كمن قرأ ثلث القرآن، ومنهم من حمله على ثواب قراءتها مثل ثواب من قرأ
ثلثاً، ويؤيده حديث من قرأ قل هو الله أحد فكأنما قرأ ثلث القرآن، وقيل: تعدل ثلثه
من غير مضاعفة، ونقله في التحفة عن الأئمة.
فوائد تتعلق بالحديث والسيرة
النبوية والصحابة رضوان ا لله عليهم أجمعين
[تنبيه]: الأثر يطلق على المروي، سواء كان عن رسول الله أو عن الصحابة، قال
النووي: هذا هو المذهب المختار الذي قاله المحدثون وغيرهم، واصطلح عليه السلف
وجماهير الخلف، وقال الفقهاء الخراسانيون: الأثر ما يضاف إلى الصحابي موقوفاً عليه
اهـ بج على الإقناع. ومن منظومة الحريري في علم الحديث قوله:
واختصروا أخبرنا خطا أنا
>< واختصروا حدثنا ثنا ونا
وتكتب الحاء لتحويل السند
>< مهملة والأكثر الإعجام رد
وبعد ما يسوق الإسناد إلى
>< مصنف يعود عاطفاً عل ى
ذلك الإسناد يقول وبه ><
أتى الإسناد على دانيه
[فائدة]: قال ابن حجر في شرح الأربعين: إذا قال المصنف حدثنا فهو لما سمع
من الشيخ، أو أخبرنا فهو لما قرأه عليه، أو أنبأنا فلما أجازه فيه اهـ. وقال ابن
الصلاح: خمسة من غريب الحديث وهي "إن السماء بحر، وإن بحرنا هذا من بزقة حوت،
وإنه في نقرة إبهام ملك، وإن شعيباً عليه السلام عاش ثلاثة آلاف سنة، وإن في غنمه
اثني عشر ألف كلب، وإن الله أحيا أبوي النبي".
(مسألة: ش): أطبق المصنفون على عدم مبايعة سعد بن عبادة الأنصاري الصحابي
سيد الخزرج ساداتنا لأبي بكر وعمر رضوان الله عن الجميع، وأنه سار إلى الشام ومات
سنة 15 أو سنة 16 أو سنة 11، ولا خلاف أنه وجد مقتولاً، ولا شك أن سعداً لا يقول
إن أحداً أولى بالإمارة من الصديق، بل شاهد بيعته له قوله له: أنتم الأمراء ونحن
الوزراء، فتبرأ حينئذ من دعوى الإمارة، أقرّ بأنها وقعت في محلها فليحمل كلامهم
على عدم بيعته بخصوص أخذ اليد لا بعموم الإقرار، وهذا هو الذي يليق بمثل سعد ولا
يظنّ به سواه.
[فائدة]: خمسة من الصحابة رضوان الله عليهم لهم شبه به صلوات الله وسلامه
عليه نظمهم بعضهم بقوله:
لخمسة شبه المختار من مضر
>< يا حسن ماخوّلوا من شبهه الحسن
لجعفر وابن عم المصطفى قثم
>< وسائب وأبي سفيان والحسن
اهـ. شرح لامية العجم.
[فائدة]: قال العلماء: ينبغي لكل مؤمن أن يعرف أولاده ، وقد نظم ذلك بعضهم
فقال:
أولاد طه قاسم فزينب ><
رقية ذات الجمال الباسمه
فأم كلثوم ففاطمه فعبد ><
الله إبراهيم وهو الخاتمه
ولبعضهم فيمن حفظ أكثر من ألف حديث من
أصحابه عليه الصلاة والسلام:
سبعة من الصحب فوق الألف قد
نقلوا >< عن النبي رسول الله خير مضر
أبو هريرة سعد جابر أنس
>< صديقه وابن عباس كذا ابن عمر
[فائدة]: ولد سيدنا عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه ليلة عشر في رجب الحرام
وثلاثون سنة من عام الفيل. من كتب ذلك دخل الجنة، قاله العلامة أحمد بن زيد
الحبيشي اهـ.
فضائل أهل البيت النبوي نفع
الله بهم
[فائدة]: قيد المناوي بضم الميم في شرح الجامع حديث: "آلي كل مؤمن تقي
بمن هو من بني هاشم وبني المطلب" وهو معنى صحيح، وله وجه وشواهد من الأخبار
المشهورة المأثورة في حث أهل البيت على تحقيق نسب التقوى اهـ.
[فائدة]: نقل السيوطي عن شيخه العراقي أن المهدي ولد سنة 255، قال: ووافقه
الشيخ علي الخوّاص، فيكون عمره في وقتنا سنة 358703 سنوات اهـ. وذكر أحمد الرملي
أن المهدي موجود، وكذلك الشعراني اهـ من خط الحبيب علوي بن أحمد الحداد، وعلى هذا
يكون عمره في سنة 13011046 سنة.
(مسألة: ي): صلة أهل البيت النبوي المحرمة عليهم الصدقة قربة مستحبة
بالإجماع كمودتهم ومحبتهم لقوله تعالى: {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في
القربى} وقوله عليه الصلاة والسلام: "أذكركم الله في أهل بيتي ثلاثاً"
وقوله: "من أراد التوسل إليّ وأن يكون له عندي يد أشفع له بها يوم القيامة
فليصل أهل بيتي ويدخل السرور عليهم" . وقول الصديق رضي الله عنه على المنبر:
ارقبوا محمداً في أهل بيته، وقوله لهم: لأن أصلكم أحبّ إليّ من أن أصل قرابتي.
(مسألة: ب): عمل سلفنا وساداتنا الأشراف آل أبي علوي حجة، وكفى بهم لمن
اقتدى بهم واقتص آثارهم قدوة، وكيف لا وقد طبق الأرض ذكرهم وملئت الدنيا من
تراجمهم وجميل صبرهم، قال الإمام أحمد بن عبد الله بلحاج فضل: فحصت عن الأشراف في
الآفاق وسألت عنهم الواردين إلى الحرمين فوصفوا لي وعرفوني أخبارهم، فلم أجد على
الاستقامة وطرق الكتاب والسنة كبني علوي الحسنيين الحضرميين. ونقل العلامة محمد
بحرق عن شيخه العارف بالله محمد باجرفيل أن أهل البيت أفضل الناس، وآل أبي علوي
أفضل أهل البيت لاتباعهم السنة، ولما اشتهر عنهم من العلم والعبادة وحسن الأخلاق
والكرم والتقوى بالاتفاق، وقد قال قطب الإرشاد السيد عبد الله الحداد: ما أحسن في
هذا الزمان من طريقة آل أبي علوي، وقد أقر لهم بذلك أهل اليمن مع بدعتهم، وأهل
الحرمين مع شرفهم، وهي طريقة نبوية، ولا يستمد بعضهم إلا من بعض، فإن حصل لهم مدد
من غيرهم فهو بواسطة أحد منهم، وهم الآن وفي كل زمان لا يحصون كثرة، قال السيد
الإمام زين العابدين العيدروس: أحصوا قبائل بني علوي فبلغوا مائة وخمساً وعشرين
قبيلة وغالبهم بحضرموت، وقد عد من فيها منهم سنة 1203 فبلغوا نحو عشرة آلاف اهـ.
قلت: وعنى بآل أبي علوي ذرية سيدنا علوي بن عبيد الله بن أحمد بن عيسى، لأن هذا
العرف الخاص اشتهر بهم لا كلّ ذرية أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه فافهم.
(مسألة): هل تقبيل أيدي السادة الأشراف سنة أو مباح أو مكروه؟ وقال في فتح
العين: وافق النووي بكراهة الانحناء وتقبيل نحو يد أو رجل لا سيما لنحو غني لحديث:
"من تواضع لغني ذهب ثلثا دينه" . ويندب ذلك لنحو صلاح أو علم أو شرف،
لأن أبا عبيدة قبل يد عمر رضي الله عنهما اهـ، ونحوه في فتاوى ابن حجر. وقال في
المشرع المرويّ في مناقب بني علوي: يسن عند الشافعي تقبيل نحو يد الزاهد والشريف
والعالم والكبير في السنّ والطفل الذي لا يشتهي ولو لغير شفقة ورحمة، ووجه صاحب
قدم من سفر لما روى الترمذي أن يهوديين قبلا يد النبي ورجله ولم ينكر عليهما. وروى
ابن حبان أن كعباً قبل يديه وركبتيه عليه الصلاة والسلام لما نزلت توبته. وفي حديث
وفد عبد القيس أنهم قبلوا يده، والأعرابي الذي أمره أن يدعو الشجرة، وغير ذلك من
الطرق وأن زيد بن ثابت قبل يد ابن عباس وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا.
وقال الحافظ العراقي: وتقبيل الأماكن الشريفة على قصد التبرك وأيدي الصالحين وأرجلهم
حسن محمود باعتبار القصد والنية اهـ. فعلم بذلك أن ما اندرج عليه السلف الصالح من
المشايخ العلماء الجامعين بين علمي الظاهر والباطن والأولياء والصلحاء قاطبة من
تقبيلهم أيدي الأشراف بني علوي، خصوصاً من بين سائر الناس ولو لجاهل وطفل ومتزيّ
بغير سلفه هو الحق الواضح والطريق المستقيم لما في كل واحد من ذرية سيدتنا فاطمة
الزهراء رضي الله عنها جزء من بضعة النبي ، وإن كثرت الوسائط كما نص عليه العلماء،
ولما قيل: إن شم عرفهم يذهَب بالجذام.
التوسل بأهل الفضل والردّ على
أهل البدع وحكم خوارق العادة
(مسألة: ج): التوسل بالأنبياء والأولياء في حياتهم وبعد وفاتهم مباح شرعاً،
كما وردت به السنة الصحيحة، كحديث آدم عليه السلام حين عصى، وحديث من اشتكى عينيه،
وأحاديث الشفاعة، والذي تلقيناه عن مشايخنا وهم عن مشايخهم وهلم جرا، أن ذلك جائز
ثابت في أقطار البلاد وكفى بهم أسوة، وهم الناقلون لنا الشريعة، وما عرفنا إلا
بتعليمهم لنا، فلو قدّرنا أن المتقدمين كفروا كما يزعمه هؤلاء الأغبياء لبطلت
الشريعة المحمدية، وقول الشخص المؤمن يا فلان عند وقوعه في شدة داخل في التوسل
بالمدعوّ إلى الله
تعالى وصرف النداء إليه مجاز لا حقيقة، والمعنى يا فلان أتوسل بك إلى ربي أن يقيل
عثرتي أو يردّ غائبي مثلاً، فالمسؤول في الحقيقة هو الله تعالى، وإنما أطلق
الاستعانة بالنبي أو الولي مجازاً، والعلاقة بينهما أن قصد الشخص التوسل بنحو
النبي صار كالسبب، وإطلاقه على المسبب جائز شرعاً وعرفاً وارد في القرآن والسنة، كما
هو مقرّر في علم المعاني والبيان، نعم ينبغي تنبيه العوام على ألفاظ تصدر منهم تدل
على القدح في توحيدهم، فيجب إرشادهم وإعلامهم بأن لا نافع ولا ضارّ إلا الله
تعالى، لا يملك غيره لنفسه ضرّاً ولا نفعاً إلا بإرادة الله تعالى، قال تعالى
لنبيه عليه الصلاة والسلام: {قل إني لا أملك لكم ضرّاً ولا رشداً} اهـ. قلت: وقال
بعض المحققين: ولا يظهر لي أن حكمة توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما دون النبي هي
مشروعية جواز التوسل بغيره عليه السلام، وذلك لأن التوسل به أمر معلوم محقق عندهم،
فلو توسل بالنبي عليه السلام لأخذ منه عدم جواز التوسل بغيره لله تعالى. وعبارة ك:
وأما التوسل بالأنبياء والصالحين فهو أمر محبوب ثابت في الأحاديث الصحيحة وقد
أطبقوا على طلبه، بل ثبت التوسل بالأعمال الصالحة وهي أعراض فبالذوات أولى، أما
جعل الوسائط بين العبد وبين ربه، فإن كان يدعوهم كما يدعو الله تعالى في الأمور
ويعتقد تأثيرهم في شيء من دون الله فهو كفر، وإن كان مراده التوسل بهم إلى الله
تعالى في قضاء مهماته مع اعتقاده أن الله هو النافع الضارّ المؤثر في الأمور
فالظاهر عدم كفره وإن كان فعله قبيحاً.
[فائدة]: سئل السيد عمر البصري عن قول الشخص: شيء لله يا فلان الخ، فأجاب: قول العامة يا فلان شيء لله غير عربية لكنها من
مولدات أهل العرف، ولم يحفظ لأحد من الأئمة نصّ في النهي عنها، وليس المراد بها في
إطلاقهم شيئاً يستدعي مفسدة الحرام أو المكروه، لأنهم إنما يذكرونها استمداداً أو
تعظيماً لمن يحسنون فيه الظن اهـ.
(مسألة: ي): من القواعد المجمع عليها عند أهل السنة أن من نطق بالشهادتين
حكم بإسلامه وعصم دمه وماله، ولم يكشف حاله، ولا يسأل عن معنى ما تلفظ به. ومنها
أن الإيمان المنجي من الخلود في النار التصديق بالوحدانية والرسالة، فمن مات
معتقداً ذلك ولم يدر غيره من تفاصيل الدين فناج من الخلود في النار، وإن شعر بشيء
من المجمع عليه وبلغه بالتواتر لزمه باعتقاده إن قدر على تعقله. ومنها من حكم
بإيمانه لا يكفر إلا إذا تكلم أو اعتقد أو فعل ما فيه تكذيب للنبي في شيء مجمع عليه ضرورة، وقدر على تعقله، أو
نفي الاستسلام لله ورسوله، كالاستخفاف به أو بالقرآن. ومنها أن الجاهل والمخطىء من
هذه الأمة لا يكفر بعد دخوله في الإسلام بما صدر منه من المكفرات حتى تتبين له
الحجة التي يكفر جاحدها وهي التي لا تبقى له شبهة يعذر بها. ومنها أن المسلم إذا
صدر منه مكفر لا يعرف معناه أو يعرفه، ودلت القرائن على عدم إرادته أوشك لا يكفر.
ومنها لا ينكر إلا ما أجمع عليه أو اعتقده الفاعل وعلم منه أنه معتقد حرمته حال
فعله، فمن عرف هذا القواعد كف لسانه عن تكفير المسلمين، وأحسن الظن بهم، وحمل
أقوالهم وأفعالهم المحتملة على الفعل الحسن. خصوصاً الفعل الذي ثبت أن أهل العلم
والصلاح والولاية كالقطب الحداد فعلوه وقالوه، وفي كتبهم وأشعارهم دوّنوه، فليعتقد
أنه صواب لا شك فيه ولا ارتياب، وإن جهله بدليله لقصوره وجهله، لا لغلبة الحال على
الولي وغيبه عقله، وليسع العوام ما وسع ذلك العالم، فمن علم ما ذكرنا وفهم ما
أشرنا وأراد الله حفظه عن سبيل الابتداع، كف لسانه وقلمه عن كل من نطق بالشهادتين،
ولم يكفر أحداً من أهل القبلة، ومن أراد الله غوايته أطلقها بذلك وطالع كتب من
أهواه هواه نعوذ بالله من ذلك.
(مسألة: ي): العمل بيا حسين في جهة الهند وجاوه المفعول يوم عاشوراء أو قبله
أو بعده بدعة مذمومة شديدة التحريم، وفاعلوه فساق وضلال، متشبهون بالرافضة
والناصبة، إذ الفاعلون لذلك قسمان: قسم ينوحوون ويندبون ويظهرون الحزن والجزع
بتغيير لباس أو ترك لبس معتاد، فهم عصاة بذلك لحرمة هذه الأشياء، بل بعضها من
الكبائر وفاعلها فاسق، وورد إن الميت ليعذب ببكاء أهله، وأنه يتأذى من ذلك، فانظر
لهؤلاء الجهال الحمقى يريدون تعظيم الحسين سبط رسول الله بما يتأذى به، ويكون
خصمهم به عند الله تعالى، بل الذي ينبغي لمن ذكر مصاب الحسين رضي الله عنه ذلك
اليوم أن يشتغل بالاسترجاع، امتثالاً للأمر، وإحرازاً للأجر، وما أصيب به السبط
يوم عاشوراء إنما هو الشهادة الدالة على مزيد حظوته ورفعة درجته عند ربه، وقسم
يلعبون ويفرحون ويتخذونه عيداً وقصدهم إظهار الفرح والسرور بمقتل الحسين، فهم بذلك
أشدّ عصياناً وإثماً، بل فعلهم هذا من أكبر الكبائر بعد الشرك، إذ قتل النفس أكبر الكبائر
بعد الشرك، فكيف بقتل سيد المؤمنين ريحانة سيد الكونين ؟ والفرح بالمعصية وإظهار
السرور بها شديد التحريم، ومرتبته كالمعصية في الإثم، بل جاء عن الإمام أحمد أنه
كفر، وقد اتفق أهل السنة أن بغض الحسين والفرح بمصابه كبيرة يخشى منها سوء
الخاتمة، ولأن الفرج بذلك يؤذي جدّه عليه الصلاة والسلام وعلياً والحسنين والزهراء
رضوان الله عليهم، وقد قال تعالى: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله} الآية.
وورد: "اشتدّ غضب الله لمن آذاني في عترتي" . وورد أيضاً: "من أحب
أن ينسأ له في أجله وأن يمتع بما خوّله الله تعالى فليخلفني في أهلي خلافة حسنة،
فمن لم يخلفني فيهم بتر عمره وورد عليَّ يوم القيامة مسودّاً وجهه" ، فعلم أن
إنفاق المال على العاملين لهذه المخازي شديد التحريم وأخذه من أكل أموال الناس
بالباطل.
(مسألة): قال العلامة المجتهد الشيخ علي بن أبي بكر بن السقاف علوي نفع
الله به في كتابه معارج الهداية. فصل: واحذر يا أخي من البدع وأهلها، وانبذها
واهجر أهلها، وأعرض عن مجالسة أربابها، واعلم أن أصول البدع في الأصول كما ذكره
العلماء يرجع إلى سبعة، الأوّل: المعتزلة القائلون بأن العباد خالقو أعمالهم،
وينفون الرؤية ويوجبون الثواب والعقاب وهم عشرون فرقة. والثاني: الشيعة المفرطة في
حب سيدنا عليّ كرم الله وجهه، وهم اثنان وعشرون فرقة. والثالث: الخوارج المفرطة في
بغض عليّ رضي الله عنه المكفرة له ولمن أذنب ذنباً كبيراً، وهم عشرون فرقة.
والرابع: المرجئة القائلة بأنه لا يضر مع الإيمان معصية ولا ينفع مع الكفر طاعة،
وهم خمس فرق. والخامس: النجارية الموافقة لأهل السنة في خلق الأفعال، وللمعتزلة في
نفي الصفات وحدوث الكلام، وهم ثلاث فرق. السادس: الجبرية القائلة بسلب الاختيار عن
العباد، وهم فرقة واحدة. السابع: المشبهة الذين يشبهون الحق بالخلق في الجسمية
والحلول، وهم فرقة واحدة أيضاً. فتلك اثنان وسبعون كلهم في النار، والفرقة الناجية
هم أهل السنة البيضاء المحمدية والطريقة النقية، ولها ظاهر يسمى بالشريعة، شرعة
للعامة، وباطن رسم بالطريقة منهاجاً للخاصة، وخلاصة خصت بالحقيقة معراجاً لأخص
الخاصة، فالأوّل نصيب الأبدان للخدمة، والثاني نصيب القلوب من العلم والمعرفة
والحكمة، والثالث نصيب الأرواح من المشاهدة والرؤية اهـ.
(مسألة: ي): خوارق العادة على أربعة أقسام: المعجزة المقرونة بدعوى النبوة
المعجوز عن معارضتها، الحاصلة بغير اكتساب وتعلم، والكرامة وهي ما تظهر على يد
كامل المتابعة لنبيه من غير تعلم ومباشرة أعمال مخصوصة، وتنقسم إلى ما هو إرهاص
وهو ما يظهر على يد النبي قبل دعوى النبوّة، وما هو معونة وهو ما يظهر على يد
المؤمن الذي لم يفسق ولم يغتر به، والاستدراج
وهو ما يظهر على يد الفاسق المغترّ، والسحر وهو ما يحصل بتعلم ومباشرة سبب على يد
فاسق أو كافر كالشعوذة، وهي خفة اليد بالأعمال، وحمل الحيات ولدغها له، واللعب
بالنار من غير تأثير، والطلاسم والتعزيمات المحرمة واستخدام الجان وغير ذلك، إذا
عرفت ذلك علمت أن ما يتعاطاه الذين يضربون صدورهم بدبوس أو سكين، أو يطعنون
أعينهم، أو يحملون النار أو يأكلونها، وينتمون إلى سيدي أحمد الرفاعي، أو سيدي
أحمد بن علوان أو غيرهما من الأولياء، أنهم إن كانوا مستقيمين على الشريعة، فائمين
بالأوامر، تاركين للمناهي، عالمين بالفرض العيني من العلم عاملين به، لم يتعلموا
السبب المحصل لهذا العمل، فهو من حيز الكرامة وإلا فهو من حيز السحر، إذ الإجماع
منعقد على أن الكرامة لا تظهر على يد فاسق، وأنها لا تحصل بتعلم أقوال وأعمال، وأن
ما يظهر على يد الفاسق من الخوارق من السحر المحرّم تعلمه وتعليمه وفعله، ويجب زجر
فاعله ومدعيه، ومتى حكمنا بأنه سحر وضلال حرم التفرج عليه، إذ القاعدة أن التفرج
على الحرام حرام، كدخول محل الصور المحرمة، وحرم المال المأخوذ عليه، والفرق بين
معجزة الأنبياء وكرامة الأولياء، وبين نحو السحر، أن السحر والطلسمات والسيمياء
وجميع هذه الأمور ليس فيها شيء من خوارق العادة، بل جرت بترتيب مسببات على أسباب،
غير أن تلك الأسباب لم تحصل لكثير من الناس، بخلاف المعجزة والكرامة فليس لهما
سبيل في العادة، وإن السحر مختص بمن عمل له، حتى إن أهل هذه الحرف إذا طلب منهم
الملوك مثلاً صنعتها طلبوا منهم أن يكتب لهم أسماء من يحضر ذلك المجلس فيصنعون ذلك
إن سمي لهم، فلو حضر آخر لم ير شيئاً، وأن قرائن الأحوال المفيدة للعلم القطعي
المحتفة بالأنبياء والأولياء من الفضل والشرف وحسن الخلق والصدق والحياء والزهد
والفتوّة وترك الرذائل وكمال العلم وصلاح العمل وغيرهما، والساحر على الضد من ذلك.
مسائل منثورة في الفلك وغيره
(مسألة: ك): إرم ذات العماد وما يذكر فيها من الأخبار والزخارف غير ثابتة
عند المحققين والمفسرين، بل هي منقولة عن بني إسرائيل، ولا بد فيها من توقيف عن
معصوم، نعم نقل السيوطي في الدر المنثور عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الإرم
الهالك وذات العماد أي طولهم، ويقال: إرم قبيلة من عاد، وروي: أن النبي ذكر إرم
ذات العماد فقال: "كان الرجل يأتي بالصخرة فيحملها على كاهله فيلقيها على أي
حيّ أراد فيهلكه". (مسألة: ب): حضرموت مخلاف من مخاليف اليمن الأسفل،
والمخلاف القطعة من الإقليم، مشتملة على بلدان ومدن وقرى كثيرة مشهورة بالخير
والصلاح، وأعظم مدنها تريم وشبام، وحدّها من جهة الساحل عين بامعبد وبروم والشحر
ونواحيها إلى حد أرض المهرة الفاصل بينه وبين أرض الظني التميمي على مقابلة المكان
المسمى بديعوت وهو الذي يحمل المشقاص عليه، ومن جردان ونواحيها إلى تريم وقبر هود
عليه السلام وما وراء ذلك إلى أرض مهرة، فلا تدخل ظفار وكذا مهرة إلا ما حاذى أرض
الظني غربي أرض مهرة. واختلف في تسميتها بحضرموت فقيل: إن صالحاً عليه السلام لما
هلك قومه سافر بمن معه من المؤمنين، فلما انتهى إليه مات فقيل حضرموت. وقال
المبرد: إن حضرموت لقب عامر جد اليمانية، كان لا يحضر حرباً إلا كثر فيه القتل.
وذكر الغساني أن حضرموت بن سبأ الأصغر، فمن ولده الحارث وفوه وسيبان وربيعة وتريم
وشبام وسبأ، وأكثر قبائل حضرموت حمير من ولد سبأ الأصغر إلى قحطان. وقال الإمام
عبد الرحمن شراحيل: حضرموت بضم الميم تجمع أودية كثيرة، وقد اختص بهذا الاسم وادي
ابن راشد، طوله نحو ثلاث مراحل من العقاد إلى قبر النبي هود عليه وعلى نبينا أفضل
الصلاة والسلام. (مسألة: ب): طول مدينة تريم التي هي أعظم بلدة وأشهرها بحضرموت
حرسها الله تعالى أحد وسبعون درجة وخمس دقائق أو ثلاثون دقيقة من البحر المحيط الغربي
أو من الجزائر الخالدات فيه، وبينهما عشر درج، وعرضها خمس عشرة درجة وثلاثون
دقيقة، ومطلعها ومطلع دوعن واحد بالنسبة للأهلة والقبلة إلا بتفاوت يسير لا بأس
به، ويجب تعلم علم الفلك بل تتحتم معرفته، لما يترتب عليه من معرفة القبلة، وما
يتعلق بالأهلة كالصوم، سيما في هذا الزمان لجهل الحكام وتساهلهم وتهوّرهم، فإنهم
يقبلون شهادة من لا يقبل بحال. [فائدة]: إذا نزل القمر ليلة رابع عشرة أو خامس
عشرة إحدى هذه المنازل الست خسف، وإذا نزلتها الشمس الثامن والعشرين أو التاسع
والعشرين كسفت، وهي هذه المنظومة في قوله:
نجوم السما عدة ستة ><
على النيرين جميعاً سطين
مقدّم جبهة مع بلدة ><
وسعد بلع والزبانا بطين
وإذا أردت معرفة القمر في أي منزلة هو فاحسب ما مضى من الشهر وزد عليه ستة
عشر، واحسب من غالب الفجر، وهو المنزلة التي أنت فيها من الثمان والعشرين
المعروفة، فحيث انتهى بك العدد فالقمر في تلك المنزلة، وإن شئت زدت يومين فقط
وعددت من طالع الفجر وهو رقيب الغارب. وإذا أردت أن تعرف الشمس في أي منزلة هي
فردّ على ما مضى من منزلة الشبامي التي أنت فيها ثمانية أيام، فما اجتمع فالشمس في
رقيب تلك المنزلة ولها فيه مثل تلك الأيام. مثاله: إذا كنت في الحادي عشر من
العواء مثلاً وزدت عليه ثمانية أيام صار تسعة عشر يوماً، فانتهى بك إلى ستة في
السماك، ورقيب السماك الحوت فتقول: الشمس اليوم في الحوت ولها فيه ستة أيام، وإن
شئت قلت ست درج اهـ نصب الشرك للعمودي مع زيادة. (مسألة: ب): إذا أردت أن تعرف أول
يوم من المنازل الشبامية يدخل في كم يوم في أحد البروج الشمسية الاثني عشر على
مقتضى تحرير العلامة طاهر بن محمد علوي، فاستخرجه من هذين البيتين، فالرمز أوّله
بعد ذكر المنزلة صريحاً لعدّ الأيام التي مضت من البروج، وآخر حرف من الكلمة علامة
البرج، وهما: [فائدة]: من تقرير سيدي العلامة عبد الله بن أبي بكر عيديد قال:
ولنحو ثلاثة أيام في الصرفة يعتدل الليل والنهار في جميع الجهات يعني الحضرمية وما
قاربها، ثم يأخذ النهار في الزيادة والليل في النقص إلى خمسة أيام في الشولة،
فينتهي طول النهار إلى نحو ثلاث عشرة ساعة إلا أربع دقائق، وينتهي قصر الليل إلى
إحدى عشرة ساعة وأربع دقائق، ثم يأخذ الليل في الزيادة والنهار في النقص إلى
ثمانية أيام في الفرغ المقدم فيعتدل الليل والنهار، ثم يأخذ الليل في الزيادة والنهار في النقص إلى ستة
أيام في الهقعة، فينتهي طول الليل إلى ثلاث عشرة ساعة إلا أربع دقائق، وقصر النهار
إلى إحدى عشرة ساعة وأربع دقائق، ثم يبتدىء النهار في الزيادة والليل في النقص إلى
ثلاثة أيام في الصرفة، فيعتدل الليل والنهار، وهكذا إلى أن تقوم الساعة اهـ.(مسألة: ب): قاعدة
الكبس في حساب الشبامي يكون في كل أربع سنين يزيد يوم في نجم الهقعة، كما أن
أيامها دائماً 14 فتكون في الكبيسة 15، لكن بعد سبع كبائس يتخلف الكبس سنة فيكون
حينئذ بعد خمس سنين للتفاوت بين الشمسية والقمرية، إذ كل 32 سنة شمسية 33 سنة
قمرية. وقد ذكر العلامة طاهر بن محمد علوي بيتاً يجمع السنين، وكل حرف معجم كبيسة،
وكل مهمل بسيطة، وإذا كمل عاد لما قبله وهو:
لي واهب حكم شكور قدوس ><
باسط قادر قاهر فعال
وابتداؤه من حرف اللام أوّله سنة 1259 فتكون سنة 1260 كبيسة لكونها على
الياء بعده وهكذا اهـ. قلت: ويكون في سنتنا هذه سنة 1251 سنة تصنيف هذا المجموع
على الشين من شكور وهي كبيسة اهـ والله أعلم وأحكم.
وقد تمّ بحمد الله ما
يسر الله تعالى جمعه في هذه العجالة، من صافي رحيق تلك الفتاويات، والفوائد
المستجادات المارّ ذكرها أوّله، والحمد
لله أوّلاً وآخراً وله المنة دائماً، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، واجمع
لنا بين الصواب والثواب، وصل الله وسلم على خير خلقه سيدنا محمد وآله وصحبه
وتابعيه وتابعيهم إلى يوم الدين، عدد ذكر الذاكرين وسهو الغافلين، صلاة وسلاماً
تعمّ بركتهما سائر العباد المؤمنين آمين.
(تنبيه) إعلم أن هذا
الاختصار العجيب والأسلوب الغريب الذي حوى زبدة وحاصل ومضمون هؤلاء الكتب السبعة:
أعني فتاوى السيد عبد الله حسين بافقيه، وفتاوى السيد عبد الله بن عمر بن يحيى،
وفتاوى السيد علوي بن سقاف الجفري، وفتاوى الشيخ محمد بن أبي بكر الأشخري. وفتاوى
الشيخ محمد بن سليمان الكردي نفع الله بالجميع، وما في سفينة جامعه، وما سئل عنه
جامعه أيضاً من المسائل ولم تكن منصوصة في تلك الفتاويات.
قد جاء بحمد الله ومعونته على غاية الاختصار والضبط، وتسهيل العبارة،
وتناسب المسائل، وتداخل القيود، وحذف التطويل والتكرير، وغالباً الدليل والتعليل
مع الإتيان بجميع ما تضمنته تلك الكتب، حتى غالباً القيل مع إمعان النظر فيما
تقتضيه العبارات حسب ما فهمه الجامع وبلغه ذهنه من غير تقصير. جعله الله خالصاً مخلصاً، وعمّ به نفع
الأنام آمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه عدد معلوماته ومداد كلماته،
والحمد لله رب العالمين.
Tidak ada komentar:
Posting Komentar